الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (33)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 33]
* * *
قوله تعالى: {وَلَمَّا} تقدَّمَ بيانُها وأنها شَرطيَّةٌ غيرُ جازِمَةٍ.
قوله تعالى: {أَنْ جَاءَتْ} (أنْ) زائدةٌ للتَّوكيدِ، وكل حُرفٍ زائدٍ في القرآن فإنه للتَّوكِيدِ، وغالبًا تكونُ (أَنْ) بعد (لَمَّا) زائدَة، وضابِطُ الحرفِ الزائدِ أنه إذا حُذِفَ استقامَ الكلامُ.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} حَزنَ بسَببِهِمْ]: فأفاد أن الباءَ للسَّبَبَيَّةِ، يعني لما تحَقَّق مجَيئهُمْ له سِيئَ بهم وحَزنَ بسبَبِهِمْ، أي: لحِقَهُ السوءُ بسبَبهِمْ وحصلَتْ بهم المسَاءَةُ، و {سِيءَ} هذا فِعل ماضٍ مبْنِيٌّ للمفعولِ مثلُ: قِيل وبِيع، قال ابن مالك رحمه الله
(1)
:
وَاكْسِرْ أَوْ اشْمِمْ فَا ثُلَاثِيٍّ أُعِلّ
…
عَيْنًا وَضُمٌ جَا كَـ (بُوعَ) فَاحتُمِلْ
وفي بِناءِ هذا الفِعْلِ للمَفعولِ ثلاثةُ أوْجُهٍ في فَائِهِ:
(1)
البيت رقم (247) من ألفيته.
1 -
إخلاصُ الكَسرِ لفاءِ الفِعلِ.
2 -
إخلاصُ الضَمِّ لفاءِ الفِعلِ.
3 -
الإشمامُ للفَاءِ.
وقوله تعالى: {سِيءَ بِهِمْ} هو جَوابٌ {وَلَمَّا} ، ونائبُ الفاعِلِ يعودُ إلى لُوطٍ، ونائبُ الفاعلِ هنا الجارُّ والمجرورُ؛ لأن ساءَ في الأصل يكون متعَدِّيًا بنفسه تقول: ساءَنَي هذا الشيءُ، وهنا تَعَدَّى بالجار والمجرور.
قوله تعالى: {ذَرْعًا} إعرابُهُ تَمْييزٌ مُحَوَّلٌ عن الفاعِلِ، والتَّمْيِيزُ يكونُ مُحَوَّلًا عنِ الفاعِلِ وعَنِ المفْعُولِ، مثالُ المحَوَّلِ عَن المفْعُولِ:{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 12]، أصله: فجَّرْنَا عيونَ الأرضِ، ومثالُ المحَوَّلِ عَنِ الفاعِلِ هذه الآيةُ، ومثالُهُ أيضًا أن تقولَ: انشَرِحْ بهم صَدْرًا، أي: صَدرُهُ، هنا ضاق بهم ذَرعًا، أي: ضاقَ ذَرْعُهُ.
وقد فسَّرَ المُفَسِّر الذَّرْعَ بقوله: [ضَاقَ بهِمْ صَدْرًا]: أي: ضاق صَدْرُهُ بهم ولم يَنْشَرِحْ، أي: حَصَلَ له هَمٌّ وغمٌّ بذلك.
وقيل -وهو الصحيح-: إن الذَّرْعَ الطاقَةُ، أي: ضَاقَ بهم طاقَةً، فصار غيرُ محتمل لهم، وهذا مِنْ معناه في اللُّغةِ العربيةِ، وسمِّيَتْ الطاقَةُ ذَرْعًا مِنَ الذِّرَاعِ؛ لأن الذِّرَاعَ محل الحِمْلِ، والطاقَةُ هي التي يستطيعُ المرءُ أن يحمِلَ بها الشيءَ أو لا يحْمِلَهُ.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} لأنَّهُم حِسانُ الوُجُوهِ في صُورَةِ أضْيَافٍ فخَافَ علَيهِمْ قَومَهُ، فأَعْلَمُوهُ أنَّهُمْ رُسُلٌ]: فهو ضاقَ بهم خوفًا عليهم من قَومِه لأن قومَه أهلُ خُبْثٍ، كما قال اللَّه سبحانه وتعالى:{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} [الأنبياء: 74]، فلما سَمِعُوا بذلك كما ذَكَر اللَّهُ في آياتٍ أُخْرى
جاءَهُ قومُه يُهْرعُونَ إليه، يعني: مُسْرِعينَ -والعياذ باللَّه- يُريدونَ هؤلاءِ الأضيافَ، وهذا مِنْ فِتْنَةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى للعبدِ أن يجعلَ الأُمورَ المحرَّمَةَ عليه في صورةٍ تَهْواهَا نفسه، ليَعْلَمَ اللَّهُ من يخافُهُ بالغَيْبِ.
فهم -والعياذ باللَّه- لما جاءوا إلى لُوطٍ عليه السلام يُرِيدُونهم قال لهم: {قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78]، فقالَ له الرُّسُلُ:{لَا تَخَف وَلَا تَحْزَنْ} .
الخوفُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ حُدوثَهُ في المستقبلِ، والحُزنِ مما وقَعَ في الماضِي، وقد يقعُ الحُزن لما يتَوَقَّعُ في المستقبلِ، ومثالُهُ قولُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام لأبي بكرٍ رضي الله عنه:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، فقولُهُ:{لَا تَحْزَنْ} بمَعْنَى: لا تَخَفْ، ويُحْتَمَلُ أن تكونَ على بابها، أي: لا تحْزنْ مما حَصَلَ من خُروجِنَا ودُخُولِنَا إلى الغَارِ واخْتِبَائِنَا.
قوله سبحانه وتعالى: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} ، مَا حصَلَ لِلُوطٍ من كونِهِ سِيء بهم وضاقَ بهِمْ ذَرْعًا.
وهل السَّببُ الخوفُ عليهم مِنْ قومِهِ، أو السببُ أنه خافَ أن يُعُمَّه الهلاكُ؟
الجواب: لا مانِعَ من أن يكونَ خافَ عليهِمْ وخافَ أيضًا على نَفْسِهِ أن يَعُمَّهُ العذابُ؛ لأن العذابَ إذا نَزَلَ يَعُمُّ إلا مَنْ أنْجَاهُ اللَّه، قال سبحانه وتعالى:{قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 93 - 94]، فكُلُّ إنسانٍ مُعَرَّضٌ لأن يشْمَلَهُ العذاب، فالجملةُ إما استئنافِيَّةٌ أو تَعْلِيلية، وإن كانت تحتاجُ إلى تَأَمُّلٍ.