الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (44)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 44].
* * *
قوله: [{خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي: مُحِقًّا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} دالَّةٌ على قُدرَتِهِ تعالى] اهـ.
معنى: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: أَوْجَدَهَا، فاللَّه سبحانه وتعالى خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ وبَدِيعِ السَّمواتِ والأرضِ، قال أهلُ العِلْمِ: بديعٌ بمَعْنَى مبْدِعٍ، والإبداعُ إيجادُ الشيءِ على غيرِ مِثالٍ سَبَق، ومنه: البِئر البِدْعُ، أي: الجديدةُ التي حُفِرَتِ الآن، فالخلْق أعمَّ من البِدعِ، لكن قدْ بيَّن اللَّهُ سبحانه وتعالى في آياتٍ أُخْرَى أنه خالِقٌ وبَدِيعٌ، فهو الذي أوْجَدَ السمواتِ والأرضِ، وهو عز وجل بَدِيعُ السَّمواتِ والأرضِ.
وقوله: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} يعني بما فيهما؛ لكن بالنِّسبَةِ لبَنِي آدم هم مِنَ الأرضِ وليسوا فيها؛ لأن الإنسان خُلِق من طِينٍ، والطينُ من الأرضِ، والنباتُ أيضًا مِنَ الأرضِ.
وقوله: {بِالْحَقِّ} سبق أن المُفَسِّر يقولُ: [محقًّا] فالجارُّ والمجرور في موضعِ نصْبٍ على الحال من فاعلِ (خلَق) أي: محقًّا، ويجوز أن يكونَ مفْعولًا من أجلِهِ،
يعْنِي بمعنى المفعولِ من أجلِه، أي: خلَقَهُما للحَقِّ.
وتفسيرُ المُفَسِّر يُؤيِّدُه قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27]، ويؤيِّدُه أيضًا قوله سبحانه وتعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان: 38]، فإذا لم يَكُنْ لاعبًا تعالى اللَّه عَنْ ذلك عُلُوًّا كبيرًا -كان محقًّا.
قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} المشار إليه الخلْقُ، فيشمَلُ كلَّ ما تطَوَّرَ مِنْ خلقِ السمواتِ والأرض فإنه آية، فنَفْسُ السمواتِ والأرضِ خلْقُهما آية دالَّةٌ على اللَّه؛ لأن آيةَ الشيءِ ما كان دَالًّا عليه دونَ غيرِهِ، فالسمواتُ والأرضُ دالَّةٌ على اللَّه لأنه لا أحدَ يستَطِيعُ أن يخلُقَ مثلَ هذه السمواتِ والأرْضِ، فوجودُ السمواتِ والأرض دالٌّ على القُدرَةِ، وما فيها من الانتظامِ وعَدَمِ الاضطرابِ والتناقُض دالٌّ على الحِكمَةِ.
ولو تأَمَّلْتَ أشياءَ كثيرةً من حَوادثِ السمواتِ والأرض لوجدت كُلَّ واحدٍ منها يدُلُّ على القُدرةِ والعِلمِ، قال سبحانه وتعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، وأيضًا يدُلُّ على الحِكْمَةِ، وأيضًا له دَلالَةٌ خاصَّةٌ على ما يَدُلُّ عليه بنْفسِه؛ وهذا شيءٌ لو تَأَمَّلهُ المؤمنُ ظَهَرَ له من ذلك آياتٌ كثيرةٌ!
قوله رحمه الله: [{لَآيَةً} دَالَّةٌ على قُدرتِهِ تعالى]: وأيضًا دالَّةٌ على علْمِهِ وحكْمتِهِ ورَحمَتِه وقوَّتِه، فحوادِثُ السمواتِ والأرضِ، كلُّ شيءٍ منها يَدُلُّ على تلك الصِّفةِ الخاصَّةِ.
وقوله: [{لِلْمُؤْمِنِينَ} خُصُّوا بالذِّكْرِ لأنهم المنْتَفِعُونَ بها في الإيمانِ بخلافِ الكافِرِينَ]: وهذا صحيحٌ؛ فالآياتُ الكونِيَّةُ لا ينتَفِعُ بها إلا المؤمنُ، وأما الكافرُ فلا ينْتَفِعُ بها، يقول: هذه طبيعةٌ تُدَبِّرُ نَفْسها، وتنَتَقِمُ من الناس بنفسها، وتَجْلِبُ الخيرَ
للناس بنَفْسِهَا، وكذلك الآياتُ الشَّرعِيَّةُ، فالمؤمن ينْتَفِعُ بها، وغيرُ المؤمن لا ينْتَفِعُ، قال سبحانه وتعالى:{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124 - 125]، فالآيات الكوْنِيَّةُ والشَّرْعِيَّةُ لا ينتفع بها إلا المؤمن.
وانتِفَاعُ المؤمن بالآياتِ الشَّرعِيَّةِ والكونِيَّةِ يكون بزيادةِ إيمانِهِ، قال سبحانه وتعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124].
وزيادةُ الإيمانِ لا شكَّ أنه نفْعٌ عظيمٌ؛ لأن الإيمانَ إمَّا أن يَزيدَ وإما أن ينْقُصَ وإما أن يبْقَى بلا زيادَةٍ ولا نُقْصانٍ، وهذا قد يكون نادرًا، بل أنا أشكُّ في وُجودِ هذا القِسْمِ؛ لأن عدَمَ زيادةِ الإيمانِ يؤَدِّي إلى نَقْصِهِ؛ إذ إن الإيمان يزيدُ بالطَّاعَةِ فإذا فَقَدْتَ الطاعةَ حصلَ النَّقْصُ، لكن القِسْمَةَ العقلِيَّةَ أن يكونَ إما زائدًا وإما ناقِصًا وإما باقيًا على حالِهِ، وتَصَوُّرُ أو وقوعُ القسم الثالث اللَّهُ أعلمُ بِه.
والمرْجِئَةُ هم الذين قالوا: إن الإيمانَ لا يزيدُ ولا ينْقَصُ، وليس لهم دليلٌ، بل عندهم تَعليلٌ عَلِيلٌ قالوا: إن الإيمان هو إقرارُ القلبِ والإقرارُ لا يتفاوت، وكذلك المعتزِلَةُ والخوارِجُ يقولون: إن الإيمانَ لا يتبَعَّضُ، إما أن يُوجدَ كلُّه وإما أن يُعدَمَ كله.
لو قال قائل: هل يصِحُّ أن نقول: إن بقاء الإيمان على حالِهِ -أي عدم زيادته ونقصه- يدلُّ على صِحَّةِ قول من قال: إن مَن ترك ما ينْفَعُه لا بد أن يُبْتَلَى بما يضَرُّه؟
الجواب: وجه ذلك أن الإنسان لا بُدَّ أن يكون حارِثًا وهَمَّامًا، قال اللَّه:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، فالإنسان لا بد أن يفعل شيئًا، ولا بُدَّ له من هِمَّةٍ وعَمَلٍ، فإذا كان هذا العملُ فيما لا ينْفَعُ لَزِمَ أن يكون فيما يَضُرُّ.