الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد يكونُ جُحودًا كهذه الآيةِ.
وقوله: {بِآيَاتِنَا} أي: الشَّرْعِيَّةِ والكونية، فإن مِنَ النَّاسِ مَنْ جحدَ الآياتِ الكونِيَّةِ، جَحَدَ أن اللَّه سبحانه وتعالى يُحْيى الموتَى، بل مِنَ الناس من جَحَدَ أن تكونَ هذه الخَلِيقَةُ بخالقٍ، وأما جَحْدُ الآياتِ الشَّرعيةِ فكَثيرٌ.
قوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} مفهومها أن غيرَ الكافرين يُقُرِّونَ بها، وعلى هذا فكُلُّ من جَحَدَ شيئًا من آياتِ اللَّه فإنه يَسْتَحِقُّ من الكُفْرِ بقَدْرِ ما جَحَدَ، إن كان كفرًا مُطْلقًا أو أقلَّ.
وقَال المُفَسِّر: [أي: اليَهُود]: هذا قُصُور في التَّفْسِيرِ؛ لأن قوله: {الْكَافِرُونَ} أعَمُّ من اليهودِ؛ لأن (ال) اسمٌ مُوصولٌ، قال ابن مالك رحمه الله
(1)
:
وَصِفَةٌ صَرِيحَة صِلَةُ (ال)
…
وَكَوْنُهَا بِمُعْرَبِ الأفْعَالِ قَلّ
فـ (ال) تُفيدُ العُمومَ، يعني: ما يجْحَدُ إلا الكافِرُ، وعليه فقوله:{الْكَافِرُونَ} يشمَلُ اليهودَ وغيرَ اليهودِ، أليس اللَّه تعالى قال:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]، وفرعونُ ليس مِنَ اليهودِ، فرعون من الأقباطِ، وذلك قبلَ أن يكونَ بَنُو إسرائيل يهودًا.
من فوائد الآية الكريمة:
الفَائِدةُ الأُولَى: أن القرآنَ مُنَزَّلٌ من عِندِ اللَّهِ، لقولِهِ:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا} ، وأنه كَلامُهُ حُروفُه ومعانِيهِ، لقوله:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} والذي يُكْتَبُ هو الحُروف، وعلى هذا فيكونُ كلامَ اللَّه حروفَه ومعانِيهِ.
(1)
البيت رقم (98) من ألفيته.
الفَائِدةُ الثَّانِية: الإشارةُ إلى أن القرآنَ الكريمَ مكتوبٌ، لقوله:{أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} ، وقد ذكرَ اللَّه عز وجل أن القرآنَ مكتوبٌ في ثلاثَةِ مواضِعَ.
الفَائِدةُ الثَّالِثة: أن من أهلِ الكِتابِ مَنْ آمَنَ به فِعْلًا، لقولِهِ:{فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، والمراد البعضُ مِثْلُ عبدِ اللَّهِ بن سلامٍ رضي الله عنه.
الفَائِدةُ الرَّابِعة: الاستِشْهادُ بالغيرِ على صحَّةِ المدَّعَى به، يعني أن الإنسانَ يستَشْهِدُ بغير من خُصومِهِ كما قال سبحانه وتعالى:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]، وهذه الآية أيضًا {فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ، فيقالُ: ممن أُوتِيَ الكتابَ منكم أيها اليهودُ أو النصارى من آمَنَ بهذا القرآن، وهذه الحُجَّةُ مُفِيدَةٌ جدًّا عند المناظَرةِ؛ أن تحتَجَّ على الطائفة بقولِ بعضِ عُلمائها، ولهذا كان شيخُ الاسلامِ ابن تيمية يحتَجُّ على الفلاسفة وغيرهم بقولِ بعْض نُظَّارِهِمْ، واحتج على بطلانِ قولِ المتكلِّمِينَ بقولِ الرَّازِي وهو مِنْ أكابِرهِم
(1)
:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ
…
وَأكْثَرُ سَعْي الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا
…
وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنا
…
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيه قِيلَ وَقَالُوا
ولا شك أن (قِيلَ وَقَالُوا) ليست بفائدة.
والشاهدُ من مثل هذا: أن الرَّازِيَّ نَفْسُه هو الذي يتَكَلَّمُ بهذه الأبيات إما مُنْشِدًا أو مُنْشِئًا، وقبلَ هذه الأبيات يقول: "لقد تأَمَّلْت الطرقَ الكلامِيَّةَ والمناهِجَ الفلسفية، فلم أَرَها تَرْوِي غَلِيلًا ولا تَشْفِي عَلِيلًا، ووجدتُ أقربَ الطرقِ في ذلك
(1)
انظر الفتوى الحموية (ص: 192).
طريقَةُ القرآن، اقرأ في الإثباتِ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، واقرأ في النَّفْي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشوري: 11]، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، ومن جرَّبَ مِثْلَ تجرِبَتِي عَرَف مثلَ مَعْرِفَتِي]
(1)
، فأقر الرجل على نفسه بأن المذاهبَ الفلسفية كلها لا خيرَ فيها؛ لا تَشْفِي العَلِيل ولا تَرْوي الغليل.
الفَائِدةُ الخامِسة: أن من مُشْرِكِي قريشٍ من آمَنَ بالقرآنِ لقوله: {وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} ، فقد آمن مِنْ قُريش من أشْرافهِمْ ووُجهائِهِم ممن سَبقوا إلى الإسلام مثلِ أبي بكرٍ رضي الله عنه كان مِنْ أشْرَافِهِمْ، وكانوا يرْجِعُونَ إليه في النَّسبِ، ومعروفٌ بالكَرَمِ، ويُعِينُ على نَوائب الحق، فأوصافُه رضي الله عنه كأوصافِ النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان أسبقَ الناسِ إلى الإيمانِ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم، فلماذا تُنْكِرُونَ وفيكم مَنْ آمن به؟
الفَائِدةُ السَّادسَة: أن كُلَّ من جَحدَ بآياتِ اللَّهِ فهو كافِرٌ، لقولِهِ:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} ، وهذا يشمل جَحْدَ الآياتِ عُمومًا وجَحْدَ أفرادِهَا، فمَنْ جَحَدَ بعضَ القرآنِ وأقَرَّ ببعضِهِ حُكِم بكفره، كما قال تعالى:{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [النساء: 150]، فمن آمن ببعضٍ وكَفَرَ ببعضٍ عَلِمْنَا يَقِينًا أن إيمانَهُ ليس بحَقٍّ، لو كان إيمانُهُ حَقًّا لم يكن هناك فرقٌ بين ما آمَنَ به وكَفَرَ به، وإنما كَفَرَ بِبَعْضِهِ لمجَرَّدِ هَواهُ.
فمن جَحَدَ شيئًا مِنَ الشَّريعَةِ الإسلاميةِ فإنَّهُ كافِرٌ ولو آمَنَ بالبَاقِي، لكن ليُنْتَبَهَ إلى أن هذا مشروطٌ بالعِلْمِ، فإذا انْتَفَى العِلْمُ وجَحَدَهُ لعدمِ عِلْمِه لم يَكْفُر حتى يَتبَينَ له الحقُّ؛ لأن اللَّه يقول:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]،
(1)
سير أعلام النبلاء (21/ 500)؛ ومجموع الفتاوى (4/ 72 - 73)؛ والبداية والنهاية (13/ 61 - 62).
وكذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، فإذا بُيِّن لهم ما يتَّقُون ولم يتَّقوا؛ حينئذٍ يحكمُ بضَلالهِمْ.
أما أن يُضِلَّهُمُ اللَّه جَلَّ وَعَلَا قبل أن يُبيِّنَ لهم ما يتَّقُونَ، هذا لا يُمْكِنُ حُدوثُهُ؛ لأنه ليس مما تَقْتَضِيهِ حكمَةُ اللَّه سبحانه وتعالى وعَدْلُه، قال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، وقال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وأخذَ أهلُ العلمِ من ذلك أن من نَشَأ بالبَادِيَةِ أو بِدَارِ كُفْرٍ وجَحَدَ ما هو معلومٌ عندَ المسْلِمينَ بالضَّرورَةِ فإنه لا يكْفُرُ حتى يُعرَّف به، فإذا عُرِّفَ به وتَبَيَّنَ أنه أنْكَرَ؛ حينئذٍ يَكْفُرُ، وهذه مسألة يجِبُ علينا أن نتَأَمَّلَها؛ لأن بعض الإخوةِ الغَيورِينَ على دِينهم يحكُمُون بالتَّكْفِيرِ على سَبيلِ الإطلاقِ، وهذا خطأٌ؛ فإنه ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أَنَّ مَنْ دَعَا رَجُلًا بالكُفْرِ أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ"
(1)
.
وأيضًا: الحكمُ بالتَّكفيرِ حُكمٌ من أحكامِ اللَّه؛ لأن قولَكَ عن هذا الرجل: إنه كافِرٌ، كقولك عن هذا الطعام: إنه حرامٌ أو إنه حَلالٌ، فالحكمُ بالكُفر والإيمان للَّه جَلَّ وَعَلَا، فلا يجوزُ أن تُكَفِّر إلا مَنْ كَفَّره اللَّه ورسولُهُ، بل ولا أن تُفَسِّق إلا مَنْ فَسَّقَه اللَّه ورسولُه، فالأمرُ ليس إليك، الحكمُ على العبادِ بيدِ خالِقِهْم سبحانه وتعالى إن حَكَمَ عليهم بالكُفر فاحكمْ به وإلا فَلا.
كذلك أيضًا من شروطِ التَّكْفِيرِ: ألا يوجَدَ مانِعٌ، فإن وُجِد مانِعٌ من التَّكفيرِ
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، رقم (61) عن أبي ذر.
لم يَكْفُرْ؛ لأن العلمَ بما يُوجِبُ الكُفْرَ شرطٌ، كذلك انتفاءُ المانع شَرْطٌ، فإن وجد مانِع يَمْنَعُ من التَّكفيرِ لم يَكْفُرْ.
والموانع كثيرة، منها الإكراهُ، لو أُكْرِهَ رجل على الكُفر وقَلْبه مطمَئِنٌ بالإيمان لم يَكْفُر بنَصِّ القرآن وإجماعِ المسلمينَ.
ومن الموانع ألا يحولَ بين إرَادَتِهِ حائلٌ، بمعنى ألا يكون هناك حائلٌ يمْنَعُهُ من الإرادةِ والقَصْدِ، فيكون خرجَ منه الكُفْرُ بغيرِ قَصْدٍ، فإذا خرج منه الكفرُ بغير قَصْدٍ لم يكْفُر ولو كانَ كُفرًا صريحًا كالشَّمْسِ، مثل أن يكون غاضبًا غَضَبًا شَدِيدًا، أو فَرِحًا فَرَحًا شديدًا، أو خائفًا خَوْفًا شَدِيدًا، فيُطْلَقُ الكُفْر من غيرِ إرادَةٍ؛ فهذا لا شكَّ أنه لا يَكْفُرُ.
وقد قالَ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام في فَرَحِ اللَّه بتوبَةِ عبدِهِ المؤمن أنه: كرجلٍ أضلَّ بَعِيرُه وعليه طعَامُه وشرَابُه فلم يَجِدْهُ، فنامَ تحتَ شَجَرةٍ ينْتَظِرُ الموتَ، ثم استيقظَ وإذا بخِطَام ناقَتِه متَعَلِّقٌ بالشَّجرةِ، فأخَذَ الخِطَامَ وقال من شِدَّةِ الفرح: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ
(1)
، ولا شكَّ أن هذه الكلمةَ كُفْرٌ، بل لو قال: أنت عَبْدِي فقط، وقد قال:(أنتَ عَبدي وأَنَا ربُّكَ) فادَّعَى لنفسه الربوبيةَ ولرَبِّهِ العُبودية، لكن قال النبي عليه الصلاة والسلام:"أَخْطَأَ مِنْ شَدَّةِ الْفَرَحِ".
(1)
أخرجه مسلم: كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها، رقم (2747) عن أنس بلفظ:"للَّه أَشَدُّ فَرَحًا بتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَّجَعَ في ظِلِّهَا قَدْ أَيسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذلِكَ إِذْ هُوَ بهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بخِطَامِهَا ثُمَّ قالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَح: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ"، وأصله عَند البخاري: كتاب الدعوات، باب التوبة، رقم (5949) عن ابن مسعود.
وهذا الأمرُ -وهو: اعتبارُ وجودِ الشُّروطِ وانتِفَاءِ الموانِعِ- ليس خاصًّا بمسألةِ التَّكْفِيرِ بل هو عامٌّ، فكلُّ الأشياء لا تَتِمُّ إلا بوجود شُروطِهَا وانتفاءِ موانِعِهَا.
لكن إذا ادَّعَى أحدُ الجهال ومثلُه لا يَجْهَلُه هل يُقْبَلُ لو قال: أنا لا أعَلَمُ أن هذا واجبٌ، لو علمتُ أنه واجبٌ ما جَحَدْتُهُ؟ نقول: الحمدُ للَّه، إذا قلت هذا فأنت الآن تائبٌ وقد أَقْرَرَتْ بِهِ.
لكن لو جحَدَهُ رَأْسًا قبلَ أن نُطَالِبَهُ فإذا كان مثْلُهُ لا يجْهَلُه فهو كافِرٌ، كما لو جَحَدَ تحريمَ الزِّنَا وهو ناشِئٌ في بلادٍ إسلامِيَّةٍ محافظة تُحَرِّمُ الزِّنَا، وقال إن الزنا حلالٌ؛ هذا لا يُعْذَرُ، لكن لو نشأ في بلادٍ إسلامية متَهَتِّكَةٍ فيها أسواقُ الزِّنا مفتوحة وجحَدَ تحريمَ الزِّنَا وهو لا يَدْرِي، نقول: ما دام أن هناك شبهة فإن الحدودَ تُدْرَأُ بالشُّبهاتِ، والإنسان المسلمُ هو مسْلِم ولا يمكن أن نُخْرِجَهُ من الإسلام إلا بَيَقِينٍ.
وكذلك لو نشَأ إنسانٌ في بلادٍ كُلِّها رِبِوَيِّةٍ تعمل البنوكُ فيها بالرِّبَا، وقال: أنا لا أدري أن الربا حرام، هذا كذلك لا نُخْرِجُه مِنَ الإسلام لأنه جاهل، وأيضًا الذين نَشَؤوا في بلاد ينْتَحِلُ عُلماؤُهَا مَذْهَبُ الأشاعِرَةِ، فهؤلاء لا يَدْرُون عن مذهب أهلِ السُّنَّةِ شيئًا يحسبون أن هذا هو الحق، حتى أن منهم من يؤلف ويقول:"إن مذهَبَ أهل السُّنةِ والجماعَةِ ينْحصرُ في مذهبِ الأشاعِرَةِ والماتُرِيدِيَّةِ"، لأنه جاهل، وهذه بَلِيَّةٌ عظيمة، وهذا سبب عُذْرِهِ مع أنه طالب علم أنه قد لا يكون هناك كُتُبٌ من كُتبِ أهلِ السُّنَّةِ قرأها، وهذا من جنس الذي عاش في بلاد كُفْرٍ وليس عندَهُ كُتُب من كُتبِ الإسلام، فالجهلُ واحِدٌ؛ لأنه قد لا يَطْرَأُ على بالهم إطلاقًا أن هناك مذهبًا ثالثًا غير هَذين المذهبين، ويَظُنُّ بعضُ العامة عندنا أنه لا يوجَدُ مَذْهَبٌ إلا مذهب الحنابلة.
والمهم: أن مسائِلَ الجَهْلِ هذه ليس لها حَدٌّ، والحمدُ للَّهِ أن الإنسان ما دامَ يجِدُ مَخْرجًا مِنْ تكفيرِ المسلِمِ فلْيَسْلُكُه، لكن إذا عادَ وأصرَّ وعانَدَ فهذا شيءٌ آخَرُ.
ولو ادَّعَى رَجَلٌ الجهلَ في صَرْفِ شيء مما يختَصُّ باللَّه مِنَ العبادات إلى غيرِ اللَّه فإننا نَنْظُرُ: إذا كان مِثْلُهُ يَجْهَلُهُ نقول: عَلِمتَ فأَقِرَّ، أما إذا كان مثلُهُ لا يجهله نقول: كَذَبْتَ في دَعواك الجهل؛ لكن أقِرَّ بما يَقْتَضِيهِ العِلْمُ.
لو قال قائل: قريةٌ كامِلَةٌ يَدْعُو أصحابها القبورَ هل نَحكمُ بكُفرهِمْ؟
الجواب: لا نَحْكُمُ بكفرهِمْ في ظاهرِ الحال إذا كان مِثْلُهم يجْهَلُونَ، لكننا نَدْعُوهُم إلى الحَقِّ، فإِذا أصَرُّوا وقالوا: لا نَقْبَلُ منكم هذا، وهذا دِينٌ جديدٌ، نَحْنُ على ما كان عليه آباؤنَا؛ حينئذٍ نُكَفِّرُهُمْ.
* * *