المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من دعاة لا يهتدون بهداه ولا يستنون بسنته - الأثر الثمين في نصرة عائشة - رضي الله عنها - أم المؤمنين

[أحمد محمود الشوابكة]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌تقديمأ. د. عبد النّاصر أبو البصل

- ‌تقديمأ. د. محمود السّرطاوي

- ‌تقديمأ. د. أحمد نوفل

- ‌تقديمد. محمّد ملكاوي

- ‌تقديمأ. د. عبد المقصود حامد

- ‌المقدّمة

- ‌القسم الأوَّلترجمة عائشة رضي الله عنها

- ‌نسبها

- ‌مولدها

- ‌أمّها أمّ رومان

- ‌إخوتها

- ‌نشأتها

- ‌الهجرة

- ‌بناء النبي صلى الله عليه وسلم بها رضي الله عنها ووصف زفافها

- ‌إتيان الملك النّبيّ صلى الله عليه وسلم بصورة عائشة رضي الله عنها قبل أن يتزوجها في سرقة من حرير

- ‌صفة عائشة رضي الله عنها

- ‌صداق عائشة رضي الله عنها

- ‌قَسَم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها ليلتين وليلة لسائر نسائه

- ‌حجرتها رضي الله عنها

- ‌صفة أثاث حجرتها رضي الله عنها

- ‌العلامة الّتي كان يعرف بها النّبيّ صلى الله عليه وسلم رضاها وغضبها

- ‌غيرتها رضي الله عنها

- ‌فضل عائشة رضي الله عنها على سائر النّساء

- ‌أحب الناس إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها

- ‌الأمر بمحبّة عائشة رضي الله عنها

- ‌نزول الوحي عليه السلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها دون سائر نسائه

- ‌رؤية عائشة رضي الله عنها للوحي عليه السلام على صورة دحية الكلبي رضي الله عنه

- ‌البرهان بأنّ جبريل عليه السلام أقرأ عائشة رضي الله عنها السّلام

- ‌جهادها رضي الله عنها

- ‌سبب كنيتها بأم عبد الله

- ‌من نعم الله عليها

- ‌القدر الّذي مكثت فيه عائشة رضي الله عنها عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌عبادتها رضي الله عنها وخوفها من الله تعالى

- ‌فصاحتها رضي الله عنها

- ‌وفاتها والصّلاة عليها ودفنها

- ‌القسم الثَّانيحديث الإفك

- ‌أذى المنافقين لسيّد المرسلين صلى الله عليه وسلم في عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها

- ‌أربعة وردت براءتهم في القرآن الكريم

- ‌حديث الإفك

- ‌موقف أمّ رومان رضي الله عنها من الإفك

- ‌موقف أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه

- ‌موقف أمّهات المؤمنين رضي الله عنهن

- ‌موقف أسامة بن زيد رضي الله عنه

- ‌موقف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌موقف الخادمة بريرة رضي الله عنها

- ‌موقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌موقف أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه

- ‌من ردّ عن عرض أخيه

- ‌الحِكمة من لبوث الوحي

- ‌عائشة رضي الله عنها تتمثَّل آي القرآن في النّوازل

- ‌عائشة رضي الله عنها والصّفح الجميل

- ‌مَن تكلّم ومَن تولّى كبره

- ‌نزول الوحي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر رضي الله عنه ببراءتها رضي الله عنها

- ‌عائشة رضي الله عنها تضيف معرفة النّعمة بكلّيتها إلى الخالق دون الخلق

- ‌أبو بكر الصديق رضي الله عنه يعفو عن مسطح رضي الله عنه ويصفح

- ‌الحُكم فيمن قذف طيّبة طابة رضي الله عنها بعد أن أنزل الله تعالى براءتها

- ‌الآيات العشر في براءة عائشة رضي الله عنها

- ‌من دلالات الآيات وعظاتها وهداياتها

- ‌القواعد الحسان لمن سمع حديث الإفك والبهتان

- ‌الحكمة من نزول براءة عائشة رضي الله عنها وحياً يتلى

- ‌لم يؤذون عائشة رضي الله عنها

- ‌ثلاث من كن فيه كن عليه

- ‌قذف المحصنات من السّبع الموبقات

- ‌حصان رزان

- ‌ما هي بأَوَّل بركتكم يا آلَ أَبِي بكر

- ‌القسم الثّالثنفحات من استدراكات أمّ المؤمنين رضي الله عنها

- ‌رجوع الصّحابة رضي الله عنهم إليها رضي الله عنها

- ‌استدراكها رضي الله عنها ومقاييس نقد الحديث عندها

- ‌القسم الرّابعحادثة الجمل

- ‌الفتنة الأولى: مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌مسير عائشة رضي الله عنها إلى البصرة وعذرها

- ‌مغفرة الله تعالى ذنوب عائشة رضي الله عنها ما تقدّم منها وما تأخَّر

- ‌عائشة رضي الله عنها وإصلاح ذات البين

- ‌الأمر بالإصلاح في القرآن الكريم

- ‌شهادة عمَّار رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها

- ‌الدّليل على أن خروج عائشة رضي الله عنها ومن معها كان للإصلاح

- ‌الرَّدُّ على من احتجَّ على خروج عائشة رضي الله عنها بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}

- ‌عليّ رضي الله عنه يستنفر أهل الكوفة ليعيد عائشة رضي الله عنها إلى مأمنها

- ‌المنافقون يوقعون الفتنة بين الحيّين

- ‌عائشة رضي الله عنها تنهى عن القتال يوم الجمل

- ‌قتلى الجمل وزمن القتال

- ‌ما قاله عمار رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها حين فرغ من الجمل

- ‌مسير عائشة رضي الله عنها كان قدراً

- ‌الخطأ في الاجتهاد لا يبيح الطعن في صاحبه

- ‌محاسن من أمسك عن الوقوع في الصّحابة رضي الله عنهم وسكت عمّا شجر بينهم

- ‌القسم الخامسصدّ عاديات الأدعياء عن زوج سيّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم

- ‌إثم من يحدِّث بكلِّ ما سمع

- ‌نقض قولهم: إنّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أشار إلى بيت عائشة رضي الله عنها وقال: هنا الفتنة

- ‌نقض قولهم: عائشة رضي الله عنها كانت سبباً في طلاق الْجَوْنِيَّةِ وموتها كمدا

- ‌نقض قولهم: لم ينزل في عائشة رضي الله عنها شيء من القرآن

- ‌نقض قولهم: عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا لا في الآخرة

- ‌أحاديث موضوعة في حقِّ عائشة رضي الله عنها

- ‌ماذا قال ابنُ عبّاس رضي الله عنه حين اشتكت عائشة رضي الله عنها وحين حضرتها الوفاة

- ‌أدلّة العدالة

- ‌الصّحابة رضي الله عنهم شهداء الله تعالى

- ‌ تحذير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من دعاة لا يهتدون بهداه ولا يستنون بسنته

- ‌إثم من دعا إلى ضلالة أو سنّ سنّة سيّئة

- ‌موعظة النّبيّ صلى الله عليه وسلم الّتي ذَرَفَتْ مِنْهَا العُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا القُلُوبُ

- ‌القسم السّابعالاختلاف

- ‌فقه الخلاف في حياة الصّحابة رضي الله عنهم

- ‌أدب الخلاف بين الصَّحابة رضي الله عنهم

- ‌كره الصّحابة رضي الله عنهم للخلاف

- ‌فقه الخلاف في النّوازل

- ‌أنواع الاختلاف

- ‌النّهي عن الاختلاف والأمر بالاجتماع أصلان عظيمان في القرآن

- ‌دلالة عطف النهي على الأمر

- ‌إخبار النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن افتراق أمّته والتّنصيص على وحدتها

- ‌التّعصّب إلى الفرق يزيد من الفرقة

- ‌ما ينبغي أن يكون عليه المسلم عند الاختلاف

- ‌الحاجة إلى فقه الخلاف

- ‌الشفاء من كلّ خلاف مشكل وداء معضل

- ‌القسم الثّامنالفتن

- ‌معنى الفتنة

- ‌المعاني التي يحتملها لفظ الفتنة في القرآن الكريم

- ‌ظهور الفتن بموت الخليفة عمر رضي الله عنه

- ‌فتنة الرّجل عن دينه

- ‌التّحذير من الفتن

- ‌البيان بأن على الإنسان عِنْدَ الْفِتَنِ العمياء أن يكسر سيفه ويكون مقتولا

- ‌الدعاة إلى الفتن هم الدّعاة إلى النّار

- ‌الفتن لا تزال إلى يوم القيامة

- ‌تغبيط أهل القبور وتمني الموت عند نزول الفتن خشية ذهاب الدّين

- ‌من أسباب الاختلاف وظهور الفتن

- ‌من معالم الهدى في الفتن

- ‌وقفات وبعثات الفتنة

- ‌مثل الفتنة

- ‌من شهد الفتنة كارها ومن غاب عنها فرضيها

- ‌الله الله في الدّماء

- ‌أفلح من كفّ يده

- ‌الخاتمة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌ تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من دعاة لا يهتدون بهداه ولا يستنون بسنته

كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} [لقمان] وقال تعالى: {ا قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)} [الزّخرف].

لذلك تجد في التنزيل مدح مَنْ لم يقلِّد مَنْ لا علم له، قال تعالى:{ا الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزّمر].

ولم يأمر الله تعالى بالاستمساك بالرِّوايات الموضوعة، وإنّما قال جل جلاله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم:{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)} [الزّخرف]، والَّذي أوحي إليه فيه ثناء وإطراء على الصَّحابة الأجلَّاء. هذا هو الحقّ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ (32)} [يونس].

واعلم أنَّه مع صحَّة هذه النُّصوص كُلِّها، وقطعية ثبوتها ودلالتها لا اعتبارَ لخلافِ مَنْ خالف أيّاً كان. ولا أدري كيف يضْرِب صَفْحاً عن هذه الأدلَّة مَنْ شمَّ رائحة العلم! {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا (104)} [الأنعام].‌

‌ تحذير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من دعاة لا يهتدون بهداه ولا يستنون بسنته

أخبر الصَّادقُ الأمين صلى الله عليه وسلم عن شرٍّ سيأتي مِنْ بعده، ثم يعقبه خَيْرٌ لكن فيه دَخَنٌ، أي ليس خيراً خالصاً ولا نقيّاً، بل فيه كدر يشوبُ صَفْوَه، ثمَّ يكون من بعد هذا الخير شرٌّ خَالِص.

ص: 174

أخرج البخاريّ عن أبي إِدْرِيس الْخَوْلَانِيّ، أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ، يَقُولُ

:

" كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ، مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ، قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا.

قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا،

قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ"

(1)

.

وفي رواية مسلم: "يَكُونُ بَعْدِى أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ "

(2)

.

ولعلَّه صلى الله عليه وسلم عنى بالشَّرِّ الأوَّل الفتن الَّتي وقعت بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه، وعنى بالخير التَّحكيم (الصُّلح) الّذي جرى بين عليّ ومعاوية، أو عام الجماعة الَّذي تنازل فيه الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه، واجتمعت فيه كلمة المسلمين، لكن لم يكن الخير خالصاً يومها لخِلاف مَنْ خَالفَ مِنَ الخوارج.

(1)

البخاريّ "صحيح البخاري"(م 4/ج 8/ص 93) كتاب الفتن.

(2)

مسلم "صحيح مسلم بشرح النّووي"(م 6/ج 12/ص 238) كتاب الإمارة.

ص: 175

أمَّا الشَّر الثَّاني، فقد صرَّحَ بِه صلى الله عليه وسلم، وهو ظهورُ دُعَاةٍ على أبواب جهنَّم، على

اعتبار ما يكون ويؤول إليه حالهم، وكان هذا بعد معاوية رضي الله عنه، ولعلَّهم الخوارج، وبعض أمراء الطَّوائف والفرق، وأئمَّة الجور، وعلماء السُّوء في ذلك الزَّمان.

وعلى هذا فكلُّ مَنْ دعا إلى ضلالة، أو دعا إلى غير سنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والخلفاء الرّاشدين من بعده، أو هَدَى بغير هَدْي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو من الدُّعاة على أبواب جهنَّم.

ويفهم من الحديث أنَّه إذا لم يكن للمسلمين جماعة تجمعهم ولا إمام يأمّهم، وكانوا فرقاً مختلفة متفرِّقة لا ريح فيها، فإنَّه يجب اعتزال هذه الفرق، وقد

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (103)} [آل عمران].

ومن المعلوم أنَّ النُّصوص الشَّرعيَّة تأمر باتِّباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، والأخذ بسنَّتة وعدم مخالفتها لما جاء من الوعيد الشَّديد في ذلك، قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)} [الأنفال] وتأمر باتّباع سبيل المؤمنين (الصَّحابةلا إله إلا الله)، قال تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} [النّساء].

واعلم أنَّ مَنْ لم يتَّبع سبيل المؤمنين اتَّبع غير سبيلهم، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)} [النُّور].

واعلم أنَّه لا يقوم إيمانُ عَبْد يؤمن بالله إلَّا على شهادتين: شهادة التَّوحيد، وهي شهادة أن لا إله إلَّا الله، وشهادة الاتِّباع، وهي شهادة أنَّ محمَّداً رسول الله.

ص: 176

وكلُّ مُتَّبَعٍ بعده صلى الله عليه وسلم فإنَّما اتِّباعه فرعٌ لاتِّباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخير متَّبِعٍ ومُتَّبَعٍ بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، فاجهد في اتِّباع سبيلهم، واقتفاء أثرهم، وترسُّم خطاهم.

واعلم أنَّ هذه الفِرَق الّتي ضربت خيامها ومدَّت أطنابها في كلِّ مكان لم تكن في عهد النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على اختلاف أسمائها، فقد مات صلى الله عليه وسلم والأمَّة جميع، كذلك عهد الشَّيخين رضي الله عنهما، والله تعالى يقول:{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ (78)} [الحجّ].

فأخبر الله تعالى أنَّه سمَّى أصحابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المسلمين مِن قَبْل القرآن وفي القرآن؛ لِمَا سَبَقَ في علمه أنَّه سيتَّخذهم شهداء على النَّاس يوم القيامة، فهم ورثة

النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في البلاغ وإقامة الحجج على النَّاس.

فإذا كان الله تعالى قد سمَّاهم المسلمين من قبل، وارتضى لهم هذا الاسم الجامع المانع، فلماذا نتسمَّى بكلِّ هذه الأسماء؟! فإن قيل: حتَّى نميز أهل الحقِّ. قلنا: حَنانَيْكَ، هذا مقصد نبيل، لكن حَسْبنا ما سمَّانا الله تعالى. فإن قيل: فكيف نُعْرَف؟ قلنا: نعرف بالمسلمين على ما كان عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؛ فمفهوم كلمة المسلمين أشمل جمعاً، وأجمع شملاً.

والله تعالى أمَر باتِّباع الصِّراط المستقيم، ولم يأمُرْ باتِّباع السُّبل والفرق، فقال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (153)} [الأنعام].

ولذلك نقرأ في صلاتنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ

ص: 177

عَلَيْهِمْ (7)} [الفاتحة] والَّذين أنعم الله تعالى عليهم وَرَدَ ذِكْرُهم في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ

وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)} [النِّساء].

أخرج أحمد عن ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:" خَطَّ لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم خَطّاً، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ الله، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (153)} [الأنعام] "

(1)

. وقد حذَّر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من شرِّ أئمَّةِ الضَّلال، فقال صلى الله عليه وسلم:"إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ المُضِلِّينَ "

(2)

أي الزَّائغين المميلين عن الحقِّ، فإيَّاك أن تغترَّ بهم.

هذا وقد قال الله تعالى في أئمَّة الضَّلال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41)} [القصص] وقال في أئمَّة الهدى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} [الأنبياء] فحريّ بنا أن نفرِّق بينهم.

فالنَّجاة النَّجاة باتِّباع آثار الرَّسول صلى الله عليه وسلم وسُنَنِه السَّنِيَّة، والانتباهَ الانتباهَ مِن اتِّباع السُّبُل، وحَذَارَيْكَ مِنْ أصحاب الرَّأي والهوى، الَّذين على قلوبهم أكنَّة عن فقه الكتاب والسُّنَّة، قَالَ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ،

(1)

أحمد " المسند "(ج 4/ص 155/رقم 4142) وإسناده صحيح.

(2)

أحمد "المسند"(ج 16/ص 293/رقم 22293) وإسناده صحيح.

ص: 178

وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا"

(1)

.

وإنَّنا نجد ذلك واقعاً في زماننا، لكن مع وجود مقابله، فالمراد استحكام الجهل في علم الكتاب والسُّنَّة، ودُرُوس العِلْم، وذَهَابُ العلماء.

وهذا الحديث الشَّريف قاله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوَدَاع، وفيه ذمٌ للَّذين يُفْتُون برأيهم استكباراً وأنفة أن يقولوا لا نعلم، وذمُّ مَنْ يبادر ويسارع إلى الفتوى بغير علم، وفيه الحثُّ على طلب علم الكتاب والسُّنَّة وأخذه عن أهله، وفيه بيان فضل العلماء، وأنَّ ذهابهم نذيرُ شرٍّ، وفيه النَّهي عن اتّخاذ الجُهَّال رؤوساً وأئمَّة.

وقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مِن أشراط السَّاعة رفع العلم، وكثرة الجهل، وذلك بقبض العلماء، وغلبة السُّفهاء، قال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ "

(2)

.

وأخرج البخاري عن مرداس مرفوعاً، قَال: قَالَ صلى الله عليه وسلم: "يَذْهَبُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَيَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ الشَّعِيرِ أَوْ التَّمْرِ لَا يُبَالِيهِمْ اللهُ بَالَةً"

(3)

.

أي في آخر الزَّمان يُقْبَضُ الصَّالِحُونَ أَسْلَافًا، وَيَفْنَى الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ

(1)

البخاري "صحيح البخاري"(م 1/ج 1/ص 34) كتاب العلم، وأخرجه في الاعتصام.

(2)

البخاريّ "صحيح البخاريّ"(م 3/ج 6/ص 158) كتاب النِّكاح.

(3)

البخاري "صحيح البخاري"(م 4/ج 7/ص 174) كتاب الرّقاق. وأورده موقوفاً في المغازي (م 3/ج 5/ص 63) عَنْ قَيْسٍ بن أبي حازم أَنَّهُ سَمِعَ مِرْدَاسًا الْأَسْلَمِيَّ، يَقُولُ:" يُقْبَضُ الصَّالِحُونَ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، وَتَبْقَى حُفَالَةٌ كَحُفَالَةِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ لَا يَعْبَأُ الله بِهِمْ شَيْئًا ".

ص: 179

فَالْأَوَّلُ، ويبقى مَنْ لا خَيْرَ فيه، ممَّن لا يَعْرِفُ معروفاً ولا ينكر منكراً، لا يرفع الله تعالى لهم قَدْراً، ولا يقيم لهم وزناً، ولا يعبأ بهم.

فاتَّبع الهدى باقتفاء أثر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا إله إلا الله، وانهض بحبِّ الصَّالحين؛ خشية أن تكون ممَّن لا يباليه الله تعالى بَالَةً، ولا يكترث به!

أعظم الكذب!

نهى الله تعالى عن الكذب وذمَّ أهله، فقال جل جلاله:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)} [الذَّاريات]، وقال:{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7)} [الجاثية]، وقال:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ (105)} [النَّحل].

والكذب أنواع ومراتب ودرجات، أعظمها الكَذِبُ على الله تعالى، ثمَّ الكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ على سائر الخلق بَدْءاً بالوالدين.

ومِنَ الكذب العظيم على الله تعالى القول عليه سبحانه بغير علم، قَال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف].

فذكر الله تعالى في هذه الآية المحرَّمات، وجعلها أربع مراتب، وبدأ بالأدنى ثمَّ الأعلى فالأعلى، وجعل القول عليه بغير علمٍ في الدَّرجة العليا منها، وهي: الفواحش، والإثم والبغي، والشِّرك، ثمَّ الأعظم تحريماً، وهو القول عليه ـ سبحانه ـ بغير علم، ويعمّ القول في آياته، وأسمائه، وصفاته، وشرعه، وأحكامه.

ص: 180

كما عَدَّ القول عليه ـ سبحانه ـ بغير علم من اتِّباع خُطُواتِ الشَّيطان، وأنَّ الشَّيطان يأمر به، فقال جل جلاله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة].

ولذلك نهى الله تعالى عن القول عليه بغير علم، فقال:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء]، فلا يحلُّ أن تقول سمعت ورأيت وعلمت، وأنت لم تسمع ولم ترَ ولم تعلم.

وقد جعل الله تعالى للكاذبين علامة يعرفون بها يوم القيامَة، قال عز وجل:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ (60)} [الزّمر].

أمَّا الكذب على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فليس كَكَذِبٍ على أَحَد، فقد قَال صلى الله عليه وسلم:

" مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"

(1)

.

وهذا الحديث متواتر لفظاً ومعنى، فقد جاء بهذا اللَّفظ عن بضعة وسبعين صحابياً، وفيهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وجاء بالمعنى عن مائتين من الصحابة كما نقله النَّووي في المقدِّمة. أجارنا الله تعالى من ضلالات الهوى، وفتن المضلِّين، وأكاذيب المتقوِّلين.

فكم هم الَّذين جمعوا بين الكذب على الله تعالى والكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم، واختلقوا الأباطيل والأضاليل، ووضعوا الحكايات والأخبار، وولَّدوا الرِّوايات والآثار، وأذاعوها بعد تهذيبها وتشذيبها، وأورثوا ما ابتدعوا، فيا وَيْحَهم حملوا إثماً

(1)

البخاريّ "صحيح البخاري"(م 1/ج 2/ص 81) كتاب الجنائز.

ص: 181