الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشفاء من كلّ خلاف مشكل وداء معضل
إنَّ مِن أعظم ما أصيبت به الأمَّة في يومنا هذا الجهل، فما أوقع كثيراً مِن النَّاس في الاختلاف والشِّقاق إلَّا فَرْطُ الجهل ونقصان العقل، وما جعلهم يتَّخذون رؤوساً جُهَّالاً إلَّا ضياعُ العِلْمِ بالكتاب والسُّنَّة.
فإذا تَظَالمَ النَّاسُ واتَّبعوا السُّبل، وكانت الفتن، واختلفت الغايات، وتعدَّدت الرَّايات، فارْضَ لنفسك ما رضي القومُ به قبلك: كتاب الله، وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين، فهذا الشِّفَاءُ مِنْ كلِّ خَطْبٍ مُعْضِل، ورُزْءٍ لَبَسٍ مُشْكِل:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت].
وفي التَّنزيل نصٌّ قاطع في أنَّ جميع ما اختلفنا فيه يجب أنْ يكونَ حكمه مردوداً إلى الله تعالى، وهو الحاكم فيه وحده، قَال جل جلاله:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ (10)} [الشّورى].
ولا يجوزتحكيم الأفهام والأذهان لقولِه تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ (3)} [الأعراف]، فالله تعالى أمر باتّباع ما أنزل، ونهى عن اتّباع ما عارضه من تقليد الآباء، وتقديم الأهواء، وحكم الجاهليّة الجهلاء. كما أمر نبيَّه بالحكم بينهم بما أنزل، ونهاه عن اتِّباع أهوائهم، فَقَال تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ (49)} [المائدة].ولذلك قَالَ صلى الله عليه وسلم: "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ الله، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ"
(1)
.
(1)
رواه مالك بلاغاً في "الموطأ"(ص 355/حديث 1628) كتاب القدر، والحاكم موصولاً في "المستدرك"(ج 1/ص 93) كتاب العلم، وحسنه الألباني في السّلسلة والمشكاة.
فالخلاف يُرْفَعُ بالرّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة، وبفهم سلف هذه الأمَّة، والعلماء المخلصين، الَّذين لا يخلو منهم زمان، والَّذين أحال الله تعالى عليهم في كتابه المكنون بقوله:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (83)} [النّساء] وقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل].
وقد رأينا كيف أنَّ معاوية رضي الله عنه دعا عليّاً رضي الله عنه إلى كتاب الله يوم صفّين، وأنَّ عليّاً رضي الله عنه لم يتوقَّف، وإنَّما رأى أنَّه الأولى بذلك، أخرج أحمد بسند صحيح أنَّ عَمْرو بن الْعَاص قال لِمُعَاوِيَةَ:
"أَرْسِلْ إِلَى عَلِيٍّ بِمُصْحَفٍ، وَادْعُهُ إِلَى كِتَابِ الله، فَإِنَّهُ لَنْ يَأْبَى عَلَيْكَ، فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنكُم كِتَابُ الله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [آل عمران]، فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ أَنَا أَوْلَى بِذَلِكَ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ الله"
(1)
.
ومن الأمور الّتي يرفع بها الخلاف التَّحكيم، وذلك بأن يُنْتَدب رجلان مرضيّان فيحكمان فيما شَجَرَ بما أنزل الله تعالى، فيوم صفِّين حكَّموا صحابيّين جليلين، وهما أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وعمرو بن العاص رضي الله عنه.
ومِن الأمور الّتي يحسم بها الخِلاف المصالحة والتَّنازل، فقد صَالَحَ الحسن رضي الله عنه معاوية رضي الله عنه لمصلحة المسلمين، وتنازل له عن الخلافة، قطعاً لدابر الخلاف، وحقناً للدِّماء، وتحقيقاً لِرَجَاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " إنّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ
(1)
أحمد " المسند "(م 12/ص 399/رقم 15917).
الله أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ"
(1)
. فإذا كان قد تنازل رضي الله عنه عن
الخلافة، أفلا يتنازل أحدنا لأخيه عمَّا دونها مِنْ عَرَضِ الدُّنيا؟!
ومِن الأمور الَّتي تُذْهِبُ الخلاف المناظرة، فقد رأينا كيف أرسل عليّ رضي الله عنه ابنَ عبَّاس رضي الله عنه إلى الخوارج لمناظرتهم، فخرج إليهم وأتاهم، وهم مجتمعون في دارهم قائلون، فسألهم عمَّا نقموه على ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره والمهاجرين والأنصار؟ وناظرهم وحَاجَّهم؛ فَحَجَّهم، ورجع منهم ألفان.
وهذه المناظرة ينبغي أن تكون بين العلماء من الفريقين، وحينها يجب أن يسكت مَنْ لا علم له، وقد أحسن مَنْ قال:"لو سَكَتَ مَنْ لا يَعْلَم لسقط الاختلاف". أمَّا إذا تكلَّم الرُّوَيْبِضَة، فسيطول كلامه ويقلُّ نظامه، فيأتي آخرُ كلامِه على أوَّله، ويُوسِع شُقَّة الاختلاف.
وممَّا يُعَالج به الخلاف القول الحسن، قَال تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا (83)} [البقرة]، وقال تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (53)} [الإسراء].
وانظر كيف ضرب الله تعالى مثلاً للكلمة الطَّيِّبة بالشَّجرة الطَّيِّبة الَّتي تؤتي
أكلها، فالكلمة الطَّيِّبة لها ثمرها وأثَرُها، قَال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا (25)} [إبراهيم].
(1)
البخاري " صحيح البخاري "(م 2/ج 3/ص 170) كتاب الصّلح.
والكلمة الطَّيِّبة لها فضلها في الدُّنيا والآخرة، قال تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (10)} [فاطر]، وقال صلى الله عليه وسلم: "الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ
صَدَقَةٌ"
(1)
.
وقد طُبِعَ النَّاسُ على الاستئناس بالكلمة الطَّيِّبة، فمن أراد الإصلاح فعليه
أن يأتي النَّاسَ بالعلم والأخلاق معاً، ويسعهم بحُسْنِ خلقه، ويُوَاسِيَهم بِبَسْطِ وجهه.
" اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ "
(2)
.
(1)
أحمد "المسند"(ج 8/ص 177/رقم 8096) وإسناده صحيح.
(2)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 3/ج 6/ص 56) كتاب صلاة المسافرين.