الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (15)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 15].
* * *
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{فَأَنْجَيْنَاهُ} أي: نُوحًا]: أي: أنْجَى اللَّهُ نُوحًا عليه السلام من هذا الطُّوفانِ العَظيمِ.
قوله عز وجل: {وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} ، {وَأَصْحَابَ} معطوفَةٌ على الهاءِ في قولِهِ:{فَأَنْجَيْنَاهُ} يعني: وأنْجَيْنَا أيضًا أصحابَ السفينةِ، يعني: أهلَهَا الذين كانوا معه فيها وهم مُؤمنونَ، أي: أهلُ نوحٍ كُلُّهُم إلا ابنَه الكافرَ وامرأتَهُ، والمؤمنون من قومِهِ، وكذلك أيضًا الحيوانات من كلٍّ زَوجين اثْنين، فكلُّ الذي على وجْهِ الأرضِ من الحيواناتِ حُمِلَ في هذه السَّفِينَةِ؛ لأن اللَّه أغرقَ كلَّ شيءٍ على الأرض.
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} جَعلنَاهَا عِبرةً للعَالمينَ]: والهاءُ في قولِهِ: {وَجَعَلْنَاهَا} قد تعودُ إلى القِصةِ، وتحتمل أن تعود إلى السَّفينةِ، ويؤيد أنها للسَّفينةِ أنها أقربُ مَذْكورٍ، ويؤيِّدُ العمومَ أن العِبرة ليستْ بالسَّفينة فقط بل بالسفينةِ والقِصَّةِ، حيث إنه بَقِي هذه المدةَ الطويلةَ ولم يؤمِنْ معه إلا قليلٌ، وحصل هذا الغَرقُ العظيمُ الذي لا نَظيرَ له فيما نعلمُ، فَهي -أي: القصة- آيةٌ للعَالمِينَ.
وأما إذا قلنا: إن الهاءَ تعودُ إلى السَّفينةِ فذلك لأن اللَّه تعالى يقولُ: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 42]، أي: خَلَقْنا لهم مِن مِثلِ الفُلكِ المشْحونِ الذي نُجِّيَ به نوح {مَا يَرْكَبُونَ} ، فصار أوَّلَ من صَنعَ السُّفنَ نوحٌ، ثم أخذهَا الناسُ منه.
وتأمَّلِ الحكمةَ في قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13]، ولم يقل: حَملْناه على السَّفينةِ، تنْبيهًا على الموادِّ التي يُسمُّونها الموادَّ الخامَ في صُنعِ السفينة، وهي الألواحُ والدُّسُر، يعني: المسَاميرَ، فهي تُصنعُ من الألواحِ والمسَاميرِ حتى يَعرفَ الناسُ ذلك، وهذا هو الواقع، فإنَّ الناس عَرَفوهَا وتطورتِ الصنْعةُ إلى أن وصلتْ إلى ما وصلتْ إليه الآن.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} بعضُ العُلماءِ يقول: {وَجَعَلْنَاهَا} أي: السفينةَ عينَهَا، وأن أجزاءً من هذه السَّفينَةِ بَقي موجُودًا إلى أن أدْركَهُ آخِرُ الأمم، وهم أَوَّلُ هذه الأمَّةِ على الجُودِيِّ الذي ثَبتَتْ عليه، وهذا فيه نَظَرٌ.
والقولُ الثاني: أن الهاءَ في قولِهِ: {وَجَعَلْنَاهَا} يعودُ على السفينةِ باعتبارِ الجِنسِ لا باعتبارِ الشَّخْصِ؛ لأن سفينةَ نُوحٍ عليه السلام مرَّتْ عليها قُرونٌ عظيمة فتكَسَّرَتْ وأتْلَفتْها الرِّياحُ والشمسُ وذهبت، وهذا كقوله تعالى:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا} [الملك: 5]، (جعلناها) أي: الشَّهُبَ التي تخرجُ من هذه المصَابِيحَ: {رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5]، وكما في قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} [المؤمنون: 12]، أي: الإنسانَ باعتبارِ جِنْسِه، فالضَّميرُ يعودُ إلى الإنسانِ باعتبار الجنْسِ لا باعتبارِ الشَّخصِ؛ لأنَّ آدم عليه السلام الذي خُلِق مِن سُلالةٍ من طِين ولم يكن في الأرحامِ نُطفةً في قرار مَكِينٍ.
فعلى هذا يكونُ قوله تعالى هنا: {وَجَعَلْنَاهَا} فيه قولانِ لأهْلِ العِلم:
* إما باعتِبارِ الشَّخصِ.
* وإما باعتبارِ الجِنْسِ.
قوله: {آيَةً لِلْعَالَمِينَ} ، المرادُ بالعالمين هنا منْ بعدَهُم مِنَ الناسِ، كما قال المُفَسِّر:[لمَنْ بعْدَهم مِنَ الناسِ إن عَصَوا رُسُلهُمْ]، فكأنَّ المُفَسِّر رحمه الله يقول: إن الضَّميرَ في قولِهِ: {وَجَعَلْنَاهَا} يعودُ على القصَّة كلِّها، وأنها عِبرةٌ للعالمين، يعني: أنهم إن عَصَوا رُسلَهُم فسيَحِلُّ بهم مِنَ العُقوبَةِ ما حَلَّ بقومِ نُوحٍ.
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [وعَاشَ نُوحٌ بعدَ الطُّوفانِ سِتِّينَ سَنَة أو أكثرَ حتى كَثُرَ الناسُ]: أي: أن نُوحًا عليه السلام عاشَ أربعينَ سَنة قبلَ البَعْثَةِ، وسِتِّينَ سنة بعدَ الطُّوفانِ هذه مئةُ سَنة، ودَعا النَّاس تِسْعَمئةٍ وخمسين سنة، فالمجموعُ ألفٌ وخمسون، لكن المُفَسِّر رحمه الله لم يجْزِم لأنه قال:[عَاشَ سِتِّينَ سَنَة أو أكثرَ]. ونحن نقول: ليس لنا فائدةٌ في مَعرِفةِ كَم لَبِثَ قبلَ الرِّسالة، ولا في معرفةِ كَمْ لَبِثَ بعد الطوفانِ؛ لأن المهمَّ هي القصَّةُ، فهذا أولُّ الرُّسُلِ عليه الصلاة والسلام ومع ذلك وَجَد مِنْ قومِهِ مِنَ المعارضاتِ والاستِكبارِ وَرَدِّ دَعوته ما لم يَجِدْهُ نَبِيٌّ مثله، ولا نَعلمُ أن نَبِيًّا بقي في قومِهِ ألفَ سنةٍ إلا خَمسينَ عامًا إلا نُوحًا.
وعندنا مَثَلٌ عامِّيٌّ مشهور يقول: (عَسى عُمرُك عُمْر شُعَيبٍ) فإذا مثل غيرُ صَحيحٍ؛ لأن الذي بلَغَنَا مِنْ كتابِ اللَّهِ عز وجل أن أطولَ النَّاسِ عُمُرًا نوحٌ عليه السلام، ولو قالوا:(عَسى عُمُرك عمرَ نوحٍ) كان معقولًا، ولا ندري إن كان نوحٌ عليه السلام أطولَ عُمرًا من آدم عليه السلام.
فائدة: في قِصَّةِ نُوحٍ عليه السلام يقولُ اللَّه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، وقال تعالى أيضًا:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25]، فالذي يُكذِّبُ رَسولًا
مِنَ الرّسلِ مُكَذِّبٌ للجميعِ، فلا فَرقَ بينَ نُوحٍ وهودٍ وصالحٍ، فكُلَّهُم يجِبُ الإيمانُ بأنهم رُسلٌ، فمَنْ كذَّب واحدًا منهم قامَتِ البَيِّنَةُ على أنه رسولٌ فكأنما كذَّبَ جميعَ الرُّسلِ، مثلُ الذي آمن بِبَعْضِ الرِّسالاتِ وكَفَر ببعضٍ فقد كَفَر بالجميع، ومن يقول: إن الصلاةَ مفروضةٌ لكني لا أُؤمنُ بأن الزَّكاةَ فَرض، نقول: الآن كَذَّبتَ بالصلاةِ وبالزكاة؛ لأن إيمانَكَ بأن الصلاةَ مفروضةٌ دون الزكاةِ عن هَوًى لا عن هُدًى؛ لأنه لو كان عن هُدى لآمنتَ بالزَّكاةِ كما آمنتَ بالصلاةِ، فأنتَ إذن لستَ بمُؤمن لا بهذه ولا بِتلكَ.
* * *