الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم روى قول أَبى هُرَيْرَةَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ» .
(1)
ب) وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: فِيمَا الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟
أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ» .
(2)
** أهم الفوائد المستخرجة من حديث الباب:
1) الأولى:
بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله
تعالى:
للسلف في هذه المسألة قولان:
القول الاول:
قال به ابن جَرير الطبري وابن الجوزي، قالوا: أول المخلوقات هو القلم، واستدلوا على ذلك بأدلة:
1) حديث الباب، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
" إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ،
…
"
2) وعن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
«أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ عز وجل: الْقَلَمُ، فَأَخَذَهُ بِيَمِينِهِ -وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ- فَكَتَبَ الدُّنْيَا وَمَا يَكُونُ فِيهَا مِنْ عَمَلٍ مَعْمُولٍ، بِرٍّ أَوْ فُجُورٍ، رَطْبٍ أَوْ يَابِسٍ، فَأَمْضَاهُ عِنْدَهُ فِي الذِّكْرِ» ، ثُمَّ قَالَ:«اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]» .
(3)
القول الثاني:
أن العرش هو أول المخلوقات، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وشارحِ الطحاوية، وقال ابن حجرٍ نقلاً عن أبي العلاء الهمداني:
إنه قول الجمهور، ومال إليه ابن حجر، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قول كثير من السلف والخلف، واستدلوا
(1)
وقد علقه البخاري في كتاب القدر من الصحيح، بَابٌ: جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ (8/ 122)، وقد وصله في كتاب النكاح (5076) - بَابُ مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّبَتُّلِ وَالخِصَاءِ.
(2)
أخرجه مسلم (2648).
(3)
أخرجه الآجُرِّيّ في الشريعة (178)، وابن أبي عاصم في السنة (106)، وصححه الألباني في الصحيحة (3136).
على ذلك بأدلة:
1) حديث البخاري الذي سُئل فيه النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ، فقَالَ صلى الله عليه وسلم:«كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ» .
(1)
وجه الدلالة: أنه في وقت حدوث الكتابة الأزلية كان العرش على الماء، فدلَّ ذلك على أنه لمَّا خُلق القلم كان العرش مخلوقاً على الماء؛ فدل ذلك على أن العرش هو أول المخلوقات.
** قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"ولفظ الحديث المعروف عند علماء الحديث الذي أخرجه أصحاب الصحيح:
«كان اللهُ ولا شيءَ معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء»
وهذا إنما ينفي وجود المخلوقات من السماوات والأرض وما فيهما من الملائكة والإنس والجن، لا ينفي وجود العرش؛ ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن العرش متقدِّم على القلم واللَّوْح، مستدلّينَ بهذا الحديث".
(2)
…
يؤيد ذلك:
ما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً:
(3)
وهذا له حُكم الرفع؛ لأن هذا من الغيبيات التي لا تقال بالرأي.
** قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على حديث الباب -حديث عبادة بن الصامت- ما نصُّه:
"فهذا القلم خلقه لمّا أمرَه بالتقدير المكتوب قَبْلَ خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان مخلوقاً قبلَ خلق السماوات والأرض، وهو أولُ ما خلق
(1)
أخرجه البخاري (7418) ومسلم (2653)، واللفظ للبخاري.
(2)
مجموع الفتاوى (2/ 275).
(3)
أخرجه الدارميّ في الرد على الجهمية (44)، والآجري في الشريعة (351)، وصححه الألباني في مختصر العلوّ (ص 95).
من هذا العالَم، وخلقه بَعْدَ العرش كما دلت عليه النصوص، وهو قول جمهور السلف".
(1)
** وهذا هو الراجح -والله أعلم-، أن العرش أولُ المخلوقات.
** الرد على أدلة القول الأول:
ما استدلوا به من قوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ: الْقَلَمُ
…
»؛
فهذه الأولية لها توجيهانِ: إمّا أن تُحمل على الأولية النِّسْبيّة، أوتحمل على الأولية الظَّرْفِيّة:
أ) أما الأولية النسبية:
فهى ليست أولية مطلَقة، والمعنى: أن القلم ليس هو أول المخلوقات على الإطلاق، بل هو أول المخلوقات بالنسبة إلى ما عَدا العرش.
قال شيخ الإسلام:
"وهو -أي: القلمُ- أولُ ما خلق من هذا العالَم، وخلقه بعد العرش كما دلت عليه النصوص، وهو قول جمهور السلف".
(2)
ب) الأولية الظرفية:
والمعنى: أن الأولية إنما هي راجعة إلى الكتابة لا إلى الخَلْق، فيكون المعنى: أنه عند أَوَّلِ خَلْقِ القلمِ قِيلَ له: «اكتُبْ ما هو كائنٌ
…
».
-- ولذلك نظائرُ في الشرع واللغة:
أما في الشرع:
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ: أَنْ قَالَ:
(3)
فقوله رضي الله عنه: "وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ: أَنْ قَالَ
…
" أي: أول كلامه بالمدينة، وليس -بالطَّبْعِ- أولَ كلامه على الإطلاق.
* وأما في اللغة:
إذا قال عمرو: "أَوَّلَ ما رأيتُ زيداً أطعمتُه"، فهل معنى ذلك أنه رآه
(1)
مجموع الفتاوى (18/ 213).
(2)
مجموع الفتاوى (18/ 213)، وقد نص على مثله ابنُ كثير كما في البداية والنهاية (1/ 13). وانظرتوضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح النونية (1/ 377).
(3)
أخرجه أحمد (23835) والترمذي (2485)، وانظر صَحِيح الْجَامِع (7865).
للمرة الأولى؟! لا، فهو قد رءاه كثيراً من قبلُ، ولكنه في هذه المرة أولَ ما رآه أطعمَه.
…
قال خليل هرَّاس:
" قوله صلى الله عليه وسلم: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» ، قَالَ:«وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» صريحٌ أن التقدير إنما وقعَ بعد خلق العرش، والتقدير وقعَ عند أول خَلْق القلم، بلا مُهْلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ أولَ ما خلقَ اللهُ القلمَ، فقال له: اكتُبْ
…
»
يعني: أنه عند أول خلقه للقلم قال له "اكتب" بدليل الرواية الأخرى:
«أولَ ما خلقَ اللهُ القلمَ قال له: اكتب
…
» بنَصْب "أوّل" على الظرفية، ونصب "القلم" على المفعولية؛ وأما على رواية رفع "أوّل" و"القلم" فيتعيَّن حملُه على أنه أول المخلوقات من هذا العالَم -أي: عالَم الأقلام- ليتّفقَ الحديثانِ؛ إذْ حديث عبد الله بن عمرو صريحٌ في أن العرش سابق التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم، وفي اللفظ الآخَر:«لما خلق اللهُ القلمَ قال له: اكتبْ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة بقُدْرة الله عز وجل» .
(1)
قال ابن القيم:
والنّاسُ مختلفونَ في القلمِ الذي
…
كُتِبَ القضاءُ بِهِ مِنَ الدَّيّانِ
هَلْ كانَ قَبْلَ العرشِ أو هو قبلُهُ
…
قَوْلانِ عِنْدَ أبي العلا الهمداني
والحَقُّ أنَّ العرشَ قبلُ لِأَنَّهُ
…
عندَ الكتابةِ كان ذا أَرْكانِ.
(2)
…
تنبيه مهم:
إذا كان الخلاف في أول المخلوقات واقعاً فيما ذكرْنا أعلاهُ؛ فما هو مشتهرٌ بين العامّة من أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول خلْق الله تعالى هو مما لا يصح فيه دليل، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم أولَ خلقِ الله -تعالى- لكانت هذه مَنْقَبة وفضيلة عظيمة تقتضي أن يُظهرها النبي صلى الله عليه وسلم ويحدِّث بها أصحابَه رضي الله عنهم من باب قوله تعالى: {وَأَمَّا
(1)
الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية "شرح النونية"(1/ 168).
(2)
الكافية الشافية "نونية ابن القيّم"(ص/65).
بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، كما أخبرَهم صلى الله عليه وسلم أنه خَليل الرحمن، وأنه خيرُ وَلَدِ آدمَ عليه السلام.
(1)
* فإن قيل:
قد صح عن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أنه سئل: متى كُتِبْتَ نَبِيّاً؟
فقال: وآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ»
(2)
؟
فقد أجاب عن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال:
"مُراده صلى الله عليه وسلم: أن الله كتب نُبوته وأظهرَها وذكرَ اسمَه، ولهذا جعلَ ذلك في ذلك الوقت بعدَ خلْقِ جسد آدم وقبلَ
(1)
أما الحديث المشهور على ألسنة الصوفية وفي رسائلهم «أولُ ما خلقَ اللهُ هو نُورُ نبيِّكَ يا جابرُ
…
»
فهو حديث موضوع، لا أصل له في شيء من كتب الحديث، لم يثبت له سند متصل في كتب الحديث، حتى كُتب الموضوعات، وإنما هو مشتهر على ألسنة الصوفية ونحوِهم.
قال السيوطي في كتابه الحاوي للفتاوى (1/ 223): "هو حديث ليس له إسناد يعتمد عليه". ا. هـ.
وقال محمد زياد التكلة في كتابه "مجموع في كشف حقيقة الجزء المفقود من مصنف عبد الرزاق": "وهذا حديث باطل، لا أصل له. لعنَ الله واضعه! وفيه ما هو مصادم لعدة نصوص صريحة في القرآن الكريم والسنة الصحيحة في الخلْق وغيره، وليس في شيء من كتب الإسلام مُسنَداً". =
= كذلك يقال: ما ذُكر في الحديث السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور، فهذا كلام باطل؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ عليه السلام مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ ففي ذلك إشارة أن الملائكة فحسْب هم الذين خُلقوا من نور، دون آدم وبنيه.
* وكذلك هو خبر باطل؛ لمعارضته لبشرية النبي صلى الله عليه وسلم، إذْ من المقطوع به أنه صلى الله عليه وسلم من بني آدم، وآدم خُلق من طين لا من نور.
وانظر خصائص المصطفى بين الغلوّ والجَفا (ص/83 - 89)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (458).
وكان مبتدأ أمر هذا القول: عند متقدمي الإسماعيلية الباطنية، ففي كتبهم القديمة الكثير من الأحاديث المكذوبة في أن النبي-صلى الله عليه وسلم وعلياً رضي الله عنه قد خُلقا من نور الله.
انظر أصول الإسماعيلية للدكتور سليمان بن عبد الله السلومي (2/ 459).
*أما كونه نوراً بما جاء به من الهدى فهذا مما لا شك فيه، قال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، وقال تعالى:{وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 46].
(2)
أخرجه أحمد (20596) وصححه الألباني في صحيح الجامع (4581).
نفخ الرُّوح فيه، كما يُكتب رزق المولود وأجلُه وعملُه، وشقيٌّ هو أو سعيد بعدَ خلقِ جسده وقبلَ نفخ الرُّوح فيه".
(1)
…
من الفوائد المتعلقة بحديث الباب: مسألة القدر:
فقد ورد في حديث الباب: قوله صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ: الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
…
»، فدلَّ الحديث على أصل عظيم من أصول الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة، الذي هو إثبات القَدَر.
…
ومعنى (الإيمان بالقضاء والقدر) في الشرع:
هو الإيمان بتقدير الله تعالى الأشياءَ في القِدَم، وعِلمِه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عندَه، وعلى صفات مخصوصة، وكتابتِه لذلك، ومَشيئتِه له، ووُقوعِها على حَسَبِ ما قَدَّرَها، وخَلْقِه لَهُ.
(2)
وهذا مما دل عليه: القرآنُ، والسُّنَّة، وإجماع الأمة:
وأما القرآن:
فقد قال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، ولهذه الآية سبب في نزولها: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49].
(3)
وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، وقال عز وجل:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].
** وأمَّا السُّنَّة:
فقدْ عقدَ أئمة الحديث -كالبخاري ومسلم في صحيحَيْهِما كتاباً للقدر، اشتمل على عدة أحاديث في إثبات القدر، نذكر منها ما يلي:
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:
«احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا، خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ لَهُ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلامِهِ،
(1)
الجواب الصحيح لمن بدَّلَ دين المسيح (ص/382).
(2)
القضاء والقدر (ص/ 39) - د. عبد الرحمن المحمود.
(3)
أخرجه مسلم (2656)، وانظر أسباب نزول القرآن للنيسابوري (ص/419).
وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى -ثَلاثاً-»
(1)
2) عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
(2)
3) عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: "لَقَدْ خَطَبَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئاً إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ، عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ، وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ".
(3)
4) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(4)
.
5) وعن عَبْد اللهِ بْن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ، أَوِ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ» .
(5)
…
مراتب الإيمان بالقدر:
1 -
المرتبةُ الأولى: العِلْمُ:
وهو علم الله الأَزَلِيُّ في كلِّ ما هو كائنٌ، فإنَّ كلَّ كائنٍ قد سبقَ به علمُ الله أَزَلاً، ولا يتجدَّد له علْمٌ بشيءٍ لَم يكن عالِماً به أزلاً، قال تعالى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110].
وذلك يقتضي الإيمانَ بعلم الله عز وجل المُحيط بكل شيء من الموجودات والمعدومات، والمُمْكِنات والمستحيلات، فعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو
(1)
متفق عليه. وقد تم شرح هذا الحديث شرحاً مفصلاً في الحديث السادس، ضمن هذا الكتاب، حديث "المنهاج شرح حديث الاحتجاج"
(2)
متفق عليه.
(3)
متفق عليه.
(4)
متفق عليه.
(5)
أخرجه مسلم (2655)
كان كيف يكون، وأنه عَلِمَ ما الخَلْقُ عاملون قبلَ أن يخلقهم، وعلمَ أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في
جميع حركاتهم وسَكَناتهم، وشقاوتهم وسعادتهم، ومَن هو منهم من أهل الجنة ومَن هو منهم من أهل النار، مِن قَبْلِ أن يخلقهم، ومِن قبل أن يخلق الجنة والنار، عَلِمَ دقّ ذلك وجَليله، وكثيره وقليله، وظاهره وباطنه، وسِرَّه وعلانيته، ومبدأه ومُنتهاه، كل ذلك بعلمه الذي
هو صِفَتُه ومقتضَى اسمِه العليم الخبير عالم الغيب والشهادة علَّام الغيوب، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
…
} [الحشر: 22].
(1)
وقد اتَّفَقَ على الإيمان بالعلم السابق الرُّسُلُ عليهم الصلاة والسلام من أوّلِهم إلى خاتمهم، واتفق عليه جميع الصحابة ومَن تَبِعهم من الأمّة، ولم يخالِفْ إلا مَجُوسُ الأمّة، غُلاةُ القَدَريّة.
(2)
** أقسام علم الله:
(الله عز وجل يعلم ما كان، وما هو كائن، ويعلم ما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون)
والله تعالى يعلم ما كان من الأمور التي مَضَتْ منذُ بَدْءِ الخَلْق والآجال، ويعلم ما هو كائن، قال الله:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، ويعلم ما سيكون، قال تعالى:
والله -تعالى- يعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون، بمعنى: أن الله -تعالى- يعلم الأمور التي ما قدَّرَها، لو وقعتْ فكيف سيكون حال وقوعها.
(1)
مَعارج القَبول (3/ 920).
(2)
شفاء العليل (ص/29).
* قال ابن كثير:
"أخبر الله -تعالى- بأنه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا، كما قال تعالى:
{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، وقال تعالى:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66 - 68] والآيات في هذا كثيرة".
(1)
** ومن السّنّة::
عن أبي هُريرةَ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن أولاد المشركين، فقال:
«الله أعلمُ بما كانوا عاملينَ»
(2)
.
* قال النووي:
"وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما كانوا عاملين» بيانٌ لمذهب أهل الحق أنّ الله عَلِمَ ما كان، وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف كان يكون، وقد سبق بيان نظائره من القرآن والحديث".
(3)
…
إشكال والرد عليه:
قول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقوله تعالى:{لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]، وقوله تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]، وأمثال هذه الآيات مُشْكِلة في الفهم؛ لِأنَّ ظاهرها قد يفهم منه تجدُّد علم الله عز وجل بعد وقوع الفعل؟
* والرد على ذلك مِن وجهينِ:
1 -
الأول هو ردٌ إجمالي، فنقول:
إنَّ غُلاة القدرية قد تعلَّقوا بمثل هذه الآيات في زعمهم أنّ علم الله -تعالى- بأفعال العباد مستأنَف، وأن الله لا يعلم الشيء إلا بعد
(1)
تفسير القرآن العظيم (4/ 160).
(2)
متفق عليه.
(3)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجّاج (16/ 211).
وقوعه؛ فهؤلاء كَفَرةٌ بلا شكٍّ لإنكارهم ما دلَّ الكتابُ والسنة عليه دلالةً قطعيةً، وأجمعَ المسلمون على أزلية علم الله.
فمثل هذه الآيات إنما هي من المتشابه الذي يُرَدُّ إلى المُحْكَم من الأدلة التي دلت أنّ علم
الله -تعالى- واسع وشامل لكل شيء، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فهذا عموم
لا يقبل أي تخصيص.
* ثانياً، وهو ردٌ تفصيلي:
قال ابن عثيمين: "إن المراد بالعلم في هذه الآيات شيئانِ:
أ) الأول:
علم رؤيةٍ وظُهورٍ ومُشاهَدةٍ، أي: لِنَرَى، ومعلومٌ أنّ عِلم ما سيكون ليس كعلم ما كان؛
لأن علم الله -تعالى- بالشيء قبل وقوعه: علمٌ بأنه سيقع، ولكنْ بعدَ وقوعه:
علمٌ بأنه وَقَعَ.
ب) الثاني:
أن المراد بالعلم إنما هو: الذي يترتب عليه الجزاء، أي: لِنَعْلَمَ عِلماً يترتب عليه الجزاء، وذلك كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ
…
} [محمد: 31].
قَبْلَ أن يبتليَنا قد علمَ مَن هو المطيع ومَن هو العاصي؛ ولكن هذا لا يترتب عليه لا الجزاءُ ولا الثوابُ".
(1)
* قال القُرطبي:
"قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}. وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء؛ لأنه إنما يُجازيهم بأعمالهم، لا بعلمه القديم عليهم، فتأويلُه: "حتّى نَعْلَمَ المجاهدينَ عِلْمَ شَهادةٍ"، لِأنّهم إذا أُمِرُوا بالعمل يَشْهَدُ منهم ما عَمِلوا؛ فالجزاء بالثواب والعقاب يقعُ عَلَى علم الشهادة، "ونبلوَ أخباركم": نختبرها ونُظهرها". ا. هـ
(2)
(1)
تفسير الكهف (ص/24)
قلت:
بيان ذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]،
فلو أن الله -تعالى- عاقب أهل الكفر والعصيان بناءً على علمه الأزليّ السابق فيهم لَقالوا: لو جاءتنا الرسل لكُنّا مؤمنينَ؛ وهذه دعاوى كاذبة، فهم كما قال الله -تعالى- فيهم: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا
…
} [الأنعام: 25].
(2)
الجامع لأحكام القرآن (16/ 254).
*قال الشنقيطي:
"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ
…
} [البقرة: 143]، ظاهرُ هذه الآية قد يَتَوَهَّمُ منه الجاهلُ أنه -تعالى- يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يَعْلَمُهُ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، بل هو -تعالى- عالمٌ بكل ما سيكون قبل أن يكون، وقد بيَّن أنه لا يستفيد بالاختبار علماً لم يكن يعلمه بقوله -جل وعلا-: {
…
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]
فقوله: {والله عليم بذات الصدور} بعد قوله: {ليبتلي} دليلٌ قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئاً لم يكن عالماً به، سبحانه، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً; لأن العليم بذات الصدورغنيٌّ عن الاختبار".
(1)
* المرتبة الثانية: الكتابة:
وهو الإيمان بأن الله -تعالى- كتبَ كل شيء في اللوح المحفوظ، فكل ما يكون من الذوات، والصفات والأقوال والأفعال، والحَرَكات والسَّكَنات، والرطب واليابس مكتوبٌ.
ودليل ذلك من القرآن:
قال الله -تعالى-: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، وقال سبحانه:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22]، وقال سبحانه:
…
{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج: 70]، والمراد بالكتاب في هذه الآية هو اللوح المحفوظ، وهذه الآية فيها: إثبات العلم، وإثبات الكتابة.
وقال سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12]، وهو اللوح المحفوظ.
وَقَدْ قَالَ تعالى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:
(1)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 46).
34]
(1)
، وقال سبحانه:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].
*ودليل ذلك من السّنّة:
1) حديث الباب، وفيه قال الرَّسُول صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ: الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
2) وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ-رضى الله عنهما - قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
" كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ "
(2)
.
* قال النووي:
"قال العلماء: المُراد: تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو
(1)
أي: إن الإنسان لا يأخذ في هذه الدنيا إلا ما كتب له من الرزق والأجَل، فإذا جاء أجله لا يتقدَّم ولا يتأخر، فلكل إنسان أجلٌ محدد، حتى الذي قُتل ظلماً وعدواناً قد انتهى أجله، خلافاً للمعتزلة الذين يقولون: إن المقتول لو لم يُقتل لَعاشَ. فنحن نقول: بل المقتول قد انتهى أجلُه، لكن الأسباب مختلفة، فهذا أجله ينتهي على فراشه، وذاك أجله ينتهي بالمرض، وهذا أجله ينتهي بأن يُقتل، فالمقتول ميِّت بأجله. =
=، وقد ذهب بعض المعتزلة إلى أن القاتل قد قطع أجل المقتول، ولا شك في بطلان زعمهم.
وقد سئل شيخ الإسلام عن المقتول: هل مات بأجله، أم قطع القاتلُ أجله؟
فقال رحمه الله:
"المقتول كغيره من الموتى، لا يموت أحد قبل أجله، ولا يتأخر أحد عن أجله.
والله يعلم ما كان قبل أن يكون، وقد كتب ذلك، فهو يعلم أن هذا يموت بالبطن أو ذات الجَنْب أو الغَرَق أو غير ذلك من الأسباب، وهذا يموت مقتولاً.
ولو لم يُقتل المقتول: قال بعض القدرية: إنه كان يعيشُ. وقال بعض نفاة الأسباب: إنه يموت.
وكلٌّ منهما خطأ؛ فإنّ الله علمَ أنه يموت بالقتل، فإذا قدر خلاف معلومه كان تقديراً لما لا يكون لو كان كيف كان يكون، وهذا قد يعلمه بعض الناس، وقد لا يعلمه، فلو فرضْنا أنّ الله علمَ أنه لا يُقتل أمكنَ أن يكون قدّر موته في هذا الوقت، وأمكنَ أن يكون قدّر حياته إلى وقت آخرَ؛ فالجزْم بأحد هذين -على التقدير الذي لا يكون- جهلٌ. وانظر مجموع الفتاوى (8/ 518) والعقائد النسفية (ص/234).
قلتُ: وعليه، فمن الأخطاء الشائعة على ألسنة بعض الناس: قولهم: "لو صبر القاتل على المقتول لَماتَ وحدَه"، فالصواب أن القاتل لو لم يُقدم على قتل المقتول، لجاز أن يموت في ذلك الوقت، وألا يموت، فعليه فلا يجزم بأحد الأمرين.
(2)
أخرجه مسلم (2653) والترمذي (2156).
غيرِه، لا أَصْلِ التقدير؛ فإنّ ذلك أزليٌّ لا أَوَّلَ له".
(1)
قال ابن القيم:
"وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أنّ كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أُمِّ الكتاب".
(2)
** وهنا سؤال: هل هذه المرتبة من مراتب القدر -التي هى الكتابة- تَقْبَلُ التغيير؟
الجواب:
أما المكتوب في أُمّ الكتاب -وهو اللوح المحفوظ- فهذا لا تتغير الكتابة الموجودة فيه،
وأما الكتابة التي هي في أيدي الملائكة من الصُّحُف فإنّ الله -تعالى- يمحو منها ما يشاء ويُثْبِتُ، وهذا معنى قوله -تعالى-:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، والمراد بأم الكتابِ: اللوح المحفوظ، فاللوح المحفوظ لا يتغير شيء مما كُتِبَ فيه، وأما ما في الصحف التي مع الملائكة فهذه التي يقع فيها المَحْوُ والتغيير.
والملائكة يكتبون ما يؤمرون به من آجالٍ وأرزاقٍ، كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ فِي أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ،
ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ عز وجل إِلَيْهِ الْمَلَكَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: عَمَلُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ»
(3)
؛ فالمحو والإثبات بالنسبة لِما في علم المَلَك؛ وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله -تعالى- فلا مَحْوَ فيه البَتَّةَ، ويقال له: القَضاء المُبْرَمُ، ويقال للأوّل: القضاء المُعَلَّق.
(4)
…
وعليه فالقضاءُ نوعانِ:
1) قضاءٌ مُبْرَمٌ:
وهو القدر الأزليّ، وهو لا يتغير، كما قال -تعالى-: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (16/ 203) وتحفة الأحوذي (5/ 444) وفيض القدير شرح الجامع الصغير (4/ 510).
(2)
شفاء العليل (ص/41).
(3)
متفق عليه.
(4)
فتح الباري (10/ 416).
لَدَيَّ} [ق: 29]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأُمّ حَبيبةَ رضي الله عنها:«قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئاً قَبْلَ حِلِّهِ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئاً عَنْ حِلِّهِ»
(1)
.
قال النوويّ:
"إن الآجال والأرزاق مقدَّرة لا تتغير عمّا قدَّره الله -تعالى- وعَلِمَه في الأزل، فيَستحيلُ زيادتُها ونَقْصُها -حقيقةً- عن ذلك".
(2)
2) قضاء معلَّق:
وهو الذي في الصُّحُف التي في أيدي الملائكة، فإنه يقال: اكْتُبوا عُمُرَ فُلانٍ إنْ لم يتصدَّقْ: كذا، وإنْ تصدَّقَ فهو كذا، وفي عِلم الله وقدره الأزليّ أنه سيتصدق أو لا يتصدق.
فهذا النوع من القدر يَنفع فيه الدعاء والصدقة؛ لأنه معلَّق عليهما، وهو المراد بقوله -تعالى-: {
…
لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 38 - 39]؛ وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
««لَا يَرُدُّ القَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي العُمْرِ إِلَّا البِرُّ» .
(3)
(1)
أخرجه مسلم (2663).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (16/ 213).
(3)
شفاء الضرر بفهم القضاء والقدر (1/ 3).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية سؤالاً طويلاً، وفيه: هل شُرع في الدعاء أن يقول: اللهم إن كنت كتبتني كذا فامحني واكتبني كذا، فإنك قلتَ: = = {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} ؟ وهل صح أن عمر كان يدعو بمثل هذا؟ فكان مما أجاب به رحمه الله:
"والجواب المحقَّق: أن الله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصلَ رحمَه زاد في ذلك المكتوب، وإنْ عملَ ما يُوجِب النقصَ نقصَ من ذلك المكتوب
…
وهذا معنى ما رُوي عن عمر أنه قال:
"اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني واكتبني سعيداً، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت"ـ والله سبحانه عالم بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم ما كتبه له، وما يَزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علّمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها، فلهذا قال العلماء: إنّ المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف، ولا يبدو له ما لم يكن عالماً به، فلا محو فيه ولا إثبات، وأما اللوح المحفوظ فهل فيه محو وإثبات؟ على قولين، والله سبحانه وتعالى أعلم". ا. هـ. مجموع الفتاوى (14/ 491).
وقال ابن القيم:
"المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه: الدعاء، فلم يقدَّر مجرَّداً عن سببه، ولكن قُدر بسببه، فمتى أتى العبد بالسبب وقعَ المقدورُ، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور، وهكذا، كما قدر الشبع والرِّيّ بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول الزرع بالبذر
…
وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعوّ به لم يصحَّ أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب". اهـ. الجواب الكافي (ص/17).
*وقال الغزالي: "فإن قيل: ما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مَرَدَّ له؟
فاعلم أنّ مِن جملة القضاء: رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سبب رد البلاء ووجود الرحمة، كما أن البذر سبب لخروج النبات من الأرض، وكما أن الترس يدفع السهم؛ كذلك الدعاء يرد البلاء". اهـ. وانظر كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه للسندي (1/ 47).
* قلت:
وعلى ذلك يُحْمَلُ ما وردَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعاً:
«لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصاً مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟
قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلاً مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ، يُقَالُ لَهُ: دَاوُدُ، فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟
قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟
…
»
(1)
، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحَمَه»
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (2270) والترمذي (3368)، قال:"هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(2)
أخرجه مسلم (2557).
قال الإمام النووي في شرح مسلم (8/ 356): "قوله صلى الله عليه وسلم:
«من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» :
"يُنسأ": مهموز، أي: يؤخَّر، و"الأَثَر": الأجل؛ لأنه تابع للحياة في أثرها، وبسط الرزق: توسيعه وكثرته، وقيل: البركة فيه؛ وأما التأخير في الأجل ففيه سؤال مشهور، وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة لا تزيد ولا تنقص، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]،
وأجاب العلماء بأجوبةٍ، الصحيح منها: =
=الأول:
أن هذه الزيادة: بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها من الضياع في غير ذلك.
الثاني:
أنه بالنسبة إلى ما يَظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك، فيَظهر لهم في اللوح "أن عمره ستون سنة، إلا إن يصل رحمه، فإنْ وصلَها زيد له أربعون"، وقد علم سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك، وهو في معنى قوله تعالى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، فيه النسبة إلى علم الله تعالى وما سبق به قدرُه، ولا زيادة، بل هي مستحيلة، وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقينَ تُتصور الزيادة، وهو مراد الحديث، والله أعلم.
قال أبو العباس ابن تيمية:
" ما كتبه الله -تعالى- وأعلمَ به الملائكةَ فهذا يَزيدُ ويَنْقُصُ بِحَسَبِ الأسباب، فإنّ الله يأمر الملائكة أن تكتب للعبد رزقاً، وإنْ وَصَلَ رَحِمَهُ زاده الله على ذلك، كما ثبتَ في الصحيح عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال:
…
«مَن سرَّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فلْيصلْ رحمه»
وكذلك عُمُرُ داودَ زاد ستّينَ سنةً، فجعله الله -تعالى- مئةً بعدَ أن كان أربعين، رواه الترمذي وغيره-، ومن هذا الباب: قول عُمرَ:
"اللهم إنْ كتبْتَني شقيّاً فامْحُنِي واكْتُبْنِي سعيداً، فإنّك تمحو ما تشاء وتُثْبِتُ" ".
(1)
3 -
المرتبة الثالثة: المشيئةُ:
المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر هي المشيئة، المشيئة النافذة، أي: الماضية التي لا رادَّ لها. مِنْ: نَفَذَ السَّهْمُ نُفُوذاً إذا خَرَقَ الرَّمِيّة، فهي نافذة.
فهذه المرتبة هي إثبات نُفوذ قدرته ومشيئته وشمول قُدرته، وهي الإيمان بأنّ ما شاء الله: كانَ، وما لم يشأ: لم يَكُنْ، فما في السماوات وما في الأرض من حركةٍ ولا سكون إلا بمشيئة الله، ولا يكون في مُلْكِه ما لا يُريدُ البَتَّةَ.
** وهذه المرتبة ثابتةٌ بالكتاب، والسنة، وأجمع عليها سلف الأمة:
قال -تعالى-:
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 540)، وانظر تأويل مختلف الحديث (ص/238)، مشكل الآثار (8/ 81، 82).
قلتُ:
وأثر عمر رضي الله عنه مشهور، قد رواه ابن بطة في الإبانة (1565) واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (1207).
وقول عمر هذا يتنزل على ما في علم الملائكة، لا على ما في أم الكتاب، فإنه قال رضي الله عنه بعد تلك الدعوة:"فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب". وممن دعا بمثل هذه الدعوة: ابنُ مسعود كما في مصنف ابن أبي شيبة (6/ 68) وابنُ الزبير كما في أخبار مكة (1/ 462).
{وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23]، وقال الله -تعالى-:{وَلَوْ شَاء اللهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، وقال اللهُ عز وجل:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29].
*ومن السنة:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضى الله عنهما- أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللهُ، وَشِئْتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
" أَجَعَلْتَنِي وَاللهَ عَدْلًا، بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ ".
(1)
ومذهب أهل السنة والجماعة:
أن الله عز وجل مُرِيدٌ لجميع أعمال العباد خَيْرِها وشَرِّها، ولم يؤمن أحدٌ إلا بمشيئته، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
…
} [هود: 118]، ولو شاء ألّا يُعْصَى لَما خَلَقَ إبليسَ؛ فكُفْر الكافرينَ، وإيمان المؤمنينَ بقضائه سبحانه وتعالى وقدرِه وإرادتِه ومشيئتِه، أراد كلَّ ذلك، وشاءه، وقَضاهُ.
(2)
وأهل السُّنَّة والجماعة وسَطٌ في هذه المرتبة بين الجبرية الغُلاة في إثبات مشيئة الرب، والقدَرية النُّفاة لمشيئته عز وجل.
فإنَّ أهل السنة والجماعة أثبتوا للرَّبِّ مشيئةً عامَّة، وأثبتوا للعبد مشيئةً، وجعلوا مشيئةَ العبد تابعةً لمشيئة الله تعالى، كما قال الله عز وجل:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]، فلا يقع في مُلك الله ما لَم يشأْه الله -تعالى-. وبهذا يُجابُ عن السؤال الذي يتكرَّر طرحُه، وهو: هل العبدُ مُسَيَّرٌ أو مُخيَّر؟
فلا يُقال: إنَّه مسَيَّرٌ بإطلاقٍ، ولا مُخيَّرٌ بإطلاقٍ، بل يُقال:
إنَّه مُخيَّرٌ باعتبار أنَّ له مشيئةً وإرادةً، وأعماله كسبٌ له، يُثاب على حَسَنها ويُعاقَب على سيِّئها، وهو مسيَّرٌ باعتبار أنَّه لا يحصُل منه شيءٌ خارجٌ عن مشيئة الله وإرادته وخلْقه وإيجاده.
(1)
أخرجه البخاري في " الأدب المفرد "(787) وأحمد (1839) وانظر الصحيحة (ح: 139)
(2)
عقيدة السلفِ وأصحابِ الحديث (ص/285).
وبيان ذلك في قَول الرسول صلى الله عليه وسلم:
«اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» ، ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى} [الليل: 6] الآيَةَ.
(1)
وكلُّ ما يحصلُ من هداية وضلال: هو بمشيئة الله وإرادته، قال -تعالى-:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]
وقد بيَّن الله -عزوجل- للعباد طريقَ السعادة وطريق الضلالة، وأعطاهم عقولاً يُميِّزون بها بين النافع والضارّ، فمَن اختار طريقَ السعادة فسلكَه انتهى به إلى السعادة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته، التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك فضلٌ من الله وإحسانٌ، ومَن اختار طريقَ الضلالة وسلكَه انتهى به إلى الشقاوة، وقد حصل ذلك بمشيئة العبد وإرادته، التابعة لمشيئة الله وإرادته، وذلك عَدْلٌ من الله سبحانه، قال الله عز وجل:{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8 - 10]، أي: طريقَي الخير والشرِّ.
وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: 3]، وقال:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف: 17].
4 -
المَرْتَبة الرابعة: الخَلْقُ:
وهى مرتبة ثابته بالقرآن والسنة وإجماع الأمة:
قال -تعالى-: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال تعالى {
…
أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96]
(2)
، وقال -تعالى-:{اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
(1)
متفق عليه.
(2)
وقد وقع الخلاف في تأويل قوله تعالى: {وما تعملون} ، هل (ما) هنا مصدرية، فيكون المعنى: خلقكم وخلقَ أعمالَكم، أم هي موصولة، ويكون المعنى: خلقكم وخلقَ الذي تعملون من أصنام وغيرها؟
1 -
القول الأول:
1 -
أنها مصدرية: فيكون المعنى: "والله خلقكم، وخلق عملكم وفعلكم، "قال البخاري: "باب أفعال العباد، ثم روى عن حذيفة رضي الله عنه-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته» ، وتلا بعضهم عند ذلك:{والله خلقكم وما تعملون} [الصافات: 96]، فأخبر أن الصناعاتِ وأهلَها مخلوقةٌ. ا. هـ
وقد ذهب من أهل السنة إلى ترجيح أنها مصدرية لإثبات أن أفعال العباد مِن خلق الله؛ وفي ذلك إبطال لمذهب القدرية.
2 -
القول الثاني:
2 -
أنها موصولة: فيكون المعنى: والله خلقك، وخلق ما تصنعونه من أشياء، كالأصنام وغيرها.
والراجح -والله أعلم- أنها موصولة؛ لأن السياق يقتضي ذلك، فإن إبراهيم عليه السلام إنما يقرر فساد عملهم في أنهم يعبدون ما هو مخلوق مثلهم.
وتأملْ في أول الآيات يخبرْك عن آخرها، فإنه أولاً {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95]، فالخطاب متوجِّهٌ لما يعبدون مما صنعتْه أيديهم؛ فيكون المعنى: أتعبدون ما تنحِت أيديكم، والله خلقكم وإياها؟!
* وأما القول بأنها مصدرية، أي: خلقكم وعملكم، فسياق الآية يأباه، لأن إبراهيم عليه السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت لا النحت، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله تعالى، ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقاً له، بل الخشب أو الحجر لا غير.
قال ابن القيم:
"أما استشهاد بعضهم بقوله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون} بحمْل "ما" على المصدر، أي: "خلقكم وأعمالَكم" فالظاهر خلاف هذا، وأنها موصولة، أي: خلقكم وخلق الأصنام التي تعملونها؛ فهو يدل على خلق أعمالهم من جهة اللزوم، فإنّ "الصنم" اسم للآلهة التي حل فيها العمل المخصوص، فإذا كان مخلوقاً لله كان خلقه متناوِلاً لمادّته وصورته". ا. هـ
* ثم قال رحمه الله:
"فإن كانت "ما" مصدرية -كما قدَّره بعضهم- فالاستدلال ظاهر، وليس بقويّ؛ إذ لا تناسُب بين إنكاره عليهم عبادةَ ما ينحتونه بأيديهم وبين إخبارهم بأن الله خالقُ أعمالهم من عبادة تلك الآلهة ونحْتها وغير ذلك؛ فالأَوْلى: أن تكون "ما" موصولة، أي: والله خلقكم وخلقَ آلهتكم التي عملتموها بأيديكم، فهي مخلوقة له، ليس فيها أنه يبرر شركَهم بالله، ويقول: إنّ عملكم مخلوق لله، فأنتم بريئون من اللوم عليه! كلّا! لأننا لو قلنا ذلك لكان يحتجّ لهم ولا يحتج عليهم، ولكنْ هو يحتج عليهم، وليس يحتج لهم". ا. هـ.
* تنبيه:
قد رجَّح الزمخشري أنها موصولة، ولكنه أراد بذلك نصرة مذهبه الاعتزالي الذي يتبنى القول بأن أفعال العباد مِن خلقِهم هم، فقال وهو يرمي أهل السنة بالجبر:"فإن قيل: فما أنكرتَ أن تكون " ما " مصدرية لا موصولة، ويكون المعنى: " والله خلقكم وعملكم "، كما تقول المجبرة!! =
= *وانظر لما سبق:
درء التعارض (3/ 260) وشفاء العليل (ص/110) والكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 51) وخلق أفعال العباد (ص/33) ومباحث الربوبية (ص/190).
[الرعد: 16]، وقال عز وجل:{وهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]،
* ومن السنة:
عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
" إِنَّ اللهَ خَلَقَ كُلَّ صَانِعٍ
وَصَنْعَتَهُ "
(1)
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كان يقول: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكَّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليها ومولاها
…
»
(2)
،
والشاهد من هذا الحديث هو قوله: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكَّها
…
»؛ فالفاعل هو الله -تعالى-، فهوالذي يُطلب منه ذلك.
قال أبو العباس ابن تيميةَ:
"ومما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع إيمانهم بالقضاء والقدر، وأن الله خالقُ كلِّ شيء، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه يُضل من يشاء، ويَهدي من يشاء
…
"
(3)
.
…
وهُنا إشكال في قوله -تعالى-: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، فهل مِن خالقٍ مع الله؟
*والجواب أن يقال:
أنّ الخلق يطلق على فِعل الرب، ويُطلَق كذلك على فعل العبد، فأما إطلاق الخلق في فعل الله - تعالى - فعلى معنيين:
1 -
المعنى الأول: خلقٌ هو إيجاد من العدم:
وهذا لا يكون إلا لله - تعالى- وحده، وهذا ما ورد في قوله تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17]، وقال -تعالى- بعد ذكره لخلق السماوات والجبال (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (لقمان: 11)، وقوله عز وجل في الحديث القدسي:
…
(4)
2 -
المعنى الثاني: خلقٌ هو 2 - خلق خلق إيجادلعدم:
:
2 -
المعنى الثاني: خلقٌ هو تحويل الشيء من صورة إلى صورة:
فيكون إطلاق لفظ "الخلق" هنا بمعنى الصنع والتقدير، فالعرب تسمِّي كل صانع خالقاً: وهذا المعنى
(1)
أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (25) وابن أبي عاصم في السنة (257، 358)، وصححه الألباني في الصحيحة (1637).
(2)
رواه مسلم (2722).
(3)
مجموع الفتاوى (8/ 459).
(4)
أخرجه البخاري (7559).
يقع في فعل الله تعالى، ويقع في فعل العبد، ولكنَّ الفرق كبير.
كما في قول زهير بن أبي سلمى:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ
…
وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي.
والمعنى: أنت تنفذ ما خلقت أي: قدرت بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع كل ما يريد، فالخلق التقدير، والفري التنفيذ.
وكذلك يقع معنى "الخلق " على المعنى الثاني في فعل العبد، كما في قول إبراهيم عليه السلام لقومه: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً
…
} [العنكبوت: 17]، أَي تقدرونه وتهيئونه، فسمّى نَحْتَهم للأصنام "خَلقاً".
كذلك ما قد وردَ من فعل عيسي عليه السلام: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ
…
} [آل عمران: 49]
فسمَّى فعله حين حوَّل الطين إلى هيئة الطير سمَّاه خلقاً.
* ومن السنة:
ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:
(1)
ومعلوم أنَّ المصوِّر لم يوجِد شيئاً من العدم، إنما حوَّلَ الطينَ أو الحَجَرَ إلى صورة إنسان أو طير.
وعلى هذا المعنى الثاني يُحمل قوله تعالى {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ، فيكون المعنى المراد:" تبارك الله أحسن المقدِّرين ".
ومما يؤيد ذلك:
أن الله تعالى إنما ذكر قوله عزوجل (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)) (المؤمنون: 14)، وقوله عزوجل (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)) (المرسلات: 23)، بعد ذكره لمراحل خلق الإنسان في الموضعين، فتامل.
قال مجاهد في قوله تعالى {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] قال:
" يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين ".
(2)
قال القرطبي:
"يقال لمن صنعَ شيئاً: خَلَقَهُ، ولا تُنفى اللفظة عَنِ البَشَرِ في معنى
(1)
متفق عليه.
(2)
جامع البيان عن تأويل آي القرآن (17/ 25)
الصُّنْع؛ وإنما هي منفيّة بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم.
(1)
قال ابن الجوزي:
الخلق يكون بمعنى الإِيجاد، ولا موجِد سوى الله، ويكون بمعنى التقدير،
فهذا المراد في قوله: " أَحْسَنُ الْخالِقِينَ "، أن بني آدم قد يصوِّرون ويقدِّرون ويصنعون الشيء، فالله -تعالى- خير المصوِّرين والمقدِّرين، وقال الأخفش: الخالقون ها هنا هم الصانعون، فاللهخير الخالقين".
(2)
* المُنازِعونَ في مَراتِب القدر:
أولاً القدرية:
فرقة القدرية هي أولُ من نازعَ في هذه القضية العَقَدِيّة، حيث قامت أصولُهم على نفي خلق الله لأفعال العباد من خير وشر وطاعة ومعصية، وأن الله -تعالى- لم يقدِّرْها ولم يشأْها ولم يخلُقْها، ويزعمون أن الله -تعالى- أمرَ ونهى وهو لا يعلم مَن يطيعه ولا مَن يعصيه، وأن الأمر أُنُفٌ، أي: مستأنَف، أي: لم يَسْبِقْ به قَدَرٌ ولا عِلمٌ من الله -تعالى-، وإنما يَعلمه بعد وقوعه.
** والقدرية قسمان: غلاة، ومتوسِّطونَ:
أ) الغلاة المتقدِّمون:
أنكروا المرتبتين الأُولَيَيْنِ (علم الله، وكتابته)، وهذا القول هو أولُ ما حدثَ في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وكان أول من أظهرَ ذلك بالبَصْرَةِ معبد الجهنيّ، وأخذَ عنه هذا المذهبَ غيلان الدمشقيّ؛ فردَّ عليه بقية الصحابة، كعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم رضي الله عنهم.
وهؤلاء الغلاة المتقدِّمون الذين أنكروا علم الله وكتابته لأفعال العباد هم الذين كفَّرَهم الأئمة، كمالك والشافعي وأحمد، وقال فيهم الإمام الشافعي:
"ناظِروا القدريةَ بالعلم، فإنْ أقرُّوا به خُصِموا، وإنْ أنكرُوه كفروا"، وقال مثلَه عمرُ بن عبد العَزيز.
(3)
(1)
الجامع لأحكام القرآن (12/ 110).
(2)
زاد المسير في علم التفسير (3/ 258)
(3)
يقال للقدري: أتؤمن أنَّ الله يعلم ما كَانَ وما سيكون إِلَى قيام الساعة، ويَعلم من سيطيعه ومن سيعصيه؟ فإذا أقرَّ بهذا خُصِمَ، حينئذ يقال له: مَن علمَ ذلك أليس هو الذي خلقَه؟! أليس هو الذي أوجدَه؟!
أليس مبنياً عَلَى العلم، والعلم مقتضاه الحكمة والعدل والرحمة؟! وإذا أنكروا علم الله كفروا؛ لأنهم أنكروا ما هو معلوم من كتاب الله وعند جميع الْمُسْلِمِينَ بالضرورة.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي رحمه الله وسأله عليّ بن الجهم عن: مَن قال بالقدر يكون كافراً؟ قال: "إذا جحدَ العلمَ، إذا قال: "إن الله عز وجل لم يكن عالماً حتى خلق علماً فعَلِم"، فجحدَ علم الله عز وجل، فهو كافر".
وانظر السنة لعبد الله بن أحمد (رقم: 835)، والرد على الجهمية للدارمي (ص/108).
وقد انعقدَ الإجماع على تكفير مَن جَحَدَ أن الله - تعالى - عالمٌ، أو غيرَ ذلك من صفاته الذاتية.
قال أبو بكر، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إن الله عز وجل لا يعلم الشيء حتى يكون، استتيب، فإن تاب وإلا قتل. وفي رواية قال:" إذا جحد كفر".
(1)
قال ابن القيم:
وسلف القدرية كانوا ينكرون العلم، وهم الذين اتفق سلف الأمة على تكفيرهم.
(2)
ب) المتأخرون:
آمنوا بمرتبتَي العلم والكتابة، ولكن جَحَدوا عُموم المَرتبتينِ الأُخْرَيَيْنِ، فأقروا علم الله المتقدِّمَ، وكتابتَه السابقةَ، وأنكروا عموم المشيئة والخَلْق؛ فخالَفُوا السلف في زعمهم أن أفعال العباد مَقْدُورةٌ لهم وواقعةٌ منهم على جِهة الاستقلال، وقالوا بعموم مشيئة الله وخلقه، إلا في باب أفعال العباد؛ فقالوا:
إن الله على ما يشاء قدير، ولَمّا كانت أفعال العباد ليست مِمّا شاءه الله - تعالى - كانت لَيْسَتْ داخلةً تَحْتَ قُدرته.
وهذا المذهب- مع كونه مذهباً باطلاً أيضاً- هو أخفُّ من المذهب الأول.
عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ"
(3)
(1)
السنة للخلال (872 - 870) بأسانيد صحيحة.
(2)
انظر شفاء العليل (ص/28) وأنوار البروق (4/ 180)
ومن ضلال المعتزلة في نفي القدر: ما ورد عن عمرو بن عبيد في قوله: "إذا كان {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} في اللوح المحفوظ، فما لله على ابن آدم حجةٌ، وما على الوليد من لومٍ"!، يعني: في قوله: {ذرني ومن خلقت وحيداً} [المدثر: 11].
انظر تاريخ بغداد (12/ 171)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1369).
(3)
رواه أبو داود (4691) وابن أبي عاصم في "السنة"(268) والحاكم (286)، وصححه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام"(5/ 446)، قال الدارقطني في ":"والصحيح الموقوف عن ابن عمر". (العلل"4/ 98)، وحسنه الألباني في "صحيح أبي داود". = =وإنما سموا قدرية؛ لأنهم أثبتوا القدر لأنفسهم، ونفوا عن الله -تعالى- خلق أفعالهم، فصاروا بإضافة بعض الخلق إليه دون بعض مضاهين للمجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة، وأن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة.
قال أبو المظفر الأسفراييني:
وإنما شبههم صلى الله عليه وسلم بالمجوس لأن المجوس ينسبون بعض التقدير إلى يزدان وبعضه إلى أهرمن، فأثبتوا تقديراً في مقابلة تقدير الباري جل جلاله، وقالوا بجواز حصول أحد التقديرين دون الآخر، فكذلك القدرية أثبتوا تقديرين:" أحدهما للرب تبارك وتعالى، والآخر للعبد". وانظر "التبصير في الدين "(ص/289)
وهؤلاء هم مَن قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية:
هؤلاء فهُم مبتدعون ضالّون، لكنهم ليسُوا بمنزلةِ أولئكَ؛ وفي هؤلاء خلقٌ كثير من العلماء والعُبّاد كُتِبَ عنهم العلمُ، وأخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ لجماعةٍ منهم؛ لكن مَن كان داعية إليه لم يُخْرِجوا له".
(1)
* الرد على القدرية:
اعلمْ أولاً أن أصل الخلط والسقط عند القدرية إنما هو في: عدم تفريقهم بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية؛ فلا شك أن الله -تعالى- يُبغض الكُفر والفُسوق والعِصْيان، ولكنه قدَّر وجود هذه الأشياء لحِكَمٍ بليغة، وذلك وفْق إرادته الكونية، لا الشرعية؛ ولو أنهم فهِموا الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية لَنَجَوْا مِن تلك الفتنة!
*أولاً: الإرادة الكونية:
هي مُرادِفةٌ للمشيئة، وهذه الإرادة تَسْتلزم وقوعَ المُراد، ولا يَلزم أن يكون مرادها محبوباً لله مُرْضِياً له، بل قد يكون مكروهاً مسخوطاً له، ككُفر الكافرين، ومعاصي العاصين، ووجود المفسدين، وقد يكون معناها محبوباً مُرضياً لله -تعالى-، كوجود إيمان المؤمنين،، وطاعات الطائعين، ووجود رسل الله وعباده المخلصينَ.
الثانية: الإرادة الشرعية:
وهي إرادة دينية يحبها الله تعالى، ويَرضاها لعباده، وهي غير لازمة التحقُّق.
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 385).
فبفهْمِ هاتين الإرادتين يدرك الإنسان أنّ كلّاً من الخير والشر بِيَدِ الله -تعالى-، وهو من تقديره سبحانه وتعالى: فالإرادة الشرعية هي المتضمِّنة للمَحَبّة والرِّضا، والإرادة الكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث.
** فإرادة الله للشيء قد تقتضي محبّتَه له، وقد لا تقتضي ذلك:
قال تعالى {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125].
فهذا الذي أضله الله -تعالى- لم يكن سبحانه محبً لإضلاله، ولكنه أضله لحكمته السابقة فيه، وأضله على علمه السابق فيه أنه لا يصلح معه إلا هذا الذي قدَّره عليه.
*وتأملْ قول الله تعالى {
…
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]، فالله - تعالى- لا يحب وقوع الاختلاف والاقتتال، ولكنه شاءه عز وجل، وقدَّر وقوعه، فهو سبحانه يفعلُ ما يريد، فلا يقع شيء في هذا الكون إلا بأمره وتقديره.
(1)
…
فإن سألوا:
فكيف تستقيم الحكمة في تعذيب المكلَّفينَ على ذنوبهم، على القول إنّ الله - تعالى- خلقَها فيهم؛ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو فاعلُه وخالقُه فيهم؟
(2)
(1)
وفي المناظرة التي دارت بين الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والقاضي عبد الجبار المعتزلي
قال عبد الجبار في ابتداء جلوسه للمناظرة سبحان من تنزَّه عن الفحشاء،
فقال الأستاذ مجيباً: " سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء "، فقال عبد الجبار: أفيشاء ربنا أن يعصى؟
فقال الأستاذ أيعصى ربنا قهراً؟
فقال عبد الجبار: أفرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالردى أحسن إلي أم أسا؟ فقال الأستاذ: إن كان منعك ما هو لك فقد أسا، وإن منعك ما هو له فيختص برحمته من يشاء. فانقطع عبد الجبار. وانظر طبقات الشافعية الكبرى (4/ 262).
(2)
لذا يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
يدل على قولنا فى العدل؛ لأنه بين أن هؤلاء الكفار الذين عدلوا عن طريقة الدين فاستحقوا العقاب والهلاك، هم الذين ظلموا أنفسهم، وأنه تعالى إذا عاقبهم لم يكن ظالما لهم، ولو كان الأمر على ما تقوله المجبرة لم يصح أن ينزِّه نفسه عن الظلم، مع أن جميعه من قبله، ولا يصح أن ينفى عن نفسه فعل الظلم، وهو الخالق له، ويضيفه إلى من لم يفعله! وانظر "متشابه القرآن"(ص/364)
** فالجواب من وجوه:
1) الأول: إنه -تعالى- إنما يعذبهم على ما أحدثوه من ذنوب وكان بمشيئتهم وقدرتهم، وكونُه -تعالى- خالقاً أفعالَهم لا يمنع أن تكون أفعالهم مضافةً إليهم على الحقيقة؛ فلا تعارُض بين الأمرينِ إلا عند مَن ضاق أُفقُهُ.
2) الثاني:
إنّ ما يُبتلَى به العبد من الذنوب، وإنْ كانت خَلقاً لله -تعالى- فهي عقوبة للعبد على ذنوبٍ قبلها، و {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، فالذنب يُكسب الذنب، ومِن عقاب السيئة: السيئةُ بعدها، فالذنوب يُورِث بعضُها بعضاً، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].
ثانياً: الجبرية:
الجَبْرِيَّة: هم أتباع الجَهْم بن صَفوانَ، ويرجع سبب التسمية بذلك إلى أنهم قالوا: إنّ العبد مُجْبَر على أفعاله، ولا اختيار له، ولا إرادة، ولا مشيئة، وإن الفاعل الحقيقي هو الله -تعالى-، وإن الله سبحانه أجبرَ العِبادَ على الإيمان أو الكفر.
فالعبد عندهم مسيَّر، لا خِيارَ له أبداً؛ فهو كالرِّيشة في مَهَبِّ الرِّيح، وعلى هذا فإنه يكفيه في مسألة الحساب والجزاء أن يؤمن بالله -تعالى- بقلبه فحسْب مَهْما فعلَ من الكفر والمعاصي، حتى الشِّرك. تعالى الله عمّا يقولون! فمن أشركَ بالله عندهم ما دام عارفاً بالله فهو مؤمن!
فهؤلاء هم الجَبْريَّة الغلاة؛ لأنهم يرون أنه ما دام الفعل كله لله -تعالى-، فلا حسابَ على العباد إلا بما يتعلق بالمعرفة في القلب؛ فمن عرَفَ اللهَ سبحانه نجا، ومن أنكرَ اللهَ هَلَكَ، والمَرْءُ وإن كان عاصياً لله فهو مُطيعٌ لإرادته.
(1)
(1)
وقد قرأ قارئ بحَضْرةِ بعض الجَبْريَّة: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، فقال:
هو الله منعَه، ولو قال إبليس ذلك لكان صادقاً، وقد أخطأ إبليسُ الحجةَ، ولو كنتُ حاضراً لقلتُ له: أنتَ منعتَه.
وسمعَ بعض الجَبريَّة قارئاً يقرأ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، فقال: ليس مِن هذا شيء، بل أضَلَّهم وأعماهم.
ومذهب الجَبريَّة مِن أخبثِ المذاهبِ وأَبْطَلِها؛ لأنه يجعل الله -تعالى- ظالماً لعباده. نعوذ بالله من الخذلان!
*ومن شبهات الجَبريَّة:
الأولى: استدلالهم بقوله -تعالى-: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
على أن الفعل ليس للإنسان، وإنما هو لله تعالى؛ لأن الله -تعالى- هو الذي رمى!
**وقد رد أهل السنة عن هذه الشبهة:
بأنّ المعنى: ما أَصَبْتَ الهدف، ولكن الله -تعالى-هو الذي وفَّقَ لإصابته؛ فأنت الذي رمَيتَ، والله -تعالى- هو الذي وفَّقَ للإصابة، بدليل: أنه -تعالى- أثبتَ لرسوله صلى الله عليه وسلم ذاتَ الفعل، وأضافه له، فقال:"إذ رميتَ) "
2 -
الثانية:
قالوا: إنَّ العمل ليس سبباً في دخول الجنة؛ وذلك لما روى أَبِو هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:
«قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْتَ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ»
(1)
الرد على هذه الشبهة:
قد بيَّن الله -تعالى- أن الأعمال الصالحة أسبابٌ لدخول الجنة، كما قال:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، وقال -تعالى-: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)) (الحاقة: 24)
*وأما الحديث: (وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ):
فهو يبين أن دخولهم الجنة ليس بمجرد العمل، والمعنى:
لن يدخل أحدكم الجنة عوضاً عن عمله، فيستحق الجنة، كما يستحق الأجير أجره، بل الدخول برحمة الله تعالى، فالباء المنفية في الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم:"بعمله": هى باء العِوض والمقابلة.
وأما الباء المثبتة قوله سبحانه: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)} فهى باء
(1)
متفق عليه.
السببية: يعني: أن دخلوكم للجنة بسبب ما كنتم تعملون.
فيكون دخول الجنة برحمة الله تعالى، ولكن للفوز برحمة الله -تعالى- سبب رئيس ألا
وهو العمل الصالح، فمن جاء بالسبب نال الرحمة، ومن لم يأتِ بالسبب لم ينل الرحمة، وبذلك تتفق النصوص ولا تختلف.
-قال ابن القيم:
توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد، فالمنفيّ استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمناً وعوضاً لها، رداً على القدرية، والمعنى الذي أثبت به دخول الجنة في قوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فهذه باء السببية.
(1)
** ومن الرد على الجَبريَّة أيضاً:
قوله تعالى {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، وقوله تعالى {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»
والأدلة كثيرة على أن فعل العبد صادرٌ باختياره، لكن هذا الاختيار تابع لمشيئة الله تعالى؛ لقوله -تعالى-:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30].
…
أمّا الدليل الواقعي:
فإنّ كل إنسان يفعل الأفعال وهو لا يشعُر أنّ أحداً يُجبره عليها، فيحضر إلى الدرس باختياره، ويغيب عن الدرس باختياره؛ ولهذا إذا وقعَ الفعل من غير اختيار لم يُنسَبْ إلى العبد، بل يُرفع عنه إثْمُه أو ثوابه.
* الثالثة:
احتجاجهم بالقدر على المعاصي:
(1)
التفسير القيِّم (ص/93). وقال رحمه الله:
"أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة ليس في مقابلة عملِ أحدٍ، وأنه لولا تغمُّدُ اللهِ -سبحانه- لِعبده برحمتِه لَمّا أدخله الجنة، فليس عملُا للعبد -وإن تَناهَى- موجِباً -بمجرَّده- لدخول الجنة، ولا عِوَضاً لها؛ فإنّ أعماله -وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه- فهي لا تُقاوِم نعمةَ الله التي أنعم بها عليه في دار الدنيا، ولا تُعادِلُها، بل لو حاسَبَه لَوقعتْ كلُّها في مقابَلة اليسير من نعمه، وتَبقى بقيّة النعم مقتضيةً لشُكرها، فلو عذَّبَه في هذه الحالة لعذّبَه وهو غير ظالمٍ، ولو رَحِمه لكانت رحمتُه خيراً من عمله". مفتاح دار السعادة (ص/ 18)
*والجواب:
قال النووي:
"إنْ قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدَّرَها الله عليَّ، لم يَسقُطْ عنه اللوم والعقوبة بذلك، وإن كان صادقاً فيما قاله؛ فالجواب: أن هذا العاصي باقٍ في دار التكليف، جارٍ
عليه أحكام المكلَّفينَ من العقوبة واللوم والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجرٌ له ولغيره عن مِثل هذا الفعل، وهو مُحتاجٌ إلى الزجر ما لم يمُتْ".
(1)
…
قال ابن العثيمين:
"أفعال العباد كلها من طاعات ومعاصٍ كلها مخلوقة لله، ولكن ليس ذلك حُجَّةً للعاصي على فعل المعصية؛ وذلك لأدلة كثيرة، منها:
(1) أن الله أضاف عمل العبد إليه، وجعلَه كسباً له، فقال سبحانه:{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17]، ولو لم يكن له اختيارٌ في الفعل وقدرةٌ عليه ما نُسِبَ إليه.
(2) أن الله أمر العبد ونهاه، ولم يكلِّفْه إلا ما يستطيعُ؛ لقوله -تعالى-:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله سبحانه:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، ولو كان مُجبَراً على العمل لَما كان مستطيعاً الفعلَ أو الكَفَّ؛ لأن المُجبَر لا يستطيع التخلُّص.
(3) أن كل واحد يعلَم الفرق بين العمل الاختياري والعمل الإجباري، وأنّ الأول يستطيع التخلُّص منه.
(4) أن العاصي قبلَ أن يُقْدِمَ على المعصية لا يدري ما قُدر له، وهو باستطاعته أن يفعل أو يترك؛ فكيف يسلك الطريق الخطأ ويَحتجُّ بالقدَر المجهول؟ أليس مِن الأَحْرَى أن يسلك الطريق الصحيح ويقول: هذا ما قُدِّر لي؟!
(5) أن الله أخبر أنه أرسل الرسل لقطْع الحُجَّة، قال سبحانه:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ولو كان القدر حُجَّة للعاصي لَما انقطعتْ بإرسال الرسل؛ ونعلم أن الله سبحانه وتعالى ما أمرَ
(1)
وانظر المنهاج للنووي (ـ 8/ 454).
ولا نهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر على معصية، ولا اضطرَّه إلى ترك طاعةٍ؛ قال الله -تعالى-:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال الله -تعالى-:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال سبحانه: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ {[غافر: 17]؛ فدلَّ ذلك على أن للعبد فعلاً وكسباً، يُجزَى على حَسَنِه بالثواب، وعلى سَيِّئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره.
(1)
* ثالثاً: قول الأَشاعرة:
وهؤلاء أيضاً ممن خالفوا أهل السنة في هذا الباب، حيث قالوا بما يُعرف بنَظَرِيّة (الكَسْب)، وقالوا: إن العبد فاعلٌ بالاختيار، وهو يَفعلُ حقيقةً بقدرةٍ، لكنّ قدرته غيرُ مؤثِّرة.
فوافقَ الأشاعرةُ أهلَ السنة في إثبات خلْق اللهِ أفعالَ العباد الاختياريةَ والاضطراريةَ، إلّا أنهم نسبوا فعل الإنسان الاختياريَّ إليه كَسْباً لا خَلْقاً، وعرّفوا الكسْب -كما قال شارح [أُمّ البَراهين] (ص 45) -:"الكسْب: مقارَنةُ القدرةِ الحادثةِ للفعل مِن غيرِ تأثيرٍ".
فبذلك أرادوا الفرار من قول الجبرية، فقالوا بالكسب، وهو إثبات اختيار وقدرة حادثة للعبد.
(1)
شرح لُمعة الاعتقاد (صـ: 93 - 94).
** سؤال:
مع اجتماع الشر في الجبرية والقدرية، أيُّهما أكثرُ شرّاً؟
الجواب: الأكثر شراً وضلالاً هم الجبرية. قال شيخ الإسلام: =
="من أثبتَ القدر واحتج به على إبطال الأمر والنهي فهو شر ممن أثبت الأمر والنهي ولم يُثبت القدر، وهذا متفقٌ عليه بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل، بل بين جميع الخلق، فإنّ مَن احتج بالقدر وشهود الربوبية العامة لجميع المخلوقات ولم يفرِّق بين المأمور والمحظور والمؤمنين والكفار وأهل الطاعة وأهل المعصية- لم يؤمن بأحد من الرسل ولا بشيء من الكتب، وكان عنده آدم وإبليس سواءً، ونوحٌ وقومه سواءً، وموسى وفرعون سواءً، والسابقون الأولون وكفار مكة سواءً! وهذا الضلال قد كثر في كثير من أهل التصوف والزهد".
*وقال رحمه الله: "ومعلوم عند كل من يؤمن بالله ورسوله أن المعتزلة والشيعة والقدرية المثبتينَ للأمر والنهي والوعد والوعيد- خيرٌ ممن يسوِّي بين المؤمن والكافر والبَر والفاجر والنبيِّ الصادق والمتنبِّي الكاذب وأولياءِ الله وأعدائه، بل هم أحقُّ من المعتزلة بالذم". مجموع الفتاوى (8/ 103).
كما أنهم أرادوا الفرار من قول المعتزلة، فقالوا بعدم تأثير قدرة العبد الحادثة في الفعل، فلا يوجَد تأثير للأسباب في مسبَّباتها.
ويقول السنوسي:
"وكما أن القدرة الحادثة لا أثر لها أصلاً في فعل من الأفعال، كذلك لا أثرَ للنار في شيء من الإحراق، بل أجرى الله العادة بإيجاد تلك الأمور عندها، لا بها؛ وقِسْ على هذا ما يوجد من القطع عند السِّكِّينِ، والألمِ عند الجوع، والشبع عند الطعام".
(1)
وقد خصَّص الرازي فصلاً طويلاً في [المطالب العالية](9/ 47) لبيان عدم تأثير قدرة العبد.
*وإنْ تعجبْ فعجبٌ قولُهم:
فقد نقلَ السنوسي عن ابن دهاق في [شرح الإرشاد (ص/148)] أنّ مِن أصناف الشرك:
اعتقادَ تأثيرِ السبب في مُسبَّبه، كاعتقاد أن النار تُحرق، والطعامَ يُشبع!!
*الرد على الأشاعرة:
1 -
تفسيرالأشاعرة للكسْب بالاقتران:
باطلٌ فى أصله؛ فالكسب في اللغة هو الطلب والجمْع.
وكذلك في القرآن، كقوله -تعالى-:{أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام: 158]، وقوله:{فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]؛ إذ استُعمل في فعل كلٍّ من الصالحات والسيئات.
2 -
كما أن فرارهم من قول المعتزلة أوقعَهم في الجبر المتوسط؛ وهذا ما دفعَ التفتازاني في (شرح المقاصد 4/ 263) إلى أن يقول: "فالإنسان: مضطرٌّ في صورة المُختار".
ونصَّ على مِثله السنوسي بقوله: "والحقُّ أنّ العبد مجبورٌ في قالب مُختار".
(2)
(1)
وانظر شرح أم البراهين (ص/219) وحاشية الدسوقي على أم البراهين (ص/185) وعقائد الأشاعرة (ص/249).
(2)
وانظر شرح المقاصد (4/ 263) وشرح السنوسية الكبرى (ص/294) وتحفة المريد (ص/177).
وقال الرازيّ بعد أن أورد إشكالات على نظرية الكسب:
"وعند هذا التحقيق يَظهر أنّ الكسب اسمٌ بلا مُسمًّى".
(1)
وهذا حقيقة قولهم؛ إذ يَلزم من مقارَنة القدرة الحادثة للفعل القول بتكليف العاجز؛ لأن هذه المقارنة لا تؤثر أصلاً؛ إذ إنّ إثبات الأشاعرة مقارنة القدرة الحادثة للفعل ليس بشيءٍ،
ولا طائلَ تحتَه، إذْ لا مَزِيّةَ مِن إثباتها ما لم تؤثر في الفعل أصلاً.
ويقول السنوسي: "ويسمَّى العبد عند خلق الله -تعالى- فيه هذه القدرةَ المقارنةَ للفعل: مختاراً".
(2)
فيتضح من كلامه: أن الكسب يُطلق على خلق القدرة في العبد؛ وعليه فهو اختيار لا معنى له.
لذلك أثبتَ شيخ الإسلام ابن تيمية في غيرما موضعٍ: أنّ مسألة الكسب عند الأشاعرة لا حقيقة لها؛ إذْ ما دام العبد ليس بفاعلٍ ولا له قدرة مؤثرة في الفعل، فالزعم بأنه كاسبٌ، وتسميةُ فعله كسباً: لا حقيقة له.
3 -
قولهم هذا خلافُ الشرعِ، والمشاهَدةِ، ويَلزم عليه لوازمُ باطلةٌ، وحقيقته رجوعٌ إلى قول الجبرية، ويَلزم عليه ما لَزمَ على قول الجبرية، حتى اعتبر الجُوينيّ القولَ إنّ قدرة العبد غير مؤثرة -وهو مذهب أصحابه الأشاعرة- تكذيباً للرسل، وإلغاءً لأوامر الشرع.
ونقل الشهرستانيّ عنه أن "إثبات قدرة لا أثر لها بوجهٍ، فهو كنفْي القدرة أصلاً".
(3)
4 -
قولهم بالكسب على هذا النحو مخالف لقول جماهير أهل السنة، فمذهب سلف الأمة وأئمتها وجمهور أهل السنة المثبِتينَ للقدر من جميع الطوائف أنهم
(1)
محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين (ص/288).
(2)
شرح أم البراهين (ص/217).
(3)
المِلل والنِّحَل (1/ 98).
يقولون: إن العبد فاعلٌ لفعله حقيقةً، وإنّ له قدرةً حقيقيةً واستطاعة حقيقية
(1)
.
**كما أنه يلزم عليه لوازم فاسدة كثيرة تفتح باباً للإلحاد والكفر بهذا الدين، منها:
1 -
أنه لو كان العبد غير فاعل على الحقيقة واللهُ هو الفاعل حقيقةً، لَلَزِمَ أن يكون المصلي الصائم العابد هو اللهَ، وأن يكون الزاني السارق القاتل هو الله! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
2 -
ولو كان العبد غير فاعل على الحقيقة، لَكانَ تعذيبه على المعاصي: ظلماً وجُوراً، ولكان إثابته على الطاعات: عبثاً.
3 -
لو كان العبد غير فاعل حقيقةً لَما كان لإرسال الرسل وإنزال الكتب والتبشير والإنذار مَعنًى؛ إذْ لا طائعَ ولا عاصيَ على الحقيقة!
وكيف يكون العبد فاعلاً مختاراً، ثم يقال: إنه فاعلٌ مجازاً؟ فما وقع فعلٌ منه أصلاً!
وأيُّ محذورٍ في أن يقال: إن العبد: فاعلٌ حقيقة، والله: خالِقه وخالق قدرته وإرادته؟! فلا خالقَ إلا اللهُ، وخالق السبب التامّ: خالقٌ للمسبَّب.
ثمّ إن هذا القول الباطل يَعلم بُطْلانه كلُّ عاقلٍ بالمشاهَدة، فنحن نرى زيداً من الناس يأكل ويشرب ويَنكِح؛ فمَن الذي يفعل ذلك حقيقةً؟! أو: ليس له فاعل حقيقة؟!
{سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].
وهذا القائل لو جاء زيدٌ هذا فضربَه وشَتَمَه وهَتَكَ عِرضه- هل يلومه على فعله، أم يَعذِرُه لأنه ليس فاعلاً حقيقةً؟!
قال أبو العباس ابن تيمية:
"والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم. والعبد هو المؤمن والكافر، والبَرّ والفاجر، والمصلي والصائم. وللعِبادِ القدرةُ على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم، وخالق قدرتهم وإرادتهم؛ كما قال الله -تعالى-:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29].
(1)
لوامع الأنوار البهية (1/ 312).
وهذه الدرجة من القَدَر يكذِّب بها عامّةُ القدرية الذين سمَّاهم النبي صلى الله عليه وسلم: مَجُوسَ هذه الأمّة".
(1)
…
وختاماً نقول:
إن باب القدر باب من الخطورة بمكانٍ، فَلَكَمْ زلَّت فيه أقدامٌ، وضلَّت فيه أفهامٌ.
وصدقَ ابن القيم رحمه الله إذ يقول:
"القدر بحرٌ محيطٌ لا ساحلَ له، وقد سلك الناس في هذا الباب في كلّ وادٍ، وخاضت فيه الفرَق على تبايُنها واختلافها، وصنَّفت فيه الطوائفُ على تنوُّع أصنافها، وكلٌّ قد اختار لنفسه مذهباً لا يعتقد الصواب في سِواه،، وكلهم -إلا من اهتدى بالوحي- عن طريق الصواب مصدود، وباب الهُدى في وجهه مسدود، قد قَمَّشَ علماً غير طائل، وارتوى من ماء آجِن "، قد طاف على أبواب المذاهب، ففاز بأخسِّ الآراء والمَطالب".
(2)
أقول:
فعلى العبد إنْ قَصُرَ فَهمه عن إدراك حقيقة القدر من كتاب الله والسنة وما سطَّره الراسخون من الأئمة، فعليه أنْ يقف على هذه الأصول الأربعة، فإنها -إن شاء الله- تُلَمْلِمُ له شَتاتَ ذهنِه، وتُرشده لما قدَّره الله -تعالى- بحكمته وإذنه.
…
وهذه الأصول هي: (كمال المِلْكية / كمال العَدْل / كمال الحِكمة / كمال الاصطفاء).
1) الأصل الأول: (كمال الملكية):
قال -تعالى-: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120]، وقال اللَّه -تعالى-: {قُلِ اللَّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ
…
} [آل عمران: 26]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ -إذَا أَصابَهُ هَمٌّ أَوْ حَزَنٌ-: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ. أَسْأَلُكَ
(1)
العقيدة الواسطية، اعتقاد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة (ص/108).
(2)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل (1/ 44، 45).
بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ
…
»
(1)
،
هو مَلِكُ الناس حقّاً، وكلهم عبيده ومماليكه، فالمُلك مُلكه، والخَلق عبيده، وهو ربُّهم، ونَواصِيهِمْ بيده، يُصرِّفُ أمور عباده كما يحبّ، ويقلّبهم كما يشاء، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، فالله -تعالى- لا يُسأل عما يفعل؛ لِكمال مِلكيته وحكمته وعدله.
إنّ الخلْق لا يَرْضَى الواحد منهم أن يراجعه أحدٌ إذا تصرف فيما يَملكه؛ فكيف بمالِكِ المُلك؟!
2) الأصل الثانى: كمال العدل:
قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، وقال -تعالى-:{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]،
وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تبارك وتعالى أَنَّهُ قَالَ:
«يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلَا تَظَالَمُوا
…
»
(2)
،
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟
فَيَقُول: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ، فَقَالَ:
إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ "، قَالَ:
(3)
.
**فالله -تعالى- الذي وَسِعَتْ قدرتُه كل شيء قد حرَّم الظلم على نفسه؛ وذلك لكمال عدله
عز وجل، فما مِن جزاءٍ قضاه الله -تعالى- على عبد من عباده في الحال أو المَآل إلا
(1)
أخرجه أحمد (4318) وانظر السلسلة الصحيحة (199).
(2)
أخرجه مسلم (2577).
(3)
أخرجه الترمذي (2639) وقال «هذا حديث حسن غريب» . وانظر صحيح الجامع (1776) والسلسلة الصحيحة (135).
وعَدْلُ الله -تعالى- ظاهرٌ بَيِّنٌ فيه، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً
…
} [الأنعام: 115]،
ومن شكَّ وارتاب في ذلك فإنَّ هذا {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
قال ابن كثير:
"ثم قال -تعالى-: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75]، أي: ونطقَ الكونُ أجمعُه -ناطقُه وبَهيمُه- لله رب العالمين بالحمد في حُكمه وعدْله؛ ولهذا لم يُسنِدِ القول إلى قائلٍ، بل أطلقَه؛ فدلَّ على أن جميع المخلوقات شَهِدَت له بالحمد.
(1)
قال ابن القيّم:
" {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فحذَفَ فاعلَ القول لأنّه غيرُ معيَّنٍ، بل كلُّ أحدٍ يحمَده على ذلك الحكم الذي حكم فيه، فيحمده أهل السماوات وأهل الأرض، والأبرار والفجّار، والإنس والجن، حتى أهل النار. قال الحسن أو غيره: "لقد دخلوا النار وإنّ حَمْدَه لفي قلوبهم، ما وجدوا عليه سبيلاً".
(2)
…
ألا ترى أنهم ما حَمِدوا ربهم إلا لمَّا رأوا آثار عدْله فيهم؟!
3) الأصل الثالث: كمال الحكمة:
فلله -تعالى- الحجة البالغة، وله الحكمة الكاملة، ذكرَ - تعالى - حكمته فيما يزيد عن ثمانين موضعاً من كتابه باسمه وصفته.
فهو (الحكيم) الذي يضع الأشياءَ مَواضِعَها، ويُنزلها منازلَها اللائقة بها في خلْقه وأمره، وهو ذو حكمة في قَسْمه وحُكمه، في هدايته وإضلاله لخلقه.
الله أعلم حيث يجعل هدايته، هو الحكيم في أحكامه القدَرية، وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية، ومَن أحسنُ من الله حكمةً وحكماً؟!!
هدى هذا بقدَره، ولِعلمه أنّ قلبه أرض طيبة تَقبل الهدى وتتنتفع به، وأضلَّ ذاك بقدره، ولعلمه أنّ قلبه أرض خبيثة لا تقبل الهدى، فـ {أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]،
خذلَه عن مَحَجَّة الطريق
(1)
تفسير القرآن العظيم (7/ 127).
(2)
روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص/65).
وسبيل الرشاد في سابق علمه على علمٍ منه بأنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية!
(1)
.
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58]؛ فكذلك القلوب لمّا خاطبَها نداءُ الإيمان وافى محلّاً محباً في قلب المؤمن، ووافى محلاً سِباخاً في قلب الكافر.
4) الأصل الرابع: كمال الاصطفاء:
احمدْ ربك أن عافاك وهداك واصطفاك: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]. واستشعرْ فضله عليك: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38].
{قُلْ إنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 73 - 74]. قال -تعالى- في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ
…
»
(2)
.
فاللهم ربَّنا لك الحمد عددَ خلْقِك، ورِضا نفْسِك، وزِنةَ عرشِك، ومِدادَ كلماتِك، اللهم لولا فضلك علينا ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا، فأنزِلَنْ سكينةً علينا، وثبِّتِ الأقدام إنْ لاقَيْنا. {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ
…
} [الأعراف: 43]، فاللهم أتْمِمْ نعمتك علينا حتى نسمعَ ما أخبر به رب العزة {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تعملون} [الأعراف: 43].
................................................... ،،،،،،،
**تم بحمد الله
…
(1)
جامع البيان في تأويل القرآن (22/ 76).
(2)
أخرجه مسلم (2577).