الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للناس، وان يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية.
وجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
(كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَال (17)(الرعد: 17)
أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:
الجهمية والمعتزلة والخوارج:
قالوا:
إن الله - تعالى - يتكلم بكلام يسمع، وبحرف، ومتى شاء، وبما شاء، ولكن ليس كلامه صفة فيه، بل كلامه مخلوق من مخلوقاته بائن منه.
وعليه كلام الله -تعالى- عندهم لا يعد معنى يقوم بذات الله عز وجل، بل هو شيء من مخلوقاته كالسماء والأرض والناقة، فكلام الله حروف خلقها الله وسمَّاها كلاماً، كما خلق الناقة وسماها ناقة الله، وكما خلق البيت وسمّاه بيت الله، وإنما نسب الله الكلام إلى نفسه تشريفاً وتعظيماً.
* وعلى هذا المذهب لا يوصف الله -تعالى- بالكلام في الواقع، وإنما يوصف بأنه خالق الكلام، ومن ثم بنوا على هذا قولهم: إن القرآن مخلوق.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(القصص: 30)
فقالوا:
قوله تعالى: "من الشجرة ":
فيه دلالة أن الله خلق الكلام في الشجرة، فسمعه موسي عليه السلام-منها.
(1)
(1)
فائدة مهمة: =
=الجهمية المعطلة نفاة صفة الكلام، هم كفار نوعاً وعيناً، كما أنهم خارجون عن الثنتين وسبعين فرقة، فهم زنادقة كفار بإجماع العلماء.
أما المعتزلة: فهم لم ينفوا كلام الله صراحة، بل قالوا: كلم الله موسي ولكن جعلوا كلام الله مخلوقاً، فهذه شبهة قد منعت من تكفيرهم، وإن كان الخلاف قائماً في جعلهم ضمن فرق الأمة، والراجح.
أنهم ضمن فرق الأمة، وذلك لأن التأويل من موانع التكفير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ. وهذا مشهور عند الناس في= =المسائل العملية.
وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية.
وانظر منهاج السنة النبوية (5/ 123).
وهذا يوضح لنا الجمع بين قول أحمد بن حنبل بتكفير من قال بخلق القرآن، مع عدم تكفيره لأعيان المعتزلة القائلين بذلك، وعدم خروجه على المأمون وقتاله إياه.
*الرد على الجهمية والمعتزلة:
أما قولهم أن الله - تعالى - يتكلم، ولكنَّ كلامه ليس صفة له، بل كلامه مخلوق
…
فالرد من وجوه:
1 -
هل يجوز لمخلوق أن يقول (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)، فمن قال ذلك فقد زعم أن غير الله ادعي الربوبية. ولو كان كما قال الجهمي: لكان قول ذلك المخلوق: (يا موسي إن الله رب العالمين فاعبده.....)
2 -
ولو كان كلام الله -تعالى- قد خلقه في الشجرة فسمعه موسي عليه السلام لترتب على ذلك:
أن كل كلام يمكن أن يكون كلام الله، حتى كلام البشر يمكن أن نقول إنه كلام الله، لأنه مخلوق في الإنسان، بل إن كلام البشر-على قاعدتكم - يكون أشرف من كلام الله؛ لأنه مسموع من البشر الذي فضَّله الله على كثير ممن خلق تفضيلاً، وكلام الله عندكم مسموع من الشجرة.
*أيضاً نقول:
ولو سمع موسى- عليه السلام كلام الله من غيره -كما تقول المعتزلة-لما كان لموسى عليه السلام مزية ولا فضل علي غيره من البشر، لأننا نسمع كلام الله عز وجل على الحقيقة.
*وإذا كانت الشجرة هي التي خلق فيها كلام الله، فسمعه موسي-عليه السلام منها بزعمكم، للزم من ذلك أن يكون من سمع كلام الله من محمد -صلي الله عليه وسلم - أفضل مرتبة من موسي، لأنه سمعه من شجرة.
(1)
(1)
وانظر درء تعارض العقل والنقل (2/ 436) والفصل في الملل والنحل (2/ 37) و شرح السفَّارينية لابن العثيمين (ص/176)
* كذلك يقال:
قال تعالى (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)(النساء/64)
قال النحاس: أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً.
فإذا قال تكليما وجب أن يكون كلاما على الحقيقة التي تعقل.
قال القرطبي:
"تكليماً" مصدر معناه التأكيد، يدل على بطلان من يقول:
خلق لنفسه كلاماً في الشجرة، بل هو الكلام الحقيقي على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً.
(1)
أما قولهم:
كلام الله هو حروف خلقها وسمّاها كلاماً، كما سمَّى الناقة: ناقة الله، والبيت: بيت الله.
فجوابه: أن المضاف إلي الله عز وجل على نوعين:
أ-أعيان ب-معاني
أما الأعيان: فتضاف إلي الله- عز وجل إما:
(إضافة تشريف أو إضافة ملكية)
وكلا النوعين جمعتهما الآية (ويَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ)
فقوله تعالى (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ) هذه إضافة تشريف، وقوله (فِي أَرْضِ الله) هي إضافة ملكية.
أما المعاني فتضاف إلي الله عز وجل-على نوعين:
1 -
معنى لا يقوم بالله؛ فيكون إضافته إلى الله على سبيل التشريف، كما ورد في الحديث القدسي "مرضتُ فلم تعدني".
2 -
أن يكون المعنى المضاف لله هو معنى يقوم بالله -تعالى- وصفة له:
فتكون إضافته إلى الله -عزوجل- إضافة صفة إلى موصوف، ويدخل في هذا الباب
(1)
وانظر الجامع لأحكام القرآن (6/ 18) وفتح الباري (13/ 675)
إضافة الكلام إلي الله تعالى، كما في قوله تعالى (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) (التوبة: 6)
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ-رضي الله عنهما قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْقِفِ فَيَقُولُ:
" هَلْ مِنْ رَجُلٍ يَحْمِلُنِي إِلَى قَوْمِهِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ".
(1)
فقوله صلى لله عليه وسلم: " كَلَامَ رَبِّي":
هو من باب إضافة الكلام إلى الله -تعالى- إضافة صفة إلى موصوف.
وكذلك ما ورد في حديث جَابِرٍ- رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ:
«أَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» .
(2)
*ومن الرد عليهم:
أن قولهم في صفة الكلام لله عز وجل قول مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، هو مناقض لأقوال الأنبياء صلي الله عليهم وسلم أجمعين.
كما أنه خلاف المعقول لأن الكلام صفة للمتكلم، وليس شيئاً قائماً بنفسه منفصلاً عن المتكلم.
كما أنه لا يُعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام وإنما قام الكلام بغيره.
(3)
قال تعالى (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)(الأنعام: 114).
فيه بيان أن القرآن قد أنزله الله سبحانه وتعالي، وليس من مخلوق من المخلوقات، لهذا قال السلف:
منه بدأ، أي: هو الذي تكلم به ولم يبتدأ من غيره، كما أدعته الخلقية.
قال أحمد بن حنبل:
كلام الله من الله، ليس بائناً منه، وإذا كان المخلوق كلامه
(1)
أخرجه أحمد (15192) والترمذي (2925)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» ، وانظر الصحيحة السلسلة (1947)
(2)
أخرجه النسائي (1311)، وصححه الألباني في المشكاة (956)
(3)
وانظر لمعة الاعتقاد (ص/18) وشرح الطحاوية (ص/138)
منه، لا من غيره، دل أن الكلام إنما يقوم بالمتكلم.
(1)
*أما ما استدلوا به من قوله تعالى (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)) (القصص/30)
فجوابه أن نقول:
النداء هو الكلام من بعد، فقد سمع موسي عليه السلام النداء الذي كان في البقعة المباركة من عند الشجرة، كما تقول: سمعت كلام زيد من البيت، فيكون معنى "من البيت" لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم؛ إذ لو كان الكلام مخلوقاً من الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
(2)
2 -
قول الكلابية والأشاعرة:
أما الكلاَّبية:
فسبب هذه التسمية يعود إلى أول من أشتهر بهذا القول، وهوعبد الله بن سعيد بن كلّاب.
(3)
أما قولهم في صفة الكلام فإنهم قالوا:
أن الله يتكلم بغير مشيئة، بل كلامه هو معنى قديم لازم قائم بذات الرب كلزوم الحياة والعلم، وأنه لا يُسمع منه على الحقيقة، بل المسموع هو حروف وأصوات مخلوقة منفصلة عن الرب، دالة على ذلك المعني القديم وهو القرآن، وهو غير مخلوق.
*أماالأشاعرة:
فقالوا:
إن كلام الله صفة من صفاته وليس بمخلوق، فكلامه-تعالى- صفة أزلية قائمة بذاته، بغير صوت ولا حرف، وأما اللفظ فهو مخلوق ليدل على ذلك المعنى.
فالكلام النفسي عندهم هو معنى واحد، لا يتجزأ ولا يتبعض، هو الأمر والنهي،
(1)
بتصرف يسير من مجموع الفتاوي (12/ 297)، وفي كلام أحمد رد على الجهمية والمعتزلة القائلين بأن الله قد خلق كلامه في بعض مخلوقاته، وأن كلامه ليس منه.
(2)
وانظر شرح الطحاوية (ص/134).
(3)
قال الذهبي: ابن كلاب رأس المتكلمين، وكان يلقّب كلاباً لأن يجر الخصم إلي مذهبه ببلاغته، أراد معارضة من قال بخلق القرآن فقال بقولٍ لم يسبق عليه. سير أعلام النبلاء (11/ 175)
والخبر والاستخبار.
إن عبَّر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبَّر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبَّر عنه بالسريانية كان إنجيلاً.
(1)
وقد نص الجوينى والرازي على إثبات الكلام لله على المعنى القائم بالنفس.
(2)
* فإذا سألت: وما وجهة الأشاعرة فيما ذهبوا إليه؟
*والجواب:
أن الأشاعرة لا يقولون بإثبات الصفات الفعلية، ويجعلون كلام الله هو الكلام النفسي القديم وليس متعلقاً بوقت معين، والقرآن عندهم إنما هو عبارة عن كلام الله.
وبهذا تراهم جمعوا بين متناقضات حين جعلوا القرآن من حيث معناه:
غير مخلوق، ومن حيث حروفه إنما هو من عند مخلوق.
قال أبو العباس ابن تيمية:
أنهم - أى الأشاعرة- لما ناظروا المعتزلة في إثبات الصفات، وأن القرآن ليس بمخلوق، رأوا أن ذلك لا يتم إلا إذا كان القرآن قديماً، وأنه لا يكون قديماً إلا إذا كان معني قائماً بنفس الله كعلمه؛ وذلك لامتناع قيام الأمور الحادثة به، فخالفوا بذلك جمهور المسلمين.
(3)
فالحاصل أن الأشاعرة والمعتزلة متفقان أن حروف القرآن وألفاظه مخلوقة، أما الأشاعرة فيقولون القرآن هو الكلام النفسي، وهذا قديم غير مخلوق، ويطلق على الألفاظ قرآن إما مجازاً أو اشتراكاً.
والمعتزلة يخالفونهم في ذلك، فلا يثبتون كلاماً نفسياً، ويقولون الكلام لا يتصور
(1)
وانظر حاشية البيجوري على الجوهرة (ص/129) وبغية الطالب للتلمساني (ص/220) وعقائدالأشاعرة (ص/147) مصطفى باحو.
(2)
وانظر الإرشاد (ص/109) و الأربعين في أصول الدين (1/ 249)
(3)
نظر مجموع الفتاوي (12/ 579)
* فائدة مهمة:
تنبه للفرق بين الأشاعرة والكلابية، فإن الكلابية قالوا: القرآن حكاية عن كلام الله والأشاعرة قالوا:
عبارة عن كلام الله، والعبارة أدق من الحكاية، فمعني عبارة: أن معناه طبق الأصل لكلام الله النفسي، وعند الكلابية قالوا بالحكاية؛ لأن الحكاية يكون فيها شيء من السعة، أوسع من العبارة
من دون اللفظ، وإنما هو العلم والإرادة.
وإذا تحققت من أن الكلام النفسي يؤول ويرجع - ولا بد - إلى العلم والإرادة - أو العلم وحده - كان الخلاف بينهما لفظياً.
فحقيقة الخلاف اللفظي هو الخلاف الراجع لمجرد اختلاف العبارة، أو هو الخلاف الذي لا ثمرة له، أو هو الخلاف الذي لو اطلع كل مخالف على حقيقة قول مخالفه لما خالفه.
*وقد فطن إلى ذلك المحققون من أهل السنة، وكذا محققوالأشاعرة من المتأخرين، ممن حقق الأقوال وعرف لوازمها.
(1)
*تأمل:
الفرق بين الخلقية كالجهمية والمعتزلة وبين الأشاعرة والكلابية.
حيث أن الخلقية (الجهمية والمعتزلة) يقولون:
لا يقوم بذات الله كلام، ولكنه مخلوق يتعلق بمشيئة الله.
أما الأشاعرة والكلابية فقالوا:
لله كلام هو معني قديم قائم بذاته لا يتعلق بالمشيئة.
(2)
*الرد على الأشعرية والكلابية:
1 -
قولكم هذا مما لم يظهر في الأمة إلا من بعد ظهور ابن كلَّاب، وعنه تقلَّده أبو الحسن الأشعري وسائر أئمة الأشعرية.
(3)
(1)
من مقال " لم كان القول بخلق القرآن كفراً؟ "(للشيخ: عمرو بسيوني).
(2)
وعليه فإن الجهمية والمعتزلة خير من الأشاعرة من هذا الوجه؛ حيث علَّقوا صفة الكلام بمشيئة الله، في حين أن الأشاعرة جعلوا كلام الله هو معني قديم لا يتعلق بمشيئة الله ولا إرادته.
قال السجزي:
" اعلموا- أرشدنا الله وإياكم- أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نِحَلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب، والقلانسي، والصالحي، والأشعري، وأقرانهم، الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة، وهم معهم، بل أخس حالاً منهم في الباطن. وانظر رسالة السجزي إلى أهل زبيد (ص/17)
(3)
تجدر الإشارة هنا إلى أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله-قد رجع عن عقيدة الكلابية وألَّف رسائل على عقيدة السلف، وإن كان فيها بعض الشوائب العالقة إثر تركه لعقيدة المعتزلة، ومن ثم تركه لعقيدة الكلابية.
ومن هذه المؤلفات التي سار فيها الأشعري على نهج السلف:
كتابه الإبانة وكتابه رسالة إلى أهل الثغر، وكتابه مقالات الإسلاميين.
ويعد أبو الحسن من متكلمي أهل الإثبات، ومن متكلمة الصفاتية، ويعتبر من أقربهم إلى السنة وأتبعهم لأحمد = = بن حنبل، بل هو أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد، الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل وابن الجوزي. وانظر حقيقة البدعة وأحكامها (ص/166)
فقولكم بالكلام النفسي قد خالفتم به الكتاب والسنة وإجماع الأمة التي أثبتت لله-تعالى- صفة الكلام بحرف وصوت على الحقيقة، وليس كلاماً نفسياً أو معنى قائماً بالنفس كما تزعمون.
2 -
قال تعالى " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)) (الشورى: 51)
فلما فرَّق الله بين التكليم والوحي العام؛ دل ذلك على إبطال القول بأن كلام الله هو معني واحد قائم بذاته.
3 -
قال تعالى (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(الشعراء/10)
وجه الدلالة:
النداء لا يكون إلا بصوتٍ مسموع باتفاق أهل اللغة وسائر الناس.
* عن عبد الله بن أُنيس -رضى الله عنه- أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: " يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ:
أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ "
(1)
قلت: وهذا بينٌ جلى أن المتكلم بصوت هو الله تعالى، فما كان ينبغى لملَك من الملائكة أن يقول:" أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ ".
وقد أخبر الله -تعالي -به في كتابه من تكليم موسي، وسمع موسى لكلام الله يدل على أنه كلمه بصوت، فإنه لا يسمع إلا الصوت، وصوته تعالي ليس كأصوات شيء من مخلوقاته، فإن الله لا يماثل المخلوقين في شئ من الصفات، فمن شبَّه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته.
(2)
*أما قولهم بأن صفة الكلام هو المعني القائم بالنفس!!
(1)
أخرجه أحمد (16042) وحسَّنه ابن القيم في الصواعق (1/ 467) وابن حجر في الفتح (1/ 74) وانظر صحيح الْأَدَبِ الْمُفْرَد (570)
(2)
بتصرف يسير من مجموع الفتاوى (6/ 531)
فهذه دعوى يكذبها الشرع واللغة.
أما الشرع: فلأن الله تعالي وصف القرآن بأنه كلمه؛ والأصل أن الصفة حقيقة في موصوفها، وهذا القرآن مسموع وبحروف مما يدل على بطلان دعواكم أن القرآن معني يقوم بالنفس.
أما اللغة: فإنه لا يقال في اللغة للكلام كلام حتى يخرج باللسان، وإنما يذكر الكلام القائم بالنفس كلاماً مفيداً، فيقال: حديث نفس أو يقول في نفسه.
أما عند الإطلاق: فإن القول والكلام لا يقال إلا لما يسمع ويكون بحروف.
فإن قالوا: قال تعالى (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ)
فجعل ما في النفس قولاً؟
قلنا: هذه عليكم وليست لكم؛ لأن الله لما أراد حديث النفس قال "ويقولون في أنفسهم"، ولما أراد حديث اللسان قال "بما نقول"، فأطلق ولم يقل " بما يقولون
في أنفسهم "، فحديث النفس لا يسمى قولاً ولا كلاماً إلا مقيداً.
*فإن قالوا:
قول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً.
(1)
قالوا: فسمَّى ما في الفؤاد من المعاني كلاماً؟؟
فجوابه: أن هذا البيت مما قد تكلم العلماء في صحته رسماً ونسباً.
أما نسباً:
فقد تكلم العلماء في صحة نسبته إلي ديوان الأخطل، فقد قال أبو محمد الخشَّاب نحويُ العراق: فتَّشت شعر الأخطل فما وجدت هذا البيت.
رسماً:
من حيث تحريف لفظه، حيث إن لفظه الصحيح هو "إن البيان لفي الفؤاد"، قال أبو البيان الدمشقي: أنا رأيته في ديوانه كذلك، فحرَّفه بعض النفاة وقالوا:
(1)
وهذا البيت قد نسبه للأخطل: ابن هشام في "شذور الذهب "(ص/35)، وأبو معين النسفي في "تبصرة الأدلة "(1/ 283)، وانظر "شرح العقائد النسفية"(ص/ 179)
إن الكلام لفي الفؤاد.
(1)
*ثم نقول:
وعلي فرض صحته ونسبته فإنه لا يجوز أن نستدل به، لأن الأخطل من النصاري؛ هؤلاء الذين ضلوا في معني الكلام حتى زعموا أن عيسى عليه السلام -هو نفس كلمة الله، وأن اللاهوت قد اتحد بالناسوت، وإن قولاً يستشهد له بأقوال النصارى لقول مبني على شفا جرف هار.
قال أبو العز الحنفي:
كما أن معنى البيت غير صحيح، إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً، لقيام الكلام بقلبه، وإن لم ينطق به ولم يُسمع منه.
(2)
*كذلك يرد دعواهم بأن الكلام هو معنى قائم بالنفس:
" قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزا (41))
فمع كون زكريا عليه السلام قد أشار إليهم، كما في قوله تعالى
(فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)، فلم يكن ذلك المعني القائم بنفسه الذي عبَّر عنه بالإشارة كلاماً.
وكذلك في قصة مريم عليها السلام (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ)، مع كونها قد نذرت الامتناع عن الكلام، (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)
وقد اتفق أهل اللسان على أن الكلام: اسم وفعل وحرف، كما أجمع الفقهاء علي أن من حلف ألا يتكلم لا يحنث بحديث النفس، وإنما يحنث بالكلام.
(3)
* كذلك يرد دعواهم بأن الكلام هو معنى يقوم بالنفس:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن
(1)
ذكر االذهبي أن الشيخ أبا البيان محمد بن محفوظ الدمشقي الشافعي اللغوي، جاءه ابن تميم الذي يدعي الشيخ الأمين، فقال له الشيخ أبو البيان بعد كلام جرى بينهما: ويحك، الحنابلة إذا قيل لهم:
ما الدليل على أن القرآن بحرف وصوت؟ قالوا: قال الله كذا، وقال رسوله كذا، وأنتم إذ قيل لكم: ما الدليل على أن القرآن معنى "قائم" في النفس؟ قلتم: قال الأخطل "إن الكلام لفي الفؤاد"، إيش هذا الأخطل؟! نصراني خبيث بنيتم مذهبكم على بيت شعر من قوله، وتركتم الكتاب والسنة!
وانظر العلو للعلي الغفار (ص/284)
(2)
شرح العقيدة الطحاوية (ص/145)
(3)
مذكرة في أصول الفقه (ص/225).
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله تجاوز لأمتي عمَّا حدَّثت بها أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به ".
(1)
وجه الدلالة:
قد أخبر النبي -صلي الله عليه وسلم- أن الله -تعالى-عفى عن حديث النفس، إلا أن تتكلم، ففَّرق بين حديث النفس وبين كلام اللسان.
كذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:
"إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ ".
(2)
فقد اتفق العلماء أن من تكلم وهو يصلي عامداً بطلت صلاته، واتفقوا على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب، لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلَّم بذلك، فعلم إتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.
(3)
*أما قولهم:
أن الله لا يتكلم بقدرته ولا مشيئته، بل الكلام لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته.
* فالرد عليه:
قوله تعالى: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} وقوله تعالى {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} فإنه وقَّت النداء بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف، وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه.
(4)
وفي حديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " أَلَمْ تَسْمَعُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟.
(5)
فجعل الكلام موقتاً بظرف محدد.
وباتفاق الأنبياء عليهم السلام فإن الله يتكلم، ومن لم يقل إن يتكلم بمشيئته وقدرته كلاماً يقوم بذاته لم يقل إنه يتكلم. وعلى هذا أئمة السنة، كأحمد والبخاري
(1)
متفق عليه.
(2)
رواه مسلم (537) وأحمد (23813)
(3)
وانظر شرح العقيدة الطحاوية (ص/146)
(4)
انظر مجموع الفتاوي (12/ 131)
(5)
أخرجه النسائي (1525) وصححه الألباني.
وابن خزيمة وغيرهم متفقون على أن الله -تعالى- يتكلم بمشيئته وقدرته، ولم يقل أحد منهم إن القرآن قديم.
** ثم نقول:
وأصل قولهم أن كلام الله -تعالى-لا يتعلق بالمشيئة فمبناه على دعواهم نفي قيام الحوادث بالله!!!
وجواب ذلك:
أننا لا بد أن نفرق بين أصل صفة الكلام وبين آحاده، فالله- عز وجل متصف بصفة الكلام من الأزل، فهي صفة ذات له عز وجل، لم يزل - سبحانه - ولا يزال متكلماً.
وأما آحاد الكلام - والذى منه القرآن - فهو بعض كلام الله عز وجل تكلم به متى شاء، وعليه فصفة الكلام قديمة الجنس، حادثة الآحاد.
قال تعالى (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)
فالحداثة إنما هي وصف آحاد الكلام، وليس لأصل الصفة، فتنبَّه.
قال ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: " يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله "
(1)
أما قولهم: القرآن هو حكاية وعبارة عن كلام الله!!
فجوابه:
أن هذا القول لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين من المتقدمين من الصحابة والتابعين، فدل أن ذلك من البدع المحدثة.
ونقول:
لو كان ما في المصحف عبارة أو حكاية عن كلم الله، وليس هو كلم الله حقيقة؛ لما حرم على الجنب والمحدث مسه، ولما حرم على الجنب قراءة القرآن.
*أما قولهم بالكلام النفسي الذى هو عندهم معنى واحد، هو الأمر والنهي، والخبر والاستخبار!!
فجوابه أن جمهور العقلاء يقولون: إن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام، فإنا إذا عرَّبنا التوراة والإنجيل لم يكن معناهما معنى القرآن بل معاني هذا ليست معاني هذا، وكذلك " {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1] ليس هو معنى
(1)
أخرجه البخاري (2685)
{تبت يدا أبي لهب} [المسد: 1] " ولا معنى آية الكرسي آية الدَين.
وإذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئاً واحداً فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر صفة واحدة، فاعترف أئمة هذا القول بأن هذا الإلزام ليس لهم عنه جواب عقلي.
ورحم الله الإمام العز بن عبد السلام -وهو من كبار أئمة الأشعرية - حيث سئل في مسألة القرآن: كيف يعقل شيء واحد هو أمر ونهي، وخبر واستخبار؟
فقال: ما هذا بأول إشكال ورد على مذهب الأشعري.
(1)
* ومن التناقض البيِّن:
أنك تري الأشاعرة يقولون بإثبات صفات لله -تعالى- لها معانٍ زائدة عن الذات، مخالفة للجهمية النفاة، ثم تراهم يقولون بأن كلام الله معنى واحد قائم بالذات.
(2)
*وحقيقة الأمر:
أن الكلام الذي تثبته الأشاعرة لله -تعالى- لا حقيقة له؛ ومعناه قريب من معنى العلم؛ إذ أن حديث النفس الذي هو الكلام عندهم هو علم بمعانى معينة، فليس فى النفس إلا معانى معلومة، فآل الكلام إلى العلم.
لذا فقد نص الشيرازى على ذلك بالتصريح دون التلميح، فقال:
"سماعنا كلامه كعلمنا به "
(3)
قول الكرامية في صفة الكلام:
قالوا: كلام الله صفة له وهو كلام بحرف وصوت، ولكن الله -تعالى-قد تكلم بعد أن لم يكن متكلماً، فالكلام صفة حادثة له.
(4)
* الرد على الكرامية:
فقد وصفتم الله عز وجل بصفات البشر، حيث أن المرء لم يكن متكلماً ثم تكلم، وهذا
(1)
لوامع الأنوار البهية (ص/166) والتسعينية (3/ 952) وتناقضات الأشعرية (ص/63)
(2)
وانظر تناقضات الأشاعرة (ص/ 60)
(3)
وانظر الإشارة (ص/216) وعقائد الأشاعرة (ص/152)
(4)
ويعود أصل الكرامية إلي محمد بن كرَّام السجستاني، قال عنه ابن حجر: العابد المتكلم شيخ الكرامية، ساقط الحديث على بدعته. قال ابن حبان: خذل حتى التقط من المذاهب أردأها.
وقد دعا ابن كرَّام الناس إلى تجسيم معبوده، وزعم أنه جسم له حد ونهاية، بل شابه النصارى في وصف الإله بأنه جوهر، وانظر الفَرق بين الفِرق (ص/189)
نقص في حق الله عز وجل -ننزه ربنا تبارك وتعالي عنه.
ثم قولوا لنا: ما الفرق بين القول بأن الله -تعالى -تكلم بالقرآن الكريم بعد أن لم يكن متكلما به، والقول بأنه مخلوق؟؟!!
*كما أنه يلزم من قولكم هذا لوازم باطلة منها:
1 -
أن الله -تعالى-قد كان ناقصاً في صفاته ثم كمل، تعالي الله عما يقول الظالمون علواً عظيماً.
2 -
إن الله -تعالى-تحل فيه الحوادث، ومن تحل فيه الحوادث فهو حادث.
** قول الواقفة في كلام الله عز وجل:
و بدعة الوقف هي بدعة تابعة لبدعة خلق القرآن، وأصحابها إنما أظهروا هذا الوقف في كلام الله -تعالى- بعد أن أُستخلف المتوكل علي المسلمين فقمع بدعة خلق القرآن، فاحتال ناس ممن كانوا يعتقدون بقول جهم لترويج بدعتهم، فاخترعوا قولاً لم يفصحوا فيه بخلق القرآن خوفاُ على أنفسهم، فقالوا لا ندري مخلوق أو ليس بمخلوق، وإنما هو كلام الله.
وهؤلاء قد ذمَّهم السلف على ذلك، وعدُّوا أن من وقف في حكمه على كلام الله-تعالى- فهو جهمي. كما نص على ذلك: أحمد وسفيان بن عيينة، وغيرهما.
(1)
(1)
فائدة مهمة:
والذين توقفوا في مسألة خلق القرآن طائفتان:
1) الأولى:
كانت تعتقد جزماً أن القرآن كلام الله -تعالى-غير مخلوق، كما هو اعتقاد السلف، لكنها توقفت وتركت الخوض في هذه النازلة تورعاً وكرهت الدخول فيها باعتبار أنها مسألة محدثة. وهذا مما ذمهم العلماء عليه؛ فليس هذا موطن تورع وسكوت، بل هو موطن الصدع بالحق والجهاد بالعلم.
قال ابن قتيبة:
ليس في غرائز الناس احتمال الإمساك عن أمر في الدين قد انتشر هذا الانتشار وظهر هذا الظهور، ولو أمسك عقلاؤهم ما أمسك جهلاؤهم، ولو أمسكت الألسنة ما أمسكت القلوب، فالشك لا يداوى بالوقوف، والبدعة لا تدفع إلا بالسنة، وإنما يقوى الباطل أن تبصره وتمسك عنه. وانظر "الاختلاف اللفظ "(ص/246)
2) الثانية:
وهم المعنيون بالحديث عنهم، الذين توقفوا عن الخوض في هذه المسألة لأنهم لم يتبين لهم الحق فيها، فهم شكاكة. ذكره الدكتور أحمد حمدان محقق كتاب شرح أصول اعتقاد السنة للالكائي (2/ 323)
قال عثمان بن أبي شيبة:
«الواقفة شر من الجهمية بعشرين مرة، هؤلاء شكَّوا في الله» .
(1)
**الرد على الواقفة:
1 -
وأما قولكم هذا فهو في حقيقته شك في كلام الله عز وجل، لأنه ما توقف إلا لما شك في إضافة هذه الصفة إلي الله عز وجل إضافة صفة إلى موصوف، والشك في دين الله كفر؛ وذلك لأن الشك فى الصفة شك فى الموصوف.
*سئل عنهم الإمام أحمد فقال:
هؤلاء أضر من الجهمية على الناس، فإن لم تقولوا ليس بمخلوق فقولوا مخلوق. ومن يشك في هذا. سبحان الله أفي هذا شك؟!
(2)
قال الدارمي:
لا ينبغي لمصلٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشك في شئ من صفات الله وكلامه، كما أنكم حين شككتم في ذلك لم تأمنوا أن يكون كلام الله مخلوقاً، فكيف تنسبون من قال بخلق القرآن إلى البدعة، وأنتم في شك من أمرهم.
(3)
** قول الروافض في القرآن:
هم في ذلك على فرقتين:
1 -
هشام بن الحكم وأصحابه: يقولون إن القرآن لا خالق ولا مخلوق، وهو كلام الله كما قاله جعفر بن محمد وسائر أئمة السنة.
2 -
والفرقة الثانية: يزعمون أنه مخلوق محدث لم يكن ثم كان كما تزعم المعتزلة والخوارج، وهؤلاء قوم من المتأخرين منهم.
(4)
(1)
الإبانة الكبرى (1/ 290)
(2)
وانظر الإبانة عن أصول الديانة (2/ 981)
(3)
الرد على الجهمية (ص/176)
(4)
وقد نقل الطبري في صريح السنة (ص/22) عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن، فقال: أقول فيه ما يقول أبي وجدي: ليس بخالق ولا مخلوق، وإنما هو كلام الله عز وجل.
(أخرجه البيهقي في الاعتقاد (ص/107) وقال: (صحيح مشهور)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما شيوخ الإمامية فكانوا يقولون: القرآن ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله كما قاله جعفر بن محمد وسائر أئمة السنة، ولكن لا أعرف هل يقولون بدوام كونه متكلما بمشيئته، كما يقوله= = أئمة أهل السنة، أم يقولون: تكلم بعد أن لم يكن متكلماً، كما تقوله الكرامية وغيرهم.
وانظر منهاج السنة النبوية (2/ 247) ومقالات الإسلاميين (ص/32) وشرح السنة (1/ 169).
*تنبيه:
الرد على الروافض في قولهم بخلق القرآن سبق في الرد على المعتزلة والجهمية.
*الرد على الفلاسفة:
وقال الفلاسفة إن القرآن أنه ليس كلام الله عز وجل، بل هو محض تخيلات، وعليه فإنه ليس مصدراً للأحكام الشرعية، على زعمكم.
قال ابن تيمية:
وما ذكروه من حدوث أصوات في نفس الإنسان يسمعها: إما يقظة وإما مناماً، يحصل لآحاد الناس في كثير من الأوقات، وسمع الإنسان للهواتف في نفسه أكثر
من أن يحصى، فإن كان تكليم موسى من هذا الجنس، فآحاد الناس شركاؤه في هذا، فكيف بالأنبياء، فكيف بالمرسلين؟!
(1)
.
** مسألة اللفظية وحكمها:
وهي من المسائل التي تتعلق بهذا المبحث مسألة، حيث ظهر من يقول: أن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.
وأول من قال بها الحسين بن علي الكرابيسي، فلما علم الإمام أحمد بن حنبل بهذه المقالة أنكرها وأمر بهجر الكرابيسي، بل وقال: اللفظية جهمية.
ومقالة " لفظي بالقرآن مخلوق " جملة مجملة، والقاعدة في الألفاظ المجملة:
"كل كلام مجمل في حق الله، فلا يُقبل مطلقاً ولا يرد مطلقاً "
فإن اللفظ يطلق على معنيين:
أ-المصدر: الذي هو فعل الفاعل، أي التلفظ.
ب-الملفوظ به: وهو القرآن نفسه.
(1)
منهاج السنة النبوية (5/ 333)
وعليه نقول:
إن قصد قائل لهذه العبارة المعني الأول، الذي هو التلفظ؛ فلا شك أن ألفاظنا بالقرآن وغير القرآن مخلوقة، وإنْ قصد المعني الثاني، فهي عبارة الجهمية والمعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن.
قال أحمد: اللفظ بالقرآن غير مخلوق.
(1)
وقال عبدالله بن أحمد سمعت أبي يقول:
كل من يقصد إلى القرآن بلفظ أو غير ذلك يريد به مخلوق فهو جهمي.
(2)
فائدة:
واعلم أن الكلمة التي تحتمل التفصيل المذكور آنفاً هو قوله "لفظي بالقرآن مخلوق"، أما إن قال: أقول "القرآن مخلوق" وأقصد حركات القارئ وصوته!!
قلنا:
كان هذا المعني -وإن كان صحيحاً-ليس هو مفهوم كلامه، ولا معني قوله،
(1)
نقله عنه إبراهيم بن سعيد في طبقات الحنابلة (1/ 120)
(2)
وانظر السنة (ص/ 67)
* تنبيه مهم:
هذا التقييد في قول أحمد رحمه الله في مسألة اللفظية مما قد غفل عنه من قد حكي قوله على الإطلاق.
فما قد ورد عن أحمد من الإطلاق بأن اللفظية جهمية فهو محمول على من قصد منهم باللفظ الملفوظ، الذي هو القرآن نفسه، كما نقله عنه ابنه عبد الله والإمام البيهقي، وكذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي، فقد قال شيخ الإسلام:
ولهذا قال أحمد في بعض كلامه: من قال" لفظي بالقرآن مخلوق "، يريد به القرآن فهو جهمي احترازاً عما إذا أراد به فعله وصوته. =
= وعليه فما ورد من إطلاقات الإمام أحمد على اللفظية إنهم جهمية فهو محمول على علمه أن هؤلاء إنما أرادوا التستر خلف هذه الكلمة للقول بخلق القرآن.
وكذلك يقال فيما ورد عن الإمام أحمد من روايات مطلقة في تكفير اللفظية، فهي هذه الروايات ينبغي حملها على الرواية التي قال فيها:
من قال لفظي بالقرآن مخلوق -يريد به القرآن-فهو كافر؛ فإن هذا التقييد قد حفظه عن أحمد ابنه عبد الله.
* نقول:
وفي الجملة فقد كان الإمام أحمد يغلق الباب فى مسألة اللفظية، لئلا يُتذرع بها الخلقية في فتنتهم، وقد اشتد أحمد كثيراً على الخلال لما نسب إليه القول بأن " لفظي بالقرآن غير مخلوق "، وأمره بمحوها؛ لأنه كان زمان فتنة، فأراد أحمد قطع الاستشراف في هذه المسألة من باب سد الذرائع.
قال الذهبي:
كان الإمام أحمد لا يرى الخوض في هذا البحث خوفاً من أن يتذرع به إلى القول بخلق القرآن، والكف عن هذا أولي.
وانظر سير أعلام النبلاء (11/ 290) ودرء التعارض (1/ 251) وفتح البرية بتلخيص الحموية (ص/820) والرسالة الواضحة (ص/713)