الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر
منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر
نص حديث الباب:
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه قَالَ:
صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:«هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ"
* تخريج الحديث:
أخرجه البخاري (1038) بَابُ: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}
ومسلم (71) بَابُ بَيَانِ كُفْرِ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِالنَّوْءِ.
،
* أهم الفوائد التى نستنبطها من حديث الباب:
أولاً: عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه قَالَ:
صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالحُدَيْبِيَةِ
وكان ذلك لما خرج النبى صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه إلى عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة.
ولما علم المشركون بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم عزموا على صده عن البيت الحرام، ولكن انتهى الأمر إلى صلح الحديِّبية الذى سمَّاه الله -عزوجل- فتحًا مبينًا.
وكان من بنود هذا الصلح أن يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم من عامه، فلا يدخل مكة إلا في العام الذى بعده.
*قول زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه قَالَ:
صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ:
قوله «عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ» :
والإثر: هو ما يعقب الشيء، والسماء المطر، كما في
قوله صلى الله عليه وسلم: " وَفِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ العُشْرُ "، وسُمِّي المطر سماءً لنزوله من جهة السماء، وهو العلو، وذلك من باب استعارة اسم الشيء لغيره إذا كان مجاوراً له.
قال الشاعر:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ
…
رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا.
(1)
فالمعنى العام:
أن الصحابي زيد بن خالد - رضى الله عنه- يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلَّى بالمسلمين صلاة الصبح على إثر سماء، أى أن ذلك قد صادف سقوط المطر.
*ثم قال رضى الله عنه:
" فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ:
«هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ:
*وهنا فوائد:
1) الأولى:
قوله: فلما انصرف من صلاته صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس:
فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعلْم أصحابه -رضى الله عنهم- ويُخبرهم بما استُجد من أمور الوحي.
2) الثانية:
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟
وهذا سؤال بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حديثه للصحابة رضى الله عنهم. وكان هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه لأصحابه - رضى الله عنهم - أن يبدأ حديثه بسؤال للفت الإنتباه وجذب الأسماع فيطرح سؤالاً على السامعين، ولهذا نظائر كثيرة، نذكر منها:
حديث المفلس، يقول صلى الله عليه وسلم: أتدرون من المفلس؟
وقوله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما الغيبة؟
ويقول صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟
ويقول صلى الله عليه وسلم: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟
*ومن هذا الباب حديث الباب: يقول النبى صلى الله عليه وسلم فى بدء كلامه: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟
(1)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (6/ 406) مطالع الأنوارعلى صحاح الآثار (5/ 511)
3) الثالثة:
قوله صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟
وهذا حديث يروى فيه النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً قدسياً عن رب العزة، والأحاديث القدسية من أدلة أهل السنة على إثبات صفة الكلام لله عزوجل؛ وذلك لما فيها من نسبة الكلام وإضافته إلى الله -تعالى- إضافة صفة إلى موصوف.
لذا فقد أخرج البخاري رحمه الله حديث الباب في صحيحه كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 115]
قال ابن بطال:
أراد بهذه الترجمة وأحاديثها أن كلام الله -تعالى- صفة قائمة به، وأنه لم يزل متكلماً ولا يزال.
(1)
* وقد ورد فى رواية النسائي قوله صلى الله عليه وسلم:
أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ رَبُّكُمُ اللَّيْلَةَ؟
(2)
وهذه فيها زيادة فائدة في صفة كلام الله تعالى؛ فهي تدل على أن الله -تعالى- يتكلم بمشيئته واختياره، فصفة الكلام لله -تعالى- صفة ذاتية فعلية، ذاتية باعتبار الأصل، وفعلية باعتبار تجدّد آحاد الكلام.
فهذا معنى ما قعَّده العلماء فى كلام الله تعالى بقولهم أنه:
" قديم النوع، حادث الأفراد "، و قولهم " حادث الأفراد ":
ليس معناه أن كلامه مخلوق؛ بل كلامه - تعالى - متعلق بمشيئته، فإذا شاء تكلم، وإذا شاء لم يتكلم سبحانه.
(3)
فالله -عزوجل- إنما قال لموسى (لَنْ تَرَانِي)، في وقت بعينه وذلك (َ لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)، وليس من الأزل يقول ذلك.
(1)
فتح الباري لابن حجر (13/ 660)
(2)
السنن الكبرى (1847) والطبرانى في الكبير (5213) وانظر صحيح الجامع (2362)
(3)
وفارق بين المخلوق والحادث، فالمخلوق هو ما جاء أصله من العدم، كحال الإنسان، قال تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ..)، فلأن الإنسان مخلوق، فقبل خلقه لم يكن شيئاً يُذكر، وأما الحادث فهو المتجدد الوقوع مع وجود أصله للمتصف به.
فمن هذا الباب يقال أن كلام الله -عزوجل - حادث وليس بمخلوق، وبيان ذلك يقال:
كلامه -سبحانه- قديم من حيث أنه تعالى لم يزل متصفاً به من الأزل، حادث في آحاده وأفراده، قال تعالى (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)
وقال تعالى (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) لما طلب الحواريون المائدة من عيسى عليه السلام فقالوا (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في أن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء، ولم يقل أحد من السلف أن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته، ولا قال أحد منهم أن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أوغير ذلك من كلامه المعين أنه قديم أزلي.
(1)
* عودٌ إلى حديث الباب: فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
…
«هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ
…
وهذا من أدب الصحابة -رضى الله عنهم- حيث وقفوا عن الخوض فيما لا يعلمون، وهذا مما أدَّبهم القرآن وربَّاهم عليه، كما ورد في الأية قوله تعالى
…
(وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ)
*فإن قيل:
قول الصحابة رضى الله عنهم: " اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ "، أليس قد ورد النهي عن مثل هذه الصيغ التى يُجمع فيها بين الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم؟؟
كما في قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: مَا شَاءَ اللهُ، وَشِئْتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
" أَجَعَلْتَنِي وَاللهَ عَدْلًا، بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ ".
(2)
* والرد أن يقال:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أنما أراد في باب النهي عن ذلك حسم المادة وسد الذريعة، وغلق باب المغالاة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمثل هذه العبارات قد تُوهم أن مشيئةَ العبد في درجة مشيئة الرب سبحانه وتعالى، مع كون العبد له مشيئة، ولكنها تابعة لمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)
وأما ما يتعلق بحديث الباب:
ففي إقراره صلى الله عليه وسلم للصحابة -رضى الله عنهم- على قولهم:
" اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ "، بيانٌ أن ذلك جائز من حيث الأصل لمن يُؤمَن عليه الوقوع في علة النهي.
*وقيل في الجمع وجه آخر:
أن النهي إنما يتوجه في الأمور الكونية، ومنها المشيئة، وأما الأمور الشرعية المتعلقة بالوحي والتشريع فهذه ممَّا علَّمه الله -تعالى- لنبيه - صلى الله عليه وسلم فلا
(1)
مجموعة الرسائل والمسائل (3/ 68)
(2)
أخرجه أحمد (1839) وصححه الألبانى في الصَّحِيحَة (139)
حرج عندها أن يقال:
" اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ".
*عودٌ إلى حديث الباب:
لما قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟
قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:
" أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالكَوْكَبِ..
فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم -اختلاف حال العباد عند نزول المطر، فتراهم بين قسمين:
1) القسم الأول:
حال المؤمنين الذين ينسبون الفضل لله تعالى، فالمطر إنما هو من فضل الله -تعالى- ومن رحمته بالعباد، قال تعالى (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)(النمل/63)، وقال تعالى
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ)(الشوري/28)
لذا صار من السنن القولية التى تقال إثر سقوط المطر:
"مُطرنا بفضل الله ورحمته "، وهذا من شكر الله تعالى.
قال النووي:
ويُستحبّ أن يشكر الله سبحانه وتعالى -على هذه النعمة، أعني نزول المطر.
(1)
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال:
" اللَّهُمَّ صَيِّبًا نافِعًا ".
(2)
، "والصيِّب هو المطر"
*وكان صلى الله عليه وسلم إذا ما قلَّ نزول المطر قَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا ".
وأما إذا زاد نزول المطر إلى حد الهلكة فكان صلى الله عليه وسلم يرَفَعَ يدَيْهِ ويقول:
(3)
* كما يشرع الدعاء عند نزول المطر:
أخرج ابْن الْمُنْذر عَن ثَابت رضي الله عنه قَالَ:
بلغنَا
(1)
الأذكار (ح/467)
(2)
رواه البخاري (1032) بَابُ مَا يُقَالُ إِذَا مَطَرَتْ.
(3)
متفق عليه. وقال النووي: قال أهل اللغة الإكام بكسر الهمزة جمع أكمة، ويقال في جمعها آكام، وهي دون الجبل وأعلى من الرابية، وقيل دون الرابية، (والظراب) واحدها ظرب، وهي الروابي الصغار.
أَنه يُسْتَجَاب الدُّعَاء عِنْد الْمَطَر ثمَّ تَلا هَذِه الْآيَة {وَهُوَ الَّذِي ينزل الْغَيْث من بعد مَا قَنطُوا}
(1)
وقد نصَّ على استحباب الدعاء عند المطر غير واحد من الأئمة، ومنهم:
شيخ الإسلام ابن تيمية والشافعي والقرطبي.
(2)
وأما الأحاديث الواردة في استحباب الدعاء عند نزول المطر فلا تخلوا أسانيدها من المقال.
* ومن السنن الفعلية عند نزول المطر"التعرض لماء المطر ":
لا شك أن ماء المطر ماء مبارك، قال تعالى (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ)(ق/9)
وبركة المطر ظاهرة بيِّنة في آثاره على البلاد والعباد، قال تعالى بعد ذكره لنزول المطر (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(الروم/50)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم -قَالَ:
" مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ، يُنْزِلُ
اللهُ الْغَيْثَ فَيَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا ".
(3)
لذا كان من هدى النبي صلى الله عليه وسلم التعرُّض لماء المطر:
قَالَ أَنَسٌ رضى الله عنه:
أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى» .
(4)
*والمعنى:
أنه صلى الله عليه وسلم قد حسر- أي كشف بعض بدنه - لماء المطر؛ لأنه (حديث عهد بربه): أي بتكوين ربه إيَّاه، ومعناه أن ماء المطر قريب العهد بخلق الله - تعالى - لها؛ فيتبرك به.
قال النووي:
هذا الحديث دليل لقول أصحابنا أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف غير عورته ليناله المطر.
(5)
(1)
الدر المنثور (7/ 354)
(2)
مجموع الفتاوى (27/ 129) والجامع لأحكام القرآن (3/ 184) شعب الإيمان (2/ 375)
(3)
أخرجه مسلم (72)
(4)
أخرجه مسلم (898)
(5)
شرح مسلم للنووي (6/ 196)
*وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم المطر على المنبر، قال رضي الله عنه:
" ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ ".
(1)
وقد ترجم له البخاري، باب: من تَمَطَّرَ في المطر حتى يتحادر على لحيته.
قال ابن حجر:
كأن المصنف أراد أن يبين أن تحادُرَ المطر على لحيته صلى الله عليه وسلم لم يكن اتفاقاً، وإنما كان قصداً، فلذلك ترجم بقوله:
" من تمطَّر "، أي: قصد نزول المطر عليه؛ لأنه لو لم يكن باختياره لنزل عن المنبر أول ما وكف السقف، لكنه تمادى في خطبته حتى كثر نزوله بحيث تحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم.
(2)
*وعن ابن أبي مليكة قال:
كان ابن عباس -رضى الله عنهما- إذا مطَّرت السماء يقول: يَا جَارِيَةُ! أَخْرِجِي سَرْجِي، أَخْرِجِي ثِيَابِي، وَيَقُولُ:
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} .
(3)
2) القسم الثاني:
حال من ينسب المطر إلى النوء، فيقول مُطرنا بنوء كذا وكذا....
فما حكم هذا القائل بنسبة المطر إلى النوء؟
نقول أولًا:
كان من عادة أهل الجاهلية أنهم ينسبون كثيراً من الأحداث التى تقع في الأرض بحركة النجوم والكواكب، ومما يدل على ذلك:
ما رواه ابْنَ عَبَّاسٍ -رضى الله عنهما-قَالَ:
أنه قد رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
«مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟»
قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
" الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا
(1)
رواه البخاري (1033)
(2)
فتح الباري (2/ 520)
(3)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1228)، وصححه الألبانى في صحيح الأدب المفرد (ص/298)
والسرج ما يوضع على ظهر الفرس.
قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ:
قَالَ فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بَعْضًا، حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَيُرْمَوْنَ بِهِ ".
(1)
*وفي رواية المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رضى الله عنه-قَالَ:
كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(2)
* نقول:
ومن هذا الباب قد كان أهل الجاهلية ينسبون المطر إلى النوء، كما قد ورد في حديث الباب.
وعن أبي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ-رضى الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ.
(3)
وقد ترجم البخاري باب: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}
[الواقعة: 82]، ثم روي حديث الباب:" أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ..... ".
وكذلك روي مسلم بَابُ: بَيَانِ كُفْرِ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِالنَّوْءِ:
عن ابْنُ عَبَّاسٍ -رضى الله عنهما- قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
" أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا " قَالَ:
فأنزل الله قوله {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].
(4)
* والمعنى:
أى أن هذا الرزق الذى ساقه الله إليكم، والذى هو المطر كان يستحق منكم أن تشكروا الله - تعالى- عليه، ولكنكم جعلتم موضع الشكر التكذيب؛ وذلك لما نسبتم المطر إلى النوء، وهو قول جمهور المفسرين.
(5)
(1)
أخرجه مسلم (2229)
(2)
متفق عليه. و (إبراهيم) وهو ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية، توفي وعمره ثمانية عشر شهراً.
(3)
أخرجه مسلم (934)
(4)
أخرجه مسلم (73)
(5)
وقال ابن القيم في تفسير الأية: أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم - يعني القرآن - التكذيب به، وهو قول الحسن.
والراجح هو ما ذهب إليه جمهور المفسرين؛ وذلك لقول ابن عباس -رضى الله عنهما- أن سبب نزول الأية إنما هو نسبة المطر للأنواء، وهذا مما يأخذ حكم الرفع. وانظر التبيان في أقسام القرآن (ص/236)
وفتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص/429)