الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا).
(1)
*ومما صح به الدليل في وظائفهم وأسمائهم:
وللملائكة أعمال ومهمات معينة كلفهم بها الله -تعالى- ينفذونها، فجبريل موكل بالوحي، وميكائيل موكل بالمطر، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور، وملك الموت الموكل بقبض الأرواح، ومالك خازن النار، والملكان اللذان يأتيان في القبر، يقال لأحدهما المنكر والآخر النكير. ومن الملائكة الذين صرح القرآن بأسمائهم هاروت وماروت، قال تعالى:(وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ)(البقرة/102)
وقد اشتهر على ألسنة الناس أن اسم ملك الموت عزرائيل، وهذه التسمية لم ترد في حديث صحيح، وقد ذكره الله - تعالى - بوظيفته لا باسمه، فقال سبحانه:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} (السجدة: 11)
وكذلك قد اشتهر على ألسنة الناس أن اسم "رضوان" خازن الجنة، وهذه التسمية لم ترد في حديث صحيح.
*وأما
الإيمان بالكتب:
فمن أركان عقيدة المسلم أن يؤمن بالقرآن الذى أنزله الله -تعالى- على محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك يؤمن بجميع الكتب التى أُنزلت على الأنبياء السابقين.
قال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا)
…
(النساء/136) وقال سبحانه {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: 15]
ومن الكتب التي ثبتت تسميتها في القرآن الكريم:
(1)
أخرجه الترمذى (2312) وابن ماجه (4190)، انظر الصَّحِيحَة (ح/ 1722)
الأطيط: نقيض صوت المحامل والرحال إذا ثقل عليها الركبان. لسان العرب - (ج 7 / ص 256)
1 -
التوراة المنزلة على موسى عليه السلام. قال تعالى) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) [المائدة: 44].
2 -
الإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام. قال تعالى: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)[المائدة: 46].
3 -
الزبور المنزل على داود عليه السلام. قال تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)[النساء: 163]
4 -
صحف إبراهيم عليه السلام. قال تعالى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)[الأعلى: 18 - 19].
5 -
القرآن العزيز الذي أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)(طه: 1 - 2)
ومما خص الله -تعالى- به القرآن دون غيره من الكتب المنزلة أنه تعالى قد تكفل بحفظه بنفسه الكريمة، فقال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرَ: 9]
لذا فمن ادَّعى أن القرأن قد ناله تحريف فهذا كافر مكذب لما أخبر الله -تعالى - بحفظه له. وقد نقل الإجماع على كفر من ادَّعى ذلك جماعة من أهل العلم.
قال ابن قدامة:
ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن من جحد آية أو كلمة متفقا عليها أو حرفا متفقا عليه أنه كافر.
(1)
(1)
حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة (ص/33)
وقد نص ابن حزم على أن الإمامية كلها قديما وحديثا على القول بأن القرآن مبدل، زيد فيه ما ليس منه ونقص منه كثير، وبدل منه كثير. ثم قال رحمه الله: والقول بأن بين اللوحين تبديلاً كفر صحيح وتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر الفصل (3/ 114)
وقد كثرت التهم على الشيعة الامامية بالقول والاعتقاد بأنة القرآن الكريم محرَّف؛ وذلك لقرائن عدة منها:
1) المصحف الموجود لديهم واسمه " مصحف فاطمة ":
ويروي الكُليني في كتابه الكافي في صفحة 57 طبعة 1278 هـ عن أبي بصير أي "جعفر الصادق":
"وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، قال: قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه حرف واحد من قرآنكم".
وينكر بعض الشيعة المعاصرون " مصحف فاطمة " لكن هذا موجودة في كتبهم ولم يتبرأ منها علماؤهم على رؤوس الأشهاد وبين الشيعة أنفسهم، مما يوحي أن هذا الإنكار هو من باب التقية التي يطبقونها مع الفرق الإسلامية الأخرى مثل التظاهر بأداء بعض العبادات علانية ومخالفتها سرًا.
وانظرالموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (ص/55)
2) ما ألفه المحدّث الشيعي حسين النوري الطبرسي في ذلك المعنى وسمَّاه " كتاب فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب "، وإن كان علمائهم يتبرأون من ذلك الكتاب، يقول بعض المعاصرين من علماء الشيعة الإثني عشريَّة أنَّه
وكذلك جعل الله -تعالى- القرآن مهيمناً على سائر الكتب، قال تعالى (وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ)(المائدة/48)
قال ابن كثير:
والمهيمن هو الأمين والشاهد والحاكم على كل كتاب قبله، جعل الله هذا الكتاب العظيم، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها، أشملها وأعظمها وأحكمها حيث جمع فيه محاسن ما قبله، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره.
(1)
*إشكال والرد عليه:
يقول الله تعالى (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)(المائدة/68)
أخبر الله - تعالى -عن أهل الكتاب أنهم ليسو على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل، ومعلوم أن القرآن نسخ الكتب السابقة، والخطاب كان موجهاً في الآية لمن هم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
*والرد عليه من وجوه:
1) أن التوراة والإنجيل اللذين أمر الله -تعالى - أهل الكتاب باتباعهما قد نصا على نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ)(الأعراف/157)، وقال تعالى (وَإِذْ
(1)
تفسير القرآن العظيم (3/ 128)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف/6)
لذا فإن اتباعهما للتوراة والإنجيل - على زعمهم - يوجب عليهم اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والدخول في شريعته.
ثم يقال إن قوله تعالى "وما أنزل إليكم من ربكم"، فهو القرآن الكريم، فهم ليسوا على شئ حتى يقيموا التوراة الصحيحة و الإنجيل الصحيح و القرآن المنزل، وهذا كله لا يمكن بلوغه إلا بالقرآن المصدَّق المهيمن على سائر الكتب.
قال ابن حزم:
وَأما قَول الله عزوجل {يَا أهل الْكتاب لَسْتُم على شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} فَحق لامرية فِيهِ، وَهَكَذَا نقُول وَلَا سَبِيل لَهُم إِلَى إِقَامَتهَا أبدا لرفع مَا أسقطوا مِنْهَا فليسوا على شَيْء إِلَّا بِالْإِيمَان بِمُحَمد صلى الله عليه وسلم، فيكونوا حِينَئِذٍ مقيمين للتوراة وَالْإِنْجِيل، كلهم يُؤمنُونَ حِينَئِذٍ بِمَا أنزل الله مِنْهُمَا وُجِد أَو عُدِم، ويكذبون بِمَا بُدِّل فيهمَا مِمَّا لم ينزله الله تَعَالَى فيهمَا وَهَذِه هِيَ إقامتهما حَقًا فلاح صدق قَوْلنَا مُوَافقا لنَصّ الْآيَة بِلَا تَأْوِيل. وأما قوله تعالى {وليحكمْ أهل الْإِنْجِيل بِمَا أنزل الله فِيهِ} فحق على ظاهره؛ لأن الله -تعالى- أنزل فيه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، واتباع دينه ولا يكونون أبدا حاكمين بما أنزل الله تعالى فيه إلا باتباعهم دين محمد صلى الله عليه وسلم.
(1)
*وأما الإيمان بالرسل:
فمن أركان عقيدة المسلم أن تؤمن بالرسل والأنبياء السابقين، قال تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(البقرة/285)
وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا
(1)
الفصل (1/ 240)
مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء/152)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والمسلمون آمنوا بالأنبياء كلهم، ولم يفرقوا بين أحد منهم؛ فإن الإيمان بجميع النبيين فرض واجب، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بهم كلهم، ومن سب نبياً من الأنبياء فهو كافر يجب قتله باتفاق العلماء.
(1)
ولذا فمن كذَّب رسولاً من رسل الله -تعالى- فقد كذَّب كل الرسل، يدل عليه قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ)(الشعراء/105)، فأوقع التكذيب على المرسلين، وهم لم يكذبوا إلا الرسول المرسل إليهم؛ لأن من كذَّب رسولًا فقد كذَّب الرسل، لأن كل رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل، ولكونهم متفقين في الدعوة إلى الله عزوجل.
(2)
* يؤيده:
ما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:
(3)
وهذا لمن أبين الأدلة القاطعة على وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شرعته ناسخة لما سبقها من الشرائع.
فلو فُرض أنه وُجد اليوم نصرانى يشهد بوحدانية الله -تعالى - وبشرية المسيح عيسى الرسول عليه السلام، فلن يطأ الجنة حتى ينضوي تحت لواء وشريعة النبي صلى الله عليه وسلم.
* ومن الإيمان بالرسل أن نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى بعث رسلاً لا يحصيهم إلاّ هو سبحانه، وأن تؤمن بمن سمَّاه الله منهم، قال تعالى (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)(النساء/164)
فقوله تعالى (وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) أي: خلقاً آخرين لم يُذكروا في القرآن.
(1)
وانظرالصفدية (ص/311) ونواقض الإيمان (ص/178)
(2)
الجامع لأحكام القرآن (13/ 119) وفتح القدير (3/ 176)
(3)
أخرجه مسلم (153) وأحمد (8203)
ودل الإجمالُ في ذكر "الملائكة والكتب والرسل" في حديث الباب عَلى الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل، إلا من ثبتت تسميته فيجب الإيمان به عَلى التعْيين.
قد اختلف أهل العلم في عدد الأنبياء والمرسلين، وذلك بحسب ما ثبت عندهم من الأحاديث الوارد فيها ذِكر عددهم، فمن حسَّنها أو صححها فقد قال بمقتضاها، ومن ضعَّفها فقد قال بأن العدد لا يُعرف إلا بالوحي فيُتوقف في إثبات العدد.
(1)
* وقد فاضل الله -تعالى- بين رسله وأنبيائه، كما قال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)(البقرة/253)، وقال تعالى (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ)(الإسراء/55)
فجعل الخُلة لإبراهيم ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وجعل محمداً صلى الله عليه وسلم خير النبيين والرسل. فعن أَبُى هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
(2)
فإن قيل:
قال تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)(البقرة/285) فنهى عن التفريق بين الرسل!!
فالرد عليه:
عندنا أمران: التفريق والتفضيل، فالنهى الوارد هنا إنما هو عن
(1)
وقد ورد عن أبي ذر- رضى الله عنه- أنه قال: قلت: قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَمِ الْمُرْسَلُونَ؟ قَالَ:"ثَلَاثُ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ، جَمًّا غَفِيرًا "، وَقَالَ مَرَّةً:"خَمْسَةَ عَشَرَ ". أخرجه أحمد (21546)
، وهو حديث ضعيف جدّاً، إسناده ضعيف جداً لجهالة عبيد بن الخشخاش، ولضعف أبي عمر الدمشقي، وقال الدارقطني: المسعودي عن أبي عمر الدمشقي متروك. المسعودي: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة.
وأخرجه ابنُ حبان في صحيحه (361)، وفيه إبراهيم بن هشام الغسَّاني، قال الذهبي عنه: متروك، بل قال أبو حاتم: كذّاب، ومن هنا فقد حكم ابن الجوزي على الحديث بأنه موضوع مكذوب. ذكره شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وهذا الذي ذكره أحمد، وذكره محمد بن نصر، وغيرهما، يبين أنهم لم يعلموا عدد الكتب والرسل، وأن حديث أبي ذر في ذلك لم يثبت عندهم. وانظر مجموع الفتاوى (7/ 409).
(2)
أخرجه مسلم (2278)
التفريق بين الرسل في أصل الإيمان بهم، فالواجب على المسلم أن يؤمن بكل الرسل والأنبياء، ولا يكن كحال اليهود والنصارى الذين قال الله تعالى عنهم (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) (النساء/151)، وأما التفضيل فهذا مما سوَّغه الشرع في غير ما دليل.
*فإن قيل:
روى ابن عباس-رضى الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى "
(1)
*فجوابه:
أن هذا النهى متوجه إلى من قال ذلك على سبيل التنقّص من نبى الله يونس عليه السلام. فالتفضيل بين الأنبياء يكون محرماً إذا تضمن التنقص لبعضهم أو الازدراء ببعضهم، وإلا فالتفضيل والمفاضلة بينهم منصوص عليها في القرآن:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة/253].
وإنما خص بالذكر يونس عليه السلام لقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ) وهو يونس بن متى، عليه السلام، أي:
ولا تشابهه في الحال، التي أوصلته، وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت، وهو عدم صبره على قومه الصبر المطلوب منه، وذهابه مغاضبًا لربه عزوجل.
*فإن قيل:
قد روى أَنَس بْن مَالِكٍ - رضى الله عنه- أنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام» .
(2)
فالرد عليه:
أن هذا قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم تواضعاً منه، وإلا فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وأفضل الخلق على الإطلاق.
(1)
متفق عليه.
(2)
أخرجه مسلم (2369)
أويقال أن كان قبل أن يُوحى إليه أنه خير الخلق أجمعين.
* عود إلى حديث الباب:
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
وأماالإيمان بالْيَوْمِ الْآخِرِ فهو أحد أركان الإيمان الستة التي ينبني عليها إيمان العبد، وتستقيم بها عقيدته، ولا يصح بدونها دينه. فهو ركن من أركان الإيمان، فَرْضٌ الإيمان به، ولا يصح إيمانُ أحد ولا إسلامه حتى يؤمن باليوم الآخر، فمن أنكر البعث أو اليوم الآخر فإنه كافر.
قال تعالى (وإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)(الرعد/5)
قال السفَّارينى:
اعلم أن المعاد الجسماني حق واقع وصدق صادق دل عليه النقل الصحيح ولم يمنعه العقل فوجب الإيمان به، والتصديق بموجبه لأنه جاء في السماع الصحيح المنقول ودل عليه عند الجمهور صريح المعقول، وهذا مما يجب اعتقاده ويكفر منكره، وقد أنكره الطبائعيون والدهرية والملحدة وفيه تكذيب للنقل الصريح والعقل الصحيح على ما قرره المحققون من أهل الملة.
(1)
* وأول ما يكون في اليوم الآخر هو البعث، الذي هو إعادة الناس وإحياؤهم بعد تفرق أشلائهم وأجزائهم، وبعد صيرورتهم تراباً ورفاتاً، هذا أول ما يكون في ذلك اليوم.
قال تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)(البقرة/177)
وعَنْ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " بَخٍ بَخٍ، لَخَمْسٌ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالْوَلَدُ
(1)
لوامع الأنوار البهية (2/ 157)
الصَّالِحُ يُتَوَفَّى فَيَحْتَسِبُهُ، وَالِدَاهُ " وَقَالَ:" بَخٍ بَخٍ لِخَمْسٍ مَنْ لَقِيَ اللهَ مُسْتَيْقِنًا بِهِنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ: يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبِالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْحِسَابِ "
(1)
*وقد جعل الله -تعالى- الكفر باليوم الآخر نظير الكفر به سبحانه، فقال عزوجل (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا) [النساء: 136]
بل إن المتتبع لنصوص القرآن يجد أن الآيات الذى جاءت لإثبات البعث بعد الموت أكثر من تلك التي وردت في إثبت وجود الرب؛ وسبب ذلك إنما هو كثرة المنكرين للبعث مقارنة بمن أنكر وجود الرب عزوجل؛ فإن الإقرار بالرب أمر فطري في بني آدم، فكلهم يقرُّون بالرب فطرة، إلا من عاند، كفرعون والنمرود.
*ولاشك أن الإيمان باليوم الآخر له ثمرات عظيمة، وأعظمها على الإطلاق أنه يدفع صاحبه دفعاً إلى ملازمة العمل الصالح وحسن الامتثال لأوامر الشرع، لذا فالمستقرئ لأدلة الشرع يرى أن الكثير من الأدلة الشرعية قد ربطت بين الامتثال و الإيمان باليوم الآخر.
*فمن أدلة القرآن:
قال تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)(الأحزاب/21)
*ومن أدلة السنة:
عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ-رضى الله عنها -قَالَتْ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
(2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ ".
(3)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
…
«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ
(1)
أخرجه أحمد (15662) وابن حبان (833)، وانظرالصحيحة (1204).
(2)
أخرجه البخارى (5342)
(3)
أخرجه مسلم (1339)
فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»
(1)
*والإيمان باليوم الآخر يتضمن كل ما يكون ذلك اليوم بمشاهده المتلاحقة المتتابعة، من قيام الساعة و البعث من القبور، حين يأمر الله - تعالى - إسرافيل عليه السلام بالنفخ في الصور النفخة الثانية، ويبعث الله تبارك وتعالى الموتى من القبور.
ثم يُحشرالناس إلى أرض الموقف، ثم العرض والسؤال وتطاير الصحف، وأخذ كتب الأعمال و الحساب والميزان، ثم المرور على الصراط: وهو جسر منصوب فوق جهنم يمر عليه جميع الناس، ورود الحوض، ثم الجنة والنار.
ونفي شيء من هذه المشاهد هو إنكار للقرآن ومتواتر السنة وإجماع الأمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وأما طوائف من الكفار وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم فيقرون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط. وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون: لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد.
…
وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة فإنهم يحرِّفون الكلم عن مواضعه، ويقولون هذه أمثال ضربت لنفهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية
…
ومثل المتفلسفة الصابئة
…
، هؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان
…
.
(2)
قال القاضي عياض:
"
…
وكذلك من أنكر الجنة أو النار، أو البعث، أو الحساب، أو القيامة فهو كافر بإجماع؛ للنص عليه، وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً، وكذلك من اعترف بذلك، ولكنه قال: إن المراد بالجنة والنار والحشر والنشر
(1)
متفق عليه.
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 314) وانظر شرح منظومة الإيمان للبشير المراكشي (ص/204)
والثواب والعقاب معنى غير ظاهره، وإنها لذَّات روحانية، ومعان باطنة.
(1)
* عود إلى حديث الباب:
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»
وأما الإيمان بالقدر وهو الركن السادس من أركان الإيمان، وهذا ركن من الأركان التى يمتاز بها أهل السنة عن أهل البدع، والمخالفون في هذا الباب من أوائل أهل البدع الذين ظهروا في صدر الإسلام.
وقد ذكرنا في أول شرحنا لهذا الحديث أن مناسبته إنما جاءت لما خرجت نابتة سوء تخوض جهلاً وتنطق كفراً بنفى القدر وأن الأمر أُنُف، فتصدَّى لها أهل العلم من سلف الأمة من الصحابة -رضى الله عنهم- والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الناس هذا.
…
وأما معنى الإيمان بالقضاء والقدر ومراتبه، وما يتعلق بهذا الباب من شبهات والرد عليه فقد سبق ذكره مفصلاً عند شرحنا للحديث الرابع من هذا الكتاب، حديث "بلوغ العَلَم شرح حديث أول ما خلق الله القلم"، بما يغني عن إعادته.
* عودٌ إلى حديث الباب:
قَالَ جبريل عليه السلام: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ؟
قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
والمرتبة الثالثة من مراتب الدين هى الإحسان، وهذه المرتبة لها ركنان وهما:
أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذه ذروة مراتب الدين وأعلاها، وهو تمام الإخلاص.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]
قوله صلى الله عليه وسلم (أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)، وهذا يدفع إلى العمل، ويشعر بمراقبة الله --تعالى- ومعيته مع الإنسان؛ فإن رؤية الله -تعالى- لما تعذَّرت في الحياة الدنيا فعلى المرء أن يستشعر هذا المعنى مما يجعله يزداد إقبالاً ومحبة لربه تعالى.
(1)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 615)
قال النووي:
وهذا مقام المشاهدة، فمن قدر أن يشاهد الملك استحى أن يلتفت إلى غيره في الصلاة وأن يشغل قلبه بغيره.
(1)
قوله صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» :
كما قال تعالى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 217 - 220]
ولهذه المرتبة ثمرات عظيمة ومنها أن الشخص إذا ما استحضر مراقبة الله -تعالى- له فإنه يزداد لله -تعالى- خشية ورهبة، مما يحمله على زجر النفس عن المعصية وحملها على الطاعة، قال تعالى (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)(الرحمن /46)، وقال تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (عبس/41)
قال عبد الرحمن بن قاسم:
هذا القدر من الحديث أصل من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد العلم، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، فإن إحسان العبادة: هو الإخلاص فيها، والخضوع، وفراغ البال حال التلبس بها، ومراقبة المعبود، وأشار في الجواب إلى حالتين:
أرفعهما: أن يغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه حتى كأنه يراه، والثانية: أن يستحضر الحق - تعالى - مطلعاً عليه، يرى كل ما يعمل.
(2)
* عود إلى حديث الباب:
قَالَ جبريل عليه السلام: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْسَاعة؟
قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» معنى قوله: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أن علم الساعة استوى الخلق فيه، حتى الملائكة والرسل لا يعلمون ذلك، وإنما هو مستأثر عند الله جل وعلا، لا يعلم وقتها إلا الله تعالى.
فهى من علم الله عز وجل الخاص به الذي لم يطلع عليه أحد،
(1)
شرح الأربعين (ص/22)
(2)
حاشية عبد الرحمن بن قاسم على الأصول الثلاثة (ص/118)
قال تعالى {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] فهي واقعة، ولكن وقت وقوعها غير معلوم.
وقال تعالى (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا)(الأحزاب/63)
وسبب السؤال عن الساعة زجر الناس عن السؤال عنها، فإنهم أكثروا السؤال عنها، كما قال تعالى:{يسألك الناس عن الساعة} ، فلما أجيبوا بأنه لا يعلمها إلا الله -سبحانه- كفوا؛ لأن معنى:" ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ": لا علم لى ولا لك ولا لأحد به.
(1)
قَالَ جبريل عليه السلام: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا؟، قَالَ صلى الله عليه وسلم:
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمةُ ربتَها):
اختلف العلماء في معنى ذلك عَلى سبعة أوجه، لكنها متداخلة، وتلخص على أربعة أقوال:
القول الأول:
قال الخطابي: معناه: اتساع الإسلام واستيلاء أهله على بلاد الشرك وسبي ذراريهم، فإذا ملك الرجل الجارية واستولدها كان الولد منها بمنزلة ربها، لأنّه ولد سيدها، قال النووي وغيره: إنه قول الأكثرين.
واعترض الحافظ ابن حجر على ذلك فقال:
لكن في كونه المراد نظر؛ لأن استيلاء الإماء كان موجوداً حين المقالة، والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري وقع أكثره في صدر الإسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع مالم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة.
القول الثاني:
إن تبيع السادة أمهات أولادهم ويكثر ذلك فيتداول الملاك المستولدة حتى يشتريها ولدها، ولا يشعر بذلك.
(1)
وانظر صحيح مسلم وشرحه المسمى " إكمال إكمال المعلم "(1/ 69) لمحمد بن خلفة الوشتاني الأبي المتوفى (827 - 828 هـ)
القول الثالث:
قال النووي: لا يختص شراء الولد أمه بأمهات الأولاد، بل يتصور في غيرهن بأن تلد الأمة حراً من غير سيدها بوطء شبهةٍ، أو رقيقاً بنكاح، أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعاً صحيحاً، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أوابنتها.
القول الرابع:
أن يكثر العقوق في الأولاد فيُعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة
بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليه ربها مجازاً لذلك، أوالمراد بالرب المربي فيكون حقيقة.
والراجح - والله أعلم -القول الرابع، وهو الذي رجحه الحافظ ابن حجر، وقال بعد أن ذكر الترجيح:
ولأن المقام يدل على المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال مستغربة، ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور. بحيث يصير المربى مربياً، والسافل عالياً، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى:(أن تصير الحفاة ملوك الأرض)
(1)
.
*ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ " فهذه هى العلامة الثانية، وهى كون البدو رعاء الشاء - رعاة الغنم والإبل- أهل تمدن يتطاولون في البنيان، أي: يتنافسون في البناء وحسنه وارتفاعه، وهذا حصل في مراحل متعددة من تاريخ المسلمين.
قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي:«يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»
* فوائد فى الختام:
الفائدة الأولى:
هل يستدل بحديث الباب على أن أعمال الجوارح ليست من الإيمان، لأنه ذكرها في معرض السؤال عن الإسلام؟؟؟
والجواب:
قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسمًا لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسماً
(1)
انظر فتح الباري (1/ 162) وصحيح مسلم شرح النووي (1/ 177)
لما بطن من الاعتقاد، وليس ذَلِكَ؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذَلِكَ تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين؛ ولهذا قَالَ صلى الله عليه وسلم:"أتاكم جبريل يعلمكم دينكم". والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى:{إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]، {ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة: 3]، {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} [آل عمران: 85]
فأخبر أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولن يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل.
(1)
ثم يقال هنا:
كما فُسر الإيمان بالإعتقاد في حديث جبريل عليه السلام فقد فُسر بالعمل، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة:
قال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)) (الأنفال /4)
وقال تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)) (الحجرات/15)
و في حديث وَفْد عَبْدِ القَيْسِ، فقد قَالَ لهم النبي صلى الله عليه وسلم:
«أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ» .
(2)
قال الخطابي:
فضم هذه الأعمال إلى كلمة الشهادة وجعلها كلها إيماناً، وهذا يبين لك أن اسم الإيمان قد يدخل على الإسلام واسم الإسلام يدخل على
(1)
وانظر شرح السنة (1/ 59) والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (2/ 457)
(2)
متفق عليه.
الإيمان، وذلك لأن معنى الإيمان التصديق ومعنى الإسلام الاستسلام، وقد يتحقق معنى القول بفعل الجوارح ثم يتحقق الفعل ويصح بتصديق القلب نية وعزيمة، وجماع ذلك كله الدين، وهو معنى قوله جبريل أتاكم يعلمكم دينكم.
(1)
ودفعاً لِتوهّم التعارض بين حديث جبريل وحديث وفد عبد القيس، فقد جمع السلف بينهما ـ على أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا. وإذا افترقا اجتمعا. فالإيمان والإسلام إذا ذُكرا مجتمعَين، كما في حديث جبريل، فإنه يراد من كل منهما غير ما يراد من الآخر، فيراد من الإيمان ما في القلب، من الإيمان بالله وملائكته
…
إلى آخر ما ذُكر في الحديث. ويراد بالإسلام الشهادتان بتوابعهما من الأعمال الظاهرة. وإذا ذُكر أحدهما مجرداً عن الآخر دخل الآخر فيه، كما في حديث وفد عبد القيس.
فما يسمى إسلاماً يسمى إيماناً، وأن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان، فإذا ذُكر أحدهما دخل فيه الآخر.
فلا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهرإلا بإيمان باطن، وأن الإيمان والعمل قرينان، لا ينفع أحدهما بدون صاحبه.
(2)
وخلاصة ما سبق أن يقال:
والإسلام والإيمان إذا ذكرا جميعا فالإسلام معناه الأعمال الظاهرة، والإيمان هو الأعمال الباطنة، أعمال القلوب، وما يقوم به من التصديق والعلم، ولا بد من الإسلام والإيمان جميعا، الإسلام الأعمال الظاهرة، والإيمان الأعمال الباطنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«الإسلام علانية، والإيمان في القلب» ، فإن ذكرا جميعا صار لكل واحد معنى خاص به، وإذا ذكر واحد منهما دخل فيه الآخر، إذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان؛ لأنه لا يصح إسلام
(1)
معالم السنن (3/ 538)
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (1/ 138) والإيمان بين السلف والمتكلمين (ص/37)
بدون إيمان، ولا يصح إيمان بدون إسلام، لا بد من الاثنين، فهما متلازمان، ولهذا يقولون: إن الإسلام والإيمان من الأسماء التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا انفردت اجتمعت، أي: يدخل بعضها في بعض لأنهما متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر.
(1)
تم بحمد الله.
(1)
شرح الأصول الثلاثة لصالح الفوزان (ص/233)