الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نِدًّا لله -تعالى - وشبيهاً لله سبحانه وتعالى.
(1)
* وعن قتيلة- بالتصغير- رضي الله عنها أَنَّ يَهُودِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
إِنَّكُمْ تُنَدِّدُونَ، وَإِنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ. وَتَقُولُونَ: وَالْكَعْبَةِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا:
وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَيَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ شِئْتَ.
(2)
قال ابن مسعود رضى الله عنه:
لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً.
(3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك.
(4)
* أما
حكم الحلف بغير الله - تعالى
- فهو على تفصيل:
أ) الحالة الأولى:
من أقسم بغير الله -تعالى- معتقداً في المحلوف به من التعظيم ما لا يعتقده إلا في الله - تعالى-، أو اعتقد لزوم يمينه بغير الله -تعالى- كاعتقاد لزومها بالله فهذا كفر وردة عن دين الله عزوجل، وعليه يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم:
.
…
«مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ، أَوْ أَشْرَكَ» .
(5)
قال الشوكانى:
وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء المقبورين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجراً، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك أو الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق.
(1)
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 506)
(2)
أخرجه أحمد (27093) والنسائي (3773) والحاكم (7815) وصححه ابن حجر فى الإِصابة (4/ 389) والنسائي، كما في فتح الباري (11/ 540) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبى.
(3)
أخرجه عبدالرزاق (15929)، وقال المنذري في " الترغيب " (5/ 209):" ورواته رواة الصحيح "، وقال الهيثمي في " المجمع " (4/ 177):" ورجاله رجال الصحيح ". وصححه الألباني في الإرواء (2562)
(4)
مجموع الفتاوى (33/ 123) والفروع (4/ 433)
(5)
أخرجه أبوداود (3251) والترمذى (1535) قال الترمذى: هذا حديث حسن. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال:
إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة، فيا علماء الدين ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله؟!
وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة؟! وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبا؟!
(1)
قال سليمان بن عبد الله:
الذي يفعله عبَّاد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله، أعطاك ما شئت من الأيمان صادقًا أو كاذبًا. فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أو تربته أو حياته، ونحو ذلك، لم يقدم على اليمين به إن كان كاذبًا. فهذا شرك أكبر بلا ريب، لأن المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من الله.
(2)
ب) الحالة الثانية:
من أقسم بغير الله -تعالى- معتقداً في المحلوف به من التعظيم دون ما يعتقده في الله - تعالى- فهذا مما يقع تحت الشرك الأصغر الذى لا يُخرج من الملة.
وإنما سُمَّى شركاً لأن من حلف بغير الله-تعالى- فقد جعل من حلف به كما الله- تعالى - محلوفاً به، وإن لم يكن معظماً له كتعظيمه لله عزوجل، وهذا مما يعد من شرك الأعمال، ولا يدخل في شرك الاعتقاد.
(3)
جـ) الحالة الثالثة:
من أقسم بغير الله -تعالى- دون أن يعتقد في المحلوف به تعظيماً، سواء في ذلك أكان هذا المحلوف به معظَّماً، كالملائكة والأنبياء والكعبة، أم غير معظم كالأباء والأبناء، وهذه التى وقع فيها الخلاف بين العلماء على قولين:
1) القول الأول:
الكراهة:
وهو قول المالكية وجمهور الشافعية والظاهرية، وهو قول عند
(1)
وانظر نيل الأوطار (4/ 120) والزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 344)
(2)
تيسير العزيز الحميد (ص/514)
قلت:
ولا شك أن كلام الشوكانى وسليمان بن عبد الله يوضح لك الفرق الذى يعسرعلى البعض الوقوف عليه، وهو الفرق بين من يقسم بغير الله -تعالى- معظماً لمن يقسم به كتعظيمه لله أو أشد وهو الشرك الأكبر، وبين من يقسم بغير الله -تعالى- معظماً لمن يقسم به دون تعظيمه لله تعالى.
(3)
شرح مشكل الآثار (2/ 290) وعارضة الاحوذى (7/ 19)
الحنفية والحنابلة.
(1)
2) القول الثانى:
التحريم: وهو المشهور عند الحنفية والحنابلة، وقول أهل الظاهر وهو قول عند المالكية و الشافعية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الراجح والله أعلم.
(2)
يدل عليه:
أ) النهى الذى قد ورد في حديث الباب، حديث عمر بن الخطاب -رضى الله عنه-:
(من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله)، فهو نهى عن الحلف بغير الله تعالى، والأصل في النهى التحريم.
قال القرطبي:
قوله: (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله) فظاهر النهي التحريم، ولا ينبغي أن يختلف في تحريمه.
(3)
ب) وعن سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَاصٍ -رضى الله عنه- قَالَ:
حَلَفْت بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ أصْحَابِي: قُلْتَ هُجْراً، فَأتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْعَهدَ كَانَ قَريباً، وَحَلَفْتُ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قُلْ لا إله إِلاَّ الله وَحْدَهُ ثَلَاثاً، ثُمَّ اتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثَاً، وَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ،
وَلَا تَعُدْ".
(4)
فقوله " صلى الله عليه وسلم: وَلَا تَعُدْ" نهى عن العودة للحلف بغير الله تعالى، والأصل في النهى التحريم.
3 -
الفائدة الثالثة:
اتفق العلماء أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية،
(1)
الروضة (4/ 466) وابن مفلح في الفروع (4/ 433) وفتح الباري (11/ 53)
(2)
وانظرمجموع الفتاوى (1/ 335) وفتح الباري (11/ 531) والمسائل العقدية التى حكى فيها ابن تيمية الإجماع (ص/229)
(3)
المُفْهِم لما أَشْكَلَ من تلخيص كتاب مسلم (4/ 621) وانظر "أحاديث يوهم ظاهرها التعارض"(ص/ 233)
(4)
أخرجه أحمد (1590) وابن حبان (1178) صححه الشيخ أحمد شاكر، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين؛ فقد أخرج الشيخان في صحيحهما لأبي إسحاق من رواية إسرائيل.
فمن أقسم بالله - تعالى - أو بصفة من صفاته أو بفعل من أفعاله فقد انعقدت ييمينه، فإن حنث فعليه الكفارة، وهذا مما لا خلاف فيه بين علماء الأمصار، إلا ما ذكر عن الشافعى على أصله على من اشترط نية اليمين فى الحالف بالصفات.
(1)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بالله وصفاته وأفعاله:
عَنْ أُمِّ العَلَاءِ - رضى الله عنه- قَالَتْ:
اشْتَكَى عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ -رضى الله عنه- فَمَرَّضْنَاهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
وَمَا يُدْرِيكِ، أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ اليَقِينُ، إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الخَيْرَ مِنَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي - وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ - مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ.
(2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر - رضى الله عنهما- قَالَ:
كَثِيرًا مِمَّا كَانَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُ: لَا وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ.
(3)
وعن أبي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
(4)
وعن أَبُى هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
(5)
وعن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه- قال:
من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، ومن
(1)
وانظر المحلى (8/ 43) وإكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 401)
قال ابن رشد:
وأما من منع الحلف بصفات الله وبأفعاله فضعيف، وسبب اختلافهم هو هل يقتصر بالحديث على ما جاء من تعليق الحكم فيه بالاسم فقط; أو يُعدَّى إلى الصفات والأفعال، لكن تعليق الحكم في الحديث بالاسم فقط جمود كثير، وهو أشبه بمذهب= =أهل الظاهر وإن كان مرويا في المذهب، حكاه اللخمي عن محمد بن المواز. وشذت فرقة فمنعت اليمين بالله عز وجل، والحديث نص في مخالفة هذا المذهب. بداية المجتهد (1/ 719)
(2)
أخرجه البخاري (3929)
(3)
أخرجه البخاري (6617)
(4)
أخرجه البخاري (3120) ومسلم (2918)
(5)
متفق عليه.
كَفَرَ بحرف منه كَفَرَ به أجمع.
(1)
ففي هذه الأحاديث حجة على جواز الحلف بأسماء الله -تعالى - و صفاته و أفعاله، فإذا حنث فقد وجبت عليه الكفارة، ولا نزاع في أصل ذلك وإنما الخلاف في أي صفة تنعقد بها اليمين، والتحقيق أنها مختصة بالتي لا يشاركه فيها غيره كمقلب القلوب.
(2)
قال ابن الملقن:
أهل السنة أجمعوا على أن صفات الله أسماء له
(3)
، ولا يجوز أن تكون صفات غيره، فالحلف بها كالحلف في أسمائه يجب فيها الكفارة، ألا ترى أنه عليه السلام كثيرًا ما كان يحلف "لا ومقلب القلوب"، وتقليبه لقلوب عباده صفة من صفاته، ولا يجوز على الشارع أن يحلف بما ليس بيمين؛ لأنه قال:"من كان حالفًا فليحلف بالله ".
(4)
قال ابن هبيرة:
أجمعوا على أن اليمين منعقدة بالله وبجميع أسمائه الحسنى وبجميع صفات ذاته، كعزته وجلاله وعلمه وقوته وقدرته.
(5)
*يؤيده:
أن الحلف بصفات الله -تعالى- كالاستعاذة بها، فإذا كانت الاستعاذة لا تكون إلا بالله في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم {أعوذ بوجهك} {وأعوذ بكلمات الله التامات} {وأعوذ برضاك من سخطك} ونحو ذلك، فكذلك الحلف، وهذا أمر متقرر عند العلماء.
(6)
4 -
الفائدة الرابعة:
قد دل حديث الباب على أن الحلف بغير الله -تعالى - منهى عنه، ولا ينعقد به يمين، ووجه الدلالة أن عمر -رضى الله عنه - لما قال: لَا وَأَبِي، سَمِعَه رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
لَا
(1)
أخرجه مسدد (المطالب 2/ 236) وانظر " ما صح من آثار الصحابة في الفقه " لزكريا بن قادر الباكستاني (3/ 1130)
(2)
وانظر فتح الباري شرح صحيح البخاري (11/ 735) وتحفة الأحوذي (5/ 120) وتفسير القرطبي (6/ 174)
(3)
يقصد المصنف بصفات الله الصفات المعنوية لأن الاشاعرة الذين عبر عنهم في السياق بأهل السنة لا يثبتون غيرها.
(4)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/ 294)
(5)
وانظرإجماع الأئمة الأربعة واختلافهم (2/ 239) واقتضاء الصراط المستقيم (ص/554) والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/ 256)
(6)
مجموع الفتاوى (35/ 273)
تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللهَ عز وجل يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ "، ولم يأمره بكفارة.
* يؤيده:
ما روي أَبِو هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(1)
؛ لأنه لم يذكر فيه الكفارة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
لا يُقسَم بمخلوق مطلقاً، وهذا القسم منهي عنه، غير منعقد باتفاق الأئمة، ولا كفارة في الحلف بذلك.
(2)
وقد ذهب أبوحنيفة إلى القول بوجوب الكفارة في الحلف بما لا يجوز من هذا النوع، وقد تعلَّق بان الله - سبحانه - أوجب على المظاهر الكفارة، وعلل بأنه منكر من القول وزور، والحلف بهذا منكر من القول وزور.
(3)
وقول الجمهور هو الراجح؛ وذلك للأحاديث التى استدلوا بها، فلا عبرة لنظر في وجود نص.
*فرع:
اختلف العلماء فمن حلف فقال " إن فعل كذا فهو يهودى أو نصرانى، أو هو بريء من الإسلام "،
(1)
متفق عليه.
(2)
وانظر مجموع الفتاوى (1/ 204) والتمهيد (5/ 557) والمنتقى شرح الموطإ (3/ 259)
وقال أحمد في رواية عنه فقال تنعقد يمين من أقسم بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أحد شرطى الشهادة فالحلف به موجب للكفارة كالحلف باسم الله تعالى، والجمهور على خلافه، وقولهم هو الراجح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).
ولأنه حلف بغير الله - تعالى - فلم توجب الكفارة بالحنث فيه كسائر الأنبياء، ولأنه مخلوق فلم تجب الكفارة بالحلف به كالحلف بإبراهيم عليه السلام، ولأنه ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص، ولا يصح قياس اسم غير الله -تعالى- على اسمه لعدم الشبه وانتفاء المماثلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصواب ما عليه الجمهور من أنه لا تنعقد اليمين بمخلوق، لا النبي صلى الله عليه وسلم ولاغيره. ا. هـ
وانظر إجماع الأئمة الأربعة (4/ 273) والمغنى (8/ 704) والاستغاثة في الرد على البكري (ص/243) والشرح الكبير
مع المقنع والإنصاف (27/ 467)
(3)
المبسوط (8/ 130) وإكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 400)
فذهب المالكية والشافعية إلى أنه ليس بيمين منعقد، ولا كفارة على قائله؛ وعلة ذلك أن الأيمان إنما تنعقد بمن لزمت طاعته وعظمت حرمته، وهذ لا يكون إلا لله تعالى، وعليه ففي هذه الحال يجب عليه أن يستغفر الله، ويقول " لا إله إلا الله ".
في حين أوجب أصحاب الرأي عليه كفارة يمين. وهو قول أحمد وإسحاق، وذلك إذا
أراد قائله اليمين؛ وذلك بناءً على أن الأيمان تنعقد بكل ما عظم الشرع حرمته، لأن الحلف بالتعظيم كالحلف بترك التعظيم، وذلك أنه كما يجب التعظيم يجب أن لا يترك التعظيم، فكما أن من حلف بوجوب حق الله عليه لزمه، كذلك من حلف بترك وجوبه لزمه.
(1)
والراجح -والله أعلم- هو القول الأول.
5 -
الفائدة الخامسة: كفارة الحلف بغير الله تعالى:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: وَاللَّاتِ وَالعُزَّى، فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ".
(2)
*وعن سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَاصٍ -رضى الله عنه- قَالَ:
حَلَفْت بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ أصْحَابِي: قُلْتَ هُجْراً، فَأتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ الْعَهدَ كَانَ قَريباً، وَحَلَفْتُ بِاللاَّتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قُلْ لا إله إِلاَّ الله وَحْدَهُ ثَلَاثاً، ثُمَّ اتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثَاً، وَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ،
لَا تَعُدْ".
(3)
وبيان ذلك أن الحلف بغير الله -تعالى- سيئة، والحسنة تمحو السيئة، ولأن من حلف بغير الله -تعالى- معتقداً في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله - تعالى- أو دون ذلك فقد أشرك غير الله مع الله - تعالى - في تعظيمه بالقسم به، ولهذا سُمَّى شركاً،
(1)
المجموع للنووي (19/ 115) وبدائع الصنائع (4/ 31) و بداية المجتهد (1/ 722)
(2)
متفق عليه.
(3)
أخرجه أحمد (1590) وابن حبان (1178) صححه الشيخ أحمد شاكر، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين؛ فقد أخرج الشيخان في صحيحهما لأبي إسحاق من رواية إسرائيل.
لذا فقد وجب علي أن يقول: " لا إله إلا الله "؛ توحيداً لله - تعالى- وبراءة من الشرك.
(1)
-
* ختاماً: إشكالات والرد عنها:
الإشكال الأول:
قد أقسم الله -تعالى - في كتابه بكثير من مخلوقاته، مثل قوله:{والسماء والطارق} [الطارق: 1]، وقوله:{والنجم إذا هوى} [النجم: 1] إلى غير ذلك من الأقسام الواردة في القرآن،
وقد ورد في حديث الباب أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» ، فكيف الجواب عن هذا الإشكال؟؟
*نقول:
قبل الرد عن هذا الإشكال لابد أن نقعِّد أصلاً مهماً في هذا الباب:
فلابد أن نعلم أن الله - تعالى- فعَّال لما يريد، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وليس للعبد أن يسأل الرب عن فعله لم فعله، وإنما الواجب عليه أن يفعل ما يأمره الله -تعالى - به، ممتثلين في ذلك قول الذين} قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {.
*ثم الرد عن ذلك من وجوه:
أ) الأول:
قيل أن هذه الأشياء المقسَم بها في كتاب الله -تعالى - فيها إضمار تقديرُه محذوف، وهو الله تبارك وتعالى، فتقدير الكلام:" ورب النجم، ورب السماء".
(2)
وهذا جواب مرجوح؛ فالأصل في الكلام عدم التقدير.
ب) الثانى:
قيل أن المقصود بالنهى في حديث الباب إنما هو ألا يُعَظَّمَ مَنْ لَمْ يُعَظِّمِ الشَّرْعُ، بدليل قوله فيه:«إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» ، وأن هذا من باب الخاص الذي أريد به العام، أجاز الحلف بكل معظم في الشرع.
(3)
وعليه فلا حرج في القسم بما عظَّمه الشرع، ومن ذلك آيات الله -تعالى - وبديع مخلوقاته.
وهذا جواب مرجوح، يرده ما ورد فى حديث الباب:
" إِنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ
(1)
المغنى (13/ 438)
(2)
التمهيد (5/ 203) والفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ (4/ 2442)
(3)
بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/ 718)
دُونَ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فلَا يَحْلِفْ إِلَّا بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ" فحرّم القسم بكل ما سوى الله -تعالى- ولو كان المقسَم به معظماً في الشرع.
ج) الثالث وهو الراجح، والله أعلم:
أن الله - تعالى - قد أقسم بذات هذه المخلوقات؛ وذلك لحكم بالغة، نذكر منها:
1) التنبيه على دلائل قدرته وعظمته، فهو خالقها وربها.
2) أن الإقسام بهذه المخلوقات هى دعوة للعباد ليتفكروا في عظمة هذه المخلوقات، ويعلموا أن هذا الخلق دليل من أدلة كثيرة على أنه سبحانه وتعالى خالقهم لا خالق لهم سواه؛ فيكون المستحق للعبادة وحده.
(1)
قال الشعبي:
الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق.
وقال مطرف بن عبد الله:
إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليُعَجْبَ بها المخلوقين، ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها.
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
فإن الله يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته، فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته ومشيئته ورحمته وحكمته وعظمته وعزته، فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه، ونحن المخلوقون ليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع.
(3)
*الإشكال الثانى:
قول الرَسُول صلى الله عليه وسلم للرجل الذى قال له:
" وَاللهِ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ ": " أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ "!!
* وقد أجاب العلماء ذلك من وجوه:
1) الأول:
أن لفظة " وأبيه " غير محفوظة، وقد جاءت عن راويها، وهو إسماعيل بن جعفر بلفظ:«أَفْلَحَ وَاللَّهِ إِنْ صَدَقَ» ، وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ: " أفلح
(1)
شرح النووي على مسلم (6/ 117) والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/ 259)
(2)
شرح صحيح البخارى لابن بطال (6/ 97)
(3)
مجموع الفتاوى (1/ 290)
وأبيه "، لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح، ولم تقع في رواية مالك أصلًا.
(1)
*وجواب ذلك ما قاله ابن الملقن:
وهذا عجيب، فالزيادة بـ " وأبيه " لا شك في صحتها ولا مرية.
(2)
قلت:
ومما يؤيد ذلك أنه قد ورد لهذه اللفظة نظائر في في موضعين من الصحيح:
ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فَقَالَ:
" أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّهُ أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ.
(3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ، نَعَمْ، وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ» .
(4)
2) الثانى:
أن ذلك كان قبل النهي عن الحلف يغبر الله تعالى، قاله الماوردي والطحاوى، وقال السبكي أكثر الشرَّاح عليه، ونص ابن عبد البر ابن قدامة على أن لفظة " وأبيه " إن صحت فهى منسوخة.
(5)
واستدلوا على ذلك بحديث قُتَيْلَةَ بِنْتِ صَيْفِيٍّ الْجُهَنِيَّةِ -رضى الله عنها- قَالتْ:
أَتَى حَبْرٌ مِنَ الْأَحْبَارِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، فَقَالَ:
" سُبْحَانَ اللهِ " قَالَ: إنَّكُمْ تَقُولُونَ إذَا حَلَفْتُمْ وَالْكَعْبَةِ قَالَ: فَأَمْهَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ:" إنَّهُ قَدْ قَالَ لِمَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِرَبِّ الْكَعْبَةِ ".
(6)
فكان في هذا الحديث ذكر سبب النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى، وكان في ذلك ما قد دل على أن المتأخر من المعنيين المختلفين اللذين
(1)
التمهيد (5/ 557) وتيسير العزيز الحميد شرح كتاب التّوحيد (ص/512)
(2)
الإعلام بفوائد عمدة الأحكام (9/ 255)
(3)
أخرجه مسلم (1032)
(4)
أخرجه مسلم (2548)
(5)
مشكل الأثار (2/ 294) وفتح الباري (11/ 745) والمغنى (11/ 163)
(6)
سبق تخريجه.
ذكرناهما في هذا الباب هو النهي عن الحلف بغير الله تعالى لا الإباحة.
(1)
4) الثالث:
أن فيه إضمار اسم الرب، كأنه قال " ورب أبيه "، ذكره الخطابي.
(2)
* ويجاب على ذلك:
بأنه خلاف الأصل؛ فالأصل في الكلام عدم التقدير.
5) الرابع:
أن ذلك خاص بالشارع دون غيره من أمته.
وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، فالأصل العام أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله هى من باب التشريع، إلا ما خصه الدليل.
3) الخامس:
أن لفظة " وأبيه " تقع على وجهين:
أحدهما للتعظيم والآخر للتأكيد، فقوله " وأبيه "في الحديث إنما هى من باب التأكيد، فقد كانت هذه كلمة جارية على ألسنتهم من باب التأكيد لا التعظيم، كقوله " ولعمري "
(3)
، والنهي إنما وقع عمن قصد بها التعظيم؛ لأن هذا هو مقصود اليمين الشرعى.
يؤيده:
أن فيه ذكر أبي الأعرابي، ولا يُحلف بأبي الغير تعظيماً وتوقيراً.
(4)
فكانت كلمة "وأبيه " لا يقصد بها القسم، ونظير ذلك ما جرى على لسانهم من قول:
" عقرى حلقى، وثكلتك أمك، وتربت يمينك "، وهذا مما لا شك فيه أن قائله لا يقصد به الدعاء على الشخص المخَاطب بها، وقال به البيهقى والقاضى عياض والقرطبي.
(1)
شرح مشكل الآثار (2/ 295)
(2)
معالم السنن (1/ 157)
(3)
عَنْ خَارِجَةَ بْنِ الصَّلْتِ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ فَأَتَوْهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ جِئْتَ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ بِخَيْرٍ، فَارْقِ لَنَا هَذَا الرَّجُلَ فَأَتَوْهُ بِرَجُلٍ مَعْتُوهٍ فِي الْقُيُودِ، فَرَقَاهُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، وَكُلَّمَا خَتَمَهَا جَمَعَ بُزَاقَهُ، ثُمَّ تَفَلَ فَكَأَنَّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَأَعْطَوْهُ شَيْئًا، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"كُلْ؛ فَلَعَمْرِي لَمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةٍ بَاطِلٍ، لَقَدْ أَكَلْتَ بِرُقْيَةٍ حَقٍّ"(أخرجه أبوداود (3420)، وصححه الألبانى)
وقد ورد في المدونة الكبري أن الإمام مالكاً رحمه الله سئل: أرأيتَ قولة (لعمري) أتكون هذه يمينًا؟
قال: «لا تكون يمينًا» . وانظر كشف شبهات الصوفية (ص/130)
(4)
المجموع للنووي (14/ 116) وشرح السنة (10/ 7)
قال النووي:
«أفلح وأبيه» ليس حلفًا، إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته به ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الجواب المُرضي.
(1)
*ومما يؤيد هذا الجواب:
بأن سياق حديث الباب الوارد عن عمر -رضى الله عنه - يدل على أنه كان يحلف؛ لأنه
قال " وأبي "، فقيل له:" لا تحلفوا بآباءكم "، فدل ذلك على الفارق بين كلمتى:
" وأبى، و أبيه ".
* والراجح -والله أعلم - هو المسلك الخامس، فهو أقرب الأقوال للصواب، يليه في القوة المسلك الثانى الذى جنح إلى القول بالنسخ.
وصلى الله على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم.
(1)
شرح النووي على مسلم (1/ 282)، وانظر السُّنن الكبير (10/ 29) وإِكمَال المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم (5/ 400)