الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
[فصل] :
في الأمر بالإِخلاص وحسن النيّات في جميع الأعمال الظاهرات والخفيَّات
.
قال الله تعالى: (وَمَا أُمِروا إلَاّ ليعبُدوا الله مُخلِصِينَ لَهُ الدّين حُنفاء)[البيِّنة: 5] وقال تعالى: (لَنْ يَنالَ الله لُحومُها وَلَا دِماؤُها ولكنِ ينالُهُ التَّقوى مِنكمْ)[الحج: 37] قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه ولكن يناله النيّات.
أخبرنا شيخنا الإِمام الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف بن الحسن بن سعد بن الحسن بن المفرّج بن بكار المقدسيّ النابلسيّ ثم الدمشقي رضي الله عنه (1) ، أخبرنا أبو اليمن الكندي، أخبرنا محمد بن عبد الباقي الأنصاري، أخبرنا أبو محمد الحسن بن عليّ الجوهري، أخبرنا أبو الحسين محمد بن المظفر الحافظ، أخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الواسطي، حدّثنا أبو نُعيم عبيد بن هشام الحلبي، حدّثنا ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد - هو الأنصاري - عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقّاص الليثيّ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
2 -
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لِكُلّ امرئ مَا نَوَى، فَمَنْ كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أَوِ امْرأةٍ يَنْكِحُها فَهِجْرَتُه إلى ما هَاجَرَ إلَيْهِ ".
هذا حديث صحيح متفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلالته، وهو أحد الأحاديث التي عليها مدارُ الإِسلام، وكان السلف وتابعوهم من الخلف رحمهم الله يَستحبُّون استفتاح المصنفات بهذا الحديث، تنبيهاً للمُطالع على حسن النيّة، واهتمامه بذلك والاعتناء به.
(1) في (طبقات الحفّاظ) للذهبي 4 / 1447: خالد بن يوسف بم سعد بن حسن بن مفرج الإمام المفيد المحدّث الحافظ زين الدين أبو النابلسي ثم الدمشقي، ولد سنة (585 هـ) وسمع من القاسم بن عساكر، ومحمد بن الخصيب، وحنبل الرصافي وغيرهم، وأخذ عنه النووي، وتقي الدين القشيري، وأبو عبد الله الملقن، والبرهان الذهبي، وغيرهم، توفي رحمه الله سنة (663 هـ) .
(*)
روينا عن الإِمام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى: مَنْ أَرَادَ أنْ يُصنِّفَ كتاباً فليبدأ بهذا الحديث.
وقال الإِمام أبو سليمان الخَطَّابي رحمه الله: كان المتقدمون من شيوخنا يستحبُّون تقديم حديث (الأعمال بالنيّة) أمامَ كل شئ ينشأ ويبتدأ من أمور الدين لعموم الحاجة
إليه في جميع أنواعها.
وبلغنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إنما يحفظ الرجلُ على قدر نيته.
وقال غيرُه: إنما يُعطى الناسُ على قدر نيّاتهم.
وروينا عن السيد (1) الجليل أبي عليّ الفُضيل بن عِياض رضي رحمه الله عنه قال: تركُ العمل لأجل الناس رياءٌ، والعمل لأجل الناس شِركٌ، والإِخلاصُ أن يعافيَك الله منهما.
وقال الإمام الحارث المحاسبيُّ رحمه الله: الصادق هو الذي لا يُبالي لو خرج كلُّ قَدْرٍ له في قلوب الخلق من أجل صَلاح قلبه، ولا يحبُّ اطّلاع الناس على مثاقيل الذرِّ من حس عمله ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من عمله.
وعن حُذيفة المَرْعشيِّ رحمه الله قال: الإِخلاصُ أن تستوي أفعالُ العبد في الظاهر والباطن.
وروينا عن الإمام الأستاذ أبي القاسم القُشَيريّ رحمه الله قال: الإِخلاصُ إفرادُ الحق سبحانه وتعالى في الطاعة بالقصد، وهو أن يُريد بطاعته التقرّب إلى الله تعالى دون شئ آخر: من تَصنعٍ لمخلوق، أو اكتساب محمَدةٍ عند الناس، أو محبّة مدحٍ من الخلق أو معنى من المعاني سوى التقرّب إلى الله تعالى.
وقال السيد الجليل أبو محمد سهل بن عبد الله التُستَريُّ رحمه الله: نظر الأكياسُ في تفسير الإِخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركتُه وسكونه في سره وعلانيته الله تعالى، لا يُمازجه نَفسٌ ولا هوىً ولا دنيا.
وروينا عن الأستاذ أبي علي الدقاق رحمه الله قال: الإِخلاصُ: التوقِّي عن ملاحظة الخلق، والصدق: التنقِّي عن مطاوعة النفس، فالمخلصُ لا رياء له، والصادقُ لا إعجابَ له.
وعن ذي النون المصري رحمه الله قال: ثلاثٌ من علامات الإِخلاص: استواءُ المدح والذمّ من العامَّة، ونسيانُ رؤية الأعمال في الأعمال، واقتضاءُ ثواب العمل في الآخرة.
وروينا عن القُشَيريِّ رحمه الله قال: أقلُّ الصدق استواءُ السرّ والعلانية.
(1) فيه إطلاق السيّد على غير الله تعالى، وهو جائز، وقيل بكراهته إذا كان بأل.
(*)
وعن سهل التستري: لا يشمّ رائحة الصدق عبدٌ داهن نفسه أو غيره، وأقوالهم في هذا غير منحصرة، وفيما أشرت إليه كفاية لمن وفّق.
[فصل] :
اعلم أنه ينبغي لمن بلغه شئ في فضائل الأعمال أن يعمل به ولو مرّة واحدة ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه مطلقاً بل يأتي بما تيسر منه، 3 - لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته:" إذَا أَمَرْتُكُمْ بشئ فأْتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ ".
[فصل] :
قال العلماءُ من المحدّثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويُستحبّ العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً (1) .
وأما الأحكام كالحلال والحرام والبيع والنكاح والطلاق وغير ذلك فلا يُعمل فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن (2) إلا أن يكون في احتياط في شئ من ذلك، كما إذا وردَ حديثٌ ضعيفٌ بكراهة بعض البيوع أو الأنكحة، فإن المستحبَّ أن يتنزّه عنه ولكن لا يجب.
وإنما ذكرتُ هذا الفصل لأنه يجئ في هذا الكتاب أحاديثُ أنصُّ على صحتها أو حسنها أو ضعفها، أو أسكتُ عنها لذهول عن ذلك أو غيره، فأردتُ أن تتقرّر هذه القاعدة عند مُطالِع هذا الكتاب.
[فصل] :
اعلم أنه كما يُستحبُّ الذكر يُستحبُّ الجلوس في حِلَق أهله، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك، وستردُ في مواضعها إن شاء الله تعالى، ويكفي في ذلك حديث ابن عمر (3) رضي الله عنهما قال:
(1) قوله: ما لم يكن موضوعا: وفي معناه شديد الضعف، فلا يجوز العمل بخبر من انفرد من كذاب ومتهم، وبقي للعمل بالضعيف شرطان: أن يكون له أصل شاهد لذلك، كاندراجه في عموم أو قاعدة كلية، وأن لا
يعتقد عند العمل به ثبوته، بل يعتقد الاحتياط.
(2)
أي سواء كان ذلك لذاته في كل منهما أو لغيره بان انجبر ضعف ضعيف الحديث الصدوق الامين بمجيئه من طرق متعددة، فصار حسنا لغيره فيحتج به فيما ذكر.
(3)
نسبه المؤلف كما ترى إلى ابن عمر، ولم يذكر من خرجه عنه، وهو في المسند، والترمذي، والبيهقي في (شعب الايمان) عن أنس، والطبراني في الكبير عن ابن عباس، والترمذي عن أبي هريرة، وابن ابي الدنيا، وابي يعلي، والطبراني، والبزار، والحاكم، والبيهقي من حديث جابر، وقد قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار: لم أجده، يعني، الحديث، من حديث ابن عمر، ولا بعضه لا في الكتب المشهورة، ولا في الاجزاء المنثورة.
قال الحافظ السيوطي في (تحفة الأبرار بنكت الاذكار)(1) : قال الحافظ ابن حجر ى (أمالي الاذكار) وانما وجدتُه من حديث جابر بمعناه مختصرا، قال: وأخرج أبو نُعيم في (الحلية) من طريق يوسف القاضي، حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا زائدة بن ابي الرقاد - في الاصل: الزنا، وهو تحريف - حدثنا زياد النميري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا = (*)
4 -
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الجَنَّةِ فارْتَعُوا. قالُوا: وَمَا رِياضُ الجَنَّةِ يا رَسُولَ الله؟ قالَ: حِلَقُ الذّكْرِ، فإنَّ لله تعالى سَيَّارَاتٍ مِنَ المَلائِكَةِ يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذّكْرِ، فإذَا أَتَوْا عَليْهِمْ حَفُّوا بِهِمْ ".
5 -
وروينا في (صحيح مسلم)، عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: (خرجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على حلقة من أصحابه فقال: " ما أجْلَسَكُم؟ قالوا: جلسنا نذكُر الله تعالى ونحمَدُه على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا، قال: آلله ما أجْلَسَكُمْ إلا ذاك؟ أما إني لَمْ أستحلِفكُمْ تُهمةً لكُمْ، ولَكنَّهُ أتاني جبْرِيلُ فأخْبَرَنِي أنَّ الله تعالى يُباهي بكُمُ المَلائكَةَ ".
6 -
وروينا في (صحيح مسلم) أيضاً، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُون اللَّهَ تَعالى إلا حَفَّتْهُمُ المَلائِكَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَنَزَلَتْ عَليهِمْ السَّكِينَةُ وَذَكَرََهُمُ اللَّهُ تَعالى فِيمَنْ عِنْدَهُ ".
[فصل] :
الذكر يكون بالقلب، ويكون باللسان، والأفضلُ منه ما كانَ بالقلب واللسان جميعاً، فإن اقتصرَ على أحدهما فالقلبُ أفضل، ثم لا ينبغي أن يُتركَ الذكرُ باللسان مع القلب خوفاً من أن يُظنَّ به الرياء، بل يذكرُ بهما جميعاً ويُقصدُ به وجهُ الله تعالى، وقد قدّمنا عن الفُضَيل رحمه الله: أن ترك العمل لأجل الناس رياء.
ولو فتح الإنسانُ عليه بابَ ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرّق ظنونهم الباطلة لا نسدَّ عليه أكثرُ أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمَّات الدين، وليس هذا طريق العارفين.
7 -
وروينا في (صحيحي البخاري ومسلم)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزلت هذه الآية (ولا تجهر بِصَلاتِكَ ولا تُخافِتْ بها) في الدعاء.
[فصل] :
اعلم أن فضيلة الذكر غيرُ منحصرةٍ في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحوها، بل كلُّ عاملٍ لله تعالى بطاعةٍ فهو ذاكرٌ لله تعالى، كذا قاله سعيدُ بن جُبير رضي الله عنه وغيره من العلماء.
= مَرَرْتُمْ بِرِياضِ الجَنَّةِ فارتفعوا، قالوا: واين لنا برياض الجنة في الدنيا؟ قال: إنها في مجالس الذكر) وأخرج أبو نعيم أيضا من طريق الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا زائدة بن ابي الرقاد، عن زياد النميري عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:(إنَّ لله سيارة مِنَ المَلائِكَةِ يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذّكْرِ، فإذَا أَتَوْا عَليْهِمْ حَفُّوا بهم وبعثوا رائدهم الى السماء الى رب العزة سبحانه، فيقول وهو أعلم: أتينا على عباد من عبادك يعظمون آلاءك ويتلون كتابك، ويصلون على نبيك، ويسألون لاخرتهم ودنياهم، فيقول: غشوهم رحمى، هم القوم لا يشقى جليسهم) قلت: الظاهر أن الحديثين حديث واحد لاتحاد الرواة، فجمع النووي بينهما، واختصر بقية الحديث، وأراد أن يقول: حديث أنس، فسبق قلمه إلى ابن عمر.
أقول: وهو حديث حسن بطرقه وشواهده، ولذلك حسنه الترمذي وغيره.
(*)
وقال عطاء رحمه الله: مجالسُ الذِّكر هي مجالسُ الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيعُ وتصلّي وتصومُ وتنكحُ وتطلّق وتحجّ، وأشباه هذا.
[فصل] :
قال الله تعالى: (إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ) إلى قوله تعالى: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات، أعد اللَّهُ لَهُمْ مغْفِرَةً وأجْراً عَظِيماً)[الأحزاب: 35] .
8 -
وروينا في (صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سَبَقَ المُفرِّدونَ، قالُوا: ومَا المُفَرِّدونَ يا رَسُولَ الله؟ قالَ: (الذَّاكِرُونَ الله كَثِيراً وَالذَّاكرَاتُ) .
قلت: روي (المفرِّدون) بتشديد الراء وتخفيفها، والمشهور الذي قاله الجمهور التشديد.
واعلم أن هذه الآية الكريمة مما ينبغي أن يهتمَّ بمعرفتها صاحبُ هذا الكتاب.
وقد اختُلِفَ في ذلك، فقال الإِمامُ أبو الحسن الواحديّ: قال ابن عباس: المراد يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدوّاً وعشيّاً، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا أو راح من منزله ذكرَ الله تعالى.
وقال مجاهد: لا يكونُ من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً.
وقال عطاء: من صلَّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخلٌ في قول الله تعالى: (والذَّاكِرِينَ الله كَثيراً وَالذَّاكِرَاتِ) هذا نقل الواحدي.
9 -
وقد جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أيْقَظَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّيَا - أَوْ صَلَّى - رَكعَتينِ جَمِيعاً كُتِبَا في الذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ " هذا حديث مشهور رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم.
قال المصنف رحمه الله: حديث مشهور.
قال السيوطي في (تحفة الأبرار الاذكار) : قال الحافظ ابن حجر: قول الشيخ يعنى النووي - هذا حديث مشهور: يريد شهرته على الألسنة، لا أنه مشهور اصطلاحا، فانه من أفراد علي ابن الأقمر عن الأغرّ.
وقوله: (رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه في سننهم) .
قال الحافظ ابن حجر: هو كما قال، لكنهم ذكروا أبا هريرة مع أبي سعيد، فما أدري لِمَ حذفه، فإنهما عند جميع مَن أخرجه مرفوعاً، وأما من أفرد أب سعيد فإنه أخرجه
موقوفا.
وسئل الشيخ الإِمام أبو عمر بن الصَّلاح رحمه الله عن القدر الذي يصيرُ به من الذاكرينَ الله كثيراً والذاكرات، فقال: إذا واظبَ على الأذكار المأثورة (1) المثبتة صباحاً
(1) المأثورة: ما أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقدّم عند التعارض الأصحّ إسناداً: أي: أو نزل منزلته كالاتي عن الصحابة، فانه نزل منزلة ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أذكار الطواف، ففضل الاشتغال به فيه على = (*)
ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً - وهي مُبيّنة في كتاب عمل اليوم والليلة - كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، والله أعلم.
فصل:
أجمع العلماءُ على جواز الذكر بالقلب واللسان للمُحْدِث والجُنب والحائض والنفساء، وذلك في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعاء وغير ذلك.
ولكنَّ قراءة القرآن حرامٌ على الجُنب والحائض والنفساء، سواءٌ قرأ قليلاً أو كثيراً حتى بعض آية، ويجوز لهم إجراءُ القرآن على القلب من غير لفظ، وكذلك النَّظَرُ في المصحف، وإمرارُه على القلب.
قال أصحابُنا: ويجوز للجُنب والحائض أن يقولا عند المصيبة: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وعند ركوب الدابة: سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كُنَّا له مُقرنين (1)، وعند الدعاء: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، إذا لم يقصدا به القرآن، ولهما أن يقولا: بسم الله، والحمد لله، إذا لم يقصدا القرآن، سواءٌ قصدا الذكر أو لم يكن لهما قصد، ولا يأثمان إلا إذا قصدا القرآن، ويجوزُ لهما قراءةُ ما نُسخت تلاوته ك (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) .
وأما إذا قالا لإِنسان: خذ الكتاب بقوّة، أو قالا: ادخلوها بسلام آمنين، ونحو ذلك، فإن قصدا غيرَ القرآن لم يحرم، وإذا لم يجدا الماء تيمَّمَا وجاز لهما القراءة، فإن أحدثَ بعد ذلك لم تحرم عليه القراءة كما لو اغتسل ثم أحدث.
ثم لا فرق بين أن يكون تَيمُّمُه لعدم الماء في الحَضَر أو في السفر، فله أن يقرأ القرآن بعده وإن
أحدث.
وقال بعضُ أصحابنا: إن كان في الحضر صلَّى به وقرأ به في الصلاة، ولا يجوزُ أن يقرأ خارجَ الصلاة، والصحيحُ جوازه كما قدّمناه، لأن تيمُّمَه قام مقام الغسل.
ولو تيمَّمَ الجنبُ ثم رأى ماء يلزمُه استعمالُه فإنه يحرمُ عليه القراءة وجميع ما يحرم على الجُنب حتى يغتسل.
ولو تيمَّم وصلَّى وقرأ ثم أراد التيمّم لحدثٍ أو لفريضةٍ أخرى أو لغير ذلك لم تحرم عليه القراءة.
هذا هو المذهب الصحيح المختار، وفيه وجه لبعض أصحابنا أنه يحرمُ، وهو ضعيف.
أما إذا لم يجد الجُنبُ ماءً ولا تُراباً فإنه يُصلِّي لحُرمة الوقت على حسب حاله، وتحرمُ عليه القراءة خارجَ الصلاة، ويحرمُ عليه أن يقرأ في الصلاة ما زاد على الفاتحة.
*
= الاشتغال بالقرآن فيه، وكما تقدم أن صنيع المصنف يقتضي أن ما جاء من الوارد من الذكر في مكان يسن الاتيان به، وسبق ما فيه.
(1)
أي: مطيقين، ويضم إليها الآية الاخرى، وهي (وإنَّا إلى رّبنا لمنقلبون) أي: مبعوثون.
(*)
وهل تحرمُ الفاتحة؟ فيه وجهان: أصحُّهما لا تحرمُ بل تجبُ، فإن الصَّلاةَ لا تصحُّ إلا بها، وكما جازت الصلاةُ للضرورة تجوزُ القراءة.
والثاني تحرمُ، بل يأتي بالأذكار التي يأتي بها مَن لا يُحسن شيئاً من القرآن.
وهذه فروعٌ رأيتُ إثباتها هنا لتعلقها بما ذكرتُه، فذكرتها مختصرة وإلا فلها تتمّات وأدلة مستوفاة في كتب الفقه، والله أعلم.
فصل:
ينبغي أن يكون الذاكرُ على أكمل الصفات، فإن كان جالساً في موضع استقبل القبلة وجلس مُتذلِّلاً مُتخشعاً بسكينة ووقار، مُطرقاً رأسه، ولو ذكر على غير هذه الأحوال جاز ولا كراهةَ في حقه، لكن إن كان بغير عذر كان تاركاً للأفضل.
والدليل على عدم الكراهة قول الله تعالى: (إنَّ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لآيات لأولي الألباب.
الذين يذكرون الله قياما وَقُعوداَ وَعلى جُنوبِهمْ وَيَتَفكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَوَاتِ والأرْضِ.) [آل عمران: 190 - 191] .
10 -
وثبت في (الصحيحين)، عن عائشة رضي الله عنها قالت:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية: (ورأسه في حجري وأنا حائض) .
وجاء عن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت: (إني لأقرأ حزبي وأنا مضطجعةٌ على السرير) .
فصل:
وينبغي أن يكون الموضعُ الذي يذكرُ فيه خالياً (1) نظيفاً، فإنه أعظمُ في احترام الذكر المذكور، ولهذا مُدح الذكرُ في المساجد والمواضع الشريفة.
وجاء عن الإِمام الجليل أبي ميسرة رضي الله عنه قال: (لا يُذكر اللَّهَ تعالى إلَاّ في مكان طيّب) وينبغي أيضاً أن يكون فمه نظيفاً، فإن كان فيه تغيُّر أزاله بالسِّواك، وإن كان فيه نجاسة أزالها بالغسل بالماء، فلو ذكر ولم يغسلها فهو مكروهٌ ولا يَحرمُ، ولو قرأ القرآن وفمُه نجسٌ كُره، وفي تحريمه وجهان لأصحابنا: أصحُّهما لا يَحرم.
فصل:
اعلم أن الذكر محبوبٌ في جميع الأحوال إلا في أحوال وردَ الشرعُ باستثنائها نذكرُ منها هننا طرفاً، إشارة إلى ما سواه مما سيأتي في أبوابه إن شاء الله تعالى، فمن ذلك: أنه يُكره الذكرُ حالة ض الجلوس على قضاء الحاجة، وفي حالة الجِماع، وفي حالة الخُطبة لمن يسمعُ صوت الخطيب، وفي القيام في الصلاة، بل يشتغلُ بالقراءة، وفي حالة النعاس.
ولا يُكره في الطريق ولا في الحمَّام، والله أعلم.
فصل:
المرادُ من الذكر حضورُ القلب، فينبغي أن يكون هو مقصودُ الذاكر فيحرص
(1) أي: عن كلِّ ما يشتغل البال ويحصل من وجوده الاشتغال والوسواس.
(*)
على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه.
فالتدبُر في الذكر مطلوبٌ كما هو مطلوبٌ في القراءة لاشتراكهما في المعنى المقصود، ولهذا كان المذهبُ الصحيح المختار استحباب مدَّ الذاكر قول: لا إله إلا الله، لما فيه من التدبر، وأقوالُ السلف وأئمة الخلف
في هذا مشهورة، والله أعلم.
فصل:
ينبغي لمن كان له وظيفةٌ من الذكر في وقت من ليل أو نهار، أو عقب صلاة أو حالة من الأحوال ففاتته أن يتداركها ويأتي بها إذا تمكن منها ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يعرّضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سَهُلَ عليه تضييعها في وقتها.
11 -
وقد ثبت في (صحيح مسلم)، عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نامَ عَنْ حِزْبِهِ أَوْ عَنْ شئ منه فقرأه ما بَيْنَ صَلاةِ الفَجْرِ وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من اللَّيل) .
(فصل:
في أحوال تعرضُ للذاكر يُستحبّ له قطعُ الذكر بسببها ثم يعودُ إليه بعد زوالها) : منها إذا سُلِّم عليه ردّ السلام ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا عطسَ عنده عاطس شمَّته ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا سمع الخطيبَ، وكذا إذا سمع المؤذّنَ أجابَه في كلمات الأذان والإقامة ثم عاد إلى الذكر، وكذا إذا رأى منكراً أزاله، أو معروفاً أرشد إليه، أو مسترشداً أجابه ثم عاد إلى الذكر، كذا إذا غلبه النعاس أو نحوه.
وما أشبه هذا كله.
فصل:
اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها، واجبةً كانت أو مستحبةً، لا يحسب شئ منها ولا يُعتدّ به حتى يتلفَّظَ به بحيثُ يُسمع نفسَه إذا كان صحيح السمع لا عارض له.
فصل:
اعلم أنه قد صنَّف في عمل اليوم والليلة (1) جماعةٌ من الأئمة كتباً نفيسة، رَووا فيها ما ذكروه بأسانيدهم المتصلة، وطرَّقُوها من طرق كثيرة، ومن أحسنها (عمل اليوم والليلة) للإِمام أبي عبد الرحمن النسائي، وأحسن منه وأنفس وأكثر فوائد كتاب:(عمل اليوم والليلة) لصاحبه الإمام أبي بكر أحمد بن محمد بن إسحاق السني رضي الله عنهم.
وقد سمعتُ أنا جميعَ كتاب ابن السني على شيخنا الإمام الحافظ أبي البقاء
خالد بن يوسف بن سعد بن الحسن رضي الله عنه، قال: أخبرنا الإمام العلامة أبو اليَمن
زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن الكِنْدي سنة اثنتين وستمائة، قال: أخبرنا الشيخ الإِمام أبو الحسن سعد الخير بن محمد بن سَهْل الأنصاريّ، قال: أخبرنا الشيخُ الإِمام أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الدُّوني، قال: أخبرنا القاضي أبو نصر أحمدُ بن الحسين بن محمد بن الكسَّار الدَّينوري، قال: أخبرنا الشيخ أبو بكر أحمدُ بن محمد بن إسحاق السُّني رضي الله عنه.
وإنما ذكرتُ هذا الإسناد هنا لأني سأنقلُ من كتاب ابن السني إن شاء الله تعالى جُملاً، فأحببتُ تقديمَ إسناد الكتاب، وهذا مستحسنٌ عند أئمة الحديث وغيرهم، وإنما خصصتُ ذكر إسناد هذا الكتاب لكونه أجمع الكتب في هذا الفنّ، وإلا فجميعُ ما أذكرهُ فيه لي به رواياتٌ صحيحةٌ بسماعات متصلة بِحَمْدِ الله تَعالى إلا الشاذّ النادر، فمن ذلك ما أنقلُه من الكتب الخمسة التي هي أصول الإسلام، وهي:(الصحيحان) للبخاري ومسلم، و (سنن أبي داود) و (الترمذي) و (النسائي) .
ومن ذلك ما هو من كتب (المسانيد) و (السنن)(كموطأ الإمام مالك) ، و (مسند الإِمام أحمد بن حنبل) ، و (أبي عوانة) ، و (سنن ابن ماجه) ، و (الدارقطني) ، و (البيهقي) وغيرها من الكتب، ومن الأجزاء مما ستراه إن شاء الله تعالى.
وكلُّ هذه المذكورات أرويها - بحمد الله - بالأسانيد المتصلة الصحيحة إلى مؤلفيها، والله أعلم.
فصل:
اعلم أنَّ ما أذكرهُ في هذا الكتاب من الأحاديث أُضيفه إلى الكتب المشهورة وغيرها مما قدّمتُه، ثم ما كَانَ في صحيحي البخاري ومسلم أو في أحدهما أقتصرُ على إضافته إليهما لحصول الغرض وهو صحته، فإن جميعَ ما فيهما صحيح، وأما ما كَانَ في غيرهما فأُضيفُه إلى كتب السنن وشبهها مبيِّناً صحته وحسنه أو ضعفه إنْ كانَ فِيهِ ضعفٌ
في غالب المواضع، وقد أغفلُ عن صحته وحسنه وضعفه.
واعلم أن (سنن أبي داود) من أكثر ما أنقلُ منه، وقد روينا عنه أنه قال:(ذكرتُ في كتابي الصحيح وما يُشبهه ويُقاربه، وما كان فيه ضعف شديد بيّنته، وما لم أذكر فيه شيئاً فهو صالح، وبعضُها أصحّ من بعض) ، هذا كلام أبي داود، وفيه فائدة حسنة يحتاجُ إليها صاحب هذا الكتاب وغيرُه، وهي أن ما رواه أبو داود في (سننه) ولم يذكر ضعفَه فهو عنده صحيح أو حسن، وكلاهُما يُحتجّ به في الأحكام، فكيف بالفضائل.
فإذا تقرّر هذا فمتى رأيتَ هنا حديثاً من رواية أبي داود وليس فيه تضعيف، فاعلم أنه لم يضعِّفْه، والله أعلم.