الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (26)
* * *
* قالَ اللَّه عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26].
* * *
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{فَآمَنَ لَهُ} صَدَّقَ بإبراهيمَ، {لُوطٌ} وهو ابنُ أخِيهِ هارَان، {وَقَالَ} إبراهيمُ {إِنِّي مُهَاجِرٌ} مِنْ قومِي، {إِلَى رَبِّي} أي: إلى حيثُ أمَرَنِي رَبِّي، وهَجَرَ قومَهُ، وهاجَرَ مِنْ سوادِ العِراقِ إلى الشَّامِ {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} في مُلْكِه، {الْحَكِيمُ} في صُنْعِهِ].
الإيمانُ في اللغةِ: التَّصدِيقُ، ولكنه ليس مطلْقَ التَّصديقِ، بل هو تَصديقٌ بطُمأنِينَةٍ؛ لأن مادة (آمن) هي مادَّةُ الأمْنِ، يعني فيها الهمزةُ والميمُ والنون، وعلى هذا فليسَ الإيمانُ مُطلَقَ التَّصديقِ، بل هو تَصديقٌ خاصٌّ متَضَمِّن للطمأنينة في الشيءِ، وهو يتعَدَّى بـ (اللام) كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى:{آمَنْتُمْ لَهُ} ، وكذلك {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} ، ونحو ذلك مِنَ الآيات.
ويتَعَدَّى أيضًا بـ (الباء) وهو كثيرٌ كما في قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} ، وقوله:{آمَنَّا بِاللَّهِ} وما أشْبَه ذَلِكَ.
فهل هذا من بابِ التَّرادُفِ، أي: أن اللامَ بمَعْنَى الباءِ، والباء بمَعْنَى اللام، أم أن هناكَ فَرْقًا بينهما؟
يمكنُ أن يُقالَ: إنه من بابِ التَّرادُفِ وأن كلَّ واحدةٍ منهما -أي من اللام والباء- تأتي مَحِلَّ الأخْرى لكثرَةِ استعمالِ هذه وتلك، ويمكِنُ أن يقالَ بالتَّغَايُرِ، وأن اللامَ تدُلُّ على الاستِسْلامِ، وأما الباء فتَدُلُّ على طُمأنِينةٍ في القلب، فـ (اللام) للاستسلامِ فيُضَمَّنُ {فَآمَنَ لَهُ} بمعنى (انقاد)، وأما الباءُ فإنها تَدُلُّ على طمأنينة في القَلْبِ (فآمن به)، أي: اطْمَئنَّ به، واللَّه سبحانه وتعالى فرَّق بينهما في القُرآنِ الكريمِ في قوله تعالى:{يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]، وهذا في آيةٍ واحدَةٍ.
فالظاهرُ -واللَّه أعلم- مِنْ موارِدِهِما في القرآنِ الكريمِ أنهما ليْستَا متَرادِفتينِ وأن بينهُما فَرْقًا، فما كانَ فيه معنى الطمأنينةِ فهو بالباءِ، وما كان مُضَمَّنًا لمعنى الانْقيادِ ولو ظاهِرًا فإنه يأتي باللَّامِ.
مثالُ ذلك مِنَ القُرآنِ: سَحرةُ فرْعونَ، قال لهم فرعونُ مرَّة:{آمَنْتُمْ لَهُ} وقال مرة أخرى: {آمَنْتُمْ بِهِ} فهل القولانِ معناهما واحد؟
الجواب: لا، بناءٌ على ما تقدَّمَ، فيكون معنى:{آمَنْتُمْ بِهِ} ، أي: صدَّقْتُمْ به بطُمأنِينَةٍ واطمأنت قلوبُكُم بصِدقِهِ، ومعنى:{آمَنْتُمْ لَهُ} ، أي: تابَعْتُموهُ واستَسْلَمْتُمْ له، ولهذا قال لهم:{إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْر} [الشعراء: 49]، وإذا أَخْذَنَا بمجموعِ الآيتين يكونُ المعنْى أنه قرَّرَ أنهم اطمأنوا بِهِ وانقَادُوا له، أي: أنهم مُعتَرفُونَ به وبصِدْقِه وانقَادُوا له أيضًا بسِحْرِهِ.
وعلى هذا لا يَصِحُّ أن نقول: إن (الباء) و (اللام) إذا اجتمعا افتَرقَا في المعنى، وإذا افترقَا اجتَمعا؛ لأننا في الحقيقةِ لو تَتَبَّعْنا اللام لوجدناهَا تأتِي فِي أمورٍ لا تقْتَضي الطمأنينة، ولهذا لم يأتِ في القرآن: آمنت للَّه، لكن جاء: أسلمت للَّه، فتَنْزِلُ كُلَّ آيةٍ علَى معنى.
وهنا قالَ المُفَسِّر رحمه الله: [{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} صَدَّقَ بإبْراهِيمَ]: وهذا يدُلُّ على أنه يَرَى أن اللام بمَعنَى الباءِ، فيَرَى المُفَسِّر أن {فَآمَنَ لَهُ} بمعنى آمنَ بِهِ، فـ (صَدَّقَ) تَفسيرُ {فَآمَنَ} و (بإبرْاهِيمَ) تفسير {لَهُ} ، ونحن نعلمُ أن لُوطًا عليه الصلاة والسلام آمن لإبراهيمَ وبِهِ، فهو آمنَ به بقَلْبِهِ واطمأنَ إلى صِدْقِهِ، وكذلك انقادَ لَه، وتضَمَّنَ الإيمانُ هنا معنى الانقيادِ ومعنى الطُّمأنِينَةِ.
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{لُوطٌ} وهُو ابنُ أَخيهِ هَارانَ]، يعْني: أن إبراهيمَ له أخٌ اسْمُه هارانَ بنُ آزر، وهارانَ له ابنٌ اسمْهُ لوطٌ.
قوله: [{وَقَالَ} إبراهِيمُ {إِنِّي مُهَاجِرٌ} مِنْ قومِي {إِلَى رَبِّي}، أي: إِلى حيثُ أمَرنِي ربِّي، وهَجر قَومَهُ، وهاجَرَ مِنْ سوادِ العِراقِ إلى الشَّامِ]، المُفَسِّر يقول: إن الضميرَ في قوله تعالى: {وَقَالَ} يعودُ إلى إبراهيمَ، وعلى هذا فَفِي التِّلاوة تقِفُ على:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} ولا تَقُلْ: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ} لأنك لو وصَلْتَ لأَوهَمَ أن القولَ من لُوطٍ عليه السلام.
وقال بعضُ العلماءِ: إن الضميرَ يعودُ على لُوطٍ بناءً على ظاهِرِ السِّياقِ، وأن لوطًا عليه الصلاة والسلام آمن وهاجَرَ فجمعَ بينَ الإيمانِ والهِجْرةِ.
وقوله: {إِنِّي مُهَاجِرٌ} (مفاعِلٌ) في اللغة العربية تَرِدُ على ما اشترك فيه اثنانِ فصَاعِدًا كما يقال: (مقاتِلٌ)، وتَرِد على ما ليس فيه إلا طرفٌ واحدٌ كما يقال:(مسافِر)، وكلمة {مُهَاجِرٌ} يحتمل أنها مما هو مُشتركٌ بينَ طَرفين، ويكون المعنى: أنه هَجَرَهُم وهم هَجَرُوه يُريدُونَ مُفارقَته، ويُحتَملُ أنها من باب ما فيه طرفٌ واحدٌ فقط كمُسافِرٍ، وتكون مهاجرٌ بمعنى هجر؛ فكلاهما محتمل.
قوله: [{إِلَى رَبِّي} إِلى حيثُ أمَرنِي رَبِّي]: يعني: إلى الجِهةِ التي أمَرهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ
أن يُسافِرَ إليها، هذا ما فسَّرهُ به المُفَسِّر رحمه الله، والغَريبُ أن بعض المحشِّينَ قال: إن المُفَسِّر رحمه الله قال: [إلى حيثُ أمَرَنِي]، فرارًا من إثباتِ الجِهةِ للَّه؛ لأننا لو أخَذْنا بظَاهرِ الآية وهو قولُه:{إِلَى رَبِّي} لكان متَّجِهًا إلى اللَّه ذاته، وهم يرون أن اللَّه تعالى ليس في جِهةٍ، وهذا رأي الأشاعرةِ وكذلك مُعَطِّلِةُ الجهمِيَّةِ.
فإن الجَهْمِيَّةَ انقَسَمُوا في مسألةِ الجِهةِ إلى قِسمين:
* قِسمٌ حُلولِيَّةٌ، يَرَونَ أن اللَّه سبحانه وتعالى في كلِّ مكانٍ، وهؤلاء القدماءُ.
* وقِسمٌ أهلُ التَّعطِيلِ، يَرونَ أنَّ اللَّه سبحانه وتعالى ليس في مكانٍ وليس في جِهةٍ، فيقولون: لا دَاخلَ العالم ولا خارِجَه، ولا متَّصِلٌ بالعالمِ ولا منْفصِلٌ عنه، ولا مُبايِنٌ ولا محايِدٌ. نسألُ اللَّه العَافِيةَ.
وهذه الجِهَةُ يُتَوصَّلُ بها إلى إنكارِ عُلُوِّ اللَّه عز وجل بذاتِهِ، فيقولون: إنك إذا قلت: إن اللَّهَ عالٍ بذاتِه على عرْشه، لزِمَ من ذلك أن يكون في جهةٍ، وإذا كان في جِهةٍ لَزمِ أن يكونَ متَحيِّزًا، والمتحيزُ محدودٌ، سبحان اللَّه! لا أدْرِي من أين جاءتهم هذه المقُدِّمَاتُ والنَّتائجُ، ونحنُ نقولُ لهم: مسألةُ الجِهةِ لا نُنكرُها في المعنى، ولكننَا ننكرُ جِهةً تحْصُرُ اللَّه عز وجل، أي: تُحيطُهُ به؛ لأن اللَّه تعالى محُيطٌ بكُلِّ شيءٍ، لكِننا نُثبتُ بأنَّ له جِهة هي العُلُوُّ.
فالجهات ثلاث:
* جِهة سُفْلٍ.
* وجِهَةُ عُلُوٍّ محيطَةٌ باللَّه.
* وجِهَةُ عُلُوٍّ لا تحيطُ به.
والمثْبَتُ هو جِهةُ العُلُوِّ التي لا تُحيط به، أما جِهة السُّفْلِ فمُمْتَنِعَة، وأما جِهةُ العلُّو التي تُحيطُ به فممتَنِعَةٌ أيضًا؛ لأنَّ اللَّه سبحانه وتعالى ليس فوقَهُ شيءٌ.
إذنْ: كيفَ نُؤَوِّلُ قوله تعالى: {إِلَى رَبِّي} ؟ القولُ الصحيحُ الرَّاجحُ أن قوله: {إِلَى رَبِّي} ، أي: إلى دِينِهِ، أي: إلى مكانٍ فيهِ دِينُ اللَّه، كقوله تعالى:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40]، أي: مَنْ ينْصُرُ دِينَهُ، وليس المرادُ أن دِينَ اللَّهِ موجودٌ في كل بُقْعَةٍ، ولو كان دِينُ اللَّهِ موجودًا في كلِّ بُقْعَةٍ ما خَرج عليه السلام مِن مَكانِهِ.
فالحاصلُ: أن الإنسانَ المهاجِرَ إلى دينِ اللَّه يلتَمسُ المكان الذي يُقيمُ فيه دِينَهُ، ولذلك صارَتِ المدينةُ دارَ هِجْرةٍ لما أُقيمَ فيها الدِّينُ، ولهذا يقولُ العلماءُ في الهجْرةِ: إنها الانتقالُ من بلدِ الشِّرْكِ إلى بلدِ الإسلامِ حيثُ يُقيمُ دِينَ اللَّهِ عز وجل.
وقوله: {مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} (إلى): للغاية، وفيها الإشارةُ إلى حُسنِ نِيَّتِهِ وقصْدِهِ، قال النبي عليه الصلاة والسلام:"مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ"
(1)
.
وقَال المُفَسِّر رحمه الله: [وهَجَرَ قومَه، وهاجَر مِن سَوادِ العِراقِ إلى الشَّامِ]: سوادُ العِراقِ هو العِراقُ نفسه، أي: أرضُ العِراقِ، وسُمِّي سَوادًا لكثْرةِ نَخِيلهِ وأشْجارِهِ، والشَّامُ معروف.
لو قال قائل: وَردَ في الحديثِ أن إبراهيمَ عليه السلام قال لزَوجَتِهِ سَارة: "لَيْسَ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ رقم الحديث (1)؛ ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّما الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ"، رقم الحديث (1907).
عَلى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ"
(1)
.
فهلِ المرادُ بالأرض في الحديثِ عامَّةُ الأرض أم ماذا؟
الجواب: قوله: [فِي الأرْضِ] ليس المرادُ عامَّة الأرضِ، بل الصَّحيح أن المرادَ أرضُ مصر؛ لأنَّ إبراهيم عليه السلام قال هذا في مَصرَ لا في الشَّامِ.
قَال المُفَسِّر رحمه الله: [{إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ} فِي مُلكِهِ، {الْحَكِيمُ} فِي صُنْعِهِ]: هكذا يجْرِي المُفَسِّر رحمه الله في تفسيرِ هذين الاسْمينِ فيقولُ: العزيزُ في مُلكِهِ الحكِيمُ في صُنعِهِ، وهذا فيه شيءٌ مِنَ القُصورِ، فاللَّه سبحانه وتعالى عزيز بذَاتِهِ وبصِفاتِهِ، وعزَّتُه ثلاثةُ أنواعٍ: عِزَّة القَدْر، وعزة القَهْرِ، وعزَّة الامتِنَاعِ.
أما عِزَّةُ الامتِناعِ فمعناها: أنه يمْتَنِعُ أن ينَالَه سبحانه وتعالى نقْصٌ في جميعِ صِفاتِهِ وأفعالِه.
وأما عِزَّةُ القَدْرِ: فهي المنْزلِةُ والجَلالةُ والعظَمةُ.
وأما عِزَّةُ القَهْرِ: فهي القُوَّةُ والسُّلطانُ، فهو الغالِبُ، ولهذا فسَّرَها كَثيرٌ مِنَ العُلماءِ بأنه الغَالبُ، وكذلك لا أحدَ ينَالُهُ بسُوءٍ، وكذلك لا ينَالُه نَقْصٌ في صِفاتِهِ.
وأصلُ هذه المادة وهي العَيْن والزَّاي تدُلُّ على القوَّةِ، ومنه قولهُمْ للأرضِ الصَّلْبَةِ: أرض عَزازٌ
(2)
، يعني: قَويَّةً صلْبةً، وقوله رحمه الله:[{الْحَكِيمُ} فِي صُنعِهِ] فيه قُصورٌ؛ لأن حِكمةَ اللَّهِ عز وجل لا تختَصُّ بصُنعِهِ في خَلقِهِ، بل هي في صُنعِهِ وشَرعِهِ، فهو حكيمٌ بما صنَعَ حَكيمٌ فيما شرعَ.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأنبياء، باب قول اللَّه تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} ، رقم (3179).
(2)
لسان العرب، مادة (عزز).
والحكيمُ ليستْ مِنَ الحِكمَةِ فقط؛ لأن الحكيمَ مِنَ الحِكمَةِ بمعنى المتَّقِنِ، ومن الحُكْم أيضًا، وفِعيلٌ كما تقدَّمَ في اسمِ الفاعِلِ تأتي بمعنى الفاعل للمبالَغَةِ، وأمثلِةُ المبالغَة كما قال ابنُ مالكٍ رحمه الله
(1)
:
فَعَّالٌ أو مِفْعَالٌ أو فَعُولٌ
…
. . . . . . . . . . . .
ثم قال بعدها:
. . . . . . . . . . . . .
…
وفي فَعِيلٍ قَلَّ ذَا وفَعِلِ
هذه خمسةٌ، إذن: فَعِيلٌ من حَكَمُ فهو حاكِمٌ، لكن صارت بمعنى حكيمٍ للمبالَغةِ، أو لكونها صِفَةٌ مشبَّهَة، فهي من الحُكْم وهو القضاءِ.
وحُكمُ اللَّه عز وجل ينْقَسِمُ إلى قسمين: كَونِيٍّ وشَرْعِيٍّ.
مثال الكونِيِّ ما وردَ في قوله تعالى {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} [يوسف: 80]، فهذا كوْنِيٌّ، ولهذا لم يقل: يحكْم عليَّ، قال:(يحكُمَ لِي)، يعني: يُقَدِّر لي، والحُكْم الشَّرعي مثلُ قولِهِ تعالى في سورةِ الممتَحنَةِ:{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10].
وأما قولُه: {يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} في أوَّلِ سورةِ المائدةِ فيتنَاولُ الأمْرينِ، والحِكمةُ تكون في الشَّرعِ وتكون في القَدَر، وهي مشتَقَّةٌ من الإحْكامِ، بمعنى الإتْقانِ، وتكونُ في الشَّرعِ بمعنى أن جميعَ ما شَرعه اللَّهُ عز وجل فهو موافق للحِكمَةِ، وتكون في القَدَرِ بمعنى: أن كلَّ ما قدَّرَه اللَّه فهو لحِكمَةٍ، كما في قوله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} ، فالفساد من حيث هو فسادٌ وجُودُهُ ليس بحِكمَةٍ؛
(1)
الألفية البيتان رقم (432، 433).
لأن اللَّه سبحانه وتعالى لا يحِبُّ الفسادَ، لكن للغايةِ التي سيؤولُ إليها هو حِكْمةٌ قال سبحانه وتعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، فهذه هي الحكْمةُ، فكونُ أمورِ الخيرِ حِكمةً ظاهرٌ للجَميعِ.
فوجودُ ما فيه الخير للعبادِ حكمتُه ظاهِرةٌ، ووجود ما فيه الشَرُّ للعِبادِ هذا لا يقَعُ مِنَ اللَّهِ عز وجل إلا لحِكمَةٍ، ولهذا قالَ النبي عليه الصلاة والسلام:"وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ"
(1)
، فلم يَقُلْ: ليس منك، فالشَرُّ لا يُنْسَبُ إلى اللَّه، لكن كُلُّ ما يقَعُ من خَيرٍ أو شَرٍّ فهو مِنَ اللَّهِ، وهو الذي قَدَّرَهُ، لكن الشَرَّ لا يُقَدِّرُه اللَّه عز وجل إلا لمصلحةٍ أعظمَ منه، وإذا كان لمصلحةٍ أعظمَ منه صارَ حكْمَةً.
ولذلك تجدُ الأبُ الذي هو أرحمُ الخلقِ بابنه، يأتي به إلى الطَّبِيبِ ليُشَقَّ جلْدَهُ فيسيل دَمُه، هذا شَرٌّ؛ لأنه يؤلمُ الصَّبِيَّ، لكنه لمصلحتِهِ، فالعاقبِةُ حميدةٌ، ويأتي به إلى الطَّبيبِ ويقول: احمِ هذه الحديدَةَ على النَّارِ واكْوِهِ بها. والْكَيُّ شرٌّ في حَدِّ ذاته لكن غايَتَهُ حميدَةٌ.
وكذلك في الخِتانِ يأتي بابنه إلى الخاتِنِ ويقولُ له: اقطَعِ جِلْدة من ذَكَرِ ولَدِي، فالموضوع حسَّاس وسيقَطعُ منه جِلْدة، لكنَّ العاقِبَة حَميدَةٌ، فالشَرُّ قد يكونُ خيرًا باعتبار ما يَؤولُ إليه وإن كان هو في حَدِّ ذاتِهِ شَرًّا.
والحكمة أيضًا تكونُ في الشَّرْعِ، فكلُّ ما شَرعَهُ اللَّه فهو لحِكمَةٍ، شرعَ اللَّه سبحانه وتعالى في الزَّاني المحصَنِ أن يُرجَمَ بالحجارةِ، ولو قُتلَ بالسَّيفِ لكان أهونَ؛
(1)
أخرجه مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (771).
لكن كونه يُرجَمُ بالحجارة ويُشهَّرُ به، فهذا لحِكمةٍ عظيمةٍ، وهي رَدْعُ غيره عن مواقَعَةِ هذا المحْذورِ، ثم مِنْ أجل أن هذا البدنَ الذي تَلَذَّذَ كُلَّهُ بالشيءِ المحرَّمِ ينبغي أن ينالَهُ ألمٌ مِنَ العقوبةِ.
* * *