المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (69) * * * * قالَ اللَّه عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا - تفسير العثيمين: العنكبوت

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآيات (1 - 3)

- ‌الآية (3)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (12، 13)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (14)

- ‌الآية (15)

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (17)

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (22)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (23)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (26)

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (31)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (32)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌(الآية: 34)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (35)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (36 - 37)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (42)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (44)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (45)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (46)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (47)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (48)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (49)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (50)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (52)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيات (53 - 55)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة:

- ‌الآية (56)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (57)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (58)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (59)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (60)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (61)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (62)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (63)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (64)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (65)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (66)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (67)

- ‌الآية (68)

- ‌الآية (69)

الفصل: ‌ ‌الآية (69) * * * * قالَ اللَّه عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا

‌الآية (69)

* * *

* قالَ اللَّه عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

* * *

قوله: [{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} في حَقِّنَا]:

قوله: {وَالَّذِينَ} مبتدأٌ، وجملة {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} خَبَرُه، والخبرُ مُؤَكَّدٌ بثلاثِ مؤَكِّدَاتٍ: القَسمِ واللامِ ونونِ التوكيدِ.

وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} أي: بَذَلُوا الجَهْدَ للوصولِ إلى الغايةِ، هذا هو الجهادُ: بَذْلُ الجَهْدِ للوصولِ إلى الغايةِ.

وقوله: [{فِينَا} فِي حَقِّنَا]: أي: في دِينِ اللَّه عز وجل، وفيما يجِبُ له سبحانه وتعالى وفي بيانِ شَريعَتِهِ عز وجل، وفي الأمرِ بالمعْرُوفِ والنهْي عن المنْكَرِ، وفي كفِّ النفْس عما يحْرُمُ وإلزامُها بما يَجِبُ، وفي قتالِ الكفَّارِ لإعلاءِ كلَمِةِ اللَّه، فالآية عامَّةٌ؛ كل هذا مِنَ الجهادِ في اللَّه، فكُلُّ مَنْ بذلَ وجاهَدَ في اللَّه فإن جزاءَهُ العاجلُ قبل الآجل:{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} هدايةَ دِلالَةٍ وهِدَايَة تَوفيقٍ.

فالهدايةُ هنا شامِلَةٌ للأمْرَيْنِ، ولهذا قال عز وجل:{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ولم يَقُلْ: (لنهْدِينَّهُم إلى) بل قال: {سُبُلَنَا} ، فعَدَّى الهِدايةَ بنَفْسِها إلى المفعولِ الثَّانِي.

فيَشْمَلُ ذلكَ هِدايةَ الدِّلالَةِ والتَّوفيقِ، ومنه قوله عز وجل في سورةِ الفاتحة:

ص: 413

{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، لم يَقُلْ: اهدِنْا إلى الصِّراطِ المستقيمِ، بل قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ} ، فيَشْمَلُ الهدِايَةَ إليهِ، ويَشْمَلُ الهدِايَةَ فيهِ، فالهدايةُ إليه الدِّلالَةُ إليه، أي: يَدُلُّكَ على الصِّراطِ المستَقِيمِ، والهدايةُ فيه أن يُوَفِّقَكَ للعملِ في إطارِ هذا الصِّرَاطِ، فقوله تعالى:{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} يشملُ الأمْرَينِ، هداية الدِّلالَةِ والعِلْمِ، وهِدَايةَ التَّوفيقِ والإرْشادِ، وهذا وَعْدٌ من اللَّه عز وجل مؤكَّدٌ بهذه المؤكدات الثلاثِ، فإذا كان الإنسانُ يؤمِنُ بهذا الوَعْدِ وأنه مِنَ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا، وهو لا يُخْلِفُ الميعادَ لتمامِ عِلْمِهِ وقُدرَتِهِ وصِدْقِهِ، وإخلاف الموعِدِ يكون بتَخَلُّفِ واحدٍ من هذه الثلاثة: العِلمِ والصدْقِ والقُدرة؛ فالذي يُخْلِفُ الموْعِدَ لا يكونَ إلا جاهِلًا وَعَدَكَ بشيءٍ وهو يَظُنُّ حُصولَهُ ولم يأتِ الأمرُ على ظَنِّهِ، أو أنه كاذِبٌ وَعَدَكَ وكذَبَكَ، أو أنه عاجِزٌ، أي: هو صَدوقٌ ويعْلَمُ الأسبابَ لكن عَجَزَ، لكن اللَّه جَلَّ وَعَلَا انْتَفَى بحَقِّه كلُّ هذه الثلاثة: الجَهلِ والكذبِ والعَجْزِ، فلِتمامِ قُدْرتهِ وعِلمِه وصِدْقه لا يُخْلِفُ الميعادَ.

فمن صدَّق بهذا الوعدِ فإنه لابُدَّ أن يَبْذُلَ جُهدَهُ في حق اللَّه سبحانه وتعالى، وهذا مِصْدَاقُ ما جاء في الآثارِ الكَثيرَةِ؛ من أن الإنسانَ إذا عَمِلَ بعِلمِهِ فإن اللَّه يَزيدُهُ عِلْمًا، ويُثَبَّتُ عِلمَهُ الذي يعْمَلُ به، ولهذا قيل: قَيِّدُوا العِلمَ بالعَملِ، وقيل: إن العِلْمَ يهتِفُ بالعملِ فإن أجابَ وإلَّا ارْتحَلَ، (يهتف) أي: يُنادِي، فإن عَمِلَ الإنسان بعلْمِهِ بَقِي وزادَ لأن قوله:{لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} هذه زيادَةٌ، وإن لم يُجِب ارْتَحَلَ.

وهذا حقٌّ يُؤَيِّدُه الواقعُ ويُؤيِّدُهُ المعلومُ بالشَّرعِ، فإن الواقعَ إذا صار طالبُ العِلمِ يعْمَلُ بعِلمِهِ، فإن عَمَلَهُ بالعلمِ دِراسَةٌ له؛ أنت عَلِمَتْ كيف كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُصلِّي وطبَّقْتَ ذلك في كل صَلواتِكَ لا تَنْسَاهُ؛ لأن التطبيقَ دراسة.

وهنا أُحِبُّ أن أُنَبَّه طالبَ العِلْمِ ألا يَهْتَمَّ بحفظِ المسائلِ فَقَطْ، فالتَّسجيلُ

ص: 414

أفضَلُ وأقْوَى منَّا حِفظًا للمسائلِ، لو تُعْطِيه ألفَ مسألة ثم تأتي بعدَ عِشرينَ سنَةً أعادَهَا عليك كما هي، المهم: أن يَفْهَمَ طالبُ العلم، فَفَهْمُ الدَّلالَةِ من القُرآنِ والسُّنَّةِ ومعرفةِ كَيفيَّةِ استنباطِ الأحكامِ، إذا أُوتِيهِ طالبُ العِلمِ فقَدْ أُوتِيَ خَيرًا كَثِيرًا وعِلمًا كثيرًا، والذي يُؤتَى الفَهمَ في الكتابِ والسُّنَّةِ كالطبيبِ، والذي يحْفَظُ العِلْمَ كالصَّيْدِليِّ يحفْظُ لك الدواءَ، لكنَّ الطَّبِيبَ هو الذي ينْتَفِعُ وينْفَعُ، ولذا قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه لما سئل: هل عندكُمْ كتابٌ؟ قال: لا، إلا كِتابَ اللَّهِ أو فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، أو ما فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ

(1)

، ولا شك أن عَلِيًا أُوتِي شَيئًا كَثِيرًا.

فالمهم: على طالبِ العِلْمِ أن يهْتَمَّ في دِرَاسَتِهِ للكتابِ والسُّنَّةِ بجانبِ الاستِنْباطِ والفَهْمِ والتَّفْرِيعِ أيضًا، وقد تقَدَّمَ أن دَلالَةَ اللَّفْظِ على معناه تكونُ على ثلاثةِ أَوْجُهٍ: مطابَقَةٍ وتضَمُّنٍ والتِزَامٍ، المطابِقَةُ والتَّضَمَّنُ أمرهُمَا بسيطٌ، أدْنَى طالِبُ عِلم يَفْهمها، لكن دَلالَةَ الالتزامِ هي التي يتَفَرَّعُ عليها مسائلُ لا يُحْصِيهَا إلا اللَّه عز وجل، وإذا وُفِّقَ الإنسانُ لها يَنالُ خَيرًا كثيرًا.

ثانيًا: من النَّاحِيَةِ الشرعِيَّةِ يقولُ اللَّه سبحانه وتعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76]، فكلُّ من اهْتَدَى فإنَّ اللَّه يَزِيدُهُ هُدًى وعِلْمًا.

وفي الحقيقة نحنُ نعْرِفُ هذا ونَقْرؤهُ دائمًا، لكن يَغْلُبُ علينَا السَّهْوُ والغَفلَةُ والنِّسْيانُ.

وقوله: {سُبُلَنَا} الضمير (نا) جمْعٌ والمرادُ بهِ التَّعْظِيمُ، وتقدَّمَ الرَّدُّ على زَعْمِ النَّصارَى الذين يقولونَ إنَّ اللَّه ثالثُ ثلاثة ويستَدِلُّونَ بالمتَشَابِهِ.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب كتابة العلم، رقم (111) عن أبي جحيفة.

ص: 415

قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} هذه الجملَةُ مُؤَكَّدَةٌ بـ (إن) و (اللام).

و(مَعَ): مِن النَّحويِّين من يَرَى أنها اسمٌ وهو الصحيحُ، ومنهم من يَرَى أنها حرف، وفيها لغتانِ: الفتحُ وهو الأكثر، والتَّسْكِينُ.

قال ابن مالك رحمه الله

(1)

:

وَمَعَ مَعْ فِيهَا قَلِيلُ وَنُقِلْ

فَتْحٌ وَكَسْرٌ لِسُكُونٍ يَتَّصِلْ

الشاهد: ومَعَ مَعْ فيها قَلِيلٌ.

فالحاصل: أن (مَعَ) ظرف وهي اسمٌ؛ لأنها لا تُضَافُ إلا إلى الأسماءِ، فهي ظرفٌ منْصُوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ لأنها تَدُلُّ على الصُّحْبَةِ، و (مَعَ) مضاف و {الْمُحْسِنِينَ} مضاف إليه.

وقوله: [{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} المؤمِنِينَ بالنَّصْرِ والعَوْنِ]: هذا تفسيرٌ ناقِصٌ؛ لأن المحسنين أخَصُّ مِنَ المؤمنين، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"الْإِيماَنُ أَنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. . . " إلخ، ثم قال:"الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأَنَّكَ تَرَاهُ"

(2)

فكُلُّ مُحْسِنٍ إحسانًا شَرعيًا ليس عادِيًّا فهو مُؤمِنٌ ولا عَكْسَ.

وقولنا: (إحْسانًا شرعيًا) احتِرَازًا من الإحسانِ العادي؛ لأنه يَقَعُ حتى مِنَ الكافِرِ، لكن الإحسانَ الشَّرعِيَّ هو الذي فَسَّرَهُ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام بقوله:"أَنْ تَعْبُدَ اللَّه كَأَنَّكَ ترَاهُ"، فالمحسنُ أخَصُّ مِنَ المؤمنِ.

(1)

البيت رقم (409) من ألفيته.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والاسلام والإحسان وعلم الساعة، رقم (50) عن أبي هريرة؛ ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الايمان بإثبات قدر اللَّه عز وجل، رقم (8) عن عمر بن الخطاب.

ص: 416

وقَال المُفَسِّر رحمه الله: [بالنَّصْرِ والعَوْنِ]. هذا صحيحٌ، فاللَّه جَلَّ وَعَلَا معهم بالنَّصْرِ والعَوْنِ، وليس المرادُ أنه مَعَهم في مكانِهِمْ؛ لأن هذا شيء مُسْتَحِيلٌ، أي: مُسْتَحِيلٌ على اللَّهِ سبحانه وتعالى أن يكونَ مع الناسِ في أمْكِنَتِهمْ لا المحْسِنِينَ ولا غير المحسنين، وذلك لأن هذا القولَ يستَلْزِمُ نَفْي عُلُوِّهِ، وقد التزمَ بذلك من قال به مِنَ الجَهْمِيَّةِ القُدماءِ، أما المتَأخِّرون فيَرَونَ بأنه لا داخلَ العالمِ ولا خارِجَهُ، ولا فوق العالمِ ولا تحْتَه، ولا مُتَّصِلٌ ولا مبَايِنٌ، هذا ما استَقَرَّ عليه مذهبُ الجهْمِيَّةِ، وتَبِعَهُم في ذلكَ الأشاعِرَةُ، فإنهم يرونَ هذا النَّفْي المحْضَ، والعياذُ باللَّه.

أما قدماءُ الجهمية فقالوا: بأن اللَّه تعالى بذاتِهِ في الأرضِ وليس في السماءِ -والعياذ باللَّه- فقَلَبُوا الحقائقَ، فمِنَ العَجائبِ أن يَنْفُوا العُلُوَّ مع تَطابُقِ الأدِلَّةِ على إثْباتِهِ، وأثبْتُوا الحلُولَ مع تطابقِ الأدِلَّةِ على إنكاره.

والعُلُوُّ دَلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّةُ والعقْلُ والفِطْرَةُ وإجماعُ سَلَفِ الأمةِ، فالكتابُ مَملوءٌ بما يَدُلُّ على عُلُوِّ اللَّه سبحانه وتعالى، حتى إن بعضَ أهلِ العِلم قال: إن في الكتابِ ألْفَ دَلِيلٍ على عُلُوِّ اللَّه عز وجل.

والسُّنَّةُ كذلك مملُوءةٌ من الدَّلالَةِ على عُلُوِّ اللَّه عز وجل على وجوه متَنَوِّعة، من قولٍ وفِعل وإقرارٍ.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ"

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد (3/ 4، رقم 11021)، وابن حبان (1/ 205)(25)، وأصله عند البخاري: كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع، رقم (4094)؛ ومسلم: كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، رقم (1064) عن أبي سعيد الخدري بلفظ:"أَيَأْمَنُني عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي؟ ".

ص: 417

وقال عليه الصلاة والسلام: "والْعَرْشُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ"

(1)

.

وأشارَ عليه الصلاة والسلام بأُصْبِعِهِ إلى السماءِ يَشْهَدُ اللَّه على إقرارِ أُمَّتِهِ بالبلاغِ في أعظمِ مجمَعٍ للمسلمينَ يومَ عَرفة حين قال: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ"

(2)

.

وكذلك دَعَا عليه الصلاة والسلام في خُطْبَةِ الجمعةِ رَبَّهَ، فرفَعَ يدَيْهِ يقول:"اللَّهُمَّ أَغِثْنَا"

(3)

، فهذه سُنَّةٌ فِعْلِيَّةٌ.

وأما السُّنَّةُ الإقراريةُ فإنه عليه الصلاة والسلام سألَ الجارِيةَ قالَ: "أينَ اللَّه؟ " قالت: في السماء، قال:"أعْتِقْهَا فَإِنَّها مُؤْمِنَةٌ"

(4)

.

وأما دلالةُ العقلِ فظاهِرَةٌ أيضًا؛ لأننا نقولُ: العُلُوُّ صِفَةُ كمالٍ أم صِفَةُ نقصٍ؟

والجواب: لا أحدَ يُنْكِرُ أن السُّفولَ صِفَةُ نقْصِ واللَّه عز وجل مستَحِقٌّ للكمالِ، أو واجبٌ له الكَمالُ مُنَزَّهٌ عن النَّقص.

أما الفِطْرَةُ: فسلِ الصَّبِيَّ والعَجوزَ والجاهِلَ الذي لا يعلم، فسيقُولونَ لك: إن اللَّهَ في السماءِ.

ومذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أن اللَّه سبحانه وتعالى على عَرْشِهِ بذَاتِهِ وهو معنا

(1)

أخرجه أحمد (2/ 197، رقم 6860) عن عبد اللَّه بن عمرو قوله: والعرش فوق ذلك، وفي العقود الدرية (1/ 94): والعرش فوق ذلك واللَّه فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه.

(2)

أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218) عن جابر.

(3)

أخرجه البخاري: كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة، رقم (968)؛ ومسلم: كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، رقم (897) عن أنس.

(4)

أخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، رقم (537) عن معاوية بن الحكم السلمي.

ص: 418

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حقًّا، وقالت الجهمية: إنه بِذاتِهِ في الأرضِ وليس في السماءِ -والعياذ باللَّه-، فقَلَبُوا الحقائقَ.

ثم إن طائفةً تحَذَلْقَتْ وهم الأشْعَرِيَّةُ، حكَى ذَلكَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ عَنِ الأشْعَرِيِّ في المقالات -أعني مقالات الإسلاميين- قالوا: نحن نقول بالدَّلِيلَيْنِ، نقولُ: إن اللَّه معَنَا بذَاتِهِ، وهو في السماءِ عَلَى العَرْشِ بذَاتِهِ، فيكون مكانُهُ على زَعمِهِمْ فوق، تحت، فهؤلاء وافَقُوا الجهْمِيَّةَ من وَجْه، ووافَقُوا أهلَ السُّنَّةِ من وَجْهٍ: وافَقُوا أهلَ السُّنَّةِ في قولهم: إن اللَّه على عرشِهِ بذاتِهِ، ووافَقُوا الجهْمِيَّةَ في قولهم: إنه بذَاتِهِ في الأرض، وقالوا: نحن أخذنا بكلا الدليلين، فنحن أسعدُ بالدَّلِيلِ من أهلِ السُّنَّةِ والجماعة ومن الجهْمِيَّةِ؛ لأن أهلَ السُّنَّةِ أخذُوا بدليلٍ وتَرَكُوا دليلًا، أخذوا بنصوص العُلُوِّ وتَركُوا نصوصَ المعِيَّةِ، والجهمية أخَذُوا بنصوصِ المعِيَّةِ وتركوا نصوصَ العُلُوَّ، ضرَبُوا عنها صَفْحًا، وهم يزعمون أنهم أخَذُوا بالنصوص جميعًا.

والجوابُ عن هذه الشُّبهةِ: نقول: أنتم الآن جمعتُم بينَ النَّقِيضَين، إذا كان عاليًا كما هو الحق، فكيف يكونُ في الأرض؟ هل هو إلهٌ واحدٌ أم آلهة متعددة؟

الجواب: هو إله واحد، فإذا كان فوقَ فلا يمكن أن يكونَ تحتَ؛ لأن الفوقيةَ والتَّحتِيَّةَ من الأمورِ المتقابِلَةِ التي إذا انتَفَى أحدُهَا ثَبَتَ الآخر، ولا يمكن أن تجتمع بحال.

ثم نقول: إذا قُلتم بذَاتِهِ في الأرض، لَزِمَ منه إذا كانَ الإنسان في المسْجِدِ أن يكونَ اللَّه في المسجدِ وإذا كان في السوقِ أن يكونَ اللَّه في السوقِ، وإذا كان في البِرِّ أن يكون اللَّه في البِرِّ، وإذا كان في الجوِّ أن يكون اللَّهُ في الجوِّ، تَعَالَى اللَّه عما يقُولونَ عُلوًّا كَبِيرًا.

ص: 419

فماذا قالوا: وأنتم يا أهلَ السُّنَّةِ تقولون: إن اللَّه مَعَنَا حقًّا وهو فوق العَرْشِ حقًا؟ !

قلنا لهم: هو مَعَنَا سبحانه وتعالى حقًّا، وهو سبحانه وتعالى فوقَ العرْشِ يعْلَمُنَا ويرَانا ويَسْمَعُنَا ويُدَبِّرُنا وله السلطةُ والهيمَنَةُ، ومن كان كذلك فهو معك وإن كان فوقك، فالذي يعْلَمُكَ ويَسْمَعُك ويراك ويحيطُ بك ويُهَيْمِنُ عليكَ تَدْبِيرًا وسُلطانًا لا شكَّ أنه معك، فالرجلُ يقال: إنه مع امرأتِهِ وهو في المكتَبِ وهي في بَيْتِهَا، والرجلُ له نوعُ سُلطةٍ على امرأتِهِ، والمصاحَبَةُ بسيطةٌ، فكيف بالخالقِ عز وجل الذي لا يُعْزُبُ عنه مثقالُ ذرَّةٍ في السموات ولا في الأرض، فنحن نقول: هذا أمرٌ مُمْكِنٌ أن يكون اللَّه سبحانه وتعالى معنا وهو فَوْقَ عَرْشِهِ؛ لأنه سبحانه وتعالى معنا محيطٌ بنا عِلْمًا وسَمعًا وبَصَرًا وقدرة وسُلْطانًا وتَدْبِيرًا، وغيرَ ذلك من معاني رُبوبِيَّتِه، والذي هذا شأنه يَصِحُّ أن يقال: إنه معك وهو فوق عَرْشِهِ.

وشيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية رحمه الله أشار إلى مَثَلٍ يُقرِّبُ هذا الشيء فقال

(1)

: إن العرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا، أو والنَّجْمُ مَعَنا، أو والقُطْبُ مَعَنَا، والقمرُ في السَّماءِ ونحْنُ في الأرضِ، مع أنه مخلوق، فكيف بالخالق جَلَّ وَعَلَا؟ !

فالحاصل: أن هذا التَّلْبِيسَ وهو قولهم: نحنُ نؤمِنُ بالدَّلِيلَيْنِ وأنتم يا أهلَ السُّنَّةِ لا تؤمنونَ إلا بدليلٍ واحدٍ، قد يُورِدُ شبْهَةً في قُلوبِ بعض الناس.

والجوابُ عن هذه الشُّبْهَةِ أن نقول لهم: ما آمنتم بالدَّليلَيْنِ، بل أنتم في الحقيقة أنْكَرْتُم الدَّليلين؛ لأن المعِيَّةَ لا يريدُ اللَّه بها ذلِكَ أبدًا، لا يمكنُ أن يريدَ اللَّهُ عز وجل بمَعِيَّتِهِ أن يكونَ في الأرض، ولو قلنا: إن هذا هو حقيقةٌ أو ظاهرُ النصوص، أي: لو قلنا: إن ظاهِرَ نصوصِ المعِيَّةِ أن اللَّه في الأرض، لكان لازمُ هذا القول أن ظاهرَ

(1)

مجموع الفتاوى (5/ 103).

ص: 420

النصوصِ الكُفرُ؛ لأن الإنسان الذي يعْتَقِدُ أن اللَّه في الأرضِ كافِرٌ مكَذِّبٌ للأدِلَّةِ العقلية والأثَرِيَّةِ الدَّالةِ على عُلُوِّ اللَّه سبحانه وتعالى.

ولهذا الذي مَشَى عليه المُفَسِّر في تفسيِرهِ حقٌّ، فإذا قُلنا كما قال المُفَسِّر رحمه الله:[{وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} المؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ والعَونِ]، صحَّ، وهذا النوعُ مِنَ المعِيَّةِ يقول أهلُ العلمِ: إنه من المعِيَّةِ الخاصَّةِ لا العَامَّة، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللَّه تعالى.

لو قال قائل: يمكن أن نُجِيبَ على شُبهَةِ الجهمية التي هي الجَمْعُ بين الدليلين بقولنا: إن اللَّه مَعَنَا بعِلْمِهِ؟

فالجواب: هذا ليس بصوابٍ؛ لأنهم سيَقُولونَ: قولَكُمْ يا أهلَ السُّنَّةِ: إن اللَّه مَعَنا بعِلْمِهِ تأويلٌ؛ لأن قولكُم: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4]، أي: عِلْمُهُ معكم، خالفْتم فيه ظاهرَ اللَّفْظِ.

ولو قيل: نُجِيبُ على هذه الشُّبْهَةِ بقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7] فبَدَأَ بالعِلْمِ وانتَهى بالعِلمِ؟

فالجواب: هم في الحقيقة قد يُجِيبُونَ عن هذا، يقولون: الذي معك عالمٌ بِكَ، ونحن لم نَقُلْ: إنه مَعكُمْ وليس يَعْلَمُكُم؛ فهو معكم، ومن مُقْتَضَى معِيَّتهِ أن يكونَ عالمًا، فكأنَّ قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} تَعليلٌ لقوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

ص: 421

واعلم أن المعيةَ نوعانِ: عَامَّةٌ وخاصَّةٌ.

المعيةُ العامَّةُ: التي تَشْمَلُ كلَّ أحدٍ، ومنه قوله سبحانه وتعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، هذه مَعِيَّةٌ عامَّةٌ لأنها شامِلَةٌ للمؤمنِ والكافرِ والبَرِّ والفاجِرِ، والمقصودُ بها إحاطةُ اللَّه سبحانه وتعالى بكُلِّ شيءٍ، ولهذا سُئِلَ إسحاقُ ابن رَاهِويه -وهو من أئمةِ السَّلَفِ- عن معنى هذه الآية:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]، فقال رحمه الله:[حيثُمَا كُنْتَ فَهُوَ أقْرَبُ إِلَيْكَ مَنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ]، ففَسَّرَ المعِيَّةَ بالقُرْبِ، وهذا التَّفْسِيرُ لا ينافي تَفْسِيرَ غيرِهِ من السَّلَفِ من أنه سبحانه وتعالى معهم بالعِلْمِ.

إذن: المعِيَّةُ العامَّةُ تقتَضِي الإحاطةَ، وقد تكون للتَّهْدِيدِ، كقولِه سبحانه وتعالى:{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108]، هذه المعِيَّةُ المقصودُ بها التَّهْديدُ، أي: بيانُ أن اللَّه محيطٌ بهِمْ، وأيضًا ليُهدِّدَهُم بسببِ هذا العملِ القَبيحِ، وهو كونهم {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} ، حال كون اللَّه جَلَّ وَعَلَا محُيطًا بهِمْ عِلْمًا وسَمْعًا وبَصَرًا وقُدْرَةً.

المعِيَّةُ الخاصَّةُ: نوعان: خاصَّةٌ بشخْصٍ، وخاصَّة بوصْفٍ، المخْصُوصَةُ بالشَّخْصِ: كما في قول اللَّه تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقول النبي عليه الصلاة والسلام:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]،

ص: 422

والخاصَّةُ بالوَصفِ: كما في هذه الآية: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} ، وقوله:{وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19]. وقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، والآياتُ في هذا كَثيرَةٌ.

واعلم أنه لا يُوجَدُ تناقُضٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ؛ لأن التَّنَاقُضَ معناه أن أحدَهُما باطلٌ والآخَرُ حقٌّ، فليس في الكتابِ والسُّنَّةِ شيءٌ من التناقُضِ، فإذا توَهَّمْتَ تناقضًا فاعلْم أن ذلك لا يخْلُو من ثلاثةِ أحوالٍ: إما لقُصورِ عِلْمِكَ، أو لنُقْصَانِ فهِمْكَ، أو للتَّقْصِيِر في التَّدَبُّرِ، ودليلُ ذلك قوله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

هذا في الذي يتَوَهَّمُ تَنَاقُضًا، أما الذي يَدَّعِي تناقضًا فهذا نزيدُ على الثلاثةِ المتقدِّمَةِ أمْرًا رابعًا: وهو: سوءُ القَصْدِ، ودليله قوله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

ولِنَفْرِضَ أن رَجُلًا يُريد أن يتَدَبَّرَ القُرآن، فقَرَأ آيتيْنِ ظاهِرُهما التَّعارُضُ وأرادَ أن يجمْعَ بينهما، فعَجَزَ عن أن يجْمَعَ بينَ الآيَتين، لا فَهِمَ وجْه الجَمْعِ، وأيضًا ليس عنْدَهُ عِلم أن إحدَاهما ناسِخَةٌ للأخرى، فماذا يَصْنَعُ؟

نقول: يقول -كما قالَ الرَّاسِخُون في العِلم-: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، ويتَوَقَّفُ، لكن لا يكْفِي التَّوَقُّفُ وهو يعْتَقِدُ أن في القرآن تَنَاقُضًا وأن الأمرَ مُشْتَبِهٌ عليه، بل لا بُدَّ مع تَوَقُّفِهِ أن يعلْمَ أنه ليس في القرآن تناقضٌ، وأن يدَعَ جانبًا تَوَهُّمَ التعارضِ، فلا يبْقَى على تَوهُّمِهِ لأنه إن بَقِيَ على توهُّمِ التعارضِ فقد رَكَن إلى هذا التوهُمِّ، وهو في هذه الحال على خَطَرٍ، فالواجبُ أن يعْلم أنه ليس في كتابِ اللَّه وليس بينَ الكِتابِ والسُّنَّةِ تعارُضٌ، وبهذا نعْرِفُ أن السُّنَّةَ كالقُرآنِ،

ص: 423

خِلافًا لمن قال: إنها ليست بحُجَّةٍ.

وهؤلاء الذين قَالُوا: إنَّ السُّنَّةَ ليست بحُجَّةٍ، قد أخْبَرَ عنهم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فقال:"لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيقُولُ: لَا نَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ"

(1)

، هذا الأمرُ وَقَعَ، ويُوجَدُ الآن أناسٌ -والعياذ باللَّه- يقولون: لا نَقْبَلُ ما في السُّنَّةِ إطْلاقًا، والذين لا يَقْبَلُون ما في السُّنَّةِ هم في الحقيقة كافِرُون بالقرآنِ نصًا؛ لأن القرآنَ يقول:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7]، وقال عز وجل:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، فبيَّنَ أن مَعْصِيَةَ الرسولِ معصيةٌ للَّهِ، ولو كان المرادُ مَعْصِيَةَ الرسولِ فيما أمَرَ اللَّه به لم يكُنْ لذِكْرِ الرَّسُولِ فائدة.

ثم إنَّ اللَّه تعالى يقولُ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، القرآنُ لم يُبَيِّنْ كلَّ شيءٍ تَفْصيلًا، بل أكثرُ التَّفْصِيلاتِ موجودةٌ في السُّنَّةِ.

إذن: تِبيانُ السُّنَّةِ من تِبيانِ القُرآنِ، والأدِلَّةُ في هذا وللَّه الحمدُ كثيرةٌ.

والغريبُ أنه ظَهَرَ في أمريكا أحدُ الخُبثاءِ -والعياذ باللَّه-، رَجُلٌ أصلُهُ مسلم يقال له، يعْمَلُ مُدَرِّسًا في إحْدَى الكلِّيات، يدَّعِي أنه أحدُ العلماءِ الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ، هذا الرجلُ صارَ يجمع أموالًا، وألَّفَ طائفةً سمَّاها (طائفة الكِتاب)، وأخذ يدْعو إلى القُرآنِ وتَعْظِيمِ القرآن، والعملِ بالقرآنِ، ويُنْكِرُ السُّنَّةَ إنكارًا عظيمًا -والعياذ باللَّه-، ويقول: ما هؤلاء الذين يَعْمَلُونَ بالسُّنَّةِ إلا قومٌ مجانين مغَفَّلون هَمَج، ليس

(1)

أخرجه أبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم (4605)؛ والترمذي: كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، رقم (2663)؛ وابن ماجه: افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب تعظيم حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والتغليظ على من عارضه، رقم (13) عن أبي رافع.

ص: 424

عندهم مَعْرِفَةٌ، والقرآن هو الدستورُ الأعْظَمُ، وأما السُّنَّةُ فلا قيمةَ لها.

وصارَ -والعياذ باللَّه- يَدْعُو إلى هذا المذهبِ الخَبِيثِ، ولأنه جَمَعَ أموالًا كثيرة فقد استَخْدَمها في هذا الغرضِ، وألَّفَ كِتابًا في تفْسِيرِ القرآنِ كلُّهُ هجومٌ على السُّنَّةِ وعلى المتَمَسِّكِينَ بالسُّنَّةِ.

فالحاصل: أن القرآنَ والسُّنَّةَ كلاهما صِنْوانٌ، وكلاهُما مِنْ عندِ اللَّه، وهما مصدرُ التَّشْرِيعِ؛ لقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].

ويَغْلُب على ظَنِّي أن هذا الرجل كتب مقَالَةً في جريدة، قال: القرآنُ مركَّبٌ على العددِ تسعةَ عَشَرَ، وأن كلَّ شيءٍ فيه يَدُورُ على هذا العدد، فسُوَرُ القرآن مئة وأربع عشرة سورة، هي نتيجةُ ضَرْبِ تسعةَ عشَرَ في ستة.

وكذلك حرَّف قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30]، قال:(عليها)، أي: على صِحَّةِ ما جاءَ في القُرآنِ (تسعة عشر) أي: تسعةَ عَشَرَ حرفًا هي البَسْمَلَةُ، مع أن تفسير قوله تعالى:{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} يعني على النار مَلائكَةٌ، ومرادُهُ من وراءِ ذلك أن يَسْتَدِلَّ على أن هذا القرآنَ لا يمْكِنُ أن يأتيَ به محمَّدٌ؛ لأن كونَ القرآنِ مكَوَّنٌ من هذا العددِ لم يُعرَف هذا إلا بعدَ ظهورِ الكمبيوتر.

ويقول أيضًا في قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]: ابتدأتِ السورةُ بالقاف؛ لأن مجموعَ ما فيها من القافات يُقْسَمُ على تسعة عشر، والدليلُ على ذلك لم يقل:"وقَوم لوط" بل قال: {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} ؛ لأنه لو قال: وقوم لوط لزاد قاف ولم تحْصُل القِسْمَةُ المطلوبةُ.

فهو على كلِّ حالٍ ملَبِّسٌ صاحبُ شُبهَةٍ، وقد كَتَبْنَا رَدًّا عليه.

ص: 425

وأول ما يمكن هَدْمُهُ مسألةُ البسملَةِ، فالبسملَةُ ليست بأَوَّلَ ما نَزَلَ من القرآن حتى نقول: إذًا القرآنُ مرَكَّبٌ عليها، بل أولُّ ما نزل قوله تعالى:{اقْرَأْ} [العلق: 1].

ثانيًا: البسملَةُ ليست كما زَعَم تسعةَ عشرَ حَرْفًا، فحروفُ البسملة هي: الباء، والسين، والميم، والهمزة، واللام، واللام الثانية، والهاء، والألف، والراء مكررة، والحاء، والميم، والألف، والنون، هؤلاء أربعة عَشَرَ حرفًا، وكذلك الهمزة والراء مكَرَّرَهٌ، والحاء والياء والميم، فهؤلاء عشرونَ لا تِسْعة عشرَ كما زعم؛ لكنَّه يقولُ: المعتَبرُ الكتابةُ، والرحمن ليست فيها أَلِفٌ؛ لأنه بإسقاط الأَلِفِ مِنَ الرحمن يكونُ العددُ تسعة عشر، ونحن نقول: إذا قلت هذا فأَثْبِتِ الألف التي في (الرحمن والرحيم) فإذا أَثْبَتَ الألِفَ صارَ العددُ واحدًا وعشرين.

ثم نقول له أيضًا: إذا اعْتَبَرْتَ الكتابة هل نزلَ القرآنُ مكتوبًا أم نَزَلَ منْطُوقًا؟

وأيضًا: لو كانت القاعِدَةُ الكتابيةُ على غير هذا الوجه لزادَتِ الحروفُ ونَقَصت، فالحروفُ المكتوبةُ تزيدُ وتنْقُص بتَغَيُّرِ القاعدةِ الكتابية، أما الحروف المنطوقةُ فلا تَزيدُ ولا تَنْقُص، ولذا نجِدُ في الكتابة الإنجليزية بعضُ الأحيان يكتبونَ الحركاتِ حُروفًا، وانظر إلى الصينيين عندهم آلاف الحروفِ.

الحاصل: أن الكتابةَ صناعِةٌ ليس لها دخلٌ في النُّطْقِ، والقرآن نزل باللُّغَةِ العربية، بلسانٍ عَربِيٍّ مُبِينٍ، لكنهم يُلَبِّسُونَ ويُلْقُونَ الشُبَهَ، ويزْعمونَ أنهم خدَمُوا القرآن بهذه الأفعال أمامَ هؤلاء الأجانب الذين لا يَعْرِفُون إلا المادَّةَ.

ولو أنهم بَيَّنُوا للناسِ هذا الدِّينَ وما جاء به من الأخلاقِ والمعامَلاتِ، لكانَ خيرًا لهم لو كانوا يَعْلَمُونَ!

* * *

ص: 426