المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل أصل (غير) أن تكون صفة، وأصل (إلا) أن تكون استثناء، - ارتشاف الضرب من لسان العرب - جـ ٣

[أبو حيان الأندلسي]

الفصل: ‌ ‌فصل أصل (غير) أن تكون صفة، وأصل (إلا) أن تكون استثناء،

‌فصل

أصل (غير) أن تكون صفة، وأصل (إلا) أن تكون استثناء، ثم قد تحمل إحداهما على الأخرى فيما هو أصل فيها، وقد اضطرب كلام النحاة في الوصف بـ (إلا)، والمتفهم من كلام الأكثرين أنه يراد به الوصف الصناعي.

وهؤلاء اختلفوا، فقال الأخفش:(إلا) وما بعدها تكون صفة لنكرة، أو فيه (ألف ولام) نحو: مررت بالقوم إلا أخيك، وجاءني القوم إلا أخوك، وقال (صاحب الضوابط): يوصف بها إذا كان المستثنى منه نكرة نحو: قام كل أحد إلا زيد، فإن قلت: قام إخوتك إلا زيدًا تعين النصب، ولا يجوز الرفع على الصفة.

ونص ابن السراج وغيره على أن الذي يكون فيه (أل)، وتكون (إلا) فيه وصفًا لا بد أن تكون (أل) الجنسية.

وقال بعض أصحابنا: يوصف بها الظاهر، والمضمر، والمعرفة، والنكرة، وهو وصف يخالف سائر الأوصاف.

ص: 1526

وقال بعضهم: قول النحويين إنه يوصف بها إنما يعنون عطف البيان ألا ترى أنها جاءت بعد المضمر، والمضمر لا ينعت، وقال:

...

....

عاف تغير إلا النؤى والوتد

(فإلا النؤى) عطف بيان من الضمير المستكن في تغير، وفي البسيط: جمهور النحويين على جواز كون (غير) تجرى على المعرفة، فكذلك (إلا)، والظاهر أنها تقع فيما تقع فيه (غير)، إلا في الموضع الذي لا يتقدمها موصوف، سواء أكان في النفي أم الإثبات منفردًا، أو مجموعًا منكرًا أم معرفًا على ما تفيده من التعريف.

ولما كانت (غير) من أخوات (مثل) يصح فيها التعريف صح جريها على المعرفة، والنكرة فكذلك (إلا) بمعنها تجرى على النكرة، والمعرفة، ويجوز فيها البدل كما جاز في (غير)، وهل يجوز فيها الحال كما جاز في (غير)؟ فيه نظر، وأجازه ابن السيد، انتهى.

وشرط الوصف بـ (إلا) أن يتقدمها موصوف فلا يحذف، وتبقى هي بخلاف (غير) فلا يجوز في قام القوم إلا زيد: قام إلا زيد، ويجوز في قام القوم

ص: 1527

غير زيد أن تقول: قام غير زيد، ويجوز الوصف بها حيث يجوز البدل وحيث لا يجوز وزعم المبرد: أنه لا يجوز الوصف بها غلا حيث يجوز البدل، وكون (إلا) لا تكون صفة غلا حيث يصح الاستثناء كالمجمع عليه من النحويين.

وفي كلام سيبويه ما يقتضي ظاهره خلاف ذلك؛ فإنه جعل: {إلا الله} صفة لآلهة من قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} ومن قوله: لو كان معنا رجل إلا زيد [لغلبنا] ولا يجوز الاستثناء فيهما.

ومنع سيبويه الاستثناء المفرغ فيه، فكذلك الاستثناء غير المفرغ، وقيل قولهم لا يصلح فيه الاستثناء، إنما يعنون الاستثناء المتصل، وأما المنقطع فيصلح وهو سائغ في الآية، فالوصف سائغ.

وقد أجاز الجرمي، والمبرد في قوله تعالى:«إلا قليلاً ممن» أن يرتفع على الوصف لقوله تعالى: {أولو بقية} وهو لا شك استثناء منقطع، ولو قرئ به كان حسنًا، فحيث جاز الاستثناء بوجه ما حسن الوصف، وأجاز المبرد، وتبعه دريود في الآية البدل وتقول: جاءني رجل غير زيد، ورجلان غير زيد، ورجال غير زيد، ولا تدخل إلا مكان غير.

وما جاءني إخوتك إلا زيدًا، صلحت فيه غير، ولا أقوم إلا أن تقوم لا تكون فيه (غير)، ولا يلي (غلا) نعت ما قبلها لا يجوز: قام رجل إلا

ص: 1528

راكب، ولا ما مررت بأحد غلا قائم، والحال كالصفة لا يجوز عندي أصحابك إلا جلوسًا بل هذه يصلح فيه (غير) لا (إلا)، فإن جاء ما يوهم ذلك، فيكون حالاً، نحو: ما مررت بأحد إلا قائمًا، أو يكون صفة بدل محذوف، قال الأخفش: ما جاءني رجل إلا راكب تقديره: إلا رجل راكب، وفيه قبح وتقول: ما ضربت أحدًا غلا عمرو خير منه، (إلا) مفرغة للحال معناه إلا مفضلاً عليه عمرو.

وقال الزمخشري: ما بعد (إلا) صفة لما قبلها وهو أحد، وإلا لغو في الكلام معطية في المعنى فائدتها: جاعلة عمرًا خيرًا ممن ضربت، وإذا جاز أن تدخل على الجملة التي هي صفة، جاز أن تدخل الصفة المفردة فتقول: ما مررت برجل إلا صالح، فتكون (إلا) إيجابًا في العمد وفي الفضلات وفي التتمات.

ولا تدخل في البدل الذي هو عين الأول، ولا في عطف البيان، ولا في كل تابع هو الأول، وتابع الزمخشري صاحب البديع، وابن هشام، ويلي (إلا) في النفي فعل مضارع بلا شرط سواء أتقدم اسم نحو: ما زيد إلا يفعل كذا أم فعل نحو: ما كان زيد إلا يضرب عمرًا.

ص: 1529

ولا خرج زيد إلا يجر ثوبه، ويليها ماض مسبوق بفعل نحو قوله تعالى:{وما يأيتهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون} أو ماض مصحوب بقد.

وقال أبو بكر بن طاهر: ما زيد إلا قام لا يجوز، وما زيد إلا يقوم جاز، ولم يقل به من تقدم النحاة، وأجاز المبرد: ما زيد إلا قد قام.

وفي البيدع: ما زيد إلا قام لم يجز، فإن أدخلت قد أجازها قوم، انتهى.

وأما قول الشاعر:

وكلهم حاشاك إلا وجدته

كعين الكذوب جهدها واحتقالها

فزعموا، أن (كلهم) في تأويل الجحد، والمعنى: ما منهم أحد حاشاك إلا وجدته، فهو نظير: أنشدك بالله إلا فعلت معناه: ما أنشدك إلا فعلك، صورته صورة واجب، ومعناه النفي، وقدرت (فعلت) بالمصدر، وليس مع فعلت سابك، فهو كلام يعنون به النفي المصحور في المفعول وقولهم: بالله إلا ما فعلت كلام مختصر من قولهم: بالله لا تفعل إلا كذا، حذف جواب القسم وترك ما يدل عليه، لأن الإيجاب لا بد أن يتقدمه نفي، وصرح في قولهم: إلا ما فعلت بما المصدرية كما صرح بها في قوله:

ص: 1530

عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا

...

....

ومعنى (عمرتك الله): ذكرتك، وسالتك به، وهومثبت معناه النفي أي: ما أسألك بالله إلا ذكرك لنا.

وفي البديع: أوقعوا الفعل موقع الاسم المستثنى في قولهم: أقسمت عليك بالله إلا فعلت، ونشدتك بالله إلا أجبت، وعزمت عليك إلا أجبتني ومنه قول ابن عباس للأنصار، وقد نهضوا له بالإيواء والنصر:«إلا جلستم» التقدير: ما أطلب إلا فعلك، ولا أريد إلا جلوسكم.

وإذا صح ما حكوا من قول ابن عباس، وأنه لفظه كان في ذلك حجة على أنه قد يحذف عامل المستثنى منه المتروك كما قال الفارسي في قول الشاعر:

تنوط التميم وتأبى الغبو

ق من سنة النوم إلا نهارًا

ص: 1531

تقديره: لا تغتذى (إلا نهارًا) أي لا تغتذى وقتًا من الأوقات إلا نهارًا، حذف لا تغتدى وهو العامل في المستثنى المتروك، وإذا جاء بعد (إلا) فعل، أو جملة اسمية لم يقع موقعها (غير) ولو قلت: ما جاءني أحد غير زيد خير منه بخفض (زيد) على الإضافة، ورفع (غير)، على أنه خبر مبتدأ محذوف جاز. واختلف مدلول (إلا) وغير؛ لأن في مسألة (إلا) زيد خير من كل من جاءك، وفي مسألة (غير) نفيت أن يكون غير زيد خيرًا منه.

ولا يجوز تقديم معمول ما بعد (إلا) عليها نحو: ما قومك زيدًا إلا ضاربون، فإن وقع ففي الشعر، ولا معمول معمولها عليه وبعدها نحو: ما قومك إلا زيدًا ضاربين أي إلا ضاربين زيدًا، وسواء في ذلك فرغ العامل لما بعد (إلا) أم لم يفرغ هذا مذهب السيرافي، والفارسي، فلا يجيزون: ما زيد طعامك إلا آكل، وأجاز ذلك الأخفش ذكره في المسائل الكبار، ولا يعمل ما قبلها فيما بعدها إلا إن كان مستثنى، نحو: ما قام إلا زيد، أو مستثنى منه نحو: ما قام إلا زيدًا أ؛ د، أو تابعًا نحو: ما مررت بأحد إلا زيدًا خير من عمرو.

فأما مثل: ما ضرب إلا زيد عمرًا، وما ضرب إلا زيدًا عمرو، وما مر إلا زيد بعمرو، فتقدم الكلام في ذلك في الفصل الذي بذيل المفعول الذي لم يسم فاعله. ووافق الأخفش الكسائي في الحال، والظرف، والجار نحو: ما جاء إلا زيد ضاحكًا، وما آوى إلا عمرو إليك، وما حسن إلا زيد عندك.

ويستثنى (بحاشا)، ومذهب سيبويه وأكثر البصريين أنها حرف خافض دال على الاستثناء كـ (إلا) وأنشد الجوهري:

ص: 1532

في فتية جعلوا الصليب إلههم

حاشاى إني مسلم معذور

وذهب بعض الكوفيين، والمبرد، والفراء إلى أنها فعل ناصب للاسم بعدها بمنزلة: عدا زيدًا، وخلا زيدًا، وجوز المبرد في الاستثناء الوجهين، وذهب بعض الكوفيين إلى أنها فعل، استعملت استعمال الحروف فحذف فاعلها.

والذي يظهر أن سيبويه لا ينكر أن ينطق بها فعلاً في غير الاستثناء، ففي الاستثناء حرف، وفي غيره فعل تقول: حاشا له أن يفعل كذا؛ ومعناه جانب لك السوء، ويتعدى بنفسه، وباللام حكى الجوهري حاشاك السوء، وحاشا لك السوء.

وحكى ابن سيده: أن حاشيت بمعنى استثنيت، وحاشا بمعنى استثنى، وقال ابن حبيب: حاشا فلانًا الأكثر فيه النصب، وهو فاعل من الحشى الذي هو الناحية، وزعم الفراء: أن الخبر بعد (حاشا) بلام مضمرة.

ص: 1533

ومذهب سيبويه، والأكثر أن (خلا وعدا) فعلان ضمنا معنى الاستثناء، ولم يعرف سيبويه الجر بـ (عدا). و (خلا) وإنما نقل الجر بهما الأخفش. وثبت بالنقل الصحيح عن العرب أن (حاشا وعدا وخلا) ينتصب الاسم بعدها في الاستثناء، وينجر فإذا انجر كن حروفًا، وإذا انتصب كن أفعالاً، وإذا جاء قبلها (ما)، فالجمهور على وجوب النصب بعدها قال الفراء: إذا استثنيت بـ (ما عدا وما خلا) ضمير المتكلم قلت: ما عداني، وما خلاني، ومن نصب بحاشا قال: حاشاني. انتهى.

وزيادة (ما) قبل حاشا قليلة: وأجاز الكسائي: قام القوم ما حاشا زيد، وأجاز: قام القوم إلا حاشا زيد، وتدخل إلا على حاشا، وقيل فيها (حشا) وموضع (ما والفعل) نصب لا خلاف في ذلك بين البصريين والكوفيين موضوع موضع الحال قاله السيرافي، وذهب ابن خروف إلى أن انتصابه على الاستثناء انتصاب

ص: 1534

غير، وقيل مصدرية ظرفية أي وقت خلوهم، ودخله معنى الاستثناء، وذهب الكسائي، والجرمي والفارسي في كتاب الشعر له، والربعي إلى إجازة الجر بعد (ما عدا وما خلا)، فتكون (ما) زائدة، وحكاه الجرمي عن العرب في باب الجر من كتاب الفرخ.

وإذا ولى (حاشا) مجرور باللام فلا خلاف في انتفاء حرفيتها، وزعم المبرد أنها إذ ذاك فعل، وزعم الفراء أنها أيضًا فعل، وأن الأصل حاشا لزيد، فكثر الكلام بها فأسقطوا اللام، وخفضوا بها، وزعم غيرهما أنها اسم، إذ نونوها (وحاشًا لزيد) ليس معناه الاستثناء، بل معناه التنزيه عما لا يليق بالمذكور، وقد يراد به تنزيه الاسم من السوء، فيبتدئون بتنزيه اسم الله تعالى على جهة التعجب والإنكار على من ذكر السوء ممن لم يرده لقوله تعالى:{قلن حاش لله} كمعاذ الله، وسبحان الله، في ذلك المعنى، والصحيح في هذا أنها اسم انتصب انتصاب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل، فمن قال: حاشا لله، فكأنه قال:

ص: 1535

تنزيهًا لله، ومن نونه كقراءة أبي السمال فهو مثل رعيًا لزيد، ومن قال: حاش الله كقراءة ابن مسعود، فهو مثل سبحان الله، ولم يستثن بحاش. واستثنى بحاشا، وحيش.

واختلف في دخول (ما) على حاشى في الاستثناء، فمنع من ذلك سيبويه وأجاز ذلك بعضهم على قلة، وهو مسموع من كلامهم، واختلفوا في دخول (إلا) على حاشا، فذهب الكسائي إلى جواز ذلك إذا جرت حاشا نحو: قام القوم إلا حاشا زيد، وحكى ذلك أبو الحسن عن العرب، ومنع ذلك إذا نصبت، ومنع ذلك البصريون مطلقًا، وحملوا ما حكى من ذلك على الشذوذ، وإذا جرت هذه الكلمات، فقيل تتعلق بالفعل أو معنى الفعل فموضعها نصب، وقيل: في موضع نصب عن تمام الكلام، وإذا نصبت، فذهب سيبويه وأكثر البصريين إلى أن فاعلها مضمر مستكن في الفعل لا يظهر، وهو عائد على البعض المفهوم من الكلام لا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث.

وذهب المبرد إلى أن الضمير فيها عائد على (من) المفهوم من معنى الكلام، فإذا قلت: قام القوم عدا زيدًا، فالتقدير: عدا هو أي عدا من قام زيدًا، وقيل الفاعل مصدر ما عمل في المستثنى منه، فيقدر: قاموا عدا زيدًا، جاوز قيامهم

ص: 1536

زيدًا، وقاله ابن مالك ولا يطرد إذ ينتقض في نحو: القوم إخوتك عدا زيدًا لم يتقدم فعل، ولا ما جرى مجرى الفعل، وذهب الفراء: إلى أن حاشا فعل، ولا فاعل له والنصب بعدها، إنما هو بالحمل على إلا، والتزم فيها النصب، واختلفوا في هذه الجمل، فأجاز السيرافي أن تكون في موضع نصب على الحال كأنك قلت: خالين زيدًا، وعادين زيدًا، ومحاشين زيدًا، وأجاز أيضًا أن تكون لا موضع لها من الإعراب، وإن كانت مفتقرة من حيث المعنى إلى ما قبلها من حيث كان معناها معنى (إلا)، قال ابن عصفور وهو الصحيح: ولا يجوز حذف كلمة الاستثناء، وإبقاء المستثنى.

وقالت العرب: كل شيء مهة ما النساء وذكرهن، قال ابن مالك: مهة: يسير وقال غيره المهه: الطراوة والنضارة واختلفوا في تخريج هذا، فقال الفراء، وعلي بن المبارك الأحمر: العرب تستثنى (بما) وحكيا هذا الكلام، فجعلا (ما) أداة استثناء، فلا حذف بعدها، وذهب إلى ذلك السهيلي أيضًا قال: ليس ما تدخل فيه ليس يدخل فيه (ما)، فيستثنى بليس دون (ما) إلا في كلمة جاءت مثلاً، وذكر ذلك الكلام أي ليس النساء، وذكرهن فعلى قول هؤلاء (ما) نافية قد استثنى بها، وخرج بعض أصحابنا ذلك على جعل (ما) مصدرية، والفعل

ص: 1537

بعدها محذوف تقديره ما خلا زيدًا، وقدره ابن مالك ما عدا زيدًا، وقال بعضهم (ما) بمعنى إلا، ولم يثبت هذا المعنى في أقسام (ما)، وفي البديع: لا يجوز الجمع بين آلتين من آلات الاستثناء فلو قلت: قام القوم إلا خلا زيدًا، لم يجز، وقد أجازوا إلا ما خلا زيدًا، للفصل، وأجاز الأخفش: غلا حاشا زيد، بالجر. انتهى. وتقدمت إجازة هذا عن الكسائي، ويستثنى (بليس) (ولا يكون) تقول: قام القوم ليس زيدًا، وقام القوم لا يكون زيدًا، و (تكون) هنا ناقصة، والمنصوب خبر ليس، ولا يكون خبرها جملة، ولا تدخل عليهما الواو، كما لا تدخل على إلا، وأما اسمها، فقال ابن مالك، وصاحب البسيط: هو محذوف حذف الاسم؛ لقوة دلالة الكلام عليه، وهذا القول مخالف لما اتفق عليه الكوفيون، والبصريون من أن الفاعل مضمر لا محذوف، فقدره الكوفيون عائدًا على الفعل المفهوم من الكلام السابق، فإذا قلت: قام القوم ليس زيدًا، فالمعنى ليس هو زيدًا «أي ليس فعلهم فعل زيد» حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وقدره البصريون ضميرًا عائدًا على البعض المفهوم المعنى ليس هو؛ أي بعضهم زيدًا.

وقدره بعض النحاة باسم الفاعل الدال عليه الجملة فإذا قال: قام القوم ليس زيدًا قدره ليس القائم زيدًا، ولما جعلت ليس في الاستثناء بمعنى (إلا) انفصل الضمير الواقع خبرًا لها تقول: زيد قام القوم ليس أنا، ولم يجز العطف على

ص: 1538

خبرها بـ (ولا)، لا تقول: جاء القوم ليس زيدًا ولا عمرًا، بل تقول: وعمرًا، فخرجت عن معنى الجحد الذي بسببه يكون العطف بـ (ولا).

والخلاف فيهما: هل لهما موضع من الإعراب، فيكونا حالين، أو لا موضع لهما من الإعراب، كالخلاف في عدا، وخلا، وحاشا إذا كن أفعالا.

ومن أجاز تقديم خبر ليس عليها ينبغي ألا يجيز ذلك هنا، لأنها جرت مجرى (إلا)، فكما لا يجوز قام القوم زيدًا إلا: لا يجوز قام القوم زيدًا ليس. ومن أحكام (لي) و (لا يكون) أنه لا يجوز تقديمهما على الجملة الأولى لا تقول: ليس زيدًا قام القوم، ولا يكون زيدًا قام القوم.

والمستثنى منه مع (إلا) مصرح به، وغير مصرح نحو: ما قام إلا زيد، وتتوسط (إلا) بين شيئين أحدهما مقتض للآخر نحو: ما زيد إلا قائم، وما مررت بأحد إلا زيد خير منه، ويعتقب الإعراب على ما بعد (إلا) رفعًا ونصبًا وجرًا.

وأسماء الأفعال بمنزلة الأفعال فيما ذكر من الواجب والأمر تقول: هيهات القوم إلا زيدًا، ويا قوم هلم إلا زيدًا، ويجوز أن يكون ليس، ولا يكون في موضع الصفة، فيضمر فيهما ضمير الموصوف، ويطابقه في الإفراد، والتثنية والجمع، والتأنيث وذلك لا يكون إلا حيث يصلح فيه الاستثناء، ولا يكونان إذ ذاك استثناء، ولا يقع عدا وخلا وحاشا صفة لا تقول: ما أتتني امرأة عدت هندًا وتقول: ما أتتني امرأة ليست هندًا، ولا تكون هندًا، وما جاءني رجال ليسوا

ص: 1539

الزيدين، ولا يكونون الزيدين وما جاءني نساء لسن الهندات، ولا يكن الهندات، وما جاءني رجلان ليسا أخويك، ولا يكونان أخويك، وما جاءني رجل ليس زيدًا ولا يكون زيدًا، فيكون إذا وقعتا صفة يكون خبرهما بعدد الموصوف كما مثلنا. وقال بعضهم: يجوز ألا يكون بعدد الموصوف فتقول: ما جاءني القوم ليس زيدًا، ولا يكون عمرًا، ومثل ابن عصفور وغيره ذلك بما لا يصلح فيه الاستثناء نحو: جاءني رجال ليسوا الزيدين، وجاءني نساء لسن الهندات.

والموصوف بهما نكرة كما مثلنا، وأجاز ابن مالك أن يكون الموصوف مصحوب (أل) الجنسية، وقال: وقد يوصف بها على رأي، فأشعر أنه لا يجوز الوصف بها إلا على رأي من يرى ذلك.

ولم يذكر أحد ممن طالعنا كلامه في جواز ذلك خلافًا، ولو كان قبلهما معرفة مما يصلح أن يستثنى منه فالقياس يقضتي أن يكون في موضع نصب على الحال نحو: جاء القوم ليسوا إخوتك، وجاءتني النساء لسن الهندات نص على ذلك أبو الحسن الأبذي شيخنا، وتقولك قام القوم إلا أن يكون زيد، وما جاءني أحد إلا أن يكون زيد، ترفع زيدًا على أن «يكون» تامة وهو قول الجمهور، وأجازه الأخفش، وأجاز أن تكون ناقصة على حذف خبر يكون أي إلا أن يكونه زيد.

ولا يجيز أصحابنا حذف خبر كان وأخواتها، وإذا نصب (كان) في يكون ضمير مفرد مذكر لا يبرز في تثنية، ولا جمع، كما في لا يكون إذا استثنى بها والتقدير إلا أن يكون هو أي بعضهم زيدًا، والرفع في زيد أكثر من النصب.

ص: 1540

فأما قراءة من قرأ: {إلا أن تكون تجارة} بالتاء فالقياس يكون بالياء على التذكير، وغلا أن تكون استثناء منقطع، فهو في موضع نصب على لغة الحجاز، وفي موضع رفع على البدل على لغة تميم، إن كان تقدمه ما يصلح فيه البدل، وقد تكلف بعض أصحابنا في جعله استثناء متصلاً بما يعسر تقديره.

ويستثنى (بغير)، فينجر ما بعدها بالإضافة، وحكمها هي حكم الاسم الذي بعد (إلا) تقول: ما قام غير زيد، وجاءوني غير زيد، تنصب، وترفع على النعت للضمير على مذهب من أجاز ذلك، أو على عطف البيان على ما مر، وما جاءني أحد غير زيد ترفع، وهو أرجح من النصب، وما لأحد علم غير ظن، فتجيء فيه لغة الحجاز، ولغة تميم، وإذا انتصب (غير) على الاستثناء نحو: قاموا غير زيد، فالناصب له عند أصحابنا كونه جاء فضلة بعد تمام الكلام، كقولهم في المنصوب بعد (إلا).

وذهب السيرافي، وابن الباذش إلى أنها منصوبة بالفعل السابق، وهي عند ابن الباذش مشبهة بالظرف المبهم، فكما يصل الفعل إليه بنفسه، كذلك يصل إلى غير.

وذهب الفارسي في التذكرة على أنها منصوبة على الحال، وفيها معنى الاستثناء، ولما كانت (غير) يفرغ لها العامل في الإيجاب فتقول: قام غير زيد، فهل يجوز في نحو: قام القوم غير زيد، أن يكون بدلاً، كما جاز في ما قام القوم

ص: 1541

إلا زيد، لجواز التفريغ فيها، وقبول تكرار العامل في ذلك نظر، وأجاز الفراء فتح (غير) مطلقًا قال: لتضمنها معنى (إلا) فتقول: ما جاء غير زيد، وما جاءني غيرك بالنصب.

قال بعض بني أسد، وقضاعة: إذا كانت (غير) في معنى (إلا) ينصبونها تم الكلام قبلها، أو لم يتم فتقول: ما جاءني غيرك، وما جاءني أحد غيرك، ولم يمثل إلا بالإضافة إلى مبني، وأجاز ابن مالك بناءها إذا أضيفت إلى مبني صلح مكانها (إلا)، أو لم يصلح فمثال ما صلح مكانها (إلا) قوله:

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت

حمامة

...

ص: 1542

ومثال ما لا يصلح فيه (إلا):

لذ بقيس حين يأبى غيره

...

....

وتقول: ما أتاني غير زيد وعمرو، وما جاءني القوم غير زيد وعمرو، بالجر عطفًا على زيد، ويجوز في المعطوف الرفع، فتقول: وعمرو؛ لأن معنى (غير) زيد: غلا زيد، فكما لو صرحت بـ (إلا) زيد جاز الرفع فكذلك هذا.

وهذا العطف عند بعضهم عطفًا على الموضع، وعند الأستاذ أبي علي عطفًا على التوهم، والمعطوف، وإن أعرب إعراب غير، ليس معطوفًا على غير نفسها مع إرادة معنى إلا زيد؛ فإن عطفت على غير نفسها اختلف المعنى.

وتقول: جاء القوم غير زيد وعمرًا بالنصب على المعنى؛ إذ يصلح مراعاته، إذ تقول: إلا زيدًا وعمرًا.

وهل تختص هذه المراعاة، إذا كانت (غير) استثناء فقط، أم يجوز ذلك إذا كانت غير صفة لا استثناء نحو: ما جاءني أحد غير زيد وعمرو، فغير زيد صالح لـ «إلا زيد» ، والظاهر جوازه، قيل: ويجوز فيه وجه آخر، وهو القطع على الابتداء، وهل يراعى العطف وحده من التوابع في هذا المعنى، أم يكون باقي

ص: 1543

التوابع، كالعطف في ذلك القياس، يقتضيه، لكنهم لم ينصوا إلا على المعطوف فتقول على المراعاة: ما جاءني غير زيد نفسه، وغير زيد العاقل، وغير زيد أبو حفص، وغير زيد أخوك.

وقد خرج ابن خروف الصفة على مراعاة المعنى في قوله:

وما هاج هذا الشوق إلا حمامة

تغنت على خضراء سمر قيودها

فجعل (سمر) صفة لحمامة المرفوع بعد (إلا) فكذلك بعد غير، والصحيح أنه لا يراعى المعنى في إلا زيد على تقدير: غير زيد، فلا يجوز ما قام القوم إلا زيد وعمرو بالخفض حملاً لـ (إلا) زيد على غير زيد، وقد أجازه ابن خروف كما ذكرنا، ويجوز ما جاءني غير زيد وإلا عمرو بالرفع، كما جاز رفع عمرو دون إلا، وفي النهاية: ما أتاني أحد إلا غير زيد بالرفع، لأنه يصح أن تقول: ما أتاني غير زيد، ولا يجوز قام القوم إلا غير زيد لا على الاستثناء، ولا على الحال. انتهى.

وإذا كانت (غير) استثناء، ففي العطف بعدها (بلا) خلاف، ذهب الفراء وثعلب إلى أنه لا يجوز فلا تقول: جاءني القوم غير زيد ولا عمرو، كما لا تقول: جاءني القوم إلا زيدًا ولا عمرًا.

ص: 1544

وذهب أبو عبيدة، والأخفش، والزجاج، وابن السراج، والفارسي، والرماني إلى جواز ذلك على زيادة (لا)، أو على الحمل على المعنى، إذ المعنى في قام القوم إلا زيدًا: قام القوم لا زيد. كما تقول: أنت غير القائم ولا القاعد معناه أنت لا القائم ولا القاعد.

وأجاز النحويون عندي غير زيد، ولا عبد الله، ولم يجيزوا ذلك في سوى، وأجاز بعضهم: أنت زيدًا غير ضارب، ولم يجيزوا: أنت زيدًا مثل ضارب، لجعلهم غيرًا بمعنى (لا)، وتقول: ما لي إلا زيدًا صديق وعمرا، عطفًا على إلا زيدًا، وعمرو، بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف كأنه قال: وعمرو لي صديق، إذ معنى مالي إلا زيدًا صديق، زيد صديقي قاله الخليل.

وقال غيره: (إلا زيدًا) كان يجوز فيه الرفع على أن تبدل منه صديق، فحمل عمرو عليه عطفًا على التوهم، ولا يجوز: ما أتاني صديق إلا زيدًا وعمرو بالرفع على توهم الرفع في قوله: إلا زيدًا، بل ترفع على الابتداء.

وتساوى (بيد) غير، وتضاف إلى (أن) وصلتها وتقع في الاستثناء المنقطع، وفي الحديث:«أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أنى من قريش، واسترضعت في بني سعد» .

وتقول: ذهب الناس بيد أني لم أذهب، ومعناها معنى غير هذا هو المشهور، وقال الأموي: معناها معنى (علي). وذكر الحديث.

ص: 1545

وفي البديع: وقد تكون بمعنى (على)، وقد يبدل من بائها ميم وفي الحديث:«أنا أفصح العرب ميد أني من قريش واسترضعت في بني سعد» وفسر (بيد) من أجل وقال الراجز:

عمدًا فعلت ذاك بيد أني

أخاف إن هلكت أن ترني

والمشهور أن (بيد) بمعنى (غير)، والغالب أنه يجيء بعدها (أن) وقد جاء بعدها الفعل قال الشاعر:

بيد لا يعثر بالردف ولا

يسلم الحي إذا الحي طرد

يريد (بيد) أنه لا يعثر، وهي لازمة النصب ولا تتصرف بوجوه الإعراب تصرف (غير).

و (سوى) بكسر السين وضمها مقصورتين، وبفتح السين وكسرها ممدودتين، ويستثنى بها في الاتصال والانقطاع، وكونها ظرفًا كالمجمع عليه إلا ما ذهب إليه الزجاجي أنها اسم لا ظرف، وتابعه ابن مالك فزعم أنها بمعنى (غير).

وقال الكوفيون: وقد يكونان اسمين بمعنى غير وهي عند سيبويه،

ص: 1546

والفراء، وأكثر النحاة لازمة الظرفية لا تتصرف، وذهب بعضهم إلى أنها تستعمل ظرفًا كثيرًا، وغير ظرف قليلاً، وهو قول الرماني، والعكبري، وابن عصفور، فيما حكاه عنه ابن الضائع، والذي في تآليف ابن عصفور أنه ظرف لا يتصرف كقول الجمهور، قال تقول: مررت برجل سواك بمعنى مكانك الذي يدخله معنى عوضك وبدلك، ولما كانت الظرفية فيها مجازًا لم يتصرفوا فيها فلا يقال: قام سوى زيد، ولا قام سواء زيد، ولا ما ضربت سواك، ولا مررت بسواك ولا ينتصبان على غير الظرفية، غلا إن جاء شيء من ذلك في ضرورة الشعر، قيل: ولم يشرب معنى الاستثناء فيها إلا سوى المكسورة السين، ولم يمثل سيبويه في الاستثناء إلا بها، فإن استثنى بالآخر فبالقياس عليها، وظاهر كلام الأخفش أنه يستثنى بالثلاثة.

ويضاف إلى المعرفة والنكرة كـ (غير) وزعم بعضهم أنها لا تضاف إلا إلى

ص: 1547

المعرفة، وموضعها نصب على الظرفية، ويظهر الإعراب في الممدودة نصبًا نحو: قام القوم سواءك، وما مررت بأحد سواك.

وزعم عبد الدائم من مرزوق القيرواني: أن سواء مبنية على الفتح فأما (سوى) من قوله: {مكانا سوى} قرئ بكسر السين، وضمها، وسواء من قوله تعالى:{فاطلع فراءه في سواء الجحيم} أي في وسطه، ومن قولهم: هذا درهم سواء «أي تام» .

ومن قولهم: مررت برجل سواء والعدم، ومن قولهم: سواء أقمت أم قعدت بمعنى (مستو). فهما اسمان لا ظرفان اتفاقًا، وأما قولهم: زيد سواء عمرو بمعنى حذاء عمرو فظرف.

ويجوز حذف ما بعد (إلا) وبعد غير، وذلك بعد ليس تقول: جاءني زيد ليس إلا، وليس غير، وليس هذا من الاستثناء وتقول: قبضت عشرة ليس إلا، وليس غير، وذلك نصب غير ورفعه منونًا، وغير منون فأما في (ليس إلا) فاسمها مضمر فيها، والخبر محذوف أي ليس الجائي إلا إياه، وليس المقبوض.

ص: 1548

ويجوز أن تجعل خبر ليس محذوفًا، وما بعد (إلا) الاسم أي: ليس الجائي إلا إياه، وليس المقبوض إلا تلك.

وأما (غير) إذا نونت ورفعت، فالخبر محذوف أي: ليس غيره جائيًا، وليس غيره مقبوضًا، وإذا نصبت كان الاسم مضمرًا، وهي الخبر أي ليس هو أي الجائي غيره، وليس هو أي المقبوض غيرها.

وإذا لم تنون (غير) ورفعت أو نصبت فهي عند الأخفش معربة كحالها حين كانت منونة، وسقط التنوين لنية الإضافة، والإعراب على ذلك التقدير حيث كانت منونة.

وذهب الجرمي، والمبرد، وأكثر المتأخرين إلى أن الضمة في (غير) بناء، ونسب إلى سيبويه، وسواء أكانت اسم ليس أم خبرها، ويجوز التصريح بالإضافة مع غير فتقول: قبضت عشرة ليس غيرها أي مقبوضًا، وليس غيرها تنصب على الخبر، وهو أجود من ليس غير أو غير، وأجاز الأخفش: لم يكن غيره وغيره فيحذف الاسم أو الخبر مع (غير) مضافة كحذفها مع ليس وقال السيرافي: لا يجوز هذا الحذف.

وعد جماعة من النحاة منهم الأخفش، وأبو حاتم، والنحاس في أدوات الاستثناء (لا سيما) لما رأوا ما بعدها مخالفًا لما قبلها بالأولوية التي لما بعدها،

ص: 1549

والصحيح أنها ليست من أدواته، وإنما ذكرها سيبويه في باب (لا) التي لنفي الجنس، والمشهور والمعروف أن ما بعد (لا سيما) أولى بالمسند الذي لما قبلها من المسند إليه، وفي كلام الخطاب الماردي ما يدل على خلاف هذا، وأنه مسكوت عنه قال إذا قلت: جاءني القوم لا سيما زيد معناه: لا مثل ذلك زيد فيمن جاءني، فكأنك قلت: لا يأتي مثل زيد، فإنما نفيت أن يكون أحد ممن جاءك شبهًا بزيد، ولعل زيدًا جاءك أو لم يأتك. انتهى.

والاسم بعدها إن كان معرفة، فيجوز جره على زيادة (ما) فتقول: قام القوم لا سيما زيد، وتجويز حذف (ما) نص عليه سيبويه، ووهم ابن هشام في زعمه عن سيبويه أنها زائدة لازمة، ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة (لما) إن كانت موصولة بمعنى الذي، أو صفة إن كانت (ما) نكرة موصوفة على إجازة ابن خروف، وزعم الأخفش أن (ما) في موضع رفع بمعنى الذي، وهو خبر (لا) وسي اسمها، وإن كانت نكرة جاز الوجهان الرفع والنصب، وروى بيت امرئ القيس:

... ....

ولا سيما يوم بدارة جلجل

ص: 1550

بالنصب، والرفع والجر، وانتصاب النكرة فيه على أنه تمييز لما، وهي نكرة تامة كأنه قال: ولا مثل سي ثم فسره بنكرة منصوبة، وقال أبو علي، وهو الذي تلقيناه من الشيوخ، وقال الفارسي: لا تكون (ما) بمنزلة الذي، وينتصب يومًا على الظرف صلة لما، وقال أبو القاسم بن القاسم: هو ظرف صلة (لما) وحذف ناصبه تقديره: ولا مثل الذي اتفق يومًا بدارة جلجل، فحذف للعلم به قال ابن هشام: وبهذا قال أكثر من رأيت.

ومن كلامهم قد عرفت الذي أمس أي وقع واتفق، وحكى سيبويه في باب المستثنى:«هذا الذي أمس» قال نريد الذي فعل أمس، وقيل (ما) حرف كاف لسي عن الإضافة إلى ما بعدها فأشبهت الإضافة في قولهم:«على التمرة مثلها زيدًا» من جهة منعه الإضافة إلى ما بعدها، وهذا توجيه للفارسي أيضًا، واستحسنه الأستاذ أبو علي، وقاله أيضًا أبو الحسن بن الضائع.

وقد توصل بظرف نحو: يعجبني الاعتكاف، ولا سيما عند الكعبة، وبجملة فعلية نحو: يعجبني كلامك لا سيما تعظ به، وجاء بعد (لا سيما) أيضًا (إن) الشرطية نحو قوله:

أرى النيك يجلو الهم والغم والعمى

ولا سيما إن نكت بالمرسن الضخم

ص: 1551

وحكى الأخفش أنهم يقولون: إن فلانًا كريم ولا سيما إن أتيته قاعدا انتهى.

وهذا يدل على جواز دخول الواو على (لا سيما)، وإذا جاء بعدها الشرط كانت (ما) كافة، وإن قدرت (ما) زائدة، لم يجز؛ لأنه يلزم إضافة (سي) إلى جملة الشرط، وذلك لا يجوز، وما يوجد في كلام المصنفين من قولهم:«لا سيما والأمر كذلك» تركيب غير عربي، وكذلك حذف (لا) من لا سيما إنما يوجد في كلام الأدباء المولدين لا في كلام من يحتج بكلامه، و (سي) معناه مثل تقول: أنت سي وهما سيان، وهم أسواء نحو: حمل وأحمال، (وسي) في لا سيما هو اسم (لا) منصوب، وخبرها محذوف لفهم المعنى، فإذا قلت: قام القوم لا سيما زيد، فالتقدير: لا مثل قيام زيد قيام لهم، وزعم أبو علي في الهيتيات أن (لا) ليست عاملة النصب في (سيما) بل (سي) منصوب على الحال، والعامل فيها الجملة السابقة، وكأنه قال: قام القوم غير مماثلين زيدًا في القيام.

ويجوز تخفيف الياء من (لا سيما) حكاه الأخفش، وابن الأعرابي والنحاس، وابن جني، وفي ذلك رد على ابن عصفور، إذ زعم أنه لا يجوز تخفيف الياء، ونص الأخفش على إجازة الرفع والخفض حالة التثقيل والتخفيف، وقال دريود في كتابه في قولك: لا سيما لغتان التثقيل والتخفيف، فمن خفف خفض، ومن ثقل رفع، وهو خلاف لما صرح به الأخفش ويقال:«لا سيما» بإسكان الياء، وأصل (سي) سوى. والمحذوفة عند ابن جني لام الكلمة، والأحسن عندي أن تكون المحذوفة عين الكلمة وقوفًا مع ظاهر اللفظ، ويجوز إبدال السين تاء قالوا:

ص: 1552

(لا تيما) وإبدال اللام نونًا قالوا: ناسيما ويقال بمعنى لا سيما: لا سواء ما، ولا مثل ما، ونص ابن الأعرابي: على أن ما بعد (لا مثلما) يرفع، ويجر كما بعد لا سيما.

وقال كراع: لا سيما، ولا مثل ما، ولا ترما بمعنى واحد، وذكر ابن الأعرابي والأحمر «ولو تر ما» بمعنى لا سيما، قال: إنه لا يكون فيها إلا الرفع، يعني في الاسم الذي بعد «ولو ترما» إلا الرفع؛ وسبب ذلك أن (تر) فعل فلا يمكن أن تكون (ما) زائدة.

وينجر ما بعدها بل (ما) موصولة مفعول (بتر) وزيد خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة «وتر ما» .

إن كان قبلها (لا) جاز أن يكون للنهي، والتقدير: لا ترأيها المخاطب الذي هو زيد، والمعنى في قام القوم: ولا تر ما زيد، ولا تبصر الشخص الذي هو زيد، فإنه في القيام: أولى به منهم، وجاز أن تكون (لا) نافية.

وحذف ألف (ترى) على جهة الشذوذ، كما حذفت في «لا أدر» و «لا أبال» ، وإن كان قبل «ترما» و (لو)، فحذفت ألف «ترى» شذوذًا كما قلنا في «ولا ترما» إذا كانت (لا) نفيًا، وجواب «لو» محذوف أي: ولو تبصر الذي هو زيد لرأيته أولى منهم بالقيام، ونظير ذلك قولك: لقد جاد الناس ولو رأيت زيدًا معناه: ولو رأيت زيدًا لرأيت أجود منهم.

والجملتان من (لا سيما)، ومن «لا ترما ولو ترما» وإن اختلفا في الحد لا ينكر أن يؤديا معنى واحد، ويجوز دخول الواو على (لا سيما) فتقول: قام القوم ولا سيما زيد، والواو واو الحال.

وخبر (لا) التبرئة محذوف تقديره: ولا مثل زيد فيهم، وتقدير الحال جاءوني مقصرين غير زيد، ويجوز حذف الواو هنا من أجل العائد على القوم في الخبر المضمر.

ص: 1553

وعد الكوفيون، والبغداديون:(بله) من أدوات الاستثناء، فأجازوا النصب بعدها على الاستثناء نحو: أكرمت العبيد بله الأحرار، أو ما بعدها خارجًا مما قبلها في الوصف من حيث كان مرتبًا عليه، فجعلوه استثناء؛ إذ المعنى إن إكرامك الأحرار يزيد على إكرامك العبيد.

وذهب جمهور البصريين إلى أنها لا يستثنى بها، وأنه لا يجوز فيما بعدها إلا الخفض، وليس بصحيح، بل النصب محفوظ من لسان العرب، وأما الجر بعدها، فمجمع على سماعه من كلام العرب، فذهب بعض الكوفيين إلى أنها بمعنى (غير) وما بعدها مخفوض بالإضافة، فيكون قوله:

تذر الجماجم ضاحيًا هاماتها

بله الأكف كأنها لم تخلق

بمعنى غير الأكف، وذهب الفارسي إلى أنه (بله) مصدر لم ينطق له بفعل، وهو مضاف لما بعده إضافة من نصب أي ترك زيد.

وذهب الأخفش إلى أنها حرف جر، ووجه أصحابنا النصب بعد (بله) على

ص: 1554

أنه مصدر موضوع موضع الفعل كأنك قلت: تركا زيدًا، أو اسم فعل ليس من لفظ الفعل تقديره: دع زيدًا.

وروى قطرب الرفع بعد (بله) وأنكره أبو علي. وفي كتاب العين: (بله) بمعنى كيف وبمعنى (دع)، وإذا ارتفع الاسم كان مبتدأ، وكيف خبره، وسمع في (بله) بفتح الهاء، وكسرها، وبهل مقلوبًا بسكون الهاء، وفتحها رواه أبو زيد إذا كان مصدرًا تقول: قام القوم بهل زيد.

و (لما) بمعنى (إلا) حكاه الخليل، وسيبويه ولاكسائي، وهي قليلة الدور في كلام العرب، فينبغي أن يقتصر فيها على التركيب الذي وقعت فيه نحو قوله تعالى:{إن كل نفس لما عليها حافظ} و {وإن كل لما جميع لدينا} في قراءة من شدد الميم وقرأ عبد الله: «وما منا إلا له مقام معلوم» .

ص: 1555

وقالت العرب: نشدتك الله لما فعلت [وعمرك الله لما فعلت. وقعدك الله لما فعلت] وقد يحذف نشدتك، وسألتك، وما أشبهه فيقال: بالله لما صنعت كذا أي نشدتك الله إلا صنعت.

وزعم أبو القاسم الزجاجي أنه يجوز أن تقول لم يأتني من القوم لما أخوك، ولم أر من القوم لما زيدًا: تريد إلا أخوك، وإلا زيدًا.

وينبغي أن يتوقف في إجازة مثل هذه التراكيب حتى تثبت، ولو شخصي منها من كلام العرب.

وزعم أبو عبيد الله محمد بن مسعود الغزني في كتابه البديع: أن (دون) من أدوات الاستثناء قال فيه: وأخوات (إلا) أسماء، وأفعال، وحروف جارة، فالأسماء غير وسوى، وسوى وسواء ودون كلها تجر المستثنى بالإضافة.

وقد تستعمل (بيد) مكان (غير)، فينصب على الأكثر، وسوى، وسوى، وسواء ودون تنصب على الظرف تقول: قام القوم سواء زيد؛ أي مكان زيد، وأصل (ما) في ما خلا، وما عدا للمدة كما في ما دام، وقيل إنها المصدرية.

ص: 1556