الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْهِ نِسَاءُ المشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ القُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ المشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ:
إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَأَعْلَنَ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا فَأْتِهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ العَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ، قَالَ أَبو بَكْرٍ: إِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ الله، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ، رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ، وَهُمَا الْحَرَّتَانِ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ المدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَرَجَعَ إِلَى المدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ "
(1)
(.
الهجرة
لم تبلغْ أُسْرَةٌ في التَّضحية والبطولة والفداء ما بلغته أسرةُ أبي بكر رضي الله عنه، فقد بادر جميعُ أفراد هذه الأسرة إلى الإسلام، عدا عبد الرّحمن شقيق عائشة رضي الله عنها، فقد
(1)
البخاري "صحيح البخاري"(م 2/ج 3/ص 58) كتاب الكفالة.
تأخَّر إسلامه.
وقدَّمت هذه الأسرةُ أعْظَمَ مثل في الجِهَاد يوم الهجرة، الَّتي تعدُّ نقطة تحوّل في تاريخ الدَّعوة، حتَّى أَمَرَ عُمَرُ رضي الله عنه الصَّحابة في خلافته أن يؤرِّخوا بها، قال عمر رضي الله عنه:
" الهجرة فرَّقت بين الحقِّ والباطل فأرِّخوا بها"
(1)
، وقال سهل بن سعد رضي الله عنه:" مَا عَدُّوا مِنْ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا مِنْ وَفَاتِهِ مَا عَدُّوا إِلَّا مِنْ مَقْدَمِهِ المدِينَةَ "
(2)
.
وقد روى البخاري قصّة الهجرة بطولها، وأقتطع منها دور هذه الأسرة الكريمة، قالت عائشة رضي الله عنها: " وَتَجَهَّزَ أَبو بَكْرٍ قِبَلَ المدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي، فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أَبو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ، وَهُوَ الْخَبَطُ
(3)
، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْماً جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ
(4)
،
قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مُتَقَنِّعاً فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، والله مَا جَاءَ به فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ
(1)
ابن حجر " فتح الباري"(ج 7/ص 215).
(2)
البخاري "صحيح البخاري"(م 2/ج 4/ص 267) كتاب المناقب.
(3)
((الخبط: ورق الشَّجر يضرب ويخبط حتَّى يسقط.
(4)
((كان لا يخطئه يوم إلَّا أتى منزل أبي بكر طرفي النَّهار، فلمَّا عزم على الهجرة جاءهم في الظَّهيرة متقنِّعاً وقد غطَّى رأسه.
رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَأْذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ
(1)
ـ بِأَبِي أَنْتَ
(2)
ـ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ، فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: الصَّحَابَةَ
(3)
ـ بِأَبِي أَنْتَ ـ يَا رَسُولَ الله، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، قَالَ أَبو بَكْرٍ: فَخُذْ ـ بِأَبِي أَنْتَ ـ يَا رَسُولَ الله، إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: بِالثَّمَنِ
(4)
.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ
(5)
الْجِهَازِ، وَصَنَعْنَا لهما سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ به عَلَى فَمِ الْجِرَابِ؛ فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقِ.
قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَبو بَكرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ
لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ الله بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ
(6)
، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ
(7)
بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنْ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي
(1)
إشارة إلى ابنتيه: عائشة وأسماء، كما فهم من طرائق أخرى للحديث.
(2)
التَّقدير: أنت بأبي مفديّ.
(3)
أي أريد المصاحبة.
(4)
أحبَّ صلى الله عليه وسلم أن تكون هجرته من ماله.
(5)
أحثّ: اسم تفضيل من الحثّ، وهو الإسراع.
(6)
أي حاذِق سريع الفهم.
(7)
من الكيد، أي يُكَاد لهما بمكروه.
رِسْلٍ
(1)
، وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا
(2)
حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ "
(3)
.
هجرتها رضي الله عنها وتحمّلها للمشاق
لا شكَّ أنَّ الهجرة أشقُّ على النِّساء من الرِّجال، فالرِّجال من شأنهم السَّعي والضَّرب في أكباد الأرض، فبعد أن أقام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وصاحبه في المدينة مع المسلمين مهاجرين وأنصار، هاجرت عائشة وأسماء معاً مع بنات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومع آل أبى بكر، فنزلوا جميعاً المدينة.
وقد تحمَّلت عائشة رضي الله عنها كغيرها المصاعب في طريق الهجرة، روت عائشة رضي الله عنها، قالت:"قدمنا مهاجرين، فسلكنا في ثنيَّة صعبة، فنفر جمل كُنْتُ عليه نُفُوراً مُنكراً، فوالله ما أَنْسَى قول أمِّي: يا عريسة، فركِبَ بي رأسَه، فَسَمِعْتُ قائِلاً يقول: ألقي خِطَامَه، فألقيته، فقام يستدير كأنَّما إنسانٌ قائمٌ تحته"
(4)
.
ولمَّا وصلت عائشة المدينة نزلت مع أهلها في دار بَنِي الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ، ومرضت بالحمَّى حتَّى تمزَّق شعرها، روى البخاري عنها أنَّها رضي الله عنها قالت: " فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ فَنَزَلْنَا فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ خَزْرَجٍ فَوُعِكْتُ فَتَمَرَّقَ (انْتَتَفَ) شَعَرِي فَوَفَى
(5)
(1)
الرِّسْل: اللَّبن.
(2)
الرَّضِيفُ: اللَّبن المَرْضُوفُ، وهو الَّذي طُرِحَ فيه الحجارة المُحْماةُ، ليذْهب وخَمُه.
(3)
البخاري "صحيح البخاري"(م 2/ج 4/ص 255) كتاب المناقب.
(4)
الهيثمي "مجمع الزوائد"(ج 9/ص 228) وقال: رواه الطَّبراني وإسناده حسن.
(5)
أي كَثُر وَفِي الْكَلَام حَذْف تَقْدِيره ثُمَّ فَصَلْتُ مِنْ الحمَّى فَتَرَبَّى شَعْرِي حتَّى وصل المنكبين.
جُمَيْمَةً
(1)
"
(2)
. وعند مسلم أنَّها مرضت شهراً كاملاً، تقول عائشة رضي الله عنها:"قَدِمْنَا المَدِينَةَ فَوُعِكْتُ شَهْراً فَوَفَى شَعْرِي جُمَيْمَةً"
(3)
.
وكانت المدينة عند قدومهم وبِئَة، فلمّا رأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم شكوى أصحابه، دعا لها أن يصحِّحها وينقل حمَّاها إلى الجُحْفَة فأجاب الله دعوته، تقول عائشة رضي الله عنها:"قَدِمْنَا المَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ، فَاشْتَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَاشْتَكَى بِلَالٌ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم شَكْوَى أَصْحَابِهِ، قَالَ: "اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ كَمَا حَبَّبْتَ مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَحَوِّلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ
(4)
"
(5)
.
وفي الحديث من الفقه: جواز التَّداوي بالدّعاء لرفع الوباء وكشف البلاء، وفيه الدُّعاء للمسلمين بالبركة والرَّخاء ورفع الدَّاء، وجواز الدُّعاء على الأعداء لشغلهم عن الدَّعوة، فقد دعا صلى الله عليه وسلم بنقل الحمَّى إلى الجحفة وكانت دار شرك فكفى الله المؤمنين.
وكان صلى الله عليه وسلم قد دعا على قريش لمَّا أبطؤوا عن الإسلام واستعصوا عليه ورأى منهم إدباراً، فقال:"اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ"
(6)
.
(1)
جُمَيْمَة: تصغير جُمَّة، والجُمَّة من شعر الرأْس ما سَقَط على المَنْكِبَيْن، وصار إلى هذا الحدّ.
(2)
البخاري "صحيح البخاري"(م 2/ج 4/ص 251) كتاب المناقب.
(3)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 5/ج 9/ص 207) كتاب النكاح.
(4)
ميقات أهل الشّام وكانت إذ ذاك يسكنها يهود.
(5)
مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 5/ج 9/ص 150) كتاب الحجّ.
(6)
البخاريّ "صحيح البخاريّ"(م 3/ج 6/ص 19) كتاب التَّفسير.