الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال البغوي: وقد مضى سلف الأمة وعلماء السنة على أن القرآن كلام الله ووحيه وليس بخالق ولا مخلوق، والقول بخلق القرآن ضلاله وبدعة.
(1)
*
تاريخ محنة الأمة:
إنها محنة خلق القرآن، تلك المحنة التي تعرضت لها أمة الإسلام في أواخر عصر التابعين، حين ظهر القول بخلق القرآن علي يد أُناس قد جحدوا ما وصف الله عز وجل به نفسه تعمقاً وتكلفاً، فعدلوا عن وحي الرحمن إلي وحي الشيطان
} وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ {(الأنعام: 121)
وتاريخ هذه المحنة يعودإلي عصر التابعين، ففي ذلك العصر بدأ ظهور هذا القول المحدث.
(2)
ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال بخلق القرآن هو الجعد بن درهم ثم أخذ عنه ذلك جهم بن صفوان ولهم في ذلك أصول.
حيث كانت النسبة لهذا النبت الخبيث تعود إلى الرجل اليهودي لبيد بن الأعصم الذي سحر النبي صلي الله عليه وسلم، والذي منه بدأت سلسلة الحطب حيث أخذ عنه هذه العقيدة التالفة ابن أخته طالوت، وأخذها عن طالوت بيان بن سمعان وأخذها عن بيان الجعد بن درهم، وأخذها عن الجعد الجهمُ بن صفوان، وإليه نسبت جماعة الجهمية؛ لأنه
(1)
وانظر شرح السنة (1/ 168).
(2)
فائدة:
وعليه فكل ما ورد من آثار مرفوعة أو موقوفة في هذا الباب فمما لا يصح سنده.
ومن ذلك ما ورد مرفوعاً: "القرآنُ كَلامُ اللهِ غيرُ مخلوق" قد ورد من عدة طرق فيها " أبو الدرداء وابن مسعود وجابر "، ولكن لا يصح منها شيء، وأسانيدها مظلمة لا يحتج بها ولا يستشهد بها.
قال ابن القيسراني: وهذا مما يعد في منكرات محمد بن حميد الرازي. وكذلك ممن وضعها:
محمد السمرقندي الذى كان يحدث بأحاديث مناكير، وقد نص على وضع هذه الأحاديث: البيهقي وابن حجر.
وقال السخاوي:
وهذا الحديث من جميع طرقه باطل، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات.
وانظر الفوائد الموضوعة في الأحاديث الموضوعة (ص/63) وسؤالات حمزة بن يوسف السهمي للدار قطني (ص/58) وذخيرة الحفاظ (ح/3382) وترتيب موضوعات ابن الجوزي للذهبي (ص/17) =
=*وكذلك فإنه لا يصح عن الصحابة رضي الله عنهم شيء في هذا الباب، حيث أنه لم تكن قد ظهرت في عصرهم، إنما ظهرت كما ذكرنا في عصر التابعين.
هو الذي أشاع مذهبهم المخذول.
ثم نقله عن الجهم بشر بن غيَّاث المريسي، شيخ المعتزلة وأحد من أضل المأمون وجدَّد القول بخلق القرآن.
ثم تقلَّد عن بشر المريسي ذلك المذهب قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد.
(1)
وقد كان ابن أبي دؤاد مقرَّباً عند الخليفة المأمون فلبَّس عليه بمقالة خلق القرآن، حتى حملها عليها واستماله إليها. ثم صار قاضياً عند المعتصم والواثق واشتدت المحنة على علماء الأمة بسبب مقالته تلك.
وكان بسبب ذلك من اضطهاد لعلماء السنة من الحبس والضرب والقتل، فمن العلماء من أجابهم إلى ذلك، ورأى أن هذا موضع إكراه، ومنهم من عرَّض بالقول؛ ليأمن شرهم.
(2)
ومنهم من ثبت على قول الحق، قول أهل السنة والجماعة، ورأي أن هذا موطن جهاد لا يسوغ النكوص ولا الاستسلام.
(1)
وتأمل في خواتيم أهل البدع كيف تكون؛ أما الجعد بن درهم فقتله أمير الكوفة خالد بن عبد الله القسري، قتله يوم عيد الأضحى، وذلك أن خالداً خطب الناس فقال:
أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم؛ فإني مضحٍ بالجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسي تكليماً، ثم نزل وذبحه. وقد نص الذهبي وابن حجر على شهرة هذه القصة.
وانظر مختصر العلو (ص/133) وخلق أفعال العباد (ص/8)
وأما الجهم بن صفوان فقد قتله سلم بن أحوز نائب أصبهان. ذكر ذلك الذهبي في تاريخ الإسلام (3/ 389)
وأما أحمد بن أبي دؤاد فقد ابتلي بالفالج قبل موته بأربع سنين حتى أهلكه الله -تعالى- سنة أربعين ومائتين.
(2)
وكان ممن أجابهم إلي القول بذلك، الإمام علي بن المديني رحمه الله، فقد كان يقول عن هؤلاء المنتحلين لهذه المقالة: هم كفار ضلال، وكان يكفِّر من يقول بخلق القرآن، بل ويعيد الجُمع إذا صلاَّها خلف المأمون، ولكنه رحمه الله كما قال عنه ابن معين: رجل خاف فقال. =
=وقال هوعن نفسه: " خفتُ أن أقتل، وأعلم ضعفي، أني لو ضربت سوطاً لمت، وقال: قوِي أحمد على السياط، ولم أقدر. سير أعلام النبلاء (9/ 114) وتهذيب التهذيب (4/ 219).
وكان على رأس من ثبتهم الله عز وجل في هذه المحنة هو الإمام أحمد بن حنبل الذي صدع بالحق رغم ضرب السياط والحبس.
لذا قال علي بن المديني: إن الله نصر الدين بأبي بكر يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة.
(1)
*وكذلك: فمن الأئمة الذين ثبتوا على القول الحق في هذا الباب:
أبو مسهر عالم دمشق، ونعيم بن حمَّاد عالم مصر، والبويطي فقيه مصر، وعفَّان بن مسلم الصفار محدث العراق، والفضل بن دكين الذي قال يومها:"عنقي أهون عندي من زرِّي هذا"، وأحمد بن نصر الخزاعي.
وطائفة سواهم، وقد مات الإمام البويطي في حبسه مقيداً في الأغلال؛ لثباته علي الحق، كذلك ثبت الإمام محمد بن نوح حتى مات في السجن، وأماأحمد بن نصر فقد قتله الواثق وصلبه.
لقد أدرك هؤلاء الأئمة رحمهم الله أن القول بخلق القرآن يلزم منه وصف الله بالنقص؛ إذ إن الله -تعالى- ليس متكلماً، بل خلق كلاماً كسائر ما خلق من مخلوقاته؛ إذن ففي حقيقة قولهم الباطل هو نفي صفة الكلام عن الله عز وجل، تعالي الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
لذا رأى هؤلاء الأئمة رحمهم الله -أن الثبات في هذه المحنة هو جهاد في سبيل الله عز وجل؛ صيانة للدين وحماية للأمة.
لقد توالى غِيام هذه المحنة في سماء الأمة فى عصر المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق، حتى أذن الله -تبارك وتعالي - لهذه المحنة أن ترفع، وذلك حينما تولى الخليفة المتوكل، وكان إماماً محباً لعقيدة السلف، فأبطل المحنة وأبطل القول بخلق القرآن.
وقد بويع المتوكل بن المعتصم سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وعمره ست وعشرون سنة فاظهر الله عز وجل به السُنة، وكشف تلك الغمة، وأمر العلماء أن يجلسوا
(1)
طبقات الحنابلة (1/ 28)