الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَتَجِب لك النَّار، فبراءة عائشة نتعبّد الله تعالى بها في كتاب الله تعالى، وهذا الكلام لا ينبري لمعاداته، ولا يجترئ على ردِّه ومجاراته، ولا ينكره إلّا مَن قال الله تعالى فيهم:{وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)} [العنكبوت].
ولكن لمن تقول هذا، فمن الخلق مَنْ لا يَذْهَنُ شَيْئاً، ولا يَعِي رأياً، وَلا يفقه قَوْلاً، ولا يُبْصرُ شيئاً {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا (179)} [الأعراف].
لم يؤذون عائشة رضي الله عنها
-؟!
الَّذين آذوا عائشة في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم جماعَةٌ من المنافقين كُرْهاً في النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعداوةً له، وبغضاً لأبيها أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه السَّابق بالتَّصديق، ولم يقصدوا عائشة رضي الله عنها، وإنَّما كانوا يريدون النَّيل من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذي نجح في الدَّعوة في المدينة، ومظاهرة الكفَّار على المسلمين.
ولذلك فِي مَرْجِعِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَذِهِ الْغَزْوَةِ، قَالَ رَأْسُ المُنَافِقِينَ ابْنُ أُبَيّ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وعنى بالأعزِّ نفسه، وبالأذلِّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فهو يريد أن يُخرجَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم من المدينة كما أخرجه الَّذين كفروا من مكَّة.
أخرج البخاريّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه، قَالَ: " كُنْتُ مَعَ عَمِّي فَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ يَقُولُ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَقَالَ أَيْضاً: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ
لِعَمِّي، فَذَكَرَ عَمِّي لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى عَبْدِ الله بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَصَدَّقَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَكَذَّبَنِي، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي فَأَنْزَلَ الله عز وجل:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ (1)} [المنافقون] إلى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ (7)} إلى قوله: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ (8)} ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَهَا عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الله قَدْ صَدَّقَكَ "
(1)
.
فلا يستبعد أنَّ الَّذين يحملون على عائشة رضي الله عنها الأحقاد، في كلِّ الأزمان والأحقاب، إنَّما غرضهم مظاهرة الكفَّار على المسلمين؛ فمعاونةُ الكفَّار على المسلمين خَصْلَةٌ مِن النِّفاق وشُعْبة من شُعَبِه، قَال الله تعالى:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} [النّساء]، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)} [المجادلة].
أمَّا الَّذين تكلَّموا بالإفك من المؤمنين، مثل: مسطح، وحسَّان، وحمنة، فلم يقصدوا أذى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، بخلاف ابن أبيّ وأصحابه، الَّذين قصدوا إيذاءَه صلى الله عليه وسلم ومحاربته.
أمَّا الَّذين وَرِثوا نِفَاقَ ابن أبيٍّ، سواء مَنْ ذَهَبَ بهم الماضي الغابر، أو مَنْ
(1)
البخاريّ "صحيح البخاريّ"(م 3/ج 6/ص 64) كتاب التَّفسير.
بَرِمَ بهم الحاضر، فَغَرَضُهم من الطَّعن بأمِّ المؤمنين رضي الله عنها، الطَّعن والتَّشكيك في السُّنَّة الَّتي روتها ونقلتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنَّ الطَّعن في الرَّاوي طعنٌ في المرويِّ، والتَّشكيك في النَّاقل تشكيك في المنقول.
فأمّ المؤمنين عائشة مِن بين السَّبعة المكثرين عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رواية، ومُسْنَدُها رضي الله عنها يَبْلُغُ أَلْفَيْنِ وَمائَتَيْنِ وَعَشْرَةِ أَحَادِيْثَ، وانفردت عنهم بأنَّ جلَّ الأحاديث الَّتي روتها تلقَّتها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مشافهةً، كذلك تناولت السُّنن الفعليَّة لقربها من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وطول ملازمتها له صلى الله عليه وسلم، حتّى قِيلَ إِنَّ رُبْعَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْقُولٌ عَنْهَا رضي الله عنها.
وهؤلاء الوارثون لابن أبيّ لا يستطيعون إظهار العداوة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مواجهة، فيجرحون عائشة رضي الله عنها محاربة للسُّنن القوليَّة والفعليَّة الَّتي ورثتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلَّغتها عنه صلى الله عليه وسلم.
ولا يغيب أنَّ في حِرص عائشة رضي الله عنها على الحديث، وحفظها وروايتها له وتبليغها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم منقبة عظيمة لها، فقد كان همّها حفظ الحديث وتبليغه، فوردها النَّاس وتلقُّوه منها، وتاجروا فيه، فربح البيع، وربحت التِّجارة.
هذا وقد دعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمن سَمِعَ كلامَه ووعاه وبلَّغه بالنُّضرة، فقال صلى الله عليه وسلم:" نَضَّرَ الله امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَحْفَظُ لَهُ مِنْ سَامِعٍ"
(1)
.
فأمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ممَّن بلَّغ عنه مَنْ غَابَ، وممَّن حظي بهذا الدُّعاء المُسْتَجَاب، وهي ممَّن امتثل قوله صلى الله عليه وسلم:
(1)
أحمد "المسند"(ج 4/ص 162/رقم 4157) وإسناده صحيح.