الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسواء كانت هذه الضَّلالة علماً، أو عبادةً، أو اعتقاداً، أو خُلُقاً.
فلا تسنَّ شرّاً، فتحمل ذنوبك وذنوب مَنْ استنَّ بك إلى يوم القيامة، ولا ينقص ذلك من آثامهم ولا يخفف عمَّن أطاعهم شيئاً، ويشهد لذلك قوله تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} [النَّحل] وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} [العنكبوت].
ويشهد لذلك قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا"
(1)
، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وَمَنْ سَنَّ في الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بها بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بها، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيءٌ "
(2)
. فَمِن النَّاس مَنْ يموت ولا يموت وزره!
واعلم أنَّ مَنْ دعا إلى غير سُنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أو هدى بغير هديه فكأنَّما يبارز النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالعداوة، لأنَّه قطع عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وصولَ ثَواب مَن استنَّ بسنَّته إليه، فاحذر أن تكون داعياً لضلالة، أو باعثاً لفتنة.
موعظة النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّتي ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ
!
أخرج أحمد مِن حديث عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَمْرٍو، وَحُجْر بْن حُجْرٍ، قَالَا: " أَتَيْنَا العِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ
(1)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النَّووي"(م 8/ج 16/ص 227) كتاب العلم.
(2)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النَّووي"(م 8/ص 227) كتاب العلم.
لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ (92)} [التَّوبة] فَسَلَّمْنَا وَقُلْنَا: أَتَيْنَاكَ زَائِرِينَ، وَعَائِدِينَ، وَمُقْتَبِسِينَ. فَقَالَ عِرْبَاضٌ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟!
فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى الله، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِياً، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي، فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المهْدِيِّينَ فَتَمَسَّكُوا بها، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ "
(1)
.
هذه وصيَّة جامعة مانعة، أوصى فيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بتقوى الله تعالى، وهي وصيَّة الله للأوَّلين والآخرين، وأوصى بالسَّمع والطَّاعة لولاة الأمر حرصاً على جمع الكلمة، وَذَمَّ الاختلاف وأهله، وحذَّر مِنْ سلوك سبيلهم، وأرشد إلى المخرج عند الاختلاف والتَّنازع، وهو لزوم سنَّته صلى الله عليه وسلم وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين مِنْ بعده، وَقَرَنَ سنَّتَهم بسنَّتِهِ، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنَّ سنَّتهم ترجع إلى سنَّته وتنهل من معينها، فقد أفرد الضَّمير في قوله:"فَتَمَسَّكُوا بها"، وبالغ في الحضِّ على التَّمسُّك بها حتَّى أَمَرَ بالعضِّ عليها بالنَّواجذ، كناية عن شدَّة التَّمسُّك بها على فهم السَّلف، وحذَّر صلى الله عليه وسلم من محدثات الأمور، ومضلَّات الهوى.
والحديث من أعلام النُّبوَّة؛ فقد أخبر صلى الله عليه وسلم بما يقع بعده في أمَّته، ووقع الأمر
(1)
أحمد "المسند"(ج 13/ص 280/رقم 17080) وإسناده صحيح.
كما أخبر. ولذلك تجد أبعد النَّاس عن الاختلاف أهل الحديث والسُّنَّة؛ لما أقَاموا على هذا الأصل، وتجد أكثر النَّاس اختلافاً وفُرْقَةً أبعدهم عن الكتاب والسُّنَّة وآثار سلف هذه الأمَّة، ولا عجب؛ فمن رَدَّ الحقَّ تخبَّط في خَطْبٍ مَرِيج، كما قال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)} [ق].
قلت: والعرباض بن سارية رضي الله عنه الَّذي حدَّث بهذا الحديث هو أحد أَعْيَان أهل الصَّفَّة
(1)
،
وأحد البكّائين، الَّذين نزل فيهم قوله تعالى:{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التَّوبة] ولو لم يكن له رضي الله عنه مِنْ فَضْل إلَّا نزول هذه الآية لكانت أدلَّ دليل على عَظِيم فَضْلِهِ وفضل الصَّحابة الَّذين نزلت فيهم الآية.
فكيف يجرؤ أحد على أصحاب رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بالقَدْح بعد أن نزلت فيهم الآياتُ بالتَّقريظ والمدح؟!
(1)
هم فُقراء المهاجرين ممّن لم يكن له منزل يسكنه، فكانوا يَأْوُون إلى موضع مُظَلَّل في مسجد المدينة يسكنونه، والصّفّة: الظّلَّة.