الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ "
(1)
.
ولعلَّه رضي الله عنه أراد إلى جانب حقيقة السُّؤال أنْ يوطِّئ لعائشة رضي الله عنها؛ لِتصْبِرَ على فَقْدِهِ، ممّا يُظْهِرُ فراسته وثباته حين وفاته.
استدراكها رضي الله عنها ومقاييس نقد الحديث عندها
لا عجبَ أنْ تُسْهِمَ عائشةُ رضي الله عنها في حِفْظِ السُّنَّة، فهي معدودة في علماء الصَّحابة رضي الله عنهم، ومن المكثرين بين الصَّحابة في علم الحديث رواية ودراية.
وروايتها الحديث منقبة عظيمة لها، فهي أحفظ الصَّحابيَّات وأكثرهنَّ في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لواحدة من الصَّحابيَّات قَدْرُها في رواية الحديث ولا ما يقاربه.
رَوَتْ عائشة رضي الله عنها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الكثير الطَّيِّبَ، وروت عن أَبِيهَا، وعن عُمَرَ، وفَاطِمَةَ الزَّهراء، وسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، وأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْروغيرهم، وروى عنها مِن الصًّحابة عُمَرُ، وابنه عَبْدُ الله، وأبو هريرة، وأبو موسى الأَشْعَرِيّ، وابْنُ عبَّاس وغيرهم، ومن كبار التَّابعين حدَّث عنها سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، ومَسْرُوق، وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ.
وهي رائدة نساء الأمَّة في توثيق السُّنَّة على الإطلاق، وأسوة في نقد الحديث باستدراكاتها، ولا غَرْوَ؛ فقد تربَّت في بيت أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وفي بيت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مهبط الوحي، ومَعِين العِلْم.
ولا ريب أنَّها تدرك وجه خيريَّة السُّنَّة نظماً ومعنى واعتقاداً وقولاً وفعلاً،
(1)
البخاري "صحيح البخاري"(م 1/ج 2/ص 106) كتاب الجنائز.
وتعلم ما لها من أثر على الفرد والمجتمع. فالسُّنَّة توحِّد المسلمين، وتجمع كلمتهم، وتلمّ شَعْثَهُم، وتصلح شأنهم، وتؤلِّفُ بين قلوبهم، فضلاً عن أنَّها مبيِّنة لكتاب ربِّهم، والمصدر الثَّاني للتَّشريع الإسلاميّ؛ ولذلك أَوْلَتْها جلّ اهتمامها.
وكان لأمِّ المؤمنين رضي الله عنها مقاييس في نقد الحديث، كعرض الحديث على القرآن الكريم، روى البخاري عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: يَا أُمَّتَاهْ، هَلْ
رَأَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: "لَقَدْ قَفَّ
(1)
شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ! أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام]، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ (51)} [الشّورى]، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا (34)} [لقمان]، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (67)} [المائدة] الْآيَةَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عليه السلام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ"
(2)
.
ولمسلم عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: "يَا أَبَا عَائِشَةَ (مَسْرُوق)، ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ،
(1)
قَفَّ شعري: قام من الفزع.
(2)
البخاري "صحيح البخاري"(م 3/ج 6/ص 50) كتاب التّفسير.
قُلْتُ مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ، قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ المؤْمِنِينَ، أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي، أَلَمْ يَقُلْ الله عز وجل:{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} [التّكوير]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النَّجم]؟ فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ المرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ.
فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ الله يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام] أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ الله يَقُولُ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشّورى]. قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ الله فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ، والله يَقُولُ:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (67)} [المائدة] قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ، والله يَقُولُ:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ (65)} [النّمل] "
(1)
.
ومن مقاييس توثيق السُّنَّة عندها عرض السُّنَّة على السُّنَّة، سأل مُحَمَّد بن المنْتَشِرِ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِماً، فَقَالَ ابْنُ عمر: " مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ
(2)
طِيبًا، لَأَنْ أَطَّلِيَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ
(1)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 2/ج 3/ص 8) كتاب الإيمان.
(2)
نضخ: فَارَ، ومنه قوله تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)} [الرّحمن].
أَفْعَلَ ذَلِكَ"
(1)
فَدَخَل عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَأَخْبَرها عن قَوْلِ ابنِ عُمَرَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ:"أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا "
(2)
.
وفي رواية، قَالَتْ:"يَرْحَمُ الله أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِماً يَنْضَخُ طِيبًا "
(3)
.
وفي استرحامها ودعائها لابن عمر دلالة على سَهْوه، وفيه إظهار لعذره، فلو استحضر فِعْلَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك. وحاصل كلامها رضي الله عنها أنَّها كانت تطيِّب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قبل الإحرام بالحجِّ، وكانت تطيِّبه لحلِّه قبل أن يفيض بأطْيَب طِيْب تيسَّر لها، روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:"كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ "
(4)
.
ومن عرضها السُّنَّة على السُّنَّة استدراكها على أمَّهات المؤمنين، روى البخاري عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:" أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ رضي الله عنه إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟! "
(5)
. وفي الحديث دليل على فقه عائشة رضي الله عنها، وسعة حفظها، وبثّها للعلم، واطّلاعها على ما لم يطَّلع عليه غيرها
(1)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 4/ج 8/ص 102) كتاب الحجّ.
(2)
المرجع السّابق.
(3)
البخاري "صحيح البخاري"(م 1/ج 1/ص 71) كتاب الغسل.
(4)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 4/ج 8/ص 102) كتاب الحجّ.
(5)
البخاري "صحيح البخاري"(م 4/ج 8/ص 5) كتاب الفرائض.
من أمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن.
ومِنْ ذلك استدراكها على أخيها عبد الرّحمن، روى مسلم عَنْ سَالم مَوْلَى شَدَّادٍ قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، فَتَوَضَّأَ عِنْدَهَا، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَسْبِغْ
الوُضُوءَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ"
(1)
.
أرادت رضي الله عنها أن تذكِّر أخاها عبد الرّحمن رضي الله عنه بوجوب غسل الرِّجلين بكمالها، وأنَّ المسح لا يجزئ، ولعلَّ عبد الرّحمن رضي الله عنه كان في عجلة من أمره، فقد كان خارجاً في جنازة الصَّحابيِّ الجليل سعد بن أبي وقَّاص، فلمسلم عن سالم مَوْلَى المهْرِيِّ، قَالَ:" خَرَجْتُ أَنَا وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي جَنَازَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَمَرَرْنَا عَلَى بَابِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَذَكَرَ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ "
(2)
.
ومن المقاييس عرض الحديث على حديث عندها، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ فَدَخَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَتْ:"أَنْتَ الَّذِي تُحَدِّثُ أَنَّ امْرَأَةً عُذِّبَتْ فِي هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهَا؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: هَلْ تَدْرِي مَا كَانَتِ المَرْأَةُ؟ إِنَّ الْمَرْأَةَ مَعَ مَا فَعَلَتْ، كَانَتْ كَافِرَةً، وَإِنَّ المُؤْمِنَ أَكْرَمُ عَلَى الله عز وجل مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُ فِي هِرَّةٍ "
(3)
.
ولعلّ عذر أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه لم يسمع مناسبة الحديث، فعلَّة دخولها النَّار
(1)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 2/ج 3/ص 128) كتاب الطّهارة.
(2)
المرجع السّابق.
(3)
أحمد "المسند"(ج 9/ص 549/رقم 10675) وإسناده حسن.
إلى جانب ما فعلته في الهرة كُفْرها، ولعلَّ ما يُؤَيِّدُ كَوْنَهَا كَافِرَةً مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ في مسنده
(1)
، والبيهقي في البعث والنّشور
(2)
، وهو موافق لما رواه أحمد. وهذه المرأة هي الّتي رآها النَّبيُّ في النَّار، وهي من بني إسرائيل كما في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال:"وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا، رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"
(3)
.
ومِنَ العلماء مَنْ يرى أنّه ليس في حديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يقتضي كفرها، وأنَّها إنَّما عُذّبت بسبب إصرارها على حبس الهرّة وسجنها حتَّى ماتت، وأنّ الإصرار على الصّغائر وعدم المبالاة بها والمجاهرة بها يصيّرها كبائر، وأنّ عائشة رضي الله عنها خولفت. فالمسألة لا تخلو من خلاف، والحاصل إذا كان هذا حال مَنْ عذَّب هرّة، فما حال مَنْ عذَّب العباد؟!
ومن المقاييس عرضها السُّنَّة على وقائع التَّاريخ، فقد روى الشَّيخان عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، قَالَ:"ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ وَصِيًّا، فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ، وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي أَوْ قَالَتْ حَجْرِي، فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدْ انْخَنَثَ (مَالَ) فِي حَجْرِي، فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ! "
(4)
.
(1)
أبو داود "مسند أبي داود"(ج 3/ص 28/رقم 1503).
(2)
البيهقي "البعث والنّشور"(ج 1/ص 79/رقم 48).
(3)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 3/ج 6/ص 209) كتاب الكسوف.
(4)
البخاري "صحيح البخاري"(م 2/ج 3/ص 186) كتاب الوصايا، ومسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 6/ج 11/ص 88) كتاب الوصيّة.
وهذا يدلُّكَ على أنَّ هناك فئة حاقدة كانت تلفِّق الأحاديث على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم منذ ذلك العهد؛ لِتُوقِع الفرقة والعداوة بين المسلمين، ولذلك قامت عائشة رضي الله عنها كغيرها من أكابر الصَّحابة بجهود جمَّة في توثيق السُّنَّة.
ومعلوم أنَّ عليّاً رضي الله عنه نفسه كان يردُّ هذه الفرية، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: قِيلَ لَعَلِيٍّ: أَلَا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: "مَا اسْتَخْلَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأَسْتَخْلِفُ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ يُرِدِ الله تبارك وتعالى بِالنَّاسِ خَيْراً، فَسَيَجْمَعُهُمْ عَلَى خَيْرِهِمْ كَمَا جَمَعَهُمْ بَعْدَ نبيِّهِم صلى الله عليه وسلم على خَيْرِهِمْ"
(1)
.
قلت: وطالما أنَّ الله تعالى تكفَّل بحفظ القرآن، فالسُّنَّة محفوظة بالتَّبعيَّة، ومِن حفظ الله للسُّنَّة أن قيَّد الله تعالى لها رجالاً من أمثال أبي هريرة، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم كثير رضي الله عنهم، ونساءً مِنْ أمْثَال أمَّهات المؤمنين: عائشة، وأمّ سلمة، وسودة، وحفصة، وزينب، وجويرية، وأمّ حبيبة، وميمونة، وصفيَّة رضي الله عنهن، وبنت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فاطمة الزَّهراء رضي الله عنها، وصحابيّات من أمثال: خنساء بنت خذام، ولبابة بنت الحارث، وأم هانئ بنت أبي طالب أخت عليّ، وأسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق، وأمّ قيس بنت محصن أخت عكاشة الّذي طلب من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يجعله من الَّذين يدخلون الجنَّة بغير حساب، وغيرهنَّ كثير رضي الله عنهن.
(1)
((الهيثمي "مجمع الزّوائد" (ج 9/ص 47/رقم 14334) وقال: رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الْحَارِثِ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وأخرجه الحاكم وصحّحه في "المستدرك"(ج 3/ص 79) كتاب معرفة الصّحابة رضي الله عنهم، ووافقه الذّهبي.