المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

ص: 547

*نص حديث الباب:

* عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ - أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ - فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ:

أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ، قَالَ:«فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي» ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ «لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ» ثُمَّ قَالَ:

حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ،

قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ:«أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ: «مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ

ص: 549

السَّائِلِ» قَالَ:

فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا، قَالَ:

«أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ» ، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي:«يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»

*تخريج حديث الباب:

أخرجه البخاري (50) كِتَابُ الْإِيمَانَ بَابُ: سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإِيمَانِ، وَالإِسْلَامِ، وَالإِحْسَانِ، وَعِلْمِ السَّاعَةِ.

ومسلم (9) كِتَابُ الْإِيمَانَ بَابُ: معرفة الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، والقَدَرِ وَعَلَامَةِ السَّاعَةِ.

(1)

*أهمية حديث الباب:

لا شك أن هذا الحديث يعد أصلاً من أصول هذا الدين وعماداً من أعمدته التى تنير درب السالكين في مدارجهم لشرائع دين الإسلام.

قال القاضى عياض:

وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة، من عقود الإيمان، وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه، وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاث ألفنا كتابنا الذى سمَّيناه بـ"المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان "، إذ لا يشذ شئ من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات

(1)

وقد ذكرنا في حديث الباب لفظ الإمام مسلم رحمه الله؛ فهو من أتم وأكمل المواضع التى جمعت ألفاظ حديث جبريل عليه السلام. وهذا مما خص الله -تعالى- به مسلماً عن غيره من أصحاب الحديث.

قال ابن حجر: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل؛ وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير بقطيع ولا رواية بمعنى، وقد نسج على منواله خلق عن النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه وحفظت منهم أكثر من عشرين إماماً ممن صنف المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوَّهاب. تهذيب التهذيب (5/ 426)

ص: 550

والمكروهات عن أقسامه الثلاث.

(1)

قال النووي:

واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعاً من العلوم والمعارف والآداب واللطائف، بل هو أصل الإسلام.

(2)

قال القرطبي:

فيصلح هذا الحديث أن يقال فيه: إنه أم السنة؛ لما تضمنه من جمل علم السنة، كما سميت الفاتحة: أم الكتاب؛ لما تضمنته من جمل معاني القرآن.

(3)

* شرح فوائد حديث الباب:

تبدأ قصة حديث الباب لما توجه يحيى بن يعمر وصاحبه حميد عبدالرحمن إلى عبدالله بن عمر-رضى الله عنهما- يسألانه عن فتنة من الفتن الى أطلت برأسها في أواخر عصر الصحابة رضى الله عنهم، وهى فتتنة القول بنفي القدر، وأن الله -تعالى - لم يخلق أفعال العباد.

وهذا هو معنى قول يحْيَى بْنِ يَعْمَرَ في أول حديث الباب:

" كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ

"

(4)

، أى أنه تكلم في القدر نفياً له،، وقول الراوى:" يزعمون أنَّ الأمرَ أُنف "، أي:

مستأنف لم يسبق لله - تعالى - فيه علم، وقد عُرف أصحاب هذه البدعة فيما بعد باسم " القدرية "؛ وسمُّوا بذلك لأنهم أثبتوا للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى، ونفوا أن تكون الأشياء بقدر الله وقضائه.

(1)

إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 204)

ورسالة " المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان " للقاضى عياض قد ذكرها ابنه، وقال: إنه لم يكملها، ويغلب على الظن أنها مفقودة، فلم أجد لها ذكراً فى غير هذين الموضعين. الديباج المذهَّب في معرفة أعيان علماء المذهب (2/ 49)

(2)

صحيح مسلم شرح النووي (1/ 194)

(3)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 152)

(4)

يحيى بن يعمر أبوسليمان العدواني الفقيه، العلامة، أحد قرَّاء البصرة، وقاضي مرو. حدَّث عن: عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وعدة. وقرأ القرآن على: أبي الأسود الدؤلي. قيل: إنه كان أول من نقَّط المصاحف، وذلك قبل أن يوجد تشكيل الكتابة بمدة طويلة، وكان ذا لسان وفصاحة، توفي قبل التسعين. وانظروفيات الأعيان (6/ 173) وسير أعلام النبلاء (4/ 442)

ص: 551

وأهل السنة والجماعة على أن الله -تعالى - يعلم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه، وقدرته، وإرادته، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة رضى الله عنهم.

وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها.

قال القرطبي:

قد انقرض هذا المذهب، ولا نعرف أحدًا ينسب إليه من المتأخرين، والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مذهب باطل، مع كونه أخف من المذهب الأول.

وأما المتأخرون منهم، فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد، فراراً من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سلم القدري بالعلم خصم. يعني يقال له:

أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم؟، فإن منع، وافق قول أهل السنة، وإن أجاز، لزمه نسبة الجهل، تعالى الله عن ذلك.

(1)

وحديث الباب يفيد أن معبداً هو أول من قال بالقدربالبصرة، وتكاد المصادر التى ترجمت لمعبد أن تُجمع على ذلك، وأن معبداً قد تشَّرب ذلك المنهج الضال من رجل من أهل البصرة كان نصرانياً، فأسلم، ثم تنصَّر يقال له: سيسويه أو سوسن، وهو من أبناء المجوس، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن الأثير وأبوحاتم وغيرهم.

وكان من حسنات الخليفة عبد الملك بن مروان أنه أمر بقتل معبد الجهنى.

(2)

(1)

فتح الباري (1/ 172)

(2)

ومعبد الجهني هذا بخلاف الصحابي معبد بن خالد الجُهني، أبو زرعة. الذى له صحبة ورواية، كما نص على ذلك ابن أبي حاتم.

قال ابن حجر: وقيل: هو هو، وهذا باطل، فإن القدري وافق هذا الصحابي في اسم أبيه ونسبه، واختلف في اسم أبيه، فقيل خالد مثل الصحابي، وقيل عبد اللَّه بن عويم، وقيل عبد بن عكيم.

انظر مجموع الفتاوى (7/ 384) والبداية والنهاية (9/ 34) وتاريخ الإسلام (2/ 1006) والإصابة في تمييز الصحابة (6/ 130)

ص: 552

*عود إلى حديث الباب:

قَال ابن عمر رضى الله عنهما:

" فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقدر" بِالْقَدَر"

هنا قد تبرأ ابن عمر -رضى الله عنهما- من هؤلاء الضآلين الذين خاضوا في تلك البدعة الكفرية، والتبرؤ يأتى في الشرع على نوعين:

1 -

تبرؤ من الشخص:

وهذا كما يقع من الأنبياء والمؤمنين حينما يتبرؤن من المشركين، وقد وردت سورة كاملة باسم "سورة التوبة " أو كما هى مشهورة باسم "سورة براءة "، في التبرؤ من أعيان المشركين، قال تعالى (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) (التوبة/2)

وكذلك الخليل إبراهيم عليه السلام لما تبرأ من أبيه وقومه، كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ)(الزخرف/26)، فهذا تبرؤ من الشخص لمفارقته أهل الإيمان بالكلية.

وكذلك يقال في قول الله تعالى {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (الشعراء/216)

2 -

تبرؤ من الفعل:

وهذا يكون فيمن فعل فعلاً فيه مخالفة شرعية، لكنها لا تُخرجه من دائرة الإسلام، فالتبرؤ هنا يكون من فعله لا من شخصه، ولهذا أمثلة كثيرة:

أ) لما بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ -رضى الله عنه -إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، فلما علم النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

«اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ»

(1)

(1)

أخرجه البخاري (7189)

ص: 553

فهنا قد تبرأ الرسول عليه الصلاة والسلام مما صنع خالد ومن عمله رضي الله عنه، دون شخص خالد، وذلك لأن خالداً كان متأولاً معذوراً عند الله تعالى، ولم يكن ذلك منه معصية تعمد فعلها، بل محض خطأ أداه إليه اجتهاده، ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعزله بعد ذلك عن قيادة الجيش.

ب) عن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ:

إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنْ الصَّالِقَةِ، وَالْحَالِقَةِ، وَالشَّاقَّةِ ".

(1)

* وهنا يقال:

إن قول ابن عمر - رضى الله عنهما - في هؤلاء الذين قالوا بنفي القدر «فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي» يبين أن التبرؤ هنا إنما هو من القسم الأول؛ يدل عليه قوله: «لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ»

فمثل هذا المعنى قد ورد في الكتاب والسنة فى حق الكافرين.

فمن الكتاب قول تعالى (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ)، قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(التوبة/36)

وقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)(الزمر: 47)

ومن السنة:

ما ورد في حديث أنَسَ بْنَ مَالِكٍ- رضي الله عنه أنِّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

" يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا، وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي شَيْئًا، فَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي ".

(2)

(1)

متفق عليه. السالقة، والصالقة لغتان، وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة.

(2)

متفق عليه. وقد دلت الأدلة الشرعية وإجماع الأمة على كفر القدرية من نفاة علم الله تعالى.

ص: 554

*عود إلى حديث الباب:

قول. عُمَرُبْنُ. الْخَطَّابِ. رضى. الله. عنه:

" بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ

"

ومن الفوائد هنا أن جبريل عليه السلام قد جاء إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في صورة بشرية، حتى قد رأه الصحابة - رضى الله عنهم- بأعينهم، فظنوا أنه رجل من خارج المدينة، ولكن الذى جعلهم يستغربون أمره أنه شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، ولا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.

والملائكة مخلوقات نورانية له أجنحة، قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)) (فاطر/1)

وعن عبدالله بن مسعود -رضى الله عنه- قال: رأى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جبريلَ في صورتِه على السِّدرةِ لهُ ستُّمائةِ جَناحٍ.

(1)

*وفي حديث الباب قد أتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة بشرية، ومجئ الملائكة في الصورة البشرية قد ورد في غير ما موضع في الكتاب والسنة، كما في قصة إبراهيم عليه السلام، قال تعالى (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) (الذاريات /25)، وكذلك في قصة لوط عليه السلام، كما قال تعالى (فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)

(الحجر/62).

وفي قصة مريم عليها السلام، قال تعالى (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)(مريم /17) وورد كذلك في قصة الأبرص والأقرع والأعمى، والأمثلة كثيرة.

(1)

متفق عليه.

ص: 555

وقد كان جبريل عليه السلام كثيراً ما يأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في صورة الصحابي الجليل دحية الكلبى رضى الله عنه:

ففى حديث أُمّ سَلَمَةَ -رضى الله عنها- أن جبريل عليه السلام جعَلَ يَتَحَدَّثُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ سَلَمَةَ:«مَنْ هَذَا؟» أَوْ كَمَا قَالَ، قَالَتْ: هَذَا دِحْيَةُ، فَلَمَّا قَامَ، قَالَتْ:

وَاللَّهِ مَا حَسِبْتُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُخْبِرُ خَبَرَ جِبْرِيلَ.

(1)

.

*عودٌ إلى حديث الباب:

قَالَ جبريل: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ.....

وهنا فوائد: الفائدة الأولى:

1) قول جبريل عليه السلام " يا مُحَمَّد "، حيث ناداه باسمه المجرد، وإنما فعل ذلك لأنه أراد التعمية على السامعين، فصنع صنيع الأعراب.

(2)

2) * الفائدة الثانية:

شهادة " أن لا إله إلا الله ": تشمل على أنواع التوحيد الثلاثة " توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات ".

فهي تدل على توحيد الألوهية بدلالة المطابقة، لأن معنى " لا إله إلا الله ": أي لا معبود بحق إلا الله.

وهى تدل على التوحيد ربوبية بدلالة التضمن؛ لأنَّ مَن عبد الله -تعالى- ولم يشركْ به شيئًا فهذا يدل ضمنًا على أنه قد اعتقد بأن الله هو ربه ومالكه الذي لا رب غيره.

(1)

متفق عليه.

و دحية الكلبي هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي القضاعي، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ورسوله بكتابه إلى عظيم بصرى، ليوصله إلى هرقل. أسلم دحية قبل بدر، ولم يشهدها، وكان يضرب به المثل في حسن الصورة، وكان يشبه بجبريل، عَنْ أَنَسٍ:

أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُوْلُ: (يَأْتِيْنِي جِبْرِيْلُ فِي صُوْرَةِ دِحْيَةَ، وَكَانَ دِحْيَةُ جَمِيْلاً) أورده الحافظ في

الإصابة عن النسائي، وصحح إسناده.

قال الذهبي: لا ريب أن دحية كان أجمل الصحابة الموجودين بالمدينة، وهو معروف، فلذا كان جبريل ربما نزل في صورته. وقد شهد دحية اليرموك، وقد نزل دمشق وسكن المنزّة، وعاش إلى خلافة معاوية. وانظر سير أعلام النبلاء (2/ 550) والإصابة في تمييز الصحابة (2/ 321)

(2)

النكت على صحيح البخاري (2/ 9)

ص: 556

وقد ورد هذا المعنى في أول أمر في القرأن في قوله تعالى (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)) (البقرة/21) فالذى انفرد بالخلق هو المستحق للعبادة دون غيره.

قال ابن القيم:

والإلهية التى دعت الرسل أممهم إلى توحيد الرب بها: هى العبادة والتأليه، ومن لوازمها: توحيد الربوبية الذى أقر به المشركون، فاحتج الله عليهم به، فإنه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الإلوهية.

(1)

ومعنى كلام ابن القيِّم أنَّ الله - تعالى - احتجَّ على المشركين بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية والعبادة لا العكس، فتبيَّن بذلك أنَّ توحيد الربوبية والأسماء والصفات وحده لا يكفي لإدخال صاحبه في الإسلام، ولا يُنقذه من النار، ولا يعصم مالَه ودمه إلاَّ بتوحيد الألوهية والعبادة.

*و كذلك فإن شهادة " أن لا إله إلا الله ":

تدل على توحيد الأسماء والصفات بدلالة المطابقة، لشمولها على اسم الله عزوجل، ودلالة التضمن لأن الأدلة الشرعية قد دلت على إثبات الأسماء والتى تتضمن صفات الله تعالى، قال تعالى (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)(الإسراء/110) فاسم " الله " يتضمن صفة الألوهية، والله مألوه أي معبود تحبه القلوب وتأله.

* الفائدة الثالثة:

قوله صلى الله عليه وسلم " أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.... "

وهكذا التوحيد الصحيح إنما ينبني على ركنين: " ركن النفي، ركن الإثبات". نفي الألوهية عمَّن سوى الله تعالى، وإثبات الألوهية لله وحده لا شريك له، فالنفي المحض ليس بتوحيد، والإثبات المحض ليس بتوحيد، حتى يجمع بينهما.

والذي يستقرئ أدلة الكتاب والسنة يقف على هذا المعنى:

(1)

إغاثة اللهفان (2/ 135)

ص: 557

فمن الكتاب:

قال تعالى (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (الزخرف/27)، وكذلك قوله تعالى (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)) (الشعراء/77)

وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(النحل/36)

وقال تعالى (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)(النساء/36)، وما من نبي إلا دعا قومه قائلاً (يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)(الأعراف/59)

لذا فقد جاءت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لتحقيق هذا الأصل، فعَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلَاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» .

(1)

ولَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي طَالِبٍ:

" يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ ".

(2)

فالمشركون الذين بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يشفع لهم ما حققوه من طرف خفي في باب توحيد الربوبية؛ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)؛ وذلك لأنهم أهدروا توحيد الألوهية في إشراكهم بالله -عزوجل -بعبادة الطواغيت والأصنام وقالوا} مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى {فهم لم يعتقدوا في اللات والعزّى أنها تخلق أو ترزق أو تحيي أو تميت، وإنما جاء شركهم أنهم أشركوها في الدعاء والعبادة، كما قال تعالى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)) (العنكبوت/65)، وتبع ذلك إشراكهم فى توحيد الأسماء والصفات،

(1)

متفق عليه.

(2)

متفق عليه.

ص: 558

وذلك لما اشتقوا من أسماء الله -تعالى - أسماءً لآلهتهم، فاللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.

* عودٌ إلى حديث الباب:

قال صلى الله عليه وسلم: " وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم

":

وهذا هو الشق الثانى من الشهادة، أن تشهد أن محمداً نبي الله ورسوله إلى العالمين، إنسهم وجنهم، المبشر به في التوراة والإنجيل، ونذكر من أدلة ذلك ما يلى:

قال تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)(الفتح/29)، وقال تعالى (مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)(سبأ/28)، وقال تعالى (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ)(الأعراف/ 157)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:

«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»

(1)

وعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما فقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ؟

قَالَ: " أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا ".

(2)

*وشهادة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رسول الله تقتضى طاعته فيما أمر ونهى؛ لأن طاعته من

(1)

أخرجه مسلم (153) باب وجوب إيمان أهل الكتاب برسالة الإسلام.

(2)

أخرجه البخاري (2125)

ص: 559

طاعة الله عزوجل، قال تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)(النساء/80)

وعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلَا يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأتِيهِ أَمْرٌ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: مَا نَدْرِي مَا هَذَا، عِنْدَنَا كِتَابُ اللهِ لَيْسَ هَذَا فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ.

(1)

لذا فإن الشهادتين تشتملان على نوعين من التوحيد:

أ) توحيد العبادة:

وهذا لله -عزوجل- وحده لا شريك له، فلا معبود بحق إلا الله تعالى.

ب) توحيد الاتباع: وهذا للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، فلا متبوع بحق إلا رسول الله. * عودٌ إلى حديث الباب:

قال صلى الله عليه وسلم: " وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًاً ".

فهذه التى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الشهادتين هى أركان الإسلام.

وأما الصلاة فهى ركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين، والخلاف في حكم تاركها كسلاً خلاف عريض، وهذا إن دل إنما يدل على عظم هذا الركن.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه في حديث الإسراء المشهور، وفيه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى

(1)

أخرجه أحمد (17174) وأبوداود (4604)، وانظر السلسلة الصحيحة (ح/ 882)

ومن فوائد هذا الحديث:

قال الطيبي:

في تكرير كلمة " ألا " توبيخ وتقريع، نشأ من غضب عظيم على من ترك السنة والعمل بالحديث استغناء بالكتاب، فكيف بمن رجح الراي على الحديث؟!! أ. هـ

قوله صلى الله عليه وسلم: " مُتَّكِئًا شَبْعَانًا عَلَى أَرِيكَتِهِ ": أى على سريره، وفي ذلك إشارة إلى منشأ جهله وعدم اطلاعه على السنن، فرد كلام النبي صلى الله عليه وسلم بقلة نظره، ودوام غفلته بتعهد الاتكاء والرقاد.

وقال القاري: يعني الذي لزم البيت، وقعد عن طلب العلم، فهذه الصفة للترفه والدعة، كما هو عادة المتكبر المتجبر القليل الاهتمام بأمر الدين. وانظرعون المعبود (7/ 35) وتحفة الأحوذي (6/ 463)

ص: 560

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ.. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تبارك وتعالى وَبَيْنَ مُوسَى عليه السلام حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً)

(1)

فكان فرض الصلاة حين عرج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات.

وفرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أقرت صلاة السفر، وزيدت في صلاة الفجر، فصارت الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والعشاء أربعاً، وبقيت الفجر على ركعتين لأنه يطول فيها القراءة، وبقيت المغرب على ثلاث لأنها وتر النهار.

(2)

عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ-رضى الله عنها- قَالَتْ: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فِي الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الحَضَرِ» .

(3)

*وأما الزكاة:

فهى قرينة الصلاة في الكتاب والسنة، قال اللَّهِ تَعَالَى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}

[البقرة: 43]

وقال تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(التوبة/103)

عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضى الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» .

(4)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:

دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ

(1)

متفق عليه.

(2)

وقد ذهب جماعة من أهل العلم أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة وإنما كانت ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى يشهد لذلك قول الله تعالى: "واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا "سورة المزمل.... وقوله تعالى: "وسبح بحمد ربك بالعشى والإبكار" سورة غافر

ثم قوله تعالى: "أرأيت الذى ينهى عبدا إذا صلى" سورة العلق.

(3)

متفق عليه.

(4)

متفق عليه.

ص: 561

دَخَلْتُ الجَنَّةَ، قَالَ:

«تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ المَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ» قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» .

(1)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ، وَنَفْسَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ "، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضى الله عنه:

وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا، وفي رواية " عَنَاقًا "

(2)

كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: فَوَاللهِ، مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللهَ عز وجل قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.

(3)

وتطلق الزكاة على الصدقة الواجبة والمندوبة والنفقة والحق والعفو، والزكاة أمر مقطوع به في الشرع يُستغنى عن تكلف الاحتجاج له وإنما وقع الاختلاف في بعض فروعه وأما أصل فرضية الزكاة فمن جحدها كفر.

*وتعريفها في الشرع:

إعطاء جزء من النصاب الحولي إلى فقير ونحوه غير هاشمي ولا مطلبي ثم لها ركن وهو الإخلاص وشرط هو السبب وهو ملك النصاب الحولي.

وشرط من تجب عليه وهو العقل والبلوغ والحرية، ولها حكم وهو سقوط الواجب في الدنيا وحصول الثواب في الأخرى، وحكمة وهي التطهير من الأدناس

(1)

أخرجه البخاري (1397) بَابُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، ومسلم (14)

(2)

قوله (عناقا): هى الأنثى من ولد المعز التي لم تبلغ سنة. وأما رواية "عقالاً": فقد ذهب كثير من المحققين إلى أن المراد بالعقال الحبل الذي يعقل به البعير.

(3)

متفق عليه.

ص: 562

ورفع الدرجة.

(1)

* ومما ورد في الترهيب من ترك الزكاة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ، إِلَّا أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ، وَجَبِينُهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ.

(2)

*وأما الصوم:

فقد فرضه الله -تعالى- في شعبان في السنة الثانية من الهجرة، وصام الرسول صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات.

وقد فرض الله - تعالى- الصيام على ثلاث مراحل:

الأولى:

في السنة الأولى من الهجرة كان الفرض على المسلم هو صيام عاشوراء فقط، وذلك قبل فرض صيام رمضان، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:«صَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَاشُورَاءَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ»

(3)

.

الثانية:

في السنة الثانية من الهجرة فُرض رمضان، وكان فيها التخيير بين الصيام وبين الإطعام، لمن لا يريد الصيام، حتى نزل الحكم بفرضية الصوم على كل مستطيع، ولكن كان هذا الإلزام بالصيام على هيئة خاصة، نذكرها في المرحلة الثالثة.

عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ:

" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِيَ، حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا ".

(4)

(1)

تحفة الأحوذى (3/ 195) وفتح الباري (3/ 262)

(2)

أخرجه مسلم (987)

(3)

متفق عليه.

(4)

متفق عليه.

وقوله تعالى (وعلى الذين يطيقونه فدية) المعنى الذين يستطيعون الصوم ويفطرون بدون عذر عليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكيناً، وكان هذا أول ما فرض الصوم إذ كان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية، فلما نزل قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} نُسخ هذا الحكم، وأصبح الصوم هو المحتم على المستطيع.

ص: 563

الثالثة:

إذا كان الرجل صائمًا وحضر الإفطار ونام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، يعني إذا غربت الشمس فإنه يحل له أن يفطر، ولكن إذا ناموا قبل الأكل فإنه يلزمه الإمساك إلى مغيب الشمس من الغد.

فعَنِ البَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ:

" كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم -إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإِفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ:

خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187].

(1)

وعبادة الصوم من أجل وأعظم العبادات التى يتقرب بها العبد إلى ربه عزوجل، ولو لم يأت في فضل الصوم إلا قوله تعالى " كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ "

(2)

لكفى.

*ومما ورد في الترهيب من ترك الصوم:

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

" بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ ثُمَّ انْطَلَقَا بِي،

فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟، قَالَا: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ.

(3)

(1)

أخرجه البخاري (1816)، والترمذى (2968)

(2)

متفق عليه.

(3)

أخرجه ابن خزيمة (1986) والحاكم (1568)، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وقال الذهبي: على شرط مسلم.

ص: 564

قال الذهبي:

وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان بلا مرض ولا غرض أنه شر من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكُّون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال.

(1)

* ثم قال صلى الله عليه وسلم: " وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ":

قال تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)) (آل عمران/97)

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- قَالَ:

خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا» ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ "

(2)

والحج من أجلِّ وأعظم العبادات التى تجمع بين الجهاد بالنفس والجهاد بالمال، ولو لم يأت في فضل الحج إلا حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه الذى قَالَ فيها: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»

(3)

لكفى.

وقد انعقد إجماع الأمَّة على كون الحجِّ فرضاً على كلِّ مسلمٍ قادرٍ مرَّةً واحدةً في حياته، وأنَّ فرضيته ممَّا هو معلومٌ من الدِّين بالضَّرورة؛ أي يكفُر من أنكره وجحده.

وقد فرض الله -تعالى - الحج كان في السنة التاسعة لما نزل قوله تعالى (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ

(1)

الكبائر (ص/44)

(2)

أخرجه مسلم (1337)

(3)

متفق عليه.

قال القاضى: هذا من قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق} . والرفث: الفحش فى القول، وقيل: الجماع، قال الله تعالى:{أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} . وقيل: هو كناية عن الجماع، وقيل: الرفث: التصريح بذكر الجماع، قال الأزهرى: هى كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وكان ابن عباس يخصه بما خوطب به النساء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: و (الرفث) هو الجماع وليس في المحظورات ما يفسد الحج إلا جنس الرفث فلهذا ميز بينه وبين الفسوق. وأما سائر المحظورات: كاللباس والطيب فإنه وإن كان يأثم بها فلا تفسد الحج عند أحد من الأئمة المشهورين. إكمال المعلم بفوائد مسلم (4/ 462)(26/ 108)

ص: 565

حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة هى حجة الوداع، وهى التي لم يحج من المدينة منذ هاجر إليها غيرها، وكانت في السنة العاشرة من الهجرة، وقد وردت أحداث هذه الحجة مفصلة في حديث جابر رضى الله عنه.

(1)

* فإن قيل:

إذا كان الحج قد فُرض -على الراجح - في العام التاسع، فلِمَ أخرّ النبي صلى الله عليه وسلم حجه للعام العاشر؟؟؟

*فالرد من وجوه:

قيل: لأن العام التاسع كان عام الوفود، فلما أذعنت العرب وصاروا يأتون أفواجا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فكان صلى الله عليه وسلم في المدينة ليلتقي هؤلاء الوفود ليعلمهم دينهم عليه الصلاة والسلام.

وقيل: أنه في السنة التاسعة حج المشركون مع المسلمين فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حجه خالصاً للمسلمين؛ ولهذا أذن في التاسعة ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.

(2)

* عود إلى حديث الباب:

قَالَ جبريل: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:

«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»

* أما الإيمان بالله فهو الاعتقاد الجازم بوجوده سبحانه وتعالى، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، والعمل بمقتضى ذلك الاعتقاد.

(1)

قال النووى:

حديث جابر حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم لم يروه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم.

قال القاضي: وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا، وصنَّف فيه ابن المنذر جزءً وخرَّج من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، لو تقصّى لزيد على هذا القدر قريب منه. شرح النووي على مسلم (4/ 429)

(2)

شرح حديث جابر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (ص/80)

ص: 566

وأما الإيمان بالله فيتضمن أربعة أمور:

1 -

الأمر الأول: الإيمان بوجود الله تعالى:

وهذا أمر فطري، فإن كل مولود يولد وهو عارف بربه، وهو مفطور على معرفة الله تعالى؛ لذا فهذا الأمر لا يحتاج إلى سرد الأدلة وحشد البراهين.

والمستقرء لكتاب الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا يرى الإكثار من الحديث عن إثبات وجود الله عز وجل، وإنما يجد عامة الأيات والأحاديث إنما تدعو إلى الإيمان بالله تعالى.

فالإيمان بوجود الله -تعالى- أمر مركوز في الفطر السليمة، فلم يؤثر عن أمة من الأمم إنكارها لوجود الله تعالى، إلا ما نسب إلى فرعون، والدهرية.

حتى من أنكر وجود الله تعالى، فهذا فقط جحود في الظاهر، فهو مغلوب بإقراره بوجود الله في الباطن؛ كما ذكر الله - تعالى -عن فرعون وقومه في تعاملهم مع آيات الله سبحانه:{وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} (النمل: 14)، وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام في مناظرته لفرعون (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ)(الإسراء/102)

وأما في عصرنا فقد كثر الملاحدة والمشككون بسبب طغيان الحضارة المادية الجارفة، فكثر لأجل ذلك السعي إلى الاستدلال على وجود الباري سبحانه، فنذكر طرفاً من أدلة وجود الله تعالى، والتى منها:

1 -

الفطرة السليمة:

وهذا ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع:

قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]

وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

«مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}

ص: 567

[الروم: 30] الآيَةَ.

(1)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

أهل الفطرة كلهم متفقون على الإقرار بالصانع، وأنه فوق العالم، وأنهم حين دعائه يتوجهون إلى فوق بقلوبهم وعيونهم وأيديهم.

(2)

2 -

ما هو مشاهد من النظام المحكم الحكيم في حركة المخلوقات لهو أبين الأدلة على وجود الله تعالى، قال تعالى (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)) (يس/40)، وقال تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ

الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)) (الأنبياء/22)

(3)

3 -

ما نسمع ونشاهد من إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين ما يدل دلالة قاطعة على وجوده سبحانه وتعالى؛ فإن الداعي يشعر بحاجته وفقره إلى ربه وخالقه، فإذا ألمَّ بالانسان ضرأو وقع في محنة شديدة لا يبقى في ظنه رجاء المعاونة من أحد، فهو بأصل خلقته يتضرع إلى من يخلصه منها، ويجد نفسه يفزع إلى خالقه ويستغيث به، وما ذاك إلا شهادة الفطرة بالافتقار إلى الصانع المدبر.

فرجوع الإنسان الى ربه -تعالى- عند الشدائد دليل على أنه يقر بالفطرة بربه سبحانه وتعالى. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ

(1)

متفق عليه.

(2)

الفتاوى الكبرى (6/ 368)

(3)

وفي المناظرة المشهورة بين أبى حنيفة وبعض الملاحدة، وقد تعمد أبو حنيفة أن يتأخر عليهم وقت عقد تلك المناظرة، فلما دخل عليهم قالوا له: لماذا تأخرت؟!!

فقال أبوحنيفة: لما أردت أن أجاوز النهر لأصل إلى بيت الأمير لم أجد مركباً يحملني، فانطلقتْ صاعقة عظيمة فضربت شجرة بجانبي فقسمت الشجرة إلى نصفين، فانطلقت قطعة حديد فدخلت هذا الغصن وتحول إلى فأس، ثم أقبل هذا الفأس وجعل يضرب في الشجرة التى انقسمت حتى صنع منها مركباً صغيراً فركبت فيه حتى وصلت إليكم.

فقالوا: قارب كامل يوجد صدفة؟!!

فقال لهم: سبحان الله! أنتم تقولون إن السموات والأرض والجبال والبحار والإنسان والحيوانات والشمس والقمر والنجوم كل هذا وجد صدفة، ولا تصدقوني بأن قارباً واحدا وُجد صدفة!!

ص: 568

أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].

(1)

2 -

الأمر الثاني:

الإيمان بربوبية الله تعالى:

وهو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتقدير والتدبير، فهو فعل الرب تجاه العبد.

قال الله عز وجل (أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)) (النمل/64)

وقال تعالى (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)) (يونس/31) وهذا القسم من أقسام الإيمان ممَّا أقرّ به عامة الخلق، إلا من شذ من البشر، قال تعالى

} وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) {(العنكبوت/61)، وقال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)

(الزخرف/78)

3 -

الأمر الثالث: الإيمان بألوهية الله تعالى

وألوهية الله -تعالى- هي إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة والإلوهية، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وقد سبق أن تحدثنا عن توحيد الألوهية.

4 -

الأمر الرابع:

توحيد الأسماء والصفات أو معرفة الله بأسمائه وصفاته، وذلك بإثبات صفات الله - تعالى - وأسمائه على الوجه الذي يليق به سبحانه وتعالى، وبنفي مشابهته ومماثلته للمخلوقات، كما قال الله سبحانه وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].

فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه رد على المشبهة، وهو نفي للتشبيه والتمثيل،

(1)

وقد نشرت " مجلة المختار" المترجمة عن مجلة "ريدر دايجست" مقالة أيام الحرب لشاب من جنود المظلات يروي قصته فيقول: "إنه نشأ في بيت ليس فيه من يذكر الله أو يصلي، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين، ولا مدرس متدين، نشأ نشأة علمانية مادية، أي مثل نشأة الحيوانات التي لا تعرف إلا الأكل والشرب والنكاح، ولكنه لما = =هبط أول مرة، ورأى نفسه ساقطًا في الفضاء قبل أن تنفتح المظلة جعل يقول: يا الله، يا رب، ويدعو من قلبه وهو يتعجب من أين جاه هذا الإيمان؟!!

ص: 569