المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

والتوكل على الله واجب من أعظم الواجبات، كما أن الإخلاص لله -تعالى- واجب، وقد أمر الله عباده بالتوكل عليه في كل أمر من أمورهم.

وهو عبادة من أعظم العبادات، قال تعالى:(وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)(المائدة: 23)

فقد أمر الله عز وجل عباده بالتوكل، والله لا يأمر إلا بما يحب، فلما كان التوكل محبوباً لله دل ذلك أنه عباده.

*ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم في صفات السبعين الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب: (وعلى ربهم يتوكلون).

ووجه الدلالة:

لما عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم التوكل على الله من صفات أهل الجنة، دل ذلك على أنه عبادة لله عز وجل، فالعبادات هي الأسباب الموصلة إلى جنة الله عز وجل، بعد أن يتغمدنا الله -تعالى-برحمته.

وعليه نقول: لما ثبت أن التوكل عبادة، فإنه تجري عليه القاعدة التي تسير على كل العبادات:

(كل ما ثبت بالكتاب والسنة أنه عبادة، فصرفه لله توحيد، وصرفه لغير الله شرك)

*فإن قيل: التوكل على غير الله عز وجل، هل هو شرك أكبر أم شرك أصغر؟؟

فجوابه على تفصيل:

1 -

الحالة الأولى: أن يكون شركاً أكبر، وهو أن يتوكل على أحد من الخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله عزوجل، كجلب نفعٍ أو دفع ضرٍ.

2 -

الحالة الثانية: أن يكون شركاً أصغر:

إن اعتمد على مخلوق في أمر أقدره الله عز وجل عليه من جلب رزق أو دفع أذي أو قضاء حاجة من مصالح الدنيا، مع اعتقاده أن الأمر كله لله عز وجل، ولكن صرف جزءاً من توكله إلى هذا المخلوق، فهو شرك أصغر.

*سؤال:‌

‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

؟

التوكل على الله عز وجل لا يعني ترك الأسباب ولا ينافي الأخذ بها، فإن الله الذي أمر بالتوكل عليه هو الذي أمر بالأخذ بالأسباب وتعاطيها، قال تعالى (وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ

ص: 382

أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)، وقال عزوجل (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)

فالتوكل عمل القلب والأخذ بالأسباب عمل الجوارح، وكلاهما طاعة أمر العبد بها، لذا فإن الذي يطعن في التوكل إنما هو يطعن في الإيمان، والذي يطعن في الأسباب يطعن في السنة. فلا تعارض بين الأمرين، فالذى قال (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) هو -تعالى- الذى قال (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)

قال أبو العباس ابن تيمية:

التوكل لا يعني ترك الأخذ بالأسباب، فمن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط وإن كان متوكلاً على الله، ومن ظن أن التوكل يغني عن الأسباب فهو ضال.

(1)

- عن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضى الله عنه- قال: قال النَبِيّ صلى الله عليه وسلم

" لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا "

(2)

فتأمل في هذا الحديث:

فلقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم كمال التوكل على الله -تعالى- في الأخذ بالأسباب، حيث جعل كمال التوكل عند الطير أنها تغدو وتروح ولا تنتظر رزقها في أعشاشها.

* عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ أَهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .

(3)

*قال ابن الجوزي: سئل أحمد: ما تقول في رجل جلس في بيته أو مسجده، وقال لا أعمل شيئاً، وسوف يأتي رزقي؟؟

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 528)

(2)

أخرجه أحمد (215) والترمذى (2344) وصححه الألبانى. وانظر: صحيح الجامع (2254)

قوله: تغدو خماصا: أى ضامرة البطون من الجوع، (تروح بطاناً): ترجع آخر النهار ممتلئة البطون.

(3)

أخرجه البخاري (1523)

ص: 383

فأجاب:

هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم:(وجُعل رزقي تحت ظل رمحي)، وقوله صلى الله عليه وسلم:(تغدو خماصاً وتروح بطاناً).

(1)

قال الغزالي:

قد يظن الجهَّال أن شرط التوكل ترك الكسب وتركُ التداوي والاستسلامُ للمهلكات، وذلك خطأ؛ لأنَّ ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على التوكل، وندب إِليه، فكيف يُنال ذلك بمحظوره؟!

(2)

*قال ابن القيم:

من أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله، وحال بدنه قيامه بالأسباب.

(3)

* ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -أعظم المتوكلين، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم -يأخذ بالأسباب، ومن ذلك:

1 -

لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم-إلى غزوة أحد ظاهر بين درعين.

(4)

2 -

لما خرج النبي-صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة استأجر دليلاً يدله على الطريق، واختبأ في الغار.

3 -

عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه -أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ.

(5)

(1)

الآداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 168)

وفي رواية قال المروذي: قلت لأحمد: هؤلاء المتوكلة يقولون نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل؟!!

فقال: ذا قول خبيث، قال تعالى {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (الجمعة/ 9) فإيش هذا إلا البيع والشراء.

وانظر "الحث على التجارة والصناعة والعمل والإنكار على من يدعي التوكل في ترك العمل والحجة عليهم في ذلك (ص/26)

(2)

الأربعين في أصول الدين (ص/421)

(3)

مدارج السالكين (2/ 120)

(4)

أخرجه أحمد (15722) والحاكم في المستدرك (4312) وصححه الحاكم والذهبي، قال شعيب الأرنؤوط: صحيح على شرط الشيخين.

قال السندي: قوله: "ظاهر بين درعين" أي أوقع الظهار بينهما، بأن جعل أحدهما ظِهاراً للأخرى، والظهار بمعنى المعاونة، والمراد أنه لبسهما، وفيه أن التوكل لا يقتضي ترك مراعاة الأسباب.

(5)

متفق عليه.

ص: 384

هذا هو فعله في توكله صلى الله عليه وسلم، وهكذا جاء وصفه في التوراة عنه:

قال عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو- رضي الله عنهما وقد سئل عن صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -فِي التَّوْرَاةِ؟: " أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا صخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ.

(1)

* وهذا داود عليه السلام كان يسعى ويأكل من عمل يده. قال صلى الله عليه وسلم:

«وإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» .

(2)

*و مريم عليها السلام رغم ما كانت عليه من الضعف، حال نفاسها، تؤمر أن تأخذ بالأسباب بأن تهز جذع النخلة، وكان من الممكن أن يسقط التمر بلا سعى منها، ولكنه درس بليغ، فتأمل.

وتوكل على الرحمن في كل حاجة

ولا تؤثرنَّ العجز يوماً على الطلب

ألم تر أن الله قال لمريم

وهزي إليكِ الجذع يساقط الرطب

ولو شاء أن تجنيه من غير هزها

لجنته ولكن كل شي له سبب.

(3)

هكذا انقسم الناس في باب التوكل إلى ثلاثة أقسام:

1 -

قسم أفرطوا: كحال أهل التصوف الذين قالوا " نتوكل على الله فهو كافينا " فقعدوا عن الأخذ بالأسباب، بل جعلوا أن الأخذ بالأسباب قدحٌ في التوكل.

(4)

(1)

أخرجه البخاري (2125)

(2)

أخرجه البخاري (2072)

(3)

الأداب الشرعية والمنح المرعية (3/ 178)

(4)

وهكذا حال الصوفية، كما ذكر ذلك القرطبي فقال: قالت طائفة من الصوفية لا يستحق اسم المتوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله، حتى لو هجم عليه أسد لم ينزعج، وحتى لا يسعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى لذلك الأمر.

وقد أحسن الحسن البصري حين قال -للمخبر عن عامر بن عبد الله أنه نزل مع أصحابه على ماء حال الأسد بينهم وبين الماء، فجاء عامر إلى الماء فأخذ منه حاجته، فقيل له: لقد خاطرت بنفسك! قال:

لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلى أن يعلم الله أني أخاف شيئا سواه.

فقال الحسن البصري: قد خاف من كان خيرًا من عامر، موسى عليه السلام، قال تعالى {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} ، وقال {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى)، فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله عليه نفوس بني آدم كاذب، وقد طبعهم الله على الهرب مما يضرهم.

وانظر المُفهم لما أشكل من صحيح مسلم (1/ 467) والكوكب الوَّهاج شرح صحيح مسلم (5/ 144) التوضيح لشرح الجامع الصحيح (27/ 411)

ص: 385

2 -

قسم فرَّطوا: وهم المعتزلة والجهمية، نفاة القدر الذين جعلوا العبد مستقلاً بعمله، فلا سلطان لله عليه، لذا فلا يتوكل على الله تعالى.

3 -

قسم ثالث:

وهم الذين توسّطوا بين الفريقين، كما قال الله عز وجل عنهم:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، وهم أهل السنة والجماعة الذين قالوا: نتوكل على الله ونأخذ بالأسباب، فلا توكل مجرد عن الأسباب، ولا اعتماد على الأسباب بلا توكل، وهذا هو معنى هذه القاعدة:

"والالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد والإعراض عن الأسباب قدح في الشرع"

ويجمع هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم: «استعن بالله، ولا تعجز»

(1)

فقوله صلى الله عليه وسلم: «استعن بالله» : هذا هو التوكل. وقوله صلى الله عليه وسلم:

(ولا تعجز): هذا هو الأخذ بالأسباب.

- وقال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ:"اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ".

(2)

قال الطبري:

من وثق بالله وايقن أن قضاءه عليه ماضٍ، لم يقدح في توكله تعاطيه

(1)

أخرجه مسلم (2664)

(2)

أخرجه الترمذى (2517) وابن حبان (731) قال الألباني: حسن لغيره.

ص: 386

للأسباب إتباعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقد قال للرجل:«اعقلها وتوكل» ، فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل.

(1)

تنبيهات:

1 -

التوكل عبادة قلبية، مبناها على تفويض الأمر لله عزوجل، فالمخلوق ليس له نصيب من التوكل عليه؛ فإن التوكل إنما هو تفويض الأمر والالتجاء بالقلب إلى من بيده الأمر، وعليه فلا يجوز قول القائل لشخص ما:(توكلت على الله ثم عليك).

يؤيد ذلك:

قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كنتم مؤمنين} ، فقوله "على الله" متعلقة بقوله:"فتوكلوا"، وتقديم المعمول يدل على الحصر; أي: على الله، لا على غيره.

(2)

2 -

يدخل في معنى التوكل الذي لا يصرف إلا الله: "الحسب "، فإنه لا يجوز صرفه لغير الله عزوجل، قال تعالى آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم:(قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون)(الزمر 38)

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 14)

قال ابن القيم:

قيل في معنى الآية أي حسبك الله وحسبك المؤمنون، وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل، وعليه فإن معنى الآية: أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك.

(3)

(1)

فتح الباري (10/ 212)

(2)

ومن أهل العلم من قال: إن هذه العبارة لا بأس بها؛ وذلك باعتبارأن العامة لا تقصد بها التوكل التعبدى، وإنما تريد معنى "اعتمدت عليك"، ومثل وكَّلْتُك ونحو ذلك، لكن مع ذلك فالأولى المنع لأن هذا الباب ينبغي أن يُسد. وإذا كان هذا فى قولهم " توكلت على الله ثم عليك "، فكيف بمن يقول: توكلت على الله وعليك، بل كيف بمن يقول: توكلت عليك يا فلان؟!

(3)

زاد المعاد (1/ 38)

وتأمل في قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ)[التوبة: 54]. فهنا جعل الله عز وجل -الإيتاء له تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أما الحسب والرغبة فخصهما لنفسه تعالى ولم يشرك فيهما رسوله، مع عظم قدره صلى الله عليه وسلم، فلأن يخرج غيره من باب أولى.

ص: 387

عودٌ إلى حديث الباب:

فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، فَقَالَ: " ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ:«أَنْتَ مِنْهُمْ؟» .........

فما أن سمع الصحابة -رضى الله عنهم- بتلك البشارة النبوية حتى اشرأبت قلوبهم وآمالهم أن يدخلوا في زمرة هؤلاء السبعين، لذا قام عكَّاشة بن محصن-رضى الله عنه-فقال يارسول الله: ادع الله أن أكون منهم، قال صلى الله عليه وسلم:(أنت منهم).

(1)

* وهنا فوائد هامة:

1 -

حرص الصحابة -رضى الله عنهم-على الخير، لذا بادروا إلى طلب السبق إلى المعالي.

2 -

وردت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لعكَّاشة -رضى الله عنه- في الصحيحين بصيغة الخبر، فعند البخاري لما سأله: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، وفي رواية مسلم قال صلى الله عليه وسلم لعكاشة:

" أنت منهم "، وأما ما جاء في رواية في الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اللهم اجعله منهم» بصيغة الدعاء لا الخبر، فهنا يقال:

1 -

إما أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت منهم) على أنه خبر بمعنى الدعاء أي:

(اللهم اجعله منهم»

(2)

.

2 -

وإما أن يقال أن ما ورد بصيغة الدعاء كان في أول الأمر، فلما جاء الوحي

(1)

عكَّاشة بن محصن: بتشديد الكاف وتخفيفها، وقد ترجم الذهبي لعكاشة فقال: الشهيد السعيد، أبو محصن الأسدي، من السابقين الأولين البدربين أهل الجنة، قد أبلى بلاء حسنا يوم بدر وانكسر سيفه في يده، فأعطاء النبي صلى الله عليه وسلم عرجونا من نخل أو عود، فعاد بإذن الله في يده سيفاً، فقاتل به. قاتل مع خالد بن الوليد في حروب الردة، فقتل يوم اليمامة، قتله طليحة الأسدي، وكان طليحة قد ارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم بعد ذلك وحسن اسلامه واستشهد في موقعة الجسر.

وانظر سير أعلام النبلاء (3/ 189)

قلت:

وفي مثل هذا يصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، يدخلان الجنة، يقاتل هذا قيُقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيسلم، فيقاتل في سبيل الله فيستشهد) (متفق عليه)

(2)

حيث أن الخبر قد يطلق ويراد به الدعاء، كما في قولنا "صلى الله على محمد"فهي جملة خبرية، لكنها تتضمن معنى الدعاء والطلب، أى: اللهم صل على محمد. وكما في قولنا عن الصحابة "رضى الله عنهم ".

ص: 388