المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌استدراكها رضي الله عنها ومقاييس نقد الحديث عندها - الأثر الثمين في نصرة عائشة - رضي الله عنها - أم المؤمنين

[أحمد محمود الشوابكة]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌تقديمأ. د. عبد النّاصر أبو البصل

- ‌تقديمأ. د. محمود السّرطاوي

- ‌تقديمأ. د. أحمد نوفل

- ‌تقديمد. محمّد ملكاوي

- ‌تقديمأ. د. عبد المقصود حامد

- ‌المقدّمة

- ‌القسم الأوَّلترجمة عائشة رضي الله عنها

- ‌نسبها

- ‌مولدها

- ‌أمّها أمّ رومان

- ‌إخوتها

- ‌نشأتها

- ‌الهجرة

- ‌بناء النبي صلى الله عليه وسلم بها رضي الله عنها ووصف زفافها

- ‌إتيان الملك النّبيّ صلى الله عليه وسلم بصورة عائشة رضي الله عنها قبل أن يتزوجها في سرقة من حرير

- ‌صفة عائشة رضي الله عنها

- ‌صداق عائشة رضي الله عنها

- ‌قَسَم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها ليلتين وليلة لسائر نسائه

- ‌حجرتها رضي الله عنها

- ‌صفة أثاث حجرتها رضي الله عنها

- ‌العلامة الّتي كان يعرف بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم رضاها وغضبها

- ‌غيرتها رضي الله عنها

- ‌فضل عائشة رضي الله عنها على سائر النّساء

- ‌أحب الناس إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها

- ‌الأمر بمحبّة عائشة رضي الله عنها

- ‌نزول الوحي عليه السلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها دون سائر نسائه

- ‌رؤية عائشة رضي الله عنها للوحي عليه السلام على صورة دحية الكلبي رضي الله عنه

- ‌البرهان بأنّ جبريل عليه السلام أقرأ عائشة رضي الله عنها السّلام

- ‌جهادها رضي الله عنها

- ‌سبب كنيتها بأم عبد الله

- ‌من نعم الله عليها

- ‌القدر الّذي مكثت فيه عائشة رضي الله عنها عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌عبادتها رضي الله عنها وخوفها من الله تعالى

- ‌فصاحتها رضي الله عنها

- ‌وفاتها والصّلاة عليها ودفنها

- ‌القسم الثَّانيحديث الإفك

- ‌أذى المنافقين لسيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها

- ‌أربعة وردت براءتهم في القرآن الكريم

- ‌حديث الإفك

- ‌موقف أمّ رومان رضي الله عنها من الإفك

- ‌موقف أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه

- ‌موقف أمّهات المؤمنين رضي الله عنهن

- ‌موقف أسامة بن زيد رضي الله عنه

- ‌موقف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌موقف الخادمة بريرة رضي الله عنها

- ‌موقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌موقف أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه

- ‌من ردّ عن عرض أخيه

- ‌الحِكمة من لبوث الوحي

- ‌عائشة رضي الله عنها تتمثَّل آي القرآن في النّوازل

- ‌عائشة رضي الله عنها والصّفح الجميل

- ‌مَن تكلّم ومَن تولّى كبره

- ‌نزول الوحي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر رضي الله عنه ببراءتها رضي الله عنها

- ‌عائشة رضي الله عنها تضيف معرفة النّعمة بكلّيتها إلى الخالق دون الخلق

- ‌أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعفو عن مسطح رضي الله عنه ويصفح

- ‌الحُكم فيمن قذف طيّبة طابة رضي الله عنها بعد أن أنزل الله تعالى براءتها

- ‌الآيات العشر في براءة عائشة رضي الله عنها

- ‌من دلالات الآيات وعظاتها وهداياتها

- ‌القواعد الحسان لمن سمع حديث الإفك والبهتان

- ‌الحكمة من نزول براءة عائشة رضي الله عنها وحياً يتلى

- ‌لم يؤذون عائشة رضي الله عنها

- ‌ثلاث من كن فيه كن عليه

- ‌قذف المحصنات من السّبع الموبقات

- ‌حصان رزان

- ‌ما هي بأَوَّل بركتكم يا آلَ أَبِي بكر

- ‌القسم الثّالثنفحات من استدراكات أمّ المؤمنين رضي الله عنها

- ‌رجوع الصّحابة رضي الله عنهم إليها رضي الله عنها

- ‌استدراكها رضي الله عنها ومقاييس نقد الحديث عندها

- ‌القسم الرّابعحادثة الجمل

- ‌الفتنة الأولى: مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌مسير عائشة رضي الله عنها إلى البصرة وعذرها

- ‌مغفرة الله تعالى ذنوب عائشة رضي الله عنها ما تقدّم منها وما تأخَّر

- ‌عائشة رضي الله عنها وإصلاح ذات البين

- ‌الأمر بالإصلاح في القرآن الكريم

- ‌شهادة عمَّار رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها

- ‌الدّليل على أن خروج عائشة رضي الله عنها ومن معها كان للإصلاح

- ‌الرَّدُّ على من احتجَّ على خروج عائشة رضي الله عنها بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}

- ‌عليّ رضي الله عنه يستنفر أهل الكوفة ليعيد عائشة رضي الله عنها إلى مأمنها

- ‌المنافقون يوقعون الفتنة بين الحيّين

- ‌عائشة رضي الله عنها تنهى عن القتال يوم الجمل

- ‌قتلى الجمل وزمن القتال

- ‌ما قاله عمار رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها حين فرغ من الجمل

- ‌مسير عائشة رضي الله عنها كان قدراً

- ‌الخطأ في الاجتهاد لا يبيح الطعن في صاحبه

- ‌محاسن من أمسك عن الوقوع في الصّحابة رضي الله عنهم وسكت عمّا شجر بينهم

- ‌القسم الخامسصدّ عاديات الأدعياء عن زوج سيّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم

- ‌إثم من يحدِّث بكلِّ ما سمع

- ‌نقض قولهم: إنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى بيت عائشة رضي الله عنها وقال: هنا الفتنة

- ‌نقض قولهم: عائشة رضي الله عنها كانت سبباً في طلاق الْجَوْنِيَّةِ وموتها كمدا

- ‌نقض قولهم: لم ينزل في عائشة رضي الله عنها شيء من القرآن

- ‌نقض قولهم: عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا لا في الآخرة

- ‌أحاديث موضوعة في حقِّ عائشة رضي الله عنها

- ‌ماذا قال ابنُ عبّاس رضي الله عنه حين اشتكت عائشة رضي الله عنها وحين حضرتها الوفاة

- ‌أدلّة العدالة

- ‌الصّحابة رضي الله عنهم شهداء الله تعالى

- ‌ تحذير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من دعاة لا يهتدون بهداه ولا يستنون بسنته

- ‌إثم من دعا إلى ضلالة أو سنّ سنّة سيّئة

- ‌موعظة النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّتي ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ

- ‌القسم السّابعالاختلاف

- ‌فقه الخلاف في حياة الصّحابة رضي الله عنهم

- ‌أدب الخلاف بين الصَّحابة رضي الله عنهم

- ‌كره الصّحابة رضي الله عنهم للخلاف

- ‌فقه الخلاف في النّوازل

- ‌أنواع الاختلاف

- ‌النّهي عن الاختلاف والأمر بالاجتماع أصلان عظيمان في القرآن

- ‌دلالة عطف النهي على الأمر

- ‌إخبار النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن افتراق أمّته والتّنصيص على وحدتها

- ‌التّعصّب إلى الفرق يزيد من الفرقة

- ‌ما ينبغي أن يكون عليه المسلم عند الاختلاف

- ‌الحاجة إلى فقه الخلاف

- ‌الشفاء من كلّ خلاف مشكل وداء معضل

- ‌القسم الثّامنالفتن

- ‌معنى الفتنة

- ‌المعاني التي يحتملها لفظ الفتنة في القرآن الكريم

- ‌ظهور الفتن بموت الخليفة عمر رضي الله عنه

- ‌فتنة الرّجل عن دينه

- ‌التّحذير من الفتن

- ‌البيان بأن على الإنسان عِنْدَ الْفِتَنِ العمياء أن يكسر سيفه ويكون مقتولا

- ‌الدعاة إلى الفتن هم الدّعاة إلى النّار

- ‌الفتن لا تزال إلى يوم القيامة

- ‌تغبيط أهل القبور وتمني الموت عند نزول الفتن خشية ذهاب الدّين

- ‌من أسباب الاختلاف وظهور الفتن

- ‌من معالم الهدى في الفتن

- ‌وقفات وبعثات الفتنة

- ‌مثل الفتنة

- ‌من شهد الفتنة كارها ومن غاب عنها فرضيها

- ‌الله الله في الدّماء

- ‌أفلح من كفّ يده

- ‌الخاتمة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌استدراكها رضي الله عنها ومقاييس نقد الحديث عندها

أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلَاثَاءِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ "

(1)

.

ولعلَّه رضي الله عنه أراد إلى جانب حقيقة السُّؤال أنْ يوطِّئ لعائشة رضي الله عنها؛ لِتصْبِرَ على فَقْدِهِ، ممّا يُظْهِرُ فراسته وثباته حين وفاته.

‌استدراكها رضي الله عنها ومقاييس نقد الحديث عندها

لا عجبَ أنْ تُسْهِمَ عائشةُ رضي الله عنها في حِفْظِ السُّنَّة، فهي معدودة في علماء الصَّحابة رضي الله عنهم، ومن المكثرين بين الصَّحابة في علم الحديث رواية ودراية.

وروايتها الحديث منقبة عظيمة لها، فهي أحفظ الصَّحابيَّات وأكثرهنَّ في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لواحدة من الصَّحابيَّات قَدْرُها في رواية الحديث ولا ما يقاربه.

رَوَتْ عائشة رضي الله عنها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الكثير الطَّيِّبَ، وروت عن أَبِيهَا، وعن عُمَرَ، وفَاطِمَةَ الزَّهراء، وسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص، وأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْروغيرهم، وروى عنها مِن الصًّحابة عُمَرُ، وابنه عَبْدُ الله، وأبو هريرة، وأبو موسى الأَشْعَرِيّ، وابْنُ عبَّاس وغيرهم، ومن كبار التَّابعين حدَّث عنها سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، ومَسْرُوق، وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ.

وهي رائدة نساء الأمَّة في توثيق السُّنَّة على الإطلاق، وأسوة في نقد الحديث باستدراكاتها، ولا غَرْوَ؛ فقد تربَّت في بيت أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وفي بيت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مهبط الوحي، ومَعِين العِلْم.

ولا ريب أنَّها تدرك وجه خيريَّة السُّنَّة نظماً ومعنى واعتقاداً وقولاً وفعلاً،

(1)

البخاري "صحيح البخاري"(م 1/ج 2/ص 106) كتاب الجنائز.

ص: 104

وتعلم ما لها من أثر على الفرد والمجتمع. فالسُّنَّة توحِّد المسلمين، وتجمع كلمتهم، وتلمّ شَعْثَهُم، وتصلح شأنهم، وتؤلِّفُ بين قلوبهم، فضلاً عن أنَّها مبيِّنة لكتاب ربِّهم، والمصدر الثَّاني للتَّشريع الإسلاميّ؛ ولذلك أَوْلَتْها جلّ اهتمامها.

وكان لأمِّ المؤمنين رضي الله عنها مقاييس في نقد الحديث، كعرض الحديث على القرآن الكريم، روى البخاري عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها: يَا أُمَّتَاهْ، هَلْ

رَأَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: "لَقَدْ قَفَّ

(1)

شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ! أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام]، {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ (51)} [الشّورى]، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا (34)} [لقمان]، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (67)} [المائدة] الْآيَةَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عليه السلام فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ"

(2)

.

ولمسلم عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ: "يَا أَبَا عَائِشَةَ (مَسْرُوق)، ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ،

(1)

قَفَّ شعري: قام من الفزع.

(2)

البخاري "صحيح البخاري"(م 3/ج 6/ص 50) كتاب التّفسير.

ص: 105

قُلْتُ مَا هُنَّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ، قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ المؤْمِنِينَ، أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي، أَلَمْ يَقُلْ الله عز وجل:{وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)} [التّكوير]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النَّجم]؟ فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ المرَّتَيْنِ، رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ.

فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ الله يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام] أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنَّ الله يَقُولُ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشّورى]. قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنْ كِتَابِ الله فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ، والله يَقُولُ:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ (67)} [المائدة] قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الفِرْيَةَ، والله يَقُولُ:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ (65)} [النّمل] "

(1)

.

ومن مقاييس توثيق السُّنَّة عندها عرض السُّنَّة على السُّنَّة، سأل مُحَمَّد بن المنْتَشِرِ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ الرَّجُلِ يَتَطَيَّبُ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِماً، فَقَالَ ابْنُ عمر: " مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ

(2)

طِيبًا، لَأَنْ أَطَّلِيَ بِقَطِرَانٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ

(1)

مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 2/ج 3/ص 8) كتاب الإيمان.

(2)

نضخ: فَارَ، ومنه قوله تعالى:{فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)} [الرّحمن].

ص: 106

أَفْعَلَ ذَلِكَ"

(1)

فَدَخَل عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَأَخْبَرها عن قَوْلِ ابنِ عُمَرَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ:"أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ إِحْرَامِهِ، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا "

(2)

.

وفي رواية، قَالَتْ:"يَرْحَمُ الله أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِماً يَنْضَخُ طِيبًا "

(3)

.

وفي استرحامها ودعائها لابن عمر دلالة على سَهْوه، وفيه إظهار لعذره، فلو استحضر فِعْلَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك. وحاصل كلامها رضي الله عنها أنَّها كانت تطيِّب النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قبل الإحرام بالحجِّ، وكانت تطيِّبه لحلِّه قبل أن يفيض بأطْيَب طِيْب تيسَّر لها، روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:"كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ "

(4)

.

ومن عرضها السُّنَّة على السُّنَّة استدراكها على أمَّهات المؤمنين، روى البخاري عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:" أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ رضي الله عنه إِلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه يَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنَّ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟! "

(5)

. وفي الحديث دليل على فقه عائشة رضي الله عنها، وسعة حفظها، وبثّها للعلم، واطّلاعها على ما لم يطَّلع عليه غيرها

(1)

مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 4/ج 8/ص 102) كتاب الحجّ.

(2)

المرجع السّابق.

(3)

البخاري "صحيح البخاري"(م 1/ج 1/ص 71) كتاب الغسل.

(4)

مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 4/ج 8/ص 102) كتاب الحجّ.

(5)

البخاري "صحيح البخاري"(م 4/ج 8/ص 5) كتاب الفرائض.

ص: 107

من أمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن.

ومِنْ ذلك استدراكها على أخيها عبد الرّحمن، روى مسلم عَنْ سَالم مَوْلَى شَدَّادٍ قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما، فَتَوَضَّأَ عِنْدَهَا، فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، أَسْبِغْ

الوُضُوءَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ"

(1)

.

أرادت رضي الله عنها أن تذكِّر أخاها عبد الرّحمن رضي الله عنه بوجوب غسل الرِّجلين بكمالها، وأنَّ المسح لا يجزئ، ولعلَّ عبد الرّحمن رضي الله عنه كان في عجلة من أمره، فقد كان خارجاً في جنازة الصَّحابيِّ الجليل سعد بن أبي وقَّاص، فلمسلم عن سالم مَوْلَى المهْرِيِّ، قَالَ:" خَرَجْتُ أَنَا وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي جَنَازَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَمَرَرْنَا عَلَى بَابِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ، فَذَكَرَ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ "

(2)

.

ومن المقاييس عرض الحديث على حديث عندها، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ فَدَخَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ، فَقَالَتْ:"أَنْتَ الَّذِي تُحَدِّثُ أَنَّ امْرَأَةً عُذِّبَتْ فِي هِرَّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهَا؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: هَلْ تَدْرِي مَا كَانَتِ المَرْأَةُ؟ إِنَّ الْمَرْأَةَ مَعَ مَا فَعَلَتْ، كَانَتْ كَافِرَةً، وَإِنَّ المُؤْمِنَ أَكْرَمُ عَلَى الله عز وجل مِنْ أَنْ يُعَذِّبَهُ فِي هِرَّةٍ "

(3)

.

ولعلّ عذر أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه لم يسمع مناسبة الحديث، فعلَّة دخولها النَّار

(1)

مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 2/ج 3/ص 128) كتاب الطّهارة.

(2)

المرجع السّابق.

(3)

أحمد "المسند"(ج 9/ص 549/رقم 10675) وإسناده حسن.

ص: 108

إلى جانب ما فعلته في الهرة كُفْرها، ولعلَّ ما يُؤَيِّدُ كَوْنَهَا كَافِرَةً مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ في مسنده

(1)

، والبيهقي في البعث والنّشور

(2)

، وهو موافق لما رواه أحمد. وهذه المرأة هي الّتي رآها النَّبيُّ في النَّار، وهي من بني إسرائيل كما في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال:"وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ، فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُعَذَّبُ فِي هِرَّةٍ لَهَا، رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"

(3)

.

ومِنَ العلماء مَنْ يرى أنّه ليس في حديث النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يقتضي كفرها، وأنَّها إنَّما عُذّبت بسبب إصرارها على حبس الهرّة وسجنها حتَّى ماتت، وأنّ الإصرار على الصّغائر وعدم المبالاة بها والمجاهرة بها يصيّرها كبائر، وأنّ عائشة رضي الله عنها خولفت. فالمسألة لا تخلو من خلاف، والحاصل إذا كان هذا حال مَنْ عذَّب هرّة، فما حال مَنْ عذَّب العباد؟!

ومن المقاييس عرضها السُّنَّة على وقائع التَّاريخ، فقد روى الشَّيخان عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الْأَسْوَدِ، قَالَ:"ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ وَصِيًّا، فَقَالَتْ: مَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ، وَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إِلَى صَدْرِي أَوْ قَالَتْ حَجْرِي، فَدَعَا بِالطَّسْتِ، فَلَقَدْ انْخَنَثَ (مَالَ) فِي حَجْرِي، فَمَا شَعَرْتُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَمَتَى أَوْصَى إِلَيْهِ! "

(4)

.

(1)

أبو داود "مسند أبي داود"(ج 3/ص 28/رقم 1503).

(2)

البيهقي "البعث والنّشور"(ج 1/ص 79/رقم 48).

(3)

مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 3/ج 6/ص 209) كتاب الكسوف.

(4)

البخاري "صحيح البخاري"(م 2/ج 3/ص 186) كتاب الوصايا، ومسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 6/ج 11/ص 88) كتاب الوصيّة.

ص: 109

وهذا يدلُّكَ على أنَّ هناك فئة حاقدة كانت تلفِّق الأحاديث على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم منذ ذلك العهد؛ لِتُوقِع الفرقة والعداوة بين المسلمين، ولذلك قامت عائشة رضي الله عنها كغيرها من أكابر الصَّحابة بجهود جمَّة في توثيق السُّنَّة.

ومعلوم أنَّ عليّاً رضي الله عنه نفسه كان يردُّ هذه الفرية، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: قِيلَ لَعَلِيٍّ: أَلَا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: "مَا اسْتَخْلَفَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَأَسْتَخْلِفُ عَلَيْكُمْ، وَإِنْ يُرِدِ الله تبارك وتعالى بِالنَّاسِ خَيْراً، فَسَيَجْمَعُهُمْ عَلَى خَيْرِهِمْ كَمَا جَمَعَهُمْ بَعْدَ نبيِّهِم صلى الله عليه وسلم على خَيْرِهِمْ"

(1)

.

قلت: وطالما أنَّ الله تعالى تكفَّل بحفظ القرآن، فالسُّنَّة محفوظة بالتَّبعيَّة، ومِن حفظ الله للسُّنَّة أن قيَّد الله تعالى لها رجالاً من أمثال أبي هريرة، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم كثير رضي الله عنهم، ونساءً مِنْ أمْثَال أمَّهات المؤمنين: عائشة، وأمّ سلمة، وسودة، وحفصة، وزينب، وجويرية، وأمّ حبيبة، وميمونة، وصفيَّة رضي الله عنهن، وبنت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فاطمة الزَّهراء رضي الله عنها، وصحابيّات من أمثال: خنساء بنت خذام، ولبابة بنت الحارث، وأم هانئ بنت أبي طالب أخت عليّ، وأسماء بنت أبي بكر الصِّدِّيق، وأمّ قيس بنت محصن أخت عكاشة الّذي طلب من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يجعله من الَّذين يدخلون الجنَّة بغير حساب، وغيرهنَّ كثير رضي الله عنهن.

(1)

((الهيثمي "مجمع الزّوائد" (ج 9/ص 47/رقم 14334) وقال: رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي الْحَارِثِ، وَهُوَ ثِقَةٌ. وأخرجه الحاكم وصحّحه في "المستدرك"(ج 3/ص 79) كتاب معرفة الصّحابة رضي الله عنهم، ووافقه الذّهبي.

ص: 110