المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أربعة وردت براءتهم في القرآن الكريم - الأثر الثمين في نصرة عائشة - رضي الله عنها - أم المؤمنين

[أحمد محمود الشوابكة]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌تقديمأ. د. عبد النّاصر أبو البصل

- ‌تقديمأ. د. محمود السّرطاوي

- ‌تقديمأ. د. أحمد نوفل

- ‌تقديمد. محمّد ملكاوي

- ‌تقديمأ. د. عبد المقصود حامد

- ‌المقدّمة

- ‌القسم الأوَّلترجمة عائشة رضي الله عنها

- ‌نسبها

- ‌مولدها

- ‌أمّها أمّ رومان

- ‌إخوتها

- ‌نشأتها

- ‌الهجرة

- ‌بناء النبي صلى الله عليه وسلم بها رضي الله عنها ووصف زفافها

- ‌إتيان الملك النّبيّ صلى الله عليه وسلم بصورة عائشة رضي الله عنها قبل أن يتزوجها في سرقة من حرير

- ‌صفة عائشة رضي الله عنها

- ‌صداق عائشة رضي الله عنها

- ‌قَسَم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها ليلتين وليلة لسائر نسائه

- ‌حجرتها رضي الله عنها

- ‌صفة أثاث حجرتها رضي الله عنها

- ‌العلامة الّتي كان يعرف بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم رضاها وغضبها

- ‌غيرتها رضي الله عنها

- ‌فضل عائشة رضي الله عنها على سائر النّساء

- ‌أحب الناس إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها

- ‌الأمر بمحبّة عائشة رضي الله عنها

- ‌نزول الوحي عليه السلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها دون سائر نسائه

- ‌رؤية عائشة رضي الله عنها للوحي عليه السلام على صورة دحية الكلبي رضي الله عنه

- ‌البرهان بأنّ جبريل عليه السلام أقرأ عائشة رضي الله عنها السّلام

- ‌جهادها رضي الله عنها

- ‌سبب كنيتها بأم عبد الله

- ‌من نعم الله عليها

- ‌القدر الّذي مكثت فيه عائشة رضي الله عنها عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌عبادتها رضي الله عنها وخوفها من الله تعالى

- ‌فصاحتها رضي الله عنها

- ‌وفاتها والصّلاة عليها ودفنها

- ‌القسم الثَّانيحديث الإفك

- ‌أذى المنافقين لسيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها

- ‌أربعة وردت براءتهم في القرآن الكريم

- ‌حديث الإفك

- ‌موقف أمّ رومان رضي الله عنها من الإفك

- ‌موقف أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه

- ‌موقف أمّهات المؤمنين رضي الله عنهن

- ‌موقف أسامة بن زيد رضي الله عنه

- ‌موقف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌موقف الخادمة بريرة رضي الله عنها

- ‌موقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌موقف أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه

- ‌من ردّ عن عرض أخيه

- ‌الحِكمة من لبوث الوحي

- ‌عائشة رضي الله عنها تتمثَّل آي القرآن في النّوازل

- ‌عائشة رضي الله عنها والصّفح الجميل

- ‌مَن تكلّم ومَن تولّى كبره

- ‌نزول الوحي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر رضي الله عنه ببراءتها رضي الله عنها

- ‌عائشة رضي الله عنها تضيف معرفة النّعمة بكلّيتها إلى الخالق دون الخلق

- ‌أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعفو عن مسطح رضي الله عنه ويصفح

- ‌الحُكم فيمن قذف طيّبة طابة رضي الله عنها بعد أن أنزل الله تعالى براءتها

- ‌الآيات العشر في براءة عائشة رضي الله عنها

- ‌من دلالات الآيات وعظاتها وهداياتها

- ‌القواعد الحسان لمن سمع حديث الإفك والبهتان

- ‌الحكمة من نزول براءة عائشة رضي الله عنها وحياً يتلى

- ‌لم يؤذون عائشة رضي الله عنها

- ‌ثلاث من كن فيه كن عليه

- ‌قذف المحصنات من السّبع الموبقات

- ‌حصان رزان

- ‌ما هي بأَوَّل بركتكم يا آلَ أَبِي بكر

- ‌القسم الثّالثنفحات من استدراكات أمّ المؤمنين رضي الله عنها

- ‌رجوع الصّحابة رضي الله عنهم إليها رضي الله عنها

- ‌استدراكها رضي الله عنها ومقاييس نقد الحديث عندها

- ‌القسم الرّابعحادثة الجمل

- ‌الفتنة الأولى: مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌مسير عائشة رضي الله عنها إلى البصرة وعذرها

- ‌مغفرة الله تعالى ذنوب عائشة رضي الله عنها ما تقدّم منها وما تأخَّر

- ‌عائشة رضي الله عنها وإصلاح ذات البين

- ‌الأمر بالإصلاح في القرآن الكريم

- ‌شهادة عمَّار رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها

- ‌الدّليل على أن خروج عائشة رضي الله عنها ومن معها كان للإصلاح

- ‌الرَّدُّ على من احتجَّ على خروج عائشة رضي الله عنها بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}

- ‌عليّ رضي الله عنه يستنفر أهل الكوفة ليعيد عائشة رضي الله عنها إلى مأمنها

- ‌المنافقون يوقعون الفتنة بين الحيّين

- ‌عائشة رضي الله عنها تنهى عن القتال يوم الجمل

- ‌قتلى الجمل وزمن القتال

- ‌ما قاله عمار رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها حين فرغ من الجمل

- ‌مسير عائشة رضي الله عنها كان قدراً

- ‌الخطأ في الاجتهاد لا يبيح الطعن في صاحبه

- ‌محاسن من أمسك عن الوقوع في الصّحابة رضي الله عنهم وسكت عمّا شجر بينهم

- ‌القسم الخامسصدّ عاديات الأدعياء عن زوج سيّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم

- ‌إثم من يحدِّث بكلِّ ما سمع

- ‌نقض قولهم: إنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى بيت عائشة رضي الله عنها وقال: هنا الفتنة

- ‌نقض قولهم: عائشة رضي الله عنها كانت سبباً في طلاق الْجَوْنِيَّةِ وموتها كمدا

- ‌نقض قولهم: لم ينزل في عائشة رضي الله عنها شيء من القرآن

- ‌نقض قولهم: عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا لا في الآخرة

- ‌أحاديث موضوعة في حقِّ عائشة رضي الله عنها

- ‌ماذا قال ابنُ عبّاس رضي الله عنه حين اشتكت عائشة رضي الله عنها وحين حضرتها الوفاة

- ‌أدلّة العدالة

- ‌الصّحابة رضي الله عنهم شهداء الله تعالى

- ‌ تحذير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من دعاة لا يهتدون بهداه ولا يستنون بسنته

- ‌إثم من دعا إلى ضلالة أو سنّ سنّة سيّئة

- ‌موعظة النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّتي ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ

- ‌القسم السّابعالاختلاف

- ‌فقه الخلاف في حياة الصّحابة رضي الله عنهم

- ‌أدب الخلاف بين الصَّحابة رضي الله عنهم

- ‌كره الصّحابة رضي الله عنهم للخلاف

- ‌فقه الخلاف في النّوازل

- ‌أنواع الاختلاف

- ‌النّهي عن الاختلاف والأمر بالاجتماع أصلان عظيمان في القرآن

- ‌دلالة عطف النهي على الأمر

- ‌إخبار النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن افتراق أمّته والتّنصيص على وحدتها

- ‌التّعصّب إلى الفرق يزيد من الفرقة

- ‌ما ينبغي أن يكون عليه المسلم عند الاختلاف

- ‌الحاجة إلى فقه الخلاف

- ‌الشفاء من كلّ خلاف مشكل وداء معضل

- ‌القسم الثّامنالفتن

- ‌معنى الفتنة

- ‌المعاني التي يحتملها لفظ الفتنة في القرآن الكريم

- ‌ظهور الفتن بموت الخليفة عمر رضي الله عنه

- ‌فتنة الرّجل عن دينه

- ‌التّحذير من الفتن

- ‌البيان بأن على الإنسان عِنْدَ الْفِتَنِ العمياء أن يكسر سيفه ويكون مقتولا

- ‌الدعاة إلى الفتن هم الدّعاة إلى النّار

- ‌الفتن لا تزال إلى يوم القيامة

- ‌تغبيط أهل القبور وتمني الموت عند نزول الفتن خشية ذهاب الدّين

- ‌من أسباب الاختلاف وظهور الفتن

- ‌من معالم الهدى في الفتن

- ‌وقفات وبعثات الفتنة

- ‌مثل الفتنة

- ‌من شهد الفتنة كارها ومن غاب عنها فرضيها

- ‌الله الله في الدّماء

- ‌أفلح من كفّ يده

- ‌الخاتمة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌أربعة وردت براءتهم في القرآن الكريم

‌أربعة وردت براءتهم في القرآن الكريم

برَّأَ اللهُ تعالى في كتابه نَبِيَّيْنِ وصدِّيقتين، أمَّا النَّبيَّان فهما: موسى ويوسف عليهما السلام، وأمَّا الصِّدِّيقتان فهما: مريم عليها السلام وعائشة رضي الله عنها.

فقد آذى موسى عليه السلام مَنْ آذاه مِنْ بني إسرائيل واتَّهموه بعيْبٍ في جِلْدِه، ونسبوه إلى نقص في خِلْقَتِه، ذلك أنَّ موسى عليه السلام كان من شدَّة حيائه لا يُرَى من جلده شيءٌ، فأراد اللهُ تعالى أَنْ يبرِّئه ممَّا قالوا، فخرج موسى عليه السلام ذاتَ يوم يغتسل في خَلْوَة، فوضع ثيابَهُ على حَجَر، فلمَّا فرغ أقْبَل إلى ثيابه ليأخُذَها، فعَدَا الحَجَرُ بثوبه ومضى مسرعاً، فأخذ موسى عليه السلام عصاه في أثره، فجعل يقول: ثَوْبِي يا حَجَرُ، ثَوْبِي يا حَجَرُ، واستمرَّ يتبع الحجر حتّى انتهى إلى ملأ مِنْ بني إسرائيل، وكان فيهم مَنْ قال فيه ما قال، فرأوه عل أكمل خَلْقٍ، فبرَّأه الله ممَّا قالوا، فأخذ موسى عليه السلام ثوبَه، فلبسه، وَطَفِقَ يضرب الحجر بعصاه.

أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيّاً سِتِّيراً، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إِمَّا بَرَصٌ، وَإِمَّا أُدْرَةٌ، وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ الله أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الْحَجَرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الْحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلأ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ الله، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الْحَجَرُ فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فوالله إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا، أَوْ أَرْبَعًا، أَوْ خَمْساً، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:

ص: 57

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} [الأحزاب] "

(1)

.

ويؤخذ من الحديث أنَّ الأنبياءَ أكملُ النَّاس خَلْقاً وخُلُقاً، وأشدُّهم حياءً مِنَ الله تعالى، وأنَّ الأنبياء صبروا على مَنْ آذاهم، فجعل اللهُ العاقبةَ لهم، وأنَّ علينا أن نصبر كما صبر الأنبياءُ عليهم السلام، لتكونَ لنا حسن العاقبة.

أمَّا يوسف عليه السلام فقد اتَّهمته امرأة العزيز بأنَّه أراد بها سوءاً، فبرّأه الله تعالى ممَّا رمته به من الإفك على لسان الشَّاهد وغيره

(2)

، قال تعالى:{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)} [يوسف] وفي نهاية الأمر اعترفت امرأةُ العزيز ببراءة يُوسُفَ عليه السلام: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)} [يوسف].

أمّا مريم عليها السلام فقد اتَّهمها قومُها لمَّا جاءَتْهم تحملُ ابْنَها دون أَب: {قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ

(1)

البخاري "صحيح البخاري"(م 2/ج 4/ص 129) كتاب أحاديث الأنبياء.

(2)

انظر كتابنا "غرر البيان من سورة يوسف عليه السلام في القرآن " دراسة قصصيّة ولمسات بيانيّة.

ص: 58

وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)} [مريم] وهذا الثَّناء منهم على أبويها فيه تعريض بها يقتضي ذمَّها، فقد قالوا عليها ما قالوا من الإفك والبهتان، قال تعالى:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)} [النِّساء] حتَّى برَّأها الله تعالى ممَّا قالوا على لسان ابنها عيسى عليه السلام، فقد أنطقه الله تعالى وهو في المهد:{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} [مريم]. أمَّا عائشة رضي الله عنها فقد خرجت مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، وكان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى سَفَرٍ أقْرَعَ بين نسائه، فأصابت عَائِشَةَ رضي الله عنها القُرْعَةُ في غزوة بني المُصْطَلِق، وهي غزوة المُرَيْسِيع، وكانت في شعبان سنة خمس من الهجرة.

وكان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد بَلَغَهُ أنَّ بني المصطلق يجمعون له، فخرج إليهم بالجيش حتَّى لقيهم على ماء من مياههم يُقَالُ له المُرَيْسِيع، فهزمهم اللهُ ونصره عليهم.

فلمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم من غزوته، وَقَفَلَ راجعاً، واقترب من المدينة، نَزَلَ مَنْزِلاً فَبَاتَ به بعض اللَّيل، ثمَّ آذَنَ بالرَّحيل، فمشت عائشة رضي الله عنها حتَّى جاوزت الجيش، فلمَّا قضت من شَأْنِها، رجعت إلى مكان رحلها، فَلَمَسَتْ صَدْرَها فإذا عقدها قد انقطع وانسلَّ من عُنُقِها، وهي لا تدري، فرجعت عوْدَها على بَدْئِها إلى المكان الأوَّل، فالتمست عقدها، فحبسها ابتغاؤه، وكان عقدُها مِن خَرَزِ ظَفَار، وهي قرية في اليمن.

ص: 59

فجاء الرَّهطُ الَّذين يُرَحِّلون، فوضعوا رحْلَها على البعير، وحملوا هَوْدَجَها فوقه، وهم يظنُّونها فيه، ولم يستنكروا ثقل الهودج حين رفعوه لخفَّة بدنها رضي الله عنها، ولحسن أدبهم؛ فلم ينظروا داخله، ولم يتكَّلَّموا بكلمة، بحيث أنَّها لم تكن في الهودج، وهم يحسبونها فيه.

وعُذْرُ عائشة رضي الله عنها أنَّها كانت جارية حديثة السِّن، لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها بعد الهجرة في شوَّال، وغزوة المُرَيْسِيع على الرَّاجح أنَّها كانت في شعبان سنة خمس من الهجرة، فتكون عائشة رضي الله عنها لم تكمل أربعَ عَشْرَةَ سنة.

ولذلك نراها حريصةً على عقدها، وهو من خرز لا من ذَهَبٍ ولا جوهر، حتَّى استقلَّت بالتَّفتيش عليه، ولم تُعْلِمْ أهْلَها لينتظروها إن أرادوا الرَّحيل، ولم تستصحب معها غيرها، ولم تتفطَّن لعواقب الأمور، وهذا لصِغَرِ سنِّها، {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)} [الأنفال].

فذهب الجيشُ، ووجدت عِقْدَها بعدما استمرَّ الجيشُ ماضياً، ورجعت إلى منازل (أماكن) القوم، وقصدت مكانها الَّذي كانت فيه، فلم تَجِدْ أحداً، وظنَّت أنَّهم سيفطنون لها، فيرجعون إليها، ويعودون إلى مكانها الَّذي تركوها فيه، فجلست في مكانها حتَّى غلبها النَّومُ مِن الغمِّ. وكان صَفْوَانُ بن المُعَطَّلِ رضي الله عنه

(1)

(1)

صَفْوَانُ بن المُعَطَّل السُّلَمِيُّ، المَذْكُوْرُ بِالبَرَاءةِ مِنَ الإِفْكِ، كان صحابيّاً جليلاً فاضلاً، وفي الصَّحيحين وغيرهما، قال فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:" ما عَلِمْتُ عليه إلَّا خيْراً "، وقالت عائشة رضي الله عنها:"فقتل شهيداً في سبيل الله" واخْتُلِفَ في زمن استشهاده، انظر ترجمته في "الإصابة" لابن حجر (م 2/ج 3/ص 250/رقم 4084).

ص: 60

يسير في سَاقَة الجيش، أي من وراء الجيش، فيقوم للصَّلاة، ثمَّ يتبعهم، فَمَنْ سَقَطَ له شيء ردَّه إليه.

وكان صفوان رضي الله عنه قد تأخَّر حتَّى قرب الصُّبح، فركب بعيره لعلَّه يرى شيئاً، فَمَرَّ فرأى شخص إنسانٍ نائم، فَقَرُبَ فإذا هو بأمِّ المؤمنين رضي الله عنها، فعرفها لأنَّه كان يراها قبل نزولِ آيةِ الحجاب، فقال رافعاً صوته:"إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون"، فأيقظها باسْتِرْجَاعِه، ولم يكلِّمها بكلمة البتَّة؛ صيانةً لها وإعظاماً وإجلالاً، وحسن أدب منه، وفطنة وورعاً.

فَسَتَرَتْ وَجْهَهَا عنه بجلبابها، فأناخ بعيرَه بغير كلام ولا سُؤَال، فركبتْه، ومشى قدَّامها حتَّى أدركا الجيش أوَّل الظهيرة.

وهنالك قَال في صفوان رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها أَهْلُ الإفك والكذب ما قالوا، فهلك مَنْ هلك في شَأْنِها رضي الله عنها بقول البُهتان، وعُصِمَ مَنْ عُصِمَ بالورع والتَّقوى.

وكان الَّذي تولَّى الإفك والكذب عبدَ الله بنَ أُبيٍّ ابن سَلُولَ

(1)

، رَئيس المنافقين؛ عداوةً للإسلام ونبيِّ الإسلام، فهو البادئ بهذه الفرية، وهو الَّذي اختلقها، وهو مَنْ أَشَاعَ في المدينة ما أَشَاعَ مِنَ الكذب.

وانتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى أبوي عائشة رضي الله عنها. وكانت عائشة رضي الله عنها حين قَدِمَت المدينة مَرِضَتْ شهراً، وهي لا تشعر بشيء، ولا يذكرون لها شيئاً، ولكن كان يريبها أنَّها لم تكن تجد منه صلى الله عليه وسلم الرِّفق الَّذي كانت تجده إذا اشتكت.

(1)

أُبيّ أبوه، وسلول اسم أمّه، فنسب إلى أبويه كليهما، ووصف بهما.

ص: 61

فلمَّا أفاقت مِنْ مرضها خرجت مع أُمِّ مِسْطَحٍ (سلمى بنت أبي رهم رضي الله عنها)، وذلك لقضاء الحاجة، وبعد الفراغ من شأنها أقبلت وأمّ مِسْطَحٍ قِبَل بيتها، فعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ في ثوبها، فقالتْ:" تَعِسَ مِسْطَحٌ! ".

ومسطح بن أثاثة رضي الله عنه هو ابنها، وكان فقيراً ينفق عليه أبو بكرٍ رضي الله عنه، وهو من المهاجرين الأوَّلين، وشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنَّه ممَّن تكلَّم. فانتهرتها عائشة رضي الله عنها، وقالت لها:" أَتَسُبِّين رَجُلاً شَهِدَ بدْراً؟! ".

وفي ذَبِّ عائشة رضي الله عنها ودفاعها عن مِسْطَح فضيلةٌ ظاهرة لأهْلِ بَدْر؛ فليحذر الَّذين يتكلَّمون عليه لزلَّة بَدَتْ، فإنَّها قد غُفِرت، وقد ثبت أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لِعُمَرَ رضي الله عنه لمَّا طلب منه أن يضرب عنق حَاطِب بن أَبي بَلْتَعَة رضي الله عنه، وهو ممَّن شهد بدْراً، قال صلى الله عليه وسلم:" يا عمر، وَمَا يُدْرِيكَ؟ لَعَلَّ اللهَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ "

(1)

وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ؟ لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"

(2)

، فالذّنوب إنْ وقعت منهم تكون مقرونة بالمغفرة.

والحاصل أنَّ أمَّ مِسْطَحٍ رضي الله عنها أخبرت عائشة رضي الله عنها بقول أَهْل الإفْك، فازدادت مَرَضاً على مَرَضِها، فلمَّا رجعت إلى بيتها ودخل عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وسلَّم عليها، استأْذَنَتْ أن تأتيَ أبويها، وكانت تُريدُ أنْ تَسْتَيْقِنَ الخبر منهما، فَأَذِنَ لها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.

(1)

البخاري "صحيح البخاري"(م 4/ج 7/ص 134) كتاب الاستئذان.

(2)

مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 8/ج 16/ص 56) كتاب فضائل الصَّحابة.

ص: 62