الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنكُمَا مُنْذُ أَسْلَمْتُمَا أَمْراً أَكْرَهَ عِنْدِي مِن إِبْطَائِكُمَا عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، وَكَسَاهُمَا حُلَّةً حُلَّةً، ثُمَّ رَاحُوا إِلَى المسْجِدِ"
(1)
.
إنَّ فقه النَّوازل المعاصرة أحوج ما نكون إليه اليوم، ومع هذا تناساه كثير مِنَ النَّاس! فما أشدَّ حاجتنا إلى فقهاء مجتهدين! يفهمون النَّوازل أصولها وفروعها، ظاهرها وباطنها، جليَّها وخفيَّها، ويفقهون الواقع، والواجب فيه، ويقدِّرون المصالح والمفاسد في الحال والمآل، ويستنبطون الأحكام من الكتاب والسُّنَّة، ومِن قياس هذه النَّوازل على ما يماثلها، ليدلّوا العباد إلى طريق الرَّشاد، ومقاصد السَّداد.
أنواع الاختلاف
الاختلاف في الأصل نوعان: اختلاف تنوّع، واختلاف تضادّ. واختلاف التَّنوُّع محمود، كالاختلاف في وجوه القراءات والتَّفسير الَّذي ليس عليه إجماع وغير ذلك من الخلاف المعتبر الَّذي ينبني على الدَّليل، وهو ما وقع به بعض الصَّحابة رضي الله عنهم، كما في القراءات الَّتي اختلفوا فيها حتَّى زَجَرَهُم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، قَال ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه:" سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ آيةً، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلَافَهَا؛ فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ، وَقَالَ: كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ، وَلَا تَخْتَلِفُوا؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا، فَهَلَكُوا"
(2)
.
فمن قوله صلى الله عليه وسلم: "كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ "يفهم أنَّ اختلاف التَّنوُّع معتبر، ومِن تتمَّة
(1)
البخاري "صحيح البخاريّ"(م 4/ج 8/ص 98) كتاب الفتن.
(2)
البخاري "صحيح البخاريّ"(م 2/ج 4/ص 151) كتاب الأنبياء.
قوله صلى الله عليه وسلم يفهم أنَّ الاختلاف أيّاً كان يُذمُّ إذا صحبه بغيٌ، لأنَّه يفضي إلى الهلاك.
وكاختلافهم في قطع الأشجار، فقد قطع قوم وترك آخرون، قال تعالى:{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ (5)} [الحشر].
ومنه اختلاف أنظار الفقهاء فيما اجتهدوا فيه من فروع الأحكام، وفضائل السُّنن، ومسائل الفقه المعتبرة، وفي هذا الخلاف قال رشيد رضا:"نتعاون فيما اتَّفقنا عليه، ويعذرُ بعضُنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".
فالاختلاف في الاجتهاد معتبر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ "
(1)
.
وما شجر بين الصَّحابةلا إله إلا الله بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه من هذا النَّوع، فقد اجتهدوا وسعهم، وَسَعوا بين أَجْر وأَجْرين، فَمَنْ أَصَابَ منهم فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، ومَنْ أخطأ فله أجر على جهده في الاجتهاد، وحسن نيَّته.
ويدلّك على أنَّه اختلاف تنوّع أنَّك تجد أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم اختلفوا ولم يتفرَّقوا، ولم يصيروا شيعاً، ولم يكن بينهم عداوة ولا قطيعة، ولم يكن قتالهم يوم الجمل مقصوداً، وإنَّما كان قدراً مقدوراً.
أمَّا اختلاف التَّضاد، فهو اختلاف حقيقيّ مَذْمُوم لا يأتي بخير، وهو اختلاف في الأصول والاعتقاد والتَّأويل ومسائل الإجماع، وغالباً ما يؤول إلى الخصومة والعداوة والافتراق، ويؤدِّي إلى التَّناحر والشِّقاق.
(1)
البخاري "صحيح البخاريّ"(م 4/ج 8/ص 157) كتاب الاعتصام.