الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بلا أخوَّة فاعلم أنَّه إيمانٌ ناقص.
ومن لوازمها ألّا يشوبها شيء من الحقد والضّغن والكراهية والتَّحاسد والتَّدابر لأتفه الأسباب وأهونها، فما أقبح القلب العليل، والفكر الكليل! وما أجمل سلامة الصَّدر، والودَّ القويم! وكفى ناهياً وواعظاً قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشّعراء].
وقد جمع الصَّحابة رضي الله عنهم بين الصُّحبة والأخوَّة، ولم يَبْقَ لنا إلَّا الأخوَّة،
فلنكن إخواناً، وأيّ خير فيمن لا أخوَّة له؟! قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ (10)} [الحجرات]، وقال صلى الله عليه وسلم:"وَكُونُوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا"
(1)
.
واعلم أنَّ عباد الله متى كانوا إخواناً، جمع الله تعالى بينهم، وألَّف بين قلوبهم، ومتى لم يكونوا كذلك، فرَّق الشّيطان شملهم، وألقى العداوة بينهم.
من معالم الهدى في الفتن
من معالم الهدى في الفتن اجتنابها والابتعاد عنها، فقد نهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن السَّعي في الفتن، فقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهاً
(2)
"
(3)
.
(1)
البخاريّ "صحيح البخاري"(م 4/ج 7/ص 88) كتاب الأدب.
(2)
كَلمة للتَّلَهُّف، وقد توضَع مَوْضِعَ الإعْجاب بالشيء:"لسان العرب"(ج 1/ص 256).
(3)
ابن أبي داود "سنن أبي داود"(ج 5/ص 20/رقم 4262) كتاب الفتن، وإسناده صحيح وصحّحه الألباني في " الصّحيحة"(م 2/ص 703/رقم 975) المكتب الإسلامي، وصحّحه في "مشكاة المصابيح"(ج 3/ص 11/رقم 5405).
ويلاحظ التوكيد اللَّفظي، وفائدته تقرير المؤكَّد وتمكينه في النَّفس مبالغة في تأكيد الابتعاد عن الفتنة. وحريّ بمن ابتُلي بها أن يصبر على الأذى، فإن صبر فطوبى له، فليس أطيب حينها مِنْ الصَّبر وسعة الصَّدر!
ويلاحظ في الفتن انشغال النَّاس بها، وترك العبادة، فمن معالم الهدى حينئذ الانقطاع إلى عبادة الله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"العِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ "
(1)
.
وسبب فضل العبادة في الهرج وكثرة الثَّواب أنَّ أكثر النَّاس ينشغلون عنها
ويغفلون ويذهلون. فمن فرَّ بدينه واعتصم بالله تعالى، ولزم أمراً قد أغفله النَّاس،
فأجره كأجر المهاجر إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفيه فضيلة ظاهرة للمهاجرين، وما فازوا به مِن الأجر العظيم.
وقد جاء فضل الهجرة صريحاً في الكتاب والسُّنَّة، فمّما جاء في التَّنزيل، قوله تعالى:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النّساء]. وممَّا جاء في السُّنَّة ما أخرجه مسلم عن ابْنِ شَمَاسَةَ المَهْرِيِّ من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما جاء يبايع النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأراد أن يشترط أن يُغْفَرَ له، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:
" أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا،
(1)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 9/ج 18/ص 88) كتاب الفتن.
وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ"
(1)
. فهذه الأعمال الثلاثة تُسْقِطُ الذُّنوبَ الَّتي تقدَّمَتْهَا وتجبُّها كلَّها.
ومن معالم الهدى أن يجتنب المسلم العجلة والخفَّة والإسراع إلى الفتن، ويَلْزَم التُّؤَدَة والتَّأني والرِّفق والسَّكينة والأَناة، فالعجول زاده الخطأ، فَقَلَّ مَنْ عَجِلَ في أمر إلَّا أخطأ قصد السَّبيل.
أخرج البخاري في الأدب المفرد وصيَّة للخليفة عليّ رضي الله عنه بإسناد صحيح
عن حكيم، قَال سمعت عَليّاً رضي الله عنه، يقول: "لا تَكُونُوا عُجُلاً
(2)
، مَذاييعَ
(3)
بُذُرَاً
(4)
، فَإنَّ مِن وَرائِكُم بَلاءً مُبْرَحَاً مُكلحاً
(5)
، وأموراً متماحِلةً رُدُحاً"
(6)
.
بدأ عليّ رضي الله عنه وصيَّته بالنَّهي عن العجلة في ملابسة الفتن، لأنَّ الفتنة مَنْ تشوَّف وتطلَّع إليها تدعوه إلى الوقوع فيها، وتصيبه بشرورها، قال صلى الله عليه وسلم:"سَتَكُونُ فِتَنٌ: القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الماشِي، وَالماشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لها تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ"
(7)
.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إنها ستكونُ هَنَات وأمور مشبهات،
(1)
مسلم " صحيح مسلم بشرح النّوويّ "(م 1/ج 2/ص 138) كتاب الإيمان.
(2)
من العجلة.
(3)
جمع مذياع، وهو من أذاع الشّيء.
(4)
لا يكتم سرّاً.
(5)
يجعل النَّاس كالحين عابسين.
(6)
البخاري" الأدب المفرد"(ص 155/رقم 327) كتاب حسن الخلق، باب العيَّاب.
(7)
البخاري "صحيح البخاري"(م 2/ج 4/ص 177) كتاب المناقب.
فعليك بالتُّؤَدَةِ؛ فتكون تابعاً في الخير، خير من أن تكونَ رأساً في الشَّرِّ"
(1)
.
ومن معالم الهدى والعصمة أن يمسك المرء لسانه سيَّما في زمن الفتن؛ فالفتنة مَبْدَاها باللِّسان، ووقع اللِّسانِ فيها أشدُّ مِنَ السِّنان، وقد سَأَلَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ رضي الله عنه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال له يا رسُولَ الله، ما النَّجاةُ؟ قال:"أَمْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ"
(2)
.
وعن عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، قال:"والله الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجُ إِلَى طُولِ سِجْنٍ مِنْ لِسَانٍ"
(3)
.
ومن معالم الهدى معرفة سبيل المجرمين من سبيل المؤمنين خوفاً من الوقوع في سبيلهم، وقد فصَّل الله تعالى في كتابه السَّبيلين؛ ليستبين العبد الخير مِنَ الشَّرِّ، والضَّلال من الهدى، والمعروف من المنكر، والسُّنَّة من البدعة، والحلال مِن الحرام، والجاهلية من الإسلام، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)} [الأنعام]، وقال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى (115)} [النّساء].
وليس لأحد حجَّة، فقد هدى الله الإنسان النَّجدين، وبيَّن له سبيل الخير والشَّرِّ، وطريق السَّعادة والشَّقاء في الدَّارين، قال تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}
(1)
ابن أبي شيبة "مصنف ابن أبي شيبة"(ج 8/ص 604) كتاب الفتن.
(2)
أحمد "المسند"(ج 16/ص 244/رقم 22136) وإسناده حسن.
(3)
أبو نعيم "حلية الأولياء"(م 1/ص 131) رواه الطّبراني موقوفاً بإسناد صحيح.