الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (20)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20].
* * *
قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} ، هذه الآية مَع التي قبْلها ربما يَظْهُر فيهِما إشْكالٌ؛ لأن الأُولى:{أَوَلَمْ يَرَوْا} تَقْريرٌ لهم بأنهم يَرَونَ كيفَ يُبْدئ اللَّه الخلْق ثم يُعيدُه، وهنا يقولُ:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} فيَقْتَضِي أنهم حتى الآن لم يَعْلموا كيف بَدَأ اللَّه الخلْق؟
والجواب على ذلك: أنهم وإن كانوا يَرَوْنَ كيف بدأَ اللَّهُ الخلْق، لكنهم قد يُنْكِرُونَهُ، فأمرَ اللَّه تعالى نَبِيَّهُ أن يأمرَهم بالسَّير في الأرضِ:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} ، امشُوا في الأرض وانْظُروا مثلًا إلى الوحوش، وانظروا إلى الحشَراتِ وانْظُروا إلى مخلوقاتِ اللَّهِ سبحانه وتعالى كيف تنْشَأُ هذه الأشياء بدون أن نَرَى لها خالِقًا سِوَى اللَّه سبحانه وتعالى، فإذا من بابِ إلزامِهِمْ، ولا سيما إذا قلنا: إن الرُّؤيةَ الأُولى عِلمية، فهي من باب إلزامِهِمْ بما يُشاهِدُونه في الأرض بعدَ أن يَسِيرُوا فيها.
وقولهُ: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} هل المرادُ السَّيْرُ بالبدنِ؟ أو السَّيْرُ بالقَلبِ؟ أو بهما جميعًا؟
الجواب: بهما جميعًا؛ لأن الإنسانَ قد يَسِيرُ ببدنِهِ ويطَّلع على مخلوقات اللَّهِ، وقد يسيرُ بقلْبِهِ فيقرأُ ما كُتِبَ عن مخلوقاتِ اللَّهِ، فربما تَقْرَأُ كِتابًا عن الحيواناتِ أو غيرها وأنتَ في مكَانِكَ أو في حُجْرتَكِ وتكون قد اطلعتَ على ما في مشارِقِ الأرض ومَغَارِبِها، ويكون السيرُ حينئذ بالقَلْبِ، فهو شامل للأمْرَيْنِ جميعًا.
بل إذا نظَرنا إلى السَّيْرِ في الأرض -إلى واقعه- أيهما أكثرُ بالقَلْبِ أو بالقَدَمِ؟
فالجواب: بالقَلْبِ، ولا إشكال في ذلك.
ثم اعلم أيضًا أن السيرَ بالقَدَمِ لا ينفع إذا لم يكن هناك سَيْر بالقَلب واعتبارٌ، فلو أن الإنسان ماجَ فِجاجَ الأرض كلَّها وهو غافِلٌ ما استفادَ من ذلك السَّيرَ شيئًا، بل لا بد أن يكونَ هناك تَيَقُظٌّ واعتبارٌ، فالسير بالقَدمِ إذا لم يُقْصدْ به الاعتبارُ فإنه لا فائدَةَ منه، فإذا قَصَدَ به الاعتبار عاد إلى كونه سَيرًا بالقَلب.
قولُه: {فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} ، هنا قال:{فَانْظُرُوا كَيْفَ} ، وفي الآية التي قَبلها قال:{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ} ، ومعلوم أنَّ:(انْظُروا) و (يَرَوا)، أفعالٌ متَعَدِّيَةٌ، فأين مفعولها؟
الجواب: مفعولها (كيفَ)، في موضِعِ نصبٍ على الحالِ، وهي مُعَلِّقَةٌ للفعلِ عن العَملِ، وقد مر هذا في (ألفية ابن مالك) في باب ظَنَّ وأخواتِهَا؛ قال ابن مالك رحمه الله
(1)
:
. . . . . . . . . . .
…
والْتَزِمِ التَّعلِيقَ قَبْلَ نَفْيِ مَا
وَإِنْ وَلَا لَامُ ابتداءٍ أَوْ قَسَمْ
…
كَذَا والاستفهامُ ذَا له انْحَتَمْ
(1)
البيتان (212، 213) من الألفية.
قولُهُ: {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} في صَدْرِ هذه الآية أتَي بالصِّيغَةِ الفِعلية، وهنا أتى بالجملة الاسْمِيَّةِ ليُفيدَ تَقَرُّرَ هذا الأمْرِ وتأكُدِّهِ.
وقوله: {ثُمَّ اللَّهُ} (اللَّه) هنا عَلَمٌ على البَارِي جَلَّ وَعَلَا، وأصلُها الإِلَه وحذفتِ الهمْزَةُ تخفيفًا لكثرةِ الاستعمالِ كما حُذِفَتْ مِنَ الناس، والإله معناه: المأْلُوه، أي: المعبودُ، سواء بحقٍّ أو بغيرِ حَقٍّ، وعلى هذا فيكون اللَّه هنا: هو المعبودُ بحَقٍّ، بدليل قوله:{لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} يعني: لا معبود بِحَقٍّ إلا اللَّهُ سبحانه وتعالى، أي: لا إله هو الحقُّ إلا اللَّه عز وجل.
وقوله: [{يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} مَدًّا وقَصْرًا مع سُكونِ الشِّينِ]: فهما قراءتان (النَّشَاءَةَ) و {النَّشْأَةَ}
(1)
.
وقوله: {النَّشْأَةَ} يُحتَمَلُ أن تكونَ مَصْدَرًا كما تقول: يضْرِب الضَّربَةَ، ويحتمل أن تكون بمعنى اسمِ المفعولِ، أي: يُنْشِئُ المُنشأَ الآخِر، والمعنى واحد: أن اللَّه عز وجل يُنشِئُ الخلْق مرَّةً ثانية.
فإذا قال قائل: كيف نُسَمِّيها نشأةٌ وهي إعادة؟
قلنا: إن هذه الإعادةِ تختلِفُ عن سابَقتِهَا اختلافًا كَثيرًا، فهي بالنسبة إليها نشأةٌ؛ لأن حياةَ الآخِرَةِ ليست مثلَ حياةِ الدنيا، فحياةُ الآخِرةِ حياةٌ أبَدِيَّة، وحياةُ الدُّنيا حياةُ فناءٍ، ولذلك تَجِدُها ناقِصة، يُخلق الإنسان من ضَعف إلى قوَّة إلى ضعْف، أما في الإعادَةِ فإنه يُخلَق للأبَدِ، فلذلك سميت نشأةً وإن كانت هي إعادَةٌ، لاختلاف الحالين.
(1)
انظر: السبعة في القراءات (ص: 498).
انظر إلى الجنين في بطنِ أمِّه، قال اللَّه سبحانه وتعالى فيه بعد أن ذَكَر أطوارَهُ:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14]، هل هو إنشاءٌ أو تطويرٌ؟ هو تطوير، لكنه لما كان التَّطويرُ الأخير الذي فيه نَفْخُ الرَّوُح يختلفُ عن الأَوَّلِ وهو في بطنِ أمِّه؛ حيث كان جَمَادًا ثم تُنْفَخُ فيه الروح، فيكون نشأةً جَديدةً غير الأولى، فسُمِّيَ نشأةً وإن كان تطويرًا من حالٍ إلى حَالٍ.
قوله: [{إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَمِنْه البَدءُ والإعَادَةُ]: هذه الجملَةُ تَعليلُ لما سَبَقَ من كونِهِ ابتدأَ الخلقَ ثم أعادَهُ؛ لأن اللَّه على كُلِّ شيءٍ قَدير، والقُدرةُ: وصفٌ يتَمَكَّنُ به الفاعلُ من الفِعلِ بدونِ عجزٍ.
والقدرةُ غيرُ القوَّة؛ فالقوَّةُ يقابِلُها الضَّعْفُ، والقُدْرَةُ يقابِلُها العَجْزُ، ويظهر ذلك بالمثالِ، فمثلًا: أنا إذا حَملتَ كِتابًا لكن بمَشَقَّةٍ، فأوصَفُ بأني قادر، ولكنِّي لستُ قَوِيًّا، وآخر لما أرادَ حملَ الكِتاب عَجَز عنه، فهو عاجِزٌ، والثالث حَملَهُ كأنه رِيشَةٌ في يَدِهِ فإذا قادِرٌ قَوِيٌّ. فتبَيَّنَ بهذا أن القُدرةَ غيرُ القوةِ.
كذلك أيضًا: القدرةُ يوصَفُ بها ذو الشُّعورِ ولا يوصفُ بها غيره، فَلا يقالُ للحَديدِ: إنه قادِرٌ، بينما القوة يوصَفُ بها ذُو الشُّعورِ وغَيْرهِ، فنقول للحديدِ: قَوِيٌّ، ونقول للإنسان: قَوِيُّ، واللَّه سبحانه وتعالى موصوفٌ بالقُدْرَةِ وموصوفٌ بالقُوَّةِ:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].
وهل قوله تعالى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} عامٌّ مخصوصٌ أم لا؟
هذا على عُمومِهِ، لا يُخَصَّصُ بشيءٍ، لكنَّ السُّيوطِيَّ رحمه الله قال في تفسيرِ قوله سبحانه وتعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120]: [وخَصَّ العقلُ ذاتَهُ فليس عليها بقَادِرٍ! ].
[خصَّ العقلُ ذاتُهُ]: يعني: ذاتَ اللَّهِ، فليس عليها بقادَرٍ، فقال: إن العقلَ يُخَصِّصُ هذا العمومَ، ونحن نقولُ: لا يخصصُ هذا العمومُ مِنَ العُقولِ إلا العقلَ الفاسِدَ الذي يَرَى امتِنَاعَ قيامِ الأفعالِ الاختِيارِيَّةِ باللَّه عز وجل، أما العقلُ الصَّحِيحُ السليم فهو يَرَى أن اللَّه يفعل ما يَشاءُ، ينْزِلُ، ويستَوِي على العَرشِ، ويستَوي إلى السماءِ، ويضْحَكُ، ويَعْجَبُ، وغير ذلك من الأفعالِ الاختِيارِيَّةِ التي تَليقُ بجَلالِه سبحانه وتعالى، فقوله:[خَصَّ العقلُ ذَاتَه فليسَ عليها بقَادِرٍ]، هذا خَطأٌ عَظِيمٌ، إذا كان لا يَقْدِرُ على نفسه فكيفَ يَقدِرُ على غيرِهِ، هذا من أكبرِ المُحالِ ومِنْ أكبرِ الغَلَطِ!
لكن لو قال قائل: لعلَّ المُفَسِّر يريدُ أنه لا يَقْدر على إفناءِ نَفسِهِ مثلًا، أو على خَلْقٍ مماثِلٍ له.
قلنا: هذا لا تَتَعَلَّقُ به القدرةُ أصْلًا، فالقُدرةُ لا تتعلق بالشيءِ المستَحِيلِ إطْلاقًا، فهو غيرُ داخِلٍ في العمومِ مِنَ الأصلِ، وليس بمخرَجٍ منه.
وهاهنا عبارة يقولها بعضُ الناس: إنه على ما يشاءُ قَدِيرٌ، فما صحة هذا التعبير؟
والجواب: هذا التعبير خطأٌ؛ لأن اللَّه تعالى على كُلِّ شيءٍ قَديرٍ، فهو قادرٌ على ما يشاءُ وما لا يشاءُ، حتى الذي لا يشاؤه قادِرٌ عليه، فلو شَاءَهُ لفَعَلَهُ، ثم إن هذه العبارةَ مخالِفَةٌ لما جاء به القرآنُ في قوله تعالى:{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120]، وقوله:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27]، ثم إن بعضَ أهلِ العِلم يقولُ: إن هذه العبارةَ تُوحِي بمَذهَبِ المعتَزِلَةِ الذين يقولون بأن الإنسان مسْتَقِلٌّ بعَملِهِ، فقالوا: إذا كان الإنسان مستقلًا بعمَلِهِ فلا دَخْلَ لمشيئةِ اللَّه فيهِ، ومعنى ذلك أن اللَّه عاجِزٌ عن عَمَلِ الإنسان، وهذا خطيرٌ كما هو معروف، فالذي ينْبَغِي
أن نقول: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]، على الإطلاق.
فإذا قال قائل: ألا يَنتقِضُ علينا هذا بقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29].
قلنا: المشيئةُ هُنا عائدةٌ على الجمعِ لا على القُدْرَةِ، والمعنى: أنه إذا شاءَ أن يجمَعَهم جمَعهم بدون عَجْزٍ، سبحانه وتعالى، فلا تنافي ما تقَدَّم ذِكْرُهُ.
ويقولون: إن الشيطان جمعَ جنودَهُ، أو هم اجتَمَعوا إليه فقالوا له: إنك تَفْرَحُ بموت العالمِ ولا تفْرحُ بموت العابِدِ، فقال لهم: نعم؛ لأن العابدَ إذا ماتَ يموتُ عن نَفْسِهِ لكنَّ العالِم إذا مات يموتُ عن عالَمٍ، وإذا بقي يُفْسِدُ علينَا الأمور.
ومراده بالعلماءِ العُلماءِ الحقِيقِيُّونَ الذين يعمَلُونَ ويَدْعُونَ.
ثم قال الشيطان لجنوده: أذهَبُ أنا وأنتم إلى عالمٍ نَسألُه وإلى عابِدٍ.
فذهبوا إلى العابَدِ فقالوا له: هل يَقْدِرُ اللَّهُ أن يخلُقَ مثلَ نَفْسِهِ؟
قال: نعم.
قالوا: ما الدليل؟
قال: لأنَّ اللَّه على كُلِّ شيءٍ قَديرٍ.
فهذا الرجل كَفَرَ؛ لأن أي إنسان يعتقدُ هذا الاعتقادَ فهو كافِرٌ، وهو اعتقادٌ غيرُ صحيحٍ وفاسد، ولا يمكن، لو لم يكن مِنَ الفَرقِ -والفرق عظيم جدًا- إلا أن هذا الإله لو قُدِّرَ فهو مخلُوقٌ، والإلهُ الحقُّ غيرُ مخلوق.
ثم جاؤوا إلى العالِم وقالوا له: هلْ يَقْدِرُ اللَّه أن يضَعَ السمواتِ والأرض في بَيضَةٍ واحِدةٍ؟