المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

نص حديث الباب:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ:

أَبُو هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه -:

وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم: 30] الْآيَةَ.

* تخريج الحديث:

أخرجه البخاري (1358) بَابُ: إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ، هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِيِّ الإِسْلَامُ، ومسلم (2658) بَابُ: مَعْنَى كُلِّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَحُكْمِ مَوْتِ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ وَأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ.

في هذا الحديث يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ميثاقاً من المواثيق الذي أخذها الله -عزوجل-علي عباده، وهو ميثاق الفطرة؛ وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ "

وميثاق الفطرة أحد‌

‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

.

*وهنا نذكر هذه المواثيق بشئ من الإيجاز:

1 -

الميثاق الأول " ميثاق الذر":

ودليل هذا الميثاق ما قد ورد في قوله تعالى:

} وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا {(الأعراف/172)

فهذا الميثاق قد أخذه الله -عزوجل-على عباده وهم في ظهر آدم عليه السلام، أخرجهم جميعاً وكلَّمهم وسألهم فأجابوا:} أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا {

ص: 443

قال ابن رجب:

وقد تكاثرت الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة في تفسير الآية أنه تعالى استنطقهم حينئذ، فأقرُّوا كلهم بوحدانيته، وأشهدهم على أنفسهم، وأشهد عليهم أباهم آدم والملائكة.

(1)

قال ابن الأنبارى:

مذهب أهل الحديث وكبراء أهل العلم في هذه الآية أن الله -تعالى- أخرج ذرية آدم عليه السلام من صلبه وأصلاب أولاده وهم في صور الذر، فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون فاعترفوا بذلك وقبلوا ذلك.

(2)

*وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ-رضى الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ ذُرِّيَّةً ذَرَاهَا فَنَثَرَهُمْ نَثْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ، فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟

قَالُوا: بَلَى، شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ، وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ، أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ".

(3)

*يؤيده:

ما رواه أَنَسُ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:

يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ:

أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا، وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي ".

(4)

(1)

الحكم الجديرة بالإذاعة (ص/13)

(2)

الروح لابن القيم (ص/163)

(3)

أخرجه أحمد (2455) والنسائي (1119) والحاكم (75)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبر. ووافقه الذهبي.

وكلثوم هذا قد وثقه أحمد وابن معين، وقال ابن حجر: صدوق يخطئ.

*تنبيه:

من العلماء من روى أثر ابن عباس رضي الله عنه موقوفاً، وأعل به المرفوع، كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.

، والحديث قد ذكره ابن كثير في تفسيره (3/ 310)، وتكلم في تعليله، وجعل كثرة رواة وقفه علة في رد رواية من رفعه.

وصحح الشيخ أحمد شاكر إسناده مرفوعاً، ثم قال في تحقيقه للمسند (3/ 118):

" وكأن ابن كثير يريد تعليل المرفوع بالموقوف! وما هذه بعلة، والرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة صحيحة".

، ورجَّح الألباني وقفه، ونص أن هذا مما لا يقال بالرأي، فله حكم الرفع.

وانظر صَحِيح الْجَامِع (1701) والسلسلة الصحيحة (1623)

(4)

متفق عليه.

ص: 444

قال القاضي عياض:

قوله صلى الله عليه وسلم (وأنت في صلب آدم): يشير بذلك إلى قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم.....) الآية، فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم.

(1)

* تنبيه مهم:

قد حمل ابن كثيرقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ....)

على أنه ميثاق الفطرة الوارد في حديث (كلُ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ....)،

وتكلم في تعليل الحديث المرفوع الوارد في هذه المسألة، وجعل كثرة رواة وقفه علة في رد رواية من رفعه.

وممن قال بأن المراد بميثاق الذر ليس هو الاستخراج والاستنطاق، وإنما هو نفسه ميثاق الفطرة:

حمَّاد بن سلمة والحسن البصري وابن بطة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.

(2)

*والصحيح -والله أعلم - هو القول الأول، أن المراد بميثاق الذر هو ما ورد في حديث ابن عباس من الاستخراج والاستنطاق.

ولا شك أن الرفع الوراد في حديث ابن عباس - رضى الله عنهما- هى زيادة من ثقة، فهي مقبولة صحيحة.

وقد ورد مرفوعاً كذلك عن:

ابن عمر وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهم. ولو سلمنا بوقفه فإن له حكم الرفع؛ وذلك لأنه حكم غيبي لا يعرف إلا بوحي.

*تنبيه مهم:

يجب ملاحظة أن شيخ الإسلام ومن وافقه من الأئمة لا ينفون إخراج ذرية آدم من صلبه وتمييزهم إلى فريقين، لثبوت الأحاديث المرفوعة فيه، وإنما الذي ينفونه هو أخذ العهد والميثاق عليهم حينئذ؛ وذلك لعدم صحة الأحاديث المرفوعة في ذلك عندهم.

فهم يدورون مع النص حيت دار، ويقفون معه حيث وقف.

(1)

انظر إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 337) وفتح الباري (11/ 562)

(2)

وانظر لذلك:

تفسير القرآن العظيم (3/ 310) ودرء التعارض (8/ 447) والروح (ص/161) والإبانه الكبرى (4/ 70) وشرح مشكل الأثار (10/ 32)

ص: 445

وبها يعلم الفرق بين قول هؤلاء الأئمة المحققين من أئمة أهل السنة في هذه المسألة، وبين قول المعتزلة فيها، فإن المعتزلة يقولون أنه لم يكن هناك إخراجٌ من صلب آدم في عالم الذر أصلاً، ناهيك عن الاستشهاد وأخذ الميثاق، وذلك لأن أحاديث الإخراج فيها إثبات القدر، فهم يردُّون جميع الأحاديث الواردة في الباب، والتي فيها إثبات القدر السابق بتمييز الناس إلى فريقين:

أهل سعادة وأهل شقاوة، وما ذلك إلا موافقة للهوى.

2 -

الميثاق الثاني "ميثاق الفطرة":

ومن أدلة هذا الميثاق: قوله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(الروم/30)

وفي الحديث القدسي:

عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ-رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:

قال الله تعالى " إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا.. "

(1)

* ومن السنة حديث الباب:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟، ثُمَّ يَقُولُ:

أَبُو هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه -:

وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} .

(2)

وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة): هذا نص في العموم، فيشمل كل من وُلد من أبوَين، مسلمَين كانا أوغير مسلمَين.

فإذا سألت: ما المراد بالفطرة في قوله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ.. "؟؟

فالجواب:

الراجح- والله أعلم -أن المراد بالفطرة هنا هو ملة الإسلام، ويؤيد هذا وجوه:

(1)

أخرجه مسلم (2865)

(2)

سبق تخريجه تقريباً.

ص: 446

1 -

الأول:

أن خير ما يُفسر به الحديث هو ما يرد في سياقه ومجموع مروياته:

أ- وأما سياقه:

فقوله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، .... "

فلما ذكر التهويد والتنصير والتمجيس في مقابل الفطرة، دل ذلك على أن المراد بالفطرة هي الإسلام.

ب- وأما مجموع مروياته:

فقد ورد في رواية مسلم مرفوعاً عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ:

«مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، حَتَّى يُبَيِّنَ عَنْهُ لِسَانُهُ» .

(1)

فدل ذلك على أن المراد بالفطرة هى دين الإسلام.

(2)

2 -

الثاني:

لو لم تكن الفطرة هي الإسلام لما سأل الصحابة رضي الله عنهم عقب ذلك عمَّن يموت من أطفال المشركين، لأنهم عرفوا أن الكبار منهم قد تغيرت فطرهم فلا إشكال فيه، فأشكل عليهم الصغار الذين ما زالوا على الفطرة هل لهم حكم أبويهم، أم يحكم لهم بالإسلام بناءً على فطرتهم؟

2 -

الثالث:

قوله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)

حيث جعلت الآية الفطرة بدلاً عن الدين، وهذا من بدل المطابقة، فدل ذلك على أن المراد بالفطرة التى فطر الله -تعالى - الناس عليها إنما هى دين الله عزوجل.

فإن الله تبارك وتعالى خلق العبد مجبولًا بفطرته على معرفة الله وتوحيده، فالمرء يُولد على محبَّته لفاطره، وإقراره له بالربوبية، يُولد مجبولاً على الفطرة السليمة، التى هي دين الإسلام.

قال البخاري: بَابُ {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] أي: لِدِينِ اللَّهِ، وَالفِطْرَةُ الإِسْلَامُ، ثم ذكر حديث الباب.

(1)

أخرجه مسلم (2658)

(2)

وهذا اختيار أبي هريرة -رضى الله عنه- ومجاهد وسعيد بن جبير والزهري وعكرمة ومجاهد والحسن وإبراهيم والضحاك وقتادة وابن القيم.

وانظرالتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 244) ودرء تعارض العقل والنقل (4/ 394)

ص: 447

4 -

الرابع:

ما ورد من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ-رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

قال الله تعالى: " إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، .. "،

(1)

وفي رواية "حنفاء مسلمين "، وهذا الحديث نص في موضع النزاع.

5 -

الخامس:

عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ-رضي الله عنه قَالَ:

أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَغَزَوْتُ مَعَهُ فَأَصَبْتُ ظَهْرًا، فَقَتَلَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى قَتَلُوا الْوِلْدَانَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:

" مَا بَالُ أَقْوَامٍ جَاوَزَهُمُ الْقَتْلُ الْيَوْمَ حَتَّى قَتَلُوا الذُّرِّيَّةَ " فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا هُمْ أَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ:

" أَلَا إِنَّ خِيَارَكُمْ أَبْنَاءُ الْمُشْرِكِينَ "، ثُمَّ قالَ:

" أَلَا لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً، أَلَا لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً " قَالَ: " كُلُّ نَسَمَةٍ تُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا، فَأَبَوَاهَا يُهَوِّدَانِهَا وَيُنَصِّرَانِهَا ".

(2)

لو لم تكن الفطرة هي الإسلام لم يكن فيما ذكره حجة على ما قصده صلى الله عليه وسلم من نهية لهم عن قتل أولاد المشركين.

وكذلك فقوله: " حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهَا لِسَانُهَا، .. ":

فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز، فحينئذ يثبت له أحد الأمرين، ولو كان كافراً في الباطن بكفر الأبوين، لكان ذلك من حين يولد، قبل أن يعرب عنه لسانه.

(3)

* أقوال العلماء في ذلك:

قال ابن حجر:

وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام، وقال ابن عبد البر وهو المعروف عند عامة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) الإسلام، وقد قال أحمد من مات أبواه وهما كافران حكم بإسلامه، واستدل بحديث الباب،

فدل على أنه فسر الفطرة بالإسلام.

(4)

(1)

أخرجه مسلم (2865)

(2)

أخرجه أحمد (15589) وانظر السلسلة الصحيحة (402)

(3)

: درء تعارض العقل والنقل (8/ 432 - 462)

(4)

فتح الباري (3/ 358)

ص: 448

وقد سئل أحمد عن: الفطرة الأولى التي فطر اللَّه عز وجل عليها، هي الدين؟

قال: نعم.

(1)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

الصواب أنها فطرة الله -تعالى- التي فطر الناس عليها، وهي فطرة الإسلام، وهي الفطرة التي فطرهم عليها.

(2)

قال ابن القيم:

قراءة قوله تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} عقب الحديث صريح في أن المراد بها فطرة الإسلام؛ ولأن تشبيه المولود في ولادته عليها بالبهيمة الجمعاء وهي الكاملة الخلق ثم تشبيهه إذا خرج عنها بالبهيمة التي جدعها أهلها فقطعوا أذنها دليل على أن الفطرة هي الفطرة المستقيمة السليمة.

وما يطرأ على المولود من التهويد والتنصير بمنزلة الجدع والتغيير في ولد البهيمة، ولأن الفطرة حيث جاءت مطلقة معرفة باللام لا يراد بها إلا فطرة التوحيد والإسلام.

(3)

*فإن قيل:

لو فسرنا الفطرة على أنها الإسلام يلزم من ذلك أنه لو مات يُصلى عليه، ويُدفن في مقابر المسلمين!!

فنقول: هناك فرق بين أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، لأنه لو مات دون البلوغ فأحكامه في الدنيا تابعة لأبويه، فلا يُصلى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولو قتله مسلم في الجهاد لا دية له

وهكذا.

قال ابن حجر:

وتفسير الفطرة بالإسلام تعقبه بعضهم بأنه كان يلزم أن لا يصح استرقافه ولا يحكم بإسلامه إذا أسلم أحد أبويه والحق أن الحديث سيق لبيان ما هو في نفس الأمر لا لبيان الأحكام

في الدنيا.

(4)

وسيأتى مزيد تفصيل لهذه المسألة عند توجيه حديث النبي- صلى الله عليه وسلم عن أطفال

(1)

أحكام أهل الملل (1/ 78 - 79)

(2)

مجموع الفتاوى (4/ 245)

(3)

انظر تعقيبات ابن القيم على سنن أبي داود (8/ 95)

(4)

فتح الباري (3/ 358)

ص: 449

المشركين: "هم مع آبائهم ".

3 -

الميثاق الثالث "ميثاق الرُسل":

ودليله من الكتاب:

قوله تعالى (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)(النساء/165)

وقال تعالى (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)(القصص: 59).

قال ابن القيم:

وكذلك قال تعالى (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)(الإسراء/15)

{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]

* ومن السنة:

عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ-رضى الله عنه- أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

أَرْبَعَةٌ يحتجون يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ..... وَرَجُلٌ مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، يَقُولُ: رَبِّ، مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ:

فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا.

(1)

فلأن الله تبارك وتعالى يحب الإعذار، لذا فما اكتفى بالميثاق الأول والثاني، بل قد أكد ذلك بميثاق الرسل، بل وجعله هو الحجة التي ينبنى عليه الثواب والعقاب والمسآلة يوم القيامة.

(1)

أخرجه أحمد (16301) وابن حبان (7357) وابن أبي عاصم في " السنة "(355).

قال ابن القيم:

طرق هذا الحديث قد تضافرت، وكثرت بحيث يشد بعضها بعضا، فيبعد كل البعد أن تكون باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بها، وقد رواها أئمة الإسلام ودونوها، ولم يطعنوا فيها.

وقد صحح الحفاظ بعضها، كما صحح البيهقي وعبد الحق وغيرهما حديث الأسود بن سريع، ورواية أبي هريرة إسنادها صحيح متصل.

وقال رحمه الله: إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التى يحتج بها فى الأحكام، ولهذا رواه الأئمة، أحمد وإسحق وعلى بن المدينى.

وانظرأحكام أهل الذمة (2/ 446) وطريق الهجرتين (ص/400) والسلسلة الصحيحة (1434)

ص: 450

قال ابن القيم:

فلله الحجة البالغة على المشركين في كل وقت، ولو لم يكن إلا ما فطَرَ عبادَه عليه من توحيد ربوبيته المستلزم لتوحيد إلهيته، وأنه يستحيل في كل فطرة وعقل أن يكون معه إله آخر، وإن كان سبحانه لا يُعذِّب بمقتضى هذه الفطرة وحدها، فلم تزل دعوة الرسل إلى التوحيد في الأرض معلومة لأهلها، فالمشرك يستحق العذاب بمخالفته دعوة الرسل، والله أعلم.

(1)

4 -

الميثاق الرابع " خاص بالنبيين":

قال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(آل عمران/81)

عودٌ إلى حديث الباب:

قوله صلى الله عليه وسلم:

«مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، .....

استدل بالحديث على إسلام الطفل إذا كان من أبوَين مسلمَين، أو كان أحد أبويه مسلماً استصحاباً لأصل الفطرة، حيث لم يغيره أبواه، فيصلى عليه إن استهل صارخاً، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء.

وهنا مسألة مهمة تتعلق ببحثنا هنا وهي:

*حكم أبناء المشركين:

وقبل ذكر الخلاف في حكم أطفال المشركين يجب أن ننوِّه على أمرين:

1 -

الأمر الأول:

أن هذا الخلاف إنما هو في حكم أطفال المشركين، فلا يدخل في هذا الخلاف أطفال المسلمين، لأنهم بالنص والإجماع في الجنة.

فمن القرآن:

قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطور: 21)

قال ابن عباس رضى الله عنهما: إن الله تبارك وتعالى يرفع للمؤمن ذريته وإن كانوا

(1)

زاد المعاد (3/ 599)

ص: 451

دونه في العمل؛ ليقرَّ الله بهم عينه.

(1)

* ومن السنة:

1 -

عَنْ أَبِي حَسَّانَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه-:

إِنَّهُ قَدْ مَاتَ لِيَ ابْنَانِ، فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قَالَ: قَالَ:

نَعَمْ، «صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ - أَوْ قَالَ أَبَوَيْهِ -، فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ - أَوْ قَالَ بِيَدِهِ -، كَمَا آخُذُ أَنَا بِصَنِفَةِ ثَوْبِكَ هَذَا، فَلَا يَتَنَاهَى -أَوْ قَالَ فَلَا يَنْتَهِي - حَتَّى يُدْخِلَهُ اللهُ وَأَبَاهُ الْجَنَّةَ» .

(2)

2 -

أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ، يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ» .

(3)

ووجه انتزاع ذلك أن من يكون سببا في حجب النار عن أبويه أولى بأن يحجب هو لأنه أصل الرحمة وسببها.

(4)

* الإجماع:

وقد نقل الإجماع على ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية والنووي وغيرهم.

(5)

وقد نقل ابن رجب هذا الإجماع عن الإمام أحمد، فى كتابه "أهوال القبور "(ص/101)، وفى رواية الميموني عنه:"لا أحد يشك فى هذا"

قال ابن عبدالبر:

أجمع العلماء على أن أطفال المسلمين في الجنة، ولا أعلم عن جماعتهم في ذلك خلافاً، إلا فرقة شذت من المجبرة فجعلتهم في المشيئة، وهو قول

(1)

جامع البيان في تأويل القرآن (22/ 467)، وقال الألبانى: صحيح موقوف، وله حكم الرفع.

وانظرسلسلة الأحاديث الصجيحة (2490)

(2)

أخرجه مسلم (2635)

وقوله (دعاميص) واحد دُعموص أي صغار أهلها وأصل الدُعموص دوبية تكون في الماء لا تفارقه، أي أن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها.

(3)

أخرجه البخاري (1381) وقد ترجم له: بَابُ مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ المُسْلِمِينَ. فهذا بيان أنه مذهب البخاري في هذه المسألة أنهم في الجنة.

(4)

فتح الباري (3/ 352)

(5)

المستدرك على مجموع الفتاوى (1/ 106) وطريق الهجرتين (ص/445) وشرح النووي على مسلم (8/ 462) وحاشية البيجوري على الجوهرة (ص/92)

ص: 452

شاذ مهجور مردود بإجماع الجماعة.

(1)

- بل قد نقل أبومنصور البغدادي الإجماع على أن الطفل من أبناء المسلمين إذا أظهر كلمة الردة لم يكن مرتداً، فإن مات على ذلك ورثه المسلمان من أبويه، ودفن في مقابر

المسلمين.

(2)

* إشكال:

قد توقّف البعض في حكم أطفال المسلمين لما روت عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ-رضي الله عنها قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ:

يَا رَسُولَ اللهِ طُوبَى لِهَذَا، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ:

«أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ، يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» .

(3)

والجواب عنه:

أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل، أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة.

(4)

قلت: ثم هم محجوجون بالإجماع الوارد في المسألة. لذا فقد نص النووي أن التوقف في حكم أطفال المسلمين قول لا يعتد به.

2 -

الأمر الثاني:

أن الخلاف في حكم أطفال المشركين إنما هو في حكمهم في الآخرة، أما حكمهم في الدنيا فهم مع آبائهم، كما صح في ذلك الحديث؛ وذلك من حيث القتال والإرث والدفن في مقابر المشركين.

والدليل:

ما ورد عَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ -رضى الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ:

لَوْ أَنَّ خَيْلًا أَغَارَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَصَابَتْ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ:«هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ» .

(5)

(1)

وانظر التمهيد (6/ 369) والأجوبة المستوعبة (ص/178)

(2)

وانظرأصول الدين (ص/259)

(3)

أخرجه مسلم (2662

(4)

شرح النووي على مسلم (8/ 462)

(5)

متفق عليه.

قوله صلى الله عليه وسلم: "هم من آبائهم ":

أي لا حرج في إصابة أطفال المشركين إذا كانوا مختلطين معهم حال الحرب. ولم يتحقق الوصول إلى قتل الكبار إلا بقتلهم فلا حرج، لأن أحكام آبائهم جارية علي أطفالهم في القتال والميراث وفي النكاح وفي القصاص والديات.

وأما النهي عن قتل النساء والصبيان، فالمراد به إذا تميزوا، فلا يجوز قتلهم بطريق القصد إليهم بذلك.

وانظر شرح النووي لمسلم (6/ 293)

ص: 453

* أما الخلاف في مسألة حكم أطفال المشركين في الآخرة فللناس فيهم عشرة أقوال، نذكر منها ما يلي:

(1)

1 -

القول الأول: أنهم في النار.

2 -

القول الثانى: التوقف في أمرهم.

3 -

القول الثالث: أنهم يُختبرون في العرصات.

4 -

القول الرابع: أنهم من أهل الجنة.

1 -

القول الأول: أنهم في النار:

وقال به ابن بطة، والأزارقة من الخوارج، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد، واختاره القاضي أبو يعلى، وهو قول لجماعة من المتكلمين وأهل التفسير.

(2)

واستدلوا على ذلك بجملة من الأدلة منها ما يلى:

1 -

قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)(الطور/21)

ووجه الدلالة:

قياس الشبه؛ فإذا ألحق الله -تعالى-بالذين آمنوا ذريتهم، أُلحق بالكافرين ذريتهم.

2 -

الحديث الذي ذكرناه قريباً أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن أبناء المشركين فقال: هم مع آبائهم.

فدل الحديث أنهم لاحقون بآبائهم، فيعم ذلك أحكام الدارين.

(1)

وقد فصَّل هذه المذاهب بأقوالها ابن حجر في الفتح (3/ 357) وابن كثير في تفسيره (3/ 35) وابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 422) وطريق الهجرتين (ص/445) والقرطبي في التذكرة (ص/450)

(2)

وانظر مجموع الفتاوى (24/ 372) وطريق الهجرتين (ص/ 449) والاعتقاد لأبي يعلى (ص/34).

ص: 454

3 -

عَنْ عَائِشَةَ -رضى الله عنه -أَنَّهَا ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ:" إِنْ شِئْتِ أَسْمَعْتُكِ تَضَاغِيَهُمْ فِي النَّارِ ".

(1)

4 -

عَنْ عَلِيٍّ -رضى الله عنه- قَالَ: سَأَلَتْ خَدِيجَةُ -رضى الله عنها-النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَلَدَيْنِ مَاتَا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

" هُمَا فِي النَّارِ ". قَالَ: فَلَمَّا رَأَى الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِهَا قَالَ:

" لَوْ رَأَيْتِ مَكَانَهُمَا لَأَبْغَضْتِهِمَا "، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَوَلَدِي مِنْكَ؟ قَالَ:" فِي الْجَنَّةِ " قَالَ:

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

" إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلادَهُمْ فِي النَّارِ "، ثمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ، أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ (1)) [الطور: 21].

(2)

5 -

قال البَرَاء بن عازب -رضى الله عنه-: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الجَنَّةِ» .

(3)

فإذا كان أبناء المسلمين في الجنة، فأبناء المشركين مآلهم إلى النار.

*ومن النظر:

الحكم بأنهم من أهل الجنة يلزم منه أنهم مؤمنين؛ لأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، فإن كانوا مؤمنين للزم أن يُدفن أطفال المشركين في مقابر المسلمين، كذلك يلزم منه أنه إذا

بلغ الطفل والتزم دين أبيه لكان ذلك ردة وخروجاً عن الإسلام.

(4)

2 -

القول الثاني: التوقف في أمرهم:

فلا يُحكم لهم بجنة ولا بنار، بل نتوقف في أمرهم، يفعل الله -تعالى - بهم ما يشاء، سبحانه لا يُسئل عما يفعل وهم يُسألون، ولأن طريق إثبات مآلهم هو النص، ولا نص في المسألة.

وممن ذهب إلى هذا حمَّاد بن زيد، وحمَّاد بن سلمة و أبو حنيفة

(1)

أخرجه أحمد (25743) وسيأتي بيان حكمه.

(2)

أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه (1131) وابن أبي عاصم (ص/88)

(3)

أخرجه البخاري (1382)

(4)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 380)

ص: 455

وأحمد في رواية، وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وأبو بكر الأثرم، وقال ابن عبدالبر: وهو مقتضى صنيع مالك.

(1)

-واستدلوا على ذلك بما يلى:

1 -

عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ-رضى الله عنها- قَالَتْ:

دُعِيَ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ طُوبَى لِهَذَا، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:

«أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ، يَا عَائِشَةُ؛ إِنَّ اللهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» .

(2)

فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عائشةَ -رضى الله عنها- عن الحكم لصغار المسلمين بالجنة، فكيف بأطفال المشركين؟!

2 -

ما رواه أبوهريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه"

ووجه الدلالة في هذا الحديث أنه دل على أن المولود يولد على الفطرة، وما دام أنه يولد على الفطرة فلا يُدرى ماذا سيعمل إذا بلغ، لذا يوكَل أمره إلى الله.

3 -

وكذلك استدلوا بما صح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه- قَالَ:

سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ صَغِيرًا، فَقَالَ:«اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ»

(3)

.

قال ابن قتيبة:

قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين" المعنى: لو أبقاهم. يريد: فلا تحكموا عليهم بكفر آبائهم إذا لم يبلغوا فيكفروا، ولا تحكموا عليهم بميثاق الفطرة التي ولدوا عليها، لأنهم لم يبلغوا فيؤمنوا.

(4)

4 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضى الله عنهما- قَالَ: أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَأَنَا أَقُولُ:

أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ

(1)

وانظر فتح الباري (3/ 355) والاستذكار (3/ 108)

(2)

أخرجه مسلم (2662) وأحمد (24132)

(3)

متفق عليه.

(4)

كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 366)

ص: 456

الْمُسْلِمِينَ، وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، حَتَّى حَدَّثَنِي فُلَانٌ، عَنْ فُلَانٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، سُئِلَ عَنْهُمْ، فَقَالَ:

" اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ "، قَالَ: فَلَقِيتُ الرَّجُلَ فَأَخْبَرَنِي، فَأَمْسَكْتُ عَنْ قَوْلِي.

(1)

3 -

القول الثالث: إنهم يمتحنون في عرصات القيامة:

وذلك بأن يُرسَل إليهم رسول؛ فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه دخل النار.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ-رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحْسِبُهُ قَالَ:

" يُؤْتَى بِالْهَالِكِ فِي الْفَتْرَةِ، وَالْمَعْتُوهِ، وَالْمَوْلُودِ، فَيَقُولُ الْهَالِكُ فِي الْفَتْرَةِ: لَمْ يَأْتِنِي كِتَابٌ وَلا رَسُولٌ، وَيَقُولُ الْمَعْتُوهُ: أَيْ رَبِّ لَمْ تَجْعَلْ لِي عَقْلًا أَعْقِلُ بِهِ خَيْرًا وَلا شَرًّا، وَيَقُولُ الْمَوْلُودُ: لَمْ أُدْرِكِ الْعَمَلَ، قَالَ: فَتُرْفَعُ لَهُمْ نَارٌ، فَيُقَالُ لَهُمْ: رِدُوَها، أَوْ قَالَ: ادْخُلُوهَا، فَيَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سَعِيدًا، إِنْ لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَلَ ".

قَالَ: " وَيُمْسِكُ عَنْهَا مَنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ شَقِيًّا إِنْ لَوْ أَدْرَكَ الْعَمَلَ، فَيَقُولُ تبارك وتعالى: إِيَّايَ عَصَيْتُمْ، فَكَيْفَ بِرُسُلِي بِالْغَيْبِ ". ".

(2)

وممّن قال بهذا القول واختاره: شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والبيهقي.

واستدلوا على ذلك ببعض الروايات التى ورد فيها اختبار المولود فى العرصات.

(3)

وقال ابن القيم: فعلم أن الذى تدل عليه الأدلة الصحيحة وتأْتلف به النصوص، ومقتضى الحكمة هذا القول، والله أعلم.

(4)

4 -

القول الرابع: أنهم من أهل الجنة:

وقال به البخاري والنووي وابن الجوزي وابن حزم و ابن حجروالقرطبي

(1)

أخرجه أحمد (20697) وابن أبي عاصم (ح/214) وصححه الألبانى فى ظلال الجنة (ص/90)

(2)

أخرجه البزار (2176) وأبو يعلى (4224)

(3)

انظر مجموع الفتاوي (24/ 372) وطريق الهجرتين (ص/458) والاعتقاد للبيهقي (ص/ 175).

(4)

انظرطريق الهجرتين (ص/464) والرسالة الواضحة (ص/959)

ص: 457

و السخاوي، والجبائي من المعتزلة.

(1)

وهذا هو الراجح والله أعلم.

ومما يدل على هذا القول:

1 -

قوله تعالى (وَإِذ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَني آدَمَ مِن ظُهورِهِم ذُرِّيَّتَهُم وَأَشهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قالوا بَلى شَهِدنا)

فمن هؤلاء أطفال المشركين قد ماتوا على الميثاق الأول وشهدوا بربوبية الله تعالى، فهم على أصل فطرتهم السليمة.

وكذلك قوله تعالى: " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبعَثَ رَسُولًا"

ووجه الدلالة:

هو قياس الأولى؛ فإذا كان الله -عزوجل- لا يعذِّب من بلغ ما لم يأته رسول حتى يُختبر يوم القيامة، فكيف يعذِّب الطفل الذي مات على أصل الفطرة السليمة.

2 -

عمومات الآيات القرآنية التى أفادت بالقطع أن العذاب لا يكون إلا لمن أساء وظلم، كقوله تعالى {لا يَصْلاهاَ إِلا الأَشْقَى} [الليل: 15]، وقوله - تعالى- لإبليس:{لأَملأَنَ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 85]، وكقوله تعالى:{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]

*ومن السنة:

1 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه -قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم -عن أطفال المشركين من يموت منهم صغيرًا، فقال صلى الله عليه وسلم:

"الله أعلم بما كانوا عاملين"

(2)

.

*وجه الدلالة من هذا الحديث:

قوله "الله أعلم بما كانوا عاملين" هذا يعني إذا بلغوا وصاروا مكلفين، أما إذا لم يبلغوا فهم ليسوا بمكلفين فهم في الجنة.

(3)

2 -

عن سَمُرَة بْن جُنْدُبٍ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وقَالَا لِي: انْطَلِقِ انْطَلِقْ، ....

فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ، فِيهَا مِنْ

(1)

وانظر الفصل في الملل والنحل (3/ 388) وشرح النووي على مسلم (8/ 458) والأجوبة المرضية (2/ 448) والتذكرة (ص/452) وشرح الأصول الخمسة (ص/ 477)

(2)

متفق عليه.

(3)

أهل الفترة ومن في حكمهم (ص/90)

ص: 458

كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ، لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ " قَالَ: " قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا مَا هَؤُلَاءِ؟ قالا:

وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا الوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ " قَالَ: فَقَالَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْلَادُ المُشْرِكِينَ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَأَوْلَادُ المُشْرِكِينَ ".

(1)

وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم ألحق أولاد المشركين بأولاد المسلمين في حكم الآخرة.

قال ابن الوزير:

وهذا نص في موضع النزاع من أصح كتب الإسلام عند أئمة الحديث، وأما كونه رؤيا فلا يضر لوجهين:

أحدهما:

أن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي وحق؛ ولذلك عزم الخليل عليه السلام -على ذبح ولده بسببها، وهذا إجماع.

وثانيهما:

أن هذا السؤال عن أولاد المشركين، وجوابه كان في اليقظة، لا في الرؤيا.

(2)

3 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«ذَرَارِيُّ الْمُؤْمِنِينَ يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ فِي الْجَنَّةِ»

(3)

4 -

عموم قوله صلى الله عليه وسلم: " الْمَوْلُودُ فِي الْجَنَّةِ ".

(4)

* يؤيده:

عموم الأدلة التى أشارت إلى طهارة الفطرة البشرية قبل أن تلوث بالتهوُّد أو التنصُّر، كما في قول النبي- اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:

قال الله (إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، .......) وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ

)

*ومن النظر:

وأيضا فلو عذَّب الأطفال لكان تعذيبهم إما مع تكليفهم بالإيمان، أو بدون

(1)

رواه البخاري (1386) وقد ترجم له البخاري بقوله: " بَابُ مَا قِيلَ فِي أَوْلَادِ المُشْرِكِينَ ".

(2)

إيثار الحق على الخلق (ص/340)

(3)

أخرجه أحمد (8324) وابن حبان (7446) والحاكم (3399) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

(4)

أخرجه أبوداود (2518) وأحمد (22965) وحسَّنه الحافظ في الفتح (3/ 246)

ص: 459

التكليف، والقسمان ممتنعان:

أما الأول: فلاستحالة تكليف من لا تمييز له، ولا عقل أصلاً.

وأما الثاني: فممتنع أيضا بالنصوص التي ذكرناها، وأمثالها من أن الله -تعالى - لا يعذِّب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه.

قالوا: وأيضا، فتعذيبهم إما أن يكون لعدم وقوع الإيمان منهم، وإما لوجود الكفر منهم، والقسمان باطلان:

أما الثاني: فظاهر؛ لأن من لا عقل له ولا تمييز لا يعرف الكفر حتى يختاره.

وأما الأول: فلو عُذِّبوا لعدم وجود الإيمان الفعلي منهم لاشتركوا هم وأطفال المسلمين في ذلك، لاشتراكهم في سببه.

(1)

*أضف إلى ذلك أن:

الجنة دار فضل والنار دار عدل، فالجنة يُدخلها الله من يشاء من عباده، أما النار فلا يدخلها إلا من أساء وظلم وأشرك وعصى.

ففارق بين النار التى تقول هل من مزيد، فيضع رجله فتقول قط قط، وبين الجنة التى يُنشئ الله -عزوجل - لها خلقًا آخر لم يعملوا خيرًا قط.

فإذا كان الله يُنشئ للجنة خلقاً آخر يدخلهم إياها بلا عمل، فالأطفال الذين ولدوا في الدنيا أولى بها.

فالله -تعالى- وسعت رحمته كل شيء، وقد سبقت رحمته غضبه، ومن فضله أن يُدخل أبناء المشركين الجنة، وإن لم يقدِّموا خيرًا؛ وذلك لبقاءهم على أصل فطرتهم السليمة.

*والراجح -والله أعلم- في هذه المسألة هو القول الرابع لما ذكرنا من أدلة.

.

* ولكن يبقى لنا الرد على المخالف:

أما أصحاب القول أن أطفال المشركين في النار، فقد استدلوا بما يلى:

1 -

قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)

حيث

(1)

أحكام أهل الذمة (2/ 435)

ص: 460

أعملوا في الآية قياس الشبه، كما سبق بيانه.

والجواب هنا أنه لا قياس في مقابلة النصوص التى أفادت أن أطفال المشركين في الجنة.

2 -

وأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن أبناء المشركين فقال:

"هم مع آبائهم ".

فالاستدلال بهذا الحديث مما يقال فيه " الدليل أخص من الدعوى "؛ فقوله صلى الله عليه وسلم "هم مع آبائهم ": إنما يخص أحكام الدنيا، ومما يؤيد ذلك:

أ) سياق الحديث:

فقد ورد في حكم خاص، حيث سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم -عَنِ الذَّرَارِيِّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟ يُبَيَّتُونَ فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ "، فَقَالَ:

«هُمْ مِنْهُمْ» ، والسياق من المقيدات والمرجحات، فتأويل هذا الحديث:

أي لا بأس بقتل أطفال المشركين إذا وقع ذلك وفاقاً لا قصداً؛ لأن أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث وفي النكاح وفي القصاص والديات، وغير ذلك من أحكام الدنيا.

ب) الإجماع الذي نقله ابن بطة وابن عبدالبر على أن تأويل قوله صلى الله عليه وسلم:

"هم مع آبائهم ": إنما ورد في أحكام الجهاد، وذلك إذا ما أصيب أطفال المشركين في التبييت والغارة.

(1)

قال ابن القيم: قال شيخنا:

فإذا عرف أن كونهم ولدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونوا تبعاً لآبائهم في أحكام الدنيا زالت الشبهة.

(2)

قال حنبل: قال أبو عبد اللَّه: إذا أسلم أبواه ثم مات وهو صغير صُلي عليه ودُفن في مقابر المسلمين، وإن مات وهما مشركان كان تبعًا لهما.

(3)

(1)

وانظر الإبانة الكبرى (4/ 82) والإستذكار (3/ 111) وأحاديث يوهم ظاهرها التعارض (ص/599)

(2)

أحكام أهل الذمة (2/ 405)

(3)

أحكام أهل الملل للخلال (1/ 79)

ص: 461

3 -

وأما ما يُذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ:

(إِنْ شِئْتِ أَسْمَعْتُكِ تَضَاغِيَهُمْ فِي النَّارِ)، فهذا مما لا يصح سنده.

(1)

4 -

وأما ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم:

" إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلادَهُمْ فِي النَّارِ "، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ، أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتِهِمْ)، فهذا مما لا يصح له إسناد.

(2)

مع ما فيه من النكارة؛ ووجه ذلك أنه يخالف النصوص الصريحة الصحيحة التى دلت على أن أطفال المشركين في الجنة.

5 -

وأما استدلالهم بحديث إِبْرَاهِيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم:

«إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الجَنَّةِ» .

(3)

فسبق الجواب على مثله عند الرد على استدلالهم بالآية الأولى.

*وأما استدلالهم من النظر بقولهم:

أن الحكم بأنهم من أهل الجنة يلزم منه أن

(1)

أخرجه أحمد (25743) وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1541) والكامل في الضعفاء (2/ 259)

قال ابن حجر:

وهو حديث ضعيف جداً؛ لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية؛ وهو متروك"

قال ابن الجوزي:

" هذا حديث لا يصح، قال أحمد بن حنبل: يحيى بن المتوكل يروي عن بهية أحاديث منكرة، وهو واهي الحديث، وقال النسائي: هو ضعيف، وقال ابن حبان: "ينفرد بأشياء ليس لها أصول، وقال السعدي: سألت عن بهية كي أعرفها فأعيانا (العلل المتناهية (2/ 442)

وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث لأبي عقيل عن بهية عن عائشة غير محفوظة، ولا يروي عن بهية غير أبي عقيل هذا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا الحديث كذب موضوع عند أهل الحديث، ومن هو دون أحمد من أئمة الحديث يعرف هذا، فضلاً عن مثل أحمد"ا. هـ.

وقال ان القيم: يحيى بن المتوكل لا يحتج بحديثه، فإنه فى غاية من الضعف.

وانظرمنهاج السنة (2/ 233 - 234) وفتح الباري (3/ 352) وطريق الهجرتين (ص/450) والمسند لأحمد بتحقيق شعيب الأرنؤوط (ح / 25743)

(2)

قال ابن الجوزي: " في سنده محمد بن عثمان لا يُقبل حديثه، ولا يصحّ في تعذيب الأطفال حديث ".

وقال ابن حبّان:

لا يجوز الاحتجاج بمحمّد بن عثمان بحال. فهو مجهول؛ قال الذهبي: لا يُدرى من هو؟

فتشت عنه في أماكن، وله خبر منكر. ثم ساق له هذا الحديث. قال الهيثمي في " المجمّع" (7/ 217):

" فيه محمد بن عثمان، ولم أعرفه ".

وانظر جامع المسانيد (2/ 512) وميزان الاعتدال (3/ 642) والسلسلة الضعيفة (5791)

(3)

أخرجه البخاري (1382)

ص: 462

تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين..

* فجوابه من وجوه:

1 -

الأول:

أن هذا نظر في مقابلة أثر، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن أبناء المشركين:" هم منهم "، وفي رواية "هم مع آباءهم"، فهذا مع قوله صلى الله عليه وسلم أنهم مع الجنة، فلا سبيل للجمع بين هذين إلا بحمل قوله:

"هم مع آباءهم" على أحكام الدنيا، أي مع آبائهم فلا يُصلى عليهم، ولا يُدفنوا في مقابر المسلمين، وكذلك في أحكام القود والدية.

وفي هذا إعمال للأدلة الواردة في هذا الباب، وهذا هو أصل مهمات الشرع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

وكون الصغير يتبع أباه في أحكام الدنيا، هو لضرورة حياته في الدنيا، فإنه لا بد من مربٍّ يربيِّه، وإنما يُربيِّه أبواه، فكان تابعاً لهما ضرورة، ولهذا متى سُبي منفرداً عنهما صار تابعاً لسابيه عند جمهور العلماء، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي وغيرهم، لكونه هو الذي يربيه، وإذا سبي منفرداً عن أحدهما أو معهما، ففيه نزاعٌ للعلماء.

(1)

وقد أجاب ابن حزم على من يعارض القول بأن أطفال في الجنة أن لازمه أن نصلي عليهم ونورِّثهم فقال:

فليس تركنا للصلاة عليهم يوجب أنهم ليسوا مؤمنين، فهؤلاء الشهداء وهم أفاضل المؤمنين لا يصلى عليهم، وأما انقطاع المواريث بيننا وبينهم فلا حجة في ذلك على أنهم ليسوا مؤمنين؛ فإن العبد مؤمنٌ فاضل لا يرث ولا يورَّث، وقد يأخذ المسلم مال عبده الكافر إذا مات.

(2)

والشريعة قد استقرت على أن ولد اليهودي والنصراني يتبع أبوية في الدين في أحكام الدنيا، فيحكم له بحكم الكفر في أنه لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه المسلمون، ويجوز استرقاقهم، ونحو ذلك - فلم يجز لأحد أن

(1)

درء تعارض العقل والنقل (8/ 421)

(2)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 384)

ص: 463

يحتج بحديث: " كل مولود يولد على الفطرة

"على أن حكم الأطفال في الدنيا حكم المؤمنين حتى تعرب عنهم ألسنتهم.

(1)

2 -

الثاني:

أن منشأ الاشتباه في هذه المسألة اشتباه أحكام الكفر في الدنيا بأحكام الكفر في الآخرة، فإن أولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم أحكام الكفر في أمور الدنيا، مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم، وحضانة آبائهم لهم، وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم، والموارثة بينهم وبين آبائهم، واسترقاقهم إذا كان آبائهم محاربين، وغير ذلك - صار يظن من يظن أنهم كفّار في نفس الأمر، كالذي تكلم بالكفر وعمل به.

وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم إيمانه مَن لا يعلم المسلمون حاله إذا قاتلوا الكفار، فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه، ويدفن مع المشركين، وهو في الآخرة من المؤمنين أهل الجنة، كما أن المنافقين تجري عليهم في الدنيا أحكام المسلمين، وهم في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، فحكم الدار الآخرة غير أحكام الدار الدنيا.

(2)

*وعليه يقال: "لا تلازم بين أحكام الكفر في الدنيا وأحكام الكفر في الآخرة ".

* ثانياً: الرد على الواقفة:

فالرد أن يقال بأن القاعدة هنا:

1 -

من علم حجة على من لم يعلم، فالحكم لهم بالجنة إنما كان لنص، وهو فصل في النزاع. وعليه فلا معنى للتوقف في مسألة حكم فيه الشرع.

2 -

أما إنكاره صلى الله عليه وسلم على عائشة -رضى الله عنها- لما قالت:

عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، فقَالَ:(أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ)

* فجوابه من وجهين:

1 -

أن لفظة " أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ " مما قد استنكرها العلماء على طلحة بن

(1)

درء تعارض العقل والنقل (4/ 399)

(2)

المصدر السابق (8/ 422)

ص: 464

يحيي، وقد ذكرها مسلم رحمه الله في المتابعات دون الأصول، وطلحة بن يحيي ممن تكلم فيه علماء الجرح والتعديل.

(1)

2 -

وعلى فرض صحة هذا الحرف فتأويله يُحمل على النهي عن الجزم في الأمور الغيبية، وذلك من باب سد الذرائع.

فنهاها أن تتسرع وتتكلم في أمر لا تعلمه فتجزم لشخص ما بالجنة. فإنه لا يُجزم لأحد بجنة أو بنار، إلا من شهد له الرسول الله صلى الله عليه وسلم.

3 -

وأما قولهم:

أنه إذا كان المولود يولد على الفطرة، وعليه فلا يُدرى ماذا سيعمل لو بلغ، لذا يُتوقَّف فيه ويوكَل أمره إلى الله.

فالرد عليه:

أن النزاع هنا على حكمهم حال الصغر، لا حال الكبَر، فالتوقف إنما يقال على الحال الثانى دون الأول، وعليه يُحمل قوله صلى الله عليه وسلم:

«اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» .

4 -

وكذلك استدلوا بما صح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه- قَالَ:

سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ صَغِيرًا، فَقَالَ:

«اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» .

(2)

فهذا محمول على حالهم بعد البلوغ، وهذا مما قد أختص الله -تعالى- بعلمه، وهذا من باب علم الله فيما لم يكن، لو كان كيف سيكون، فهؤلاء الصغار لو بلغوا فالله - تعالى -أعلم هل سيستمرون على الكفر أم يُختم لهم بخاتمة السعادة؟

قال ابن القيم:

وفى استدلال بقوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، على ما ذهبت إليه هذه الفرقة نظر؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يجب فيهم بالوقف، وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله سبحانه وتعالى. والمعنى: الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا.

(1)

قال ابن حجر: وطلحة إنما أنكر عليه حديث عصفور من عصافير الجنة. وقال البخاري منكر الحديث.

وقال أبو داود: ليس به بأس وقال أبو زرعة والنسائي صالح.

وانظر تهذيب التهذيب (3/ 21) والأجوبة المستوعبة بتحقيق عمروعبدالمنعم (ص/177)

(2)

متفق عليه.

ص: 465

فهو سبحانه وتعالى يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش، والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش، و لكن لا يدل هذا على أنه يجزيهم بمجردعلمه فيهم بلا عمل يعملونه، وإنما يدل على أنه سبحانه وتعالى يعلم منهم ما هم عاملون بتقدير حياتهم.

(1)

5 -

وأما ما ورد في توقف ابن عباس -رضي لله عنهما - في حكم أطفال المشركين:

فلا شك أنه قد أحسن من انتهى إلى ما قد علم، ولكن لما ورد النص في بيان الحكم الشرعي لزم القول به واعتقاده.

* ثالثاً: الرد على من قال أنهم يختبرون في عرصات القيامة:

واستدلوا على ذلك ببعض الروايات التى ورد فيها اختبار المولود فى العرصات.

وجوابه:

أن الحديث الذي استدلوا به لم يرد في رواية صحيحة ذكر المولود، فالرواية الصحيحة أن الأربعة الذين ستكون لهم الحجة هم:" الأحمق، والهرِم، والأصم، ورجل مات في الفترة "

، فليس فيهم المولود، وأما الرواية التى ذُكر فيها أن " الهالك صغيراً " ضمن من يُختبرون، فقد رواها الطبراني في المعجم الكبير (ح/158) والهيثمى في المجمع (7/ 216)، وفي سندها عمرو بن واقد، وهو متروك، قد رُمي بالكذب، فلا يحتج به.

وقد وردت من طرق أخرى كلها لا يخلو من مقال، وعليه فهى بجميع طرقها لا تجابه ما ورد في الصحيح من كون أطفال المشركين في الجنة.

(2)

(1)

طريق الهجرتين (ص/447)

(2)

ومن ذلك: ما يُروي عَنْ النبي صلى الله عليه وسلم: " يُؤْتَى بِأَرْبَعَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: بِالْمَوْلُودِ، وَبِالْمَعْتُوهِ، وَبِمَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ، وَالشَّيْخِ الْفَانِي، كُلُّهُمْ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِهِ.....)

رواه أبو يعلى (4224) والبزار في كشف الأستار (3/ 34)، في سنده ليث بن أبي سليم: قال الحافظ: " صدوق، اختلط أخيراً، ولم يتميز حديثه فترك. وكذلك في سنده عبد الوارث مولي أنس، قال الترمذي - عن البخاري: عبد الوارث منكر الحديث.

وقال ابن معين: مجهول. وضعَّفه الدارقطني وأحمد وأبوزعة وأبوحاتم الرازيان، وللحديث طريق آخر من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، لكن في سنده علي بن زيد، قال عنه ابن الجوزي:

" وهذا الحديث ليس بشيء، فإن علي بن زيد لا يحتج به. قال أحمد ويحيى: ليس بشيء. "

وانظر تهذيب التهذيب (4/ 612) وميزان الاعتدال (2/ 678) وكشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 367)

ص: 466

قال ابن عبد البر عن أحاديث امتحان أطفال المشركين في العرصات:

وهي كلها أسانيد ليست بالقوية، ولا يقوم بها حجة، وقد ذكرناها بأسانيدها في التمهيد.

(1)

* إشكالات نختم بها بحثناً، والجواب عنه:

الإشكال الأول:

عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

" إنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا.

(2)

فظاهرالحديث يعارض في الفهم حديث الباب الذى أفاد أن كل مولود يولد على الفطرة.

* وجوابه من وجهين:

الأول:

عموم حديث الباب (كل مولود يولد على الفطرة..) مخصَصٌ بحديث غلام الخضر، ومما يؤيد ذلك:

ما ورد في حديث عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ-رضى الله عنه- الذى كان يَقُولُ:

الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، ثم يروي حديث النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ:

" يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ، أَوْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ:

يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟.

(3)

الثاني:

أن غلام الخضر مولود على الفطرة كسائر الخلق، لكنه كتب في علم الله -تعالى- أنه إذا بلغ فيسصير إلى الكفر والفسوق والعصيان، وهذا تفسير قوله صلى الله عليه وسلم:

" الله أعلم بما كانوا عاملين "، فيكون هذا من باب علم ما لم يكن لو كان كيف سيكون.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

أئمة السنة مقصودهم أن الخلق صائرون إلى ما سبق به علم الله منهم من إيمان وكفر، كما في الحديث (إن الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً) والطبع الكتاب، أي كتب كافراً كما قال: (فيكتب رزقه، وأجله وعمله،

(1)

الاستذكار (3/ 114)

(2)

أخرجه مسلم (2661)

(3)

أخرجه مسلم (2644)

ص: 467

وشقي أو سعيد)

وليس إذا كان الله قد كتبه كافراً، يقتضي أنه حين الولادة كافر، بل يقتضي أنه لا بد أن يكفر، وذلك الكفر هو التغيير، كما أن البهيمة التي ولدت جمعاء، وقد سبق في علمه أنها تجدع، كتب أنها مجدوعة بجدع يحدث لها بعد الولادة، لا يجب أن تكون عند الولادة مجدوعة.

(1)

فتبين أن المراد به حالة ثانية طرأت عليه من التهيؤ للكفر وقبوله عليه، غير الفطرة التى ولد عليها.

(2)

2 -

الإشكال الثانى:

قد احتج القدرية بحديث الباب على تأكيد أصلهم الباطل أن الإنسان هو الذى يخلق فعل نفسه؛ وذلك لقوله: صلى الله عليه وسلم:

" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ..... "

فقوله: فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ.. دل أن الإضلال إنما يقع بفعل العبد نفسه!!!

وجواب ذلك:

1 -

من أصول أهل السنة التي ثبتت عندهم بالكتاب والسنة والإجماع أن الهداية والإضلال إنما تقع للعبد بقدر الله تعالى، قال عزوجل (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)(الأنعام/125)

وقال تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)(الجاثية/23)

وقال تعالى (مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الأنعام/39)

وورد في قوله صلى الله عليه وسلم:

" إنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا "

*وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه

"

فغاية ما في إنما هو ربط الأقدار بأسبابها، فالمتسبّب في إضلال هؤلاء بالتهويد أو التنصير أو التمجيس إنما هم آباءهم، مع كون الجميع مما قدَّره الله -تعالى- وكتبه.

(1)

درء تعارض العقل والنقل (4/ 402)

(2)

إِكمَال المعلِم بفَوَائد مسلم (8/ 147)

ص: 468

*ونظير ذلك:

ما ورد في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ)(الأعراف/57)

فلا شك أن الله - تعالى- جعل الرياح التى تحمل السحاب سبباً لإنزال المطر، مع كون الجميع من خلق الله وتقديره.

* يؤيده:

قوله تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)(الصافات/96)

فمما يدخل في عموم خلق الله - تعالى- أعمال العباد، فهى مخلوقة لله بنص الآية، ومن أعمال العباد ما ورد في الحديث الذى أشكلوا عليه، والذى هو قيامهم بتهويد وتنصير أبناءهم.

*وقد ورد عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً وقيل له إن أهل الأهواء يحتجون علينا بهذا الحديث؛ يعني قوله " فأبواه يهودانه أو ينصرانه "، فقال مالك:

احْتجَّ عليهم بآخره.

(1)

* وقول مالك: " احْتجَّ عليهم بآخره ": يقصد ما ورد في إحدى روايات حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«مَنْ يُولَدُ يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ، كَمَا تَنْتِجُونَ الْإِبِلَ، فَهَلْ تَجِدُونَ فِيهَا جَدْعَاءَ، حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ:

أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا؟

قَالَ صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ» .

(2)

ووجه ذلك:

أن أهل القدر استدلوا على أن الله -تعالى - لا يضل أحداً، وإنما يضل الكافرَ أبواه، فأشار مالك إلى الرد عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم:

" الله أعلم بما كانوا عاملين "؛ فهو دال على أن الله -تعالى- يعلم بما يصيرون إليه من الهدى أو الضلالة، فهو دليل على تقدم العلم الذي ينكره غلاتهم، ومن ثم قال الشافعي عن أهل القدر: إن أثبتوا العلم خُصموا.

فقوله فأبواه يهودانه

محمول على أن ذلك يقع بتقدير الله تعالى.

(1)

أخرجه أبوداود (4715) وصححه الألبانى.

(2)

متفق عليه

ص: 469

قال أبو العباس ابن تيمية:

والمولود ولد على الفطرة سليماً، وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيرها الأبوان، كما قدَّر الله - تعالى - ذلك وكتبه، كما مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:

«كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ، فبيَّن أن البهيمة تولد سليمة، ثم يجدعها الناس، وذلك بقضاء الله وقدره، فكذلك المولود يولد على الفطرة سليماً، ثم يفسده أبواه، وذلك أيضاً بقضاء الله وقدره.

(1)

*وكذلك فمن الرد عليهم من نفس الحديث:

ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وقد قلب الدليل عليهم، كما هي عادته في الرد على أهل البدع، حيث قال رحمه الله:

وإن احتجت القدرية بقوله: «فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» من جهة كونه أضاف التغيير إلى الأبوين - فيقال لهم: أنتم تقولون: إنه لا يقدر: لا الله ولا أحد من مخلوقاته، على أن يجعلهما يهوديين أو نصرانيين أو مجوسيين، بل هما فعلا بأنفسهما ذلك، بلا قدرة من غيرهما، ولا فعل من غيرهما، فحينئذ لا حجة لكم في قوله:«فأبواه يهودانه» .

(2)

تم بحمدالله تعالى.

(1)

درء تعارض العقل والنقل (8/ 360)

(2)

المصدر السابق (8/ 378)، وانظر شفاء العليل (ص/575)

ص: 470