الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان
الفرقان في بيان حقيقة الإيمان
نص الحديث
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم قَالَ:
" الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، شُعْبَةً، أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ ".
* تخريج الحديث:
أخرجه البخاري (9)، كتب، باب الإيمان:"باب أمور الإيمان، ومسلم (35)، كتاب الإيمان " باب شعب الإيمان "".
*مقدمة:
هذا الحديث يعد من أصول المسائل العقدية التي اهتم بها السلف، وذلك لكونه يتضمن مسألة الإيمان.
ولا شك أن مسألة الإيمان من المسائل الفارقة بين أهل السنة وأهل البدعة، وهي من أصول المسائل التى حرص السلف على تبيينها وتفصيلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وكلام الناس في هذا الاسم -أي الإيمان - ومسمَّاه كثير؛ لأنه قطب الدين الذي يدور عليه، وليس في القول اسم عُلِّقَ به السعادة والشقاء والمدح والذم والثواب والعقاب أعظم من اسم الإيمان والكفر؛ ولهذا سمَّي هذا الأصل " مسائل الأسماء والأحكام ".
(1)
(1)
مجموع الفتاوى (13/ 58)
-الإيمان لغة:
مصدر آمن يؤمن إيماناً؛ فهو مؤمن، ومعنى الإيمان عند العرب: التصديق، فيُدْعَى المصدِّق بالشيء قولاً مؤمنًا به، ويُدْعى المصدِّق قولَه بفِعْله مؤمنًا. ومن ذلك قول الله جل ثناؤه:(وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)[سورة يوسف: 17]، والمعنى: وما أنت بمصدِّق لنا في قولنا.
(1)
…
والإيمان يكون متعدياً بنفسه ومتعدياً بغيره:
1 -
بنفسه:
يقال آمنته أى جعلت له الأمن، وهو التأمين من الخوف، قال الله تعالى:(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ * وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)
* قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون ".
(2)
ومنه اسم الله تعالى: "المؤمن "؛ لأنه يؤمِّن عباده من الخوف والفزع يوم القيامة.
2 -
يتعدى بالباء:
فيكون معناه: التصديق، فتقول: آمنت بالله أو آمنت برسول الله، قال الله تعالى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 136]
ولما جاء الرجل يستنصح النبي صلى الله عليه وسلم -قال: (قل: آمنت بالله ثم استقم).
(3)
3 -
ويتعدى باللام:
ويكون معناه: الاتباع والانقياد والإذعان، قال الله تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]،
، فيقال آمنت لله أي: أذعنت وخضعت وانقدت لأحكام الله و أوامره.
* وعليه: فالإيمان ليس قاصراًعلى التصديق فحسب، بل يشتمل على معنى التصديق والإقرار والانقياد.
(4)
(1)
وانظر جامع البيان في تأويل القرآن (1/ 235)
(2)
أخرجه مسلم (6629)
(3)
أخرجه مسلم (38)
(4)
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على من جعل الإيمان مجرد التصديق من ستة عشر وجهاً فى كتاب الإيمان (ص/99) ومجموع الفتاوى (7/ 122) ومفاد ذلك أن من حصر الإيمان فى التصديق فقوله مردود من وجوه حيث أن الإيمان يقابله الكفر والتصديق يقابله التكذيب، والكفر يكون بالتكذيب وغيره. =
= كما أن الإيمان لا يفيد معنى التصديق إلا إذا عدِّى باللام (آمن له)(وما أنت بمؤمن لنا) وقد ورد لفظ الإيمان متعدِّياً بـ (اللام/الباء / وبنفسه)، فدل أن لفظ الإيمان أوسع دائرة من لفظ التصديق، ولو سلمنا أن الإيمان هو التصديق فحسب، فإن التصديق لغة يشمل الأفعال كما فى الحديث (العينان تزني............ والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)
- ولو سلمنا أن الإيمان هو التصديق لغة فإن قول الشرع مقدّم على اللغة حال التعارض، والشرع قد أوسع دائرة الإيمان فجعل فيها تصديق الجنان وقول اللسان وعمل الأركان، ونظيره.
لفظ الصلاة لغة - هى الدعاء، ولكن زادها الشرع بإلزام الركوع والسجود فيها مع القراءة..
وانظر المسائل العقدية التى حكى فيها ابن تيمية الإجماع (ص/517) وحقيقة الإيمان وبدع الإرجاء (56)
- تعريف الإيمان اصطلاحاً:
هو قول وعمل ونية واعتقاد، هذا فى الجملة؛ فإنَّ ألفاظ السلف تنوعت فى تفسير الإيمان، وإن كان مقصودهم واحداً.
** الإيمان حقيقة مركبة من أربعة أجزاء:
قول ظاهر وباطن، وعمل ظاهر وباطن، وهذا يعنى أمرين لا نزاع فيهما عند أهل السنة:
(1) لا يجزئ القول من دون العمل، وهذا بإجماع أئمة السلف.
(2) أن الكفر يكون بالقول والعمل، كما يكون بالاعتقاد والترك.
فالإيمان قول وعمل ونية، أما قول القلب: فهو تصديقه وإقراره ويقينه ومعرفته. أما عمل القلب: فهو تحركه وارادته، مثل الإخلاص والتوكل والرجاء والخوف والوجل والمحبة.
(1)
وأما قول اللسان:
فهو الإقرار بالله وبما جاء من عنده، والشهادة لله بالتوحيد ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
(1)
والفرق بين قول القلب و عمل القلب:
أن قول القلب هو العقائد التى يعترف بها ويعتقدها، وأما عمل القلب فهو حركته التى يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهى محبة الخير وإرادته الجازمة، وكراهية الشر والعزم على تركه.
** الأدلة أنَّ قول القلب من الإيمان:
1 -
أدلة القرآن:
قال تعالى (إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(المنافقون/1)
فقد أثبت عليهم حكم النفاق ونفى عنهم الإيمان؛ وذلك لانتفاء قول القلب، والذي هو الإقرار والتصديق.
وفي الآية دلالة أن الشهادة ليست قاصرة على قول اللسان، بل يدخل فيها قول القلب، وإن كان الإسلام في الظاهر يكفي فيه نطق الشهادتين.
وأما أدلة السنة:
عن أبي هريرة -رضى الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، اذْهَبْ بِنَعْلَيَّ هَاتَيْنِ، فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ، فَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ".
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
فمجرد علم القلب بالحق إن لم يقترن به عمل القلب بموجب علمه، مثل محبة القلب له واتباع القلب له لم ينفع صاحبه بل أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه.
(2)
** ثانياً: أدلة اشتراط قول اللسان:
قال تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(البقرة/136)
*وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وبهذا تعرف أن من آمن قلبه إيماناً جازماً امتنع أن
(1)
أخرجه مسلم (156)
(2)
مجموع الفتاوى (10/ 271)
لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام.
(1)
- وكذلك أجمع العلماء على ثبوت حكم الإسلام للكافرإذا نطق الشهادتين، نقل هذا الإجماع غير واحد من أهل العلم، كابن القيم وابن حزم.
قال ابن رجب:
ومن المعلوم بالضرورة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل مِنْ كل منْ جاءه يريدُ الدخولَ في الإسلامِ الشهادتين فقط، ويَعْصِمُ دَمَه بذلك، ويجعله مسلماً، فقد أنكر على أسامة بن زيد قتلَه لمن قال: لا إله إلا الله، لما رفع عليه السيفَ، واشتدَّ نكيرُه عليه.
(2)
ثالثاً: أدلة اشتراط عمل القلب:
ومن أدلة القرآن: قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)(البقرة/165)
وقال تعالى (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(آل عمران: 175)
* ومن السنة:
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه -قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَوْضَعُهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ.
(3)
وعن أنس مَالِكٍ- رضي الله عنه -قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
" لَا يَجِدُ أَحَدٌ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَحَتَّى أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 553)
(2)
وانظر جامع العلوم والحكم (ص/ 228)
…
تنبيه مهم:
ليس المقصود بالشهادتين مجرد الإخبار عما فى النفس من العلم والجزم بأن لا إله إلا الله بل لابد أن يكون ذلك على وجه الإنشاء المتضمن الإلتزام والانقياد، ولهذا لم ينفع اليهود وغيرهم اعترافهم بالنبى صلى الله عليه وسلم مع قولهم بالتوحيد؛ لأنَّ ذلك كان على سبيل الإخبار دون الرضا والانقياد للشريعة.
(3)
متفق عليه
بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ وَحَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا.
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والمقصود هنا أن عامة فرق الأمة تدخل ما هو من أعمال القلوب، حتى عامة فرق المرجئة تقول بذلك.
(2)
قال ابن القيم:
أهل السنة مجمعون على زوال الإيمان وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب.
(3)
* فوائد:
الأولى:
لا يكفي مجرد الإقرار بكفر أبي لهب مثلاً، بل إن عمل القلب يستلزم بغضه فى الله، قال تعالى (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)(المجادلة/22).
الثانية:
عمل القلب من أركان الإيمان وبفقده ينعدم الإيمان فى القلب، فإنَّ كفر فرعون ما كان إلا لانتفاء عمل القلب، بالإضافة الى انتفاء قول اللسان، ومثله كفر أبى طالب، قال تعالى عن آل فرعون (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)) (النمل/14)
وقال - تعالى-عن موسى عليه السلام -فى خطابه لفرعون (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)(الإسراء/102)
فلقد أبى فرعون أن ينطق بكلمة التوحيد رغم استيقانه بهذه الكلمة، ومثله ما كان من كفر إبليس، فلقد كفر إبليس من باب الكبر والاستكبار على أمر الله تعالى، رغم ما كان عليه من الاعتقاد القلبى بتوحيد الله، ونطقه بذلك، ومن هذا الباب كفر اليهود فكان من باب زوال عمل القلب، وهم كما قال الله (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)
(1)
أخرجه البخاري (6041)
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 550)
(3)
الصلاة وأحكام تاركها (ص/56)
رابعاً: عمل الجوارح:
فعمل الجوارح أصل من أصول الإيمان، وأحد أركانه ودليل ذلك ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب:
فقد قال تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(البيِّنة/5)
فنص الله -تَعَالَى - على أَن عبَادَته فِي حَال الإخلاص وَأقَام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة الواردتين فِي الشَّرِيعَة كُله دين الْقيمَة.
(1)
وقَالَ تَعَالَى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (النساء: 65)
فنص تَعَالَى وَأقسم بنفسه أَنه لَا يكون المرء مُؤمنا إِلَّا بتحكيم النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي كل ماعن ثمَّ يسلم بِقَلْبِه، ثم لَا يجد فِي نَفسه حرجاً مِمَّا قضى، فصح أَن التَّحْكِيم شَيْء غير التَّسْلِيم بِالْقَلْب، وَأَنه هُوَ الْإِيمَان الَّذِي لَا إِيمَان لمن لم يَأْتِ بِهِ فصح يَقِينا أَن الْإِيمَان اسْم وَاقع على الْأَعْمَال فِي كل مَا فِي الشَّرِيعَة.
(2)
*وأما السنة:
عن ابن عباس - رضى الله عنهما-قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ ".
(3)
* الإجماع: الإيمان
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ومعنى ذلك أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح.
(4)
قال الشافعي:
وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم ممن أدركناهم:
(1)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 109)
(2)
المصدر السابق (3/ 109)
(3)
متفق عليه. وترجم له البخارى بقوله: بَاب أَدَاءُ الْخُمُسِ مِنْ الْإِيمَانِ.
(4)
مجموع الفتاوى (7/ 67)
أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر.
(1)
قال أبو العباس ابن تيمية:
الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل، كما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف، فالقول تصديق الرسول والعمل تصديق القول، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمناً، والقول الذي يصير به مؤمن قول مخصوص وهو الشهادتان، فكذلك العمل هو الصلاة.
(2)
وهذا نص من شيخ الإسلام أنه جعل جنس العمل الظاهر ركناً في الإيمان، وأنه قد حكم على من ترك جنس العمل الظاهر بالكفر والخروج من الإيمان.
وقال رحمه الله:
ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان، ولا يؤدي لله زكاة ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح.
(3)
* فائدة:
لا تعارض بين القول بتكفير تارك العمل بالكلية، كما هو إجماع أهل السنة، وبين الخلاف بينهم في تكفير تارك الصلاة، فالقائل بالمسألة الأولى لا يلزم أن يقول بالثانية، ولا يلزم من حكم الجنس حكم الأفراد، فأهل السنة مجمعون على أنه لا يصح الإيمان مع ترك العمل الظاهر بالكلية، وإن اختلفوا في ترك آحاد العمل كالصلاة.
لذا فالذي عليه أهل السنة أن العمل الذى هو ركن فى الإيمان إنما هو جنس الأعمال، وليس كل فرد من أفراد العمل الظاهر، إلا إذا دل دليل خاص على أن عملاً بعينه من أعمال الجوارح تركه كفر، كترك الصلاة، على الراجح من أقوال أهل العلم.
فالقاعدة هنا:
:
"جنس العمل ركن في الإيمان لا آحاده، إلا بدليل "
وأما الذي عليه المعتزلة والخوارج:
أنَّ كل فرد من أفراد العمل ركن فى الإيمان، يُفقد الإيمان بفقده،
(1)
شرح اعتقاد أهل السنة (4/ 149)
(2)
شرح العمدة (2/ 86)
(3)
مجموع الفتاوى (7/ 611)
لذا فلا يجتمع عندهم فى الشخص الواحد حسنات وسيئات وثواب وعقاب، ومن وقع فى كبيرة فقد خرج من الإيمان.
(1)
_ قال أبو العباس ابن تيمية:
ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرُحم ويُحب من وجه ويُعذَّب ويبغض من وجه آخر، ويثاب من وجه ويُعاقب من وجه؛ فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن الشخص الواحد يجتمع فيه الأمران، خلافاً لما يزعمه الخوارج ونحوهم من المعتزلة، فإن عندهم أن من استحق العذاب من أهل القبلة لا يخرج من النار فأوجبوا خلود أهل التوحيد.
(2)
* فصل في: الإيمان يزيد وينقص، وأدلة ذلك:
وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة:
وأما أدلة القرآن: قال تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)(فاطر /32)
* فالآية تضمنت ثلاث درجات:
الأولى:
من حقق كمال الإيمان المستحب، فهم السابقون بالخيرات الذين أدوا
(1)
وعليه فقد جعل المعتزلة " مسألة الوعيد" هي أحد أصولهم الخمسة، والتي مفادها أن المسلم إذا خرج من
الدنيا بكبيرة من الكبائر دون أن يتوب منها فإنه يستحق الخلود في النار، ولا يدخل تحت المشيئة.
والذي يقال هنا -من باب الإنصاف-أن القول بخلود فاعل الكبيرة في النار على التأبيد إنما هو قول جمهور المعتزلة، لا جمعيهم؛ أما ما نقله القاضى عبدالجبارمن إجماع المعتزلة على كفر فاعل الكبيرة، وأنه مخلد
في النار كالكافر، فهذا إجماع منه فيه نظر؛ فقد قال البغدادي:
" دعوى إجماع المعتزلة على أن الله - سبحانه -لا يغفر لمرتكبى الكبائر من غير توبة منهم غلط منه عليهم،
لأن محمد بن شبيب البصرى والصالحى والخالدى هؤلاء الثلاثة من شيوخ المعتزلة وهم واقفية فى وعيد مرتكبى الكبائر، وقد أجازوا من الله تعالى مغفرة ذنوبهم من غير توبة " لذا فقد خص الأشعري الإجماع بأهل الوعيد منهم، فقال (وأجمع أصحاب الوعيد من المعتزلة أن من أدخله الله - تعالى- النار خلَّده فيها).
وانظر الوعد الأخروي (1/ 459) والفَرق بين الفِرق (ص/96)
(2)
مجموع الفتاوى (15/ 294)
الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرَّمات والمكروهات، بل وما قد يقدح في كمال توكلهم، كالاسترقاء والكي، فهؤلاء هم المقرَّبون السابقون بالخيرات.
الثانية: من حقق كمال الإيمان الواجب:
وهم المقتصدون الذين اقتصروا على أداء الواجبات وترك المحرَّمات، دون أن يزيدوا على ذلك بفعل النوافل، كما فى حديث (أفلح إن صدق)
(1)
الثالثة: من حقق أصل الإيمان:
وهم الذين معهم أصل التوحيد، وقد اجترؤوا على فعل المحرَّمات دون توبة، وقصَّروا في فعل بعض الواجبات، فهؤلاء هم الظالمون لأنفسهم، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه، والمقتصد والسابق.
(2)
2) قال تعالى (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)(الأحزاب/22)
وقال تعالى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا)(مريم/76)
* ومن السنة:
عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه -عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -قَالَ:
يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ".
(3)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ
(1)
وهذا الحديث فيه دلالة أن من حقق كمال الإيمان الواجب، دخل الجنة من أول وهلة، لذا فقد ترجم القرطبي لهذا الحديث عند شرحه لمسلم بقوله (باب / من اقتصر على فعل ما وجب عليه وترك ماحرم عليه دخل الجنة)
(2)
فائدة:
الله عزوجل بعدذكره لهذه الأقسام الثلاثة قال (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا) والواو في قوله (يدخلونها) شاملة للظالم، والمقتصد والسابق، على التحقيق. ولذا قال بعض أهل العلم:
حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة، ولذا قال بعدها متصلاً بها {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنّم} [فاطر: 36]، وانظر أضواء البيان (5/ 490)
(3)
متفق عليه، وقد بوَّب الإمام البخاري لهذا الحديث بقوله: بَابٌ: تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الأَعْمَالِ.
وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ، قُلْنَ وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ:
أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: "بَلَى"، قَالَ:
فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ قُلْنَ بَلَى، قَالَ:
فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا ".
(1)
وَفِيهِ بَيَان زِيَادَة الْإِيمَان وَنُقْصَانه، وأَنَّ النَّقْصَ مِنَ الطَّاعَاتِ نَقْصٌ مِنَ الدِّينِ
(2)
.
*عنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا» .
(3)
وكان معَاذ بن جبل -رضى الله عنه- يَقُول للرجل من إخوانه: " اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً ".
(4)
* وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: «هلموا نزداد إيماناً، فيذكرون الله تعالى» .
(5)
*الإجماع على أن الإيمان يزيد وينقص:
قال ابن عبد البر:
أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان.
(6)
وقال ابن كثير:
فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملاً، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عُبَيد وغير واحد إجماعًا: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
(7)
* الإيمان عند الفِرَق وأقوالهم فيه:
تدور رحى المخالفين لأهل السنة في باب
(1)
متفق عليه، وقد بوَّب له الترمذي بقوله: بَاب: " ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه ".
قال شيخ الإسلام:
وجعل من نقصان دينها أنها إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي، وبهذا استدل غير واحد على أنه ينقص.
وانظر مجموع الفتاوى (13/ 51)
(2)
وانظر شرح النووي على مسلم (2/ 67) وشرح السنة للبغوي (1/ 38)
(3)
أخرجه أبو داود (2487) والترمذي (2612)، قال الترمذي:"هذا حديث حسن".
(4)
أخرجه البخاري معلقاً، باب الإيمان، ووصله ابن حجر في التغليق وصححه (2/ 21)
(5)
أخرجه الآجري في الشريعة (1/ 262) وصححه عمرو عبد المنعم سليم، وانظر الإيمان لأبي يعلى (ص/430) والإبانة لابن بطة (2/ 846).
(6)
التمهيد (4/ 207)
(7)
تفسير القرآن العظيم (1/ 165)
الإيمان بين غلاة التكفير، وهم الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، وبين دعاة الإرجاء على اختلاف دركاتهم، بدءاً من غلاة الإرجاء وهم الجهمية، حتى مرجئة الفقهاء.
* ذكر فرق الإرجاء:
وقد أطلق مصطلح الإرجاء لأحد أمرين:
(1) لأن أصحابه غلَّبوا جانب الرجاء.
(2) أن الإرجاء من تأخيرالعمل الجوارح، وإخراجه من الإيمان.
وقد ذكر أبو الحسن الأشعري فرق الإرجاء فبلغ بها اثنتا عشرة فرقة
(1)
، نذكر أهمها وهو أربعة:
(الجهمية - الكرَّامية - مرجئة الفقهاء - الأشاعرة والماتردية)
1 -
أولاً: الجهمية:
وهم من يطلق عليهم غلاة المرجئة، فإن الإيمان عندهم هو المعرفة بالله فقط، والكفر هو الجهل به فقط، فجهم قد حصرالإيمان فى معرفة القلب.
* ولكن هنا فوائد:
…
(1) لا يرى شيخ الإسلام ابن تيمية ثمة فرق بين القول بأن الإيمان هو المعرفة، وبين القول بأنه مجرد التصديق.
قال رحمه الله:
" وأيضا فإنَّ الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد الذي يُجعل قول القلب؛ أمر دقيق وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه، ويقولون: إن ما قاله ابن كلَّاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق ".
إلى أن قال:
والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق، وبين تصديق قلبه تصديقاً مجرداً عن انقياد وغيره من
(1)
فالمرجئة عند أصحاب المقالات أربعة أصناف:
" مرجئة القدرية، ومرجئة الخوارج، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة "، والأخيرة هى التى يُطلق على مرجئة أهل السنة، وذلك إشارة إلى المرجئة الخالصة التى لم تجمع بين الإرجاء وغيره من البدع المشهورة، وهذا بخلاف مرجئة الفقهاء، وسيأتى بيانهم.
وانظر مقالات الإسلاميين (ص/81 - 93) والفَرق بين الفِرق (ص/178 - 186)
أعمال القلب بأنه صادق.
(1)
(2) جهم وإن حصر الكفر فى جهل القلب، إلا أنه التزم القول بأن من أتى المكفِّرات الظاهرة فهو كافر فى أحكام الدنيا، مع الحكم بأنه مؤمن فى الباطن، وأنه من أهل الجنة.
(3) قد تخبَّط جهم - بناء على أصوله الفاسدة فى الإيمان - فى حكم تكفيرفرعون؛ ففي " الفتوحات " يحكم عليه بالكفر زاعماً أنه لم يكن فى قلبه شيء من المعرفة بالله، وأما فى "الفصوص" فيقول:
"إن فرعون مات مؤمناً، وقُبض طاهراً مطهَّراً "!!
(2)
* الرد على قول الجهمية:
1 -
لقد كان إبليس عارفاً بالله مصدِّقاً بربوبيته، قال الله -تعالى- حاكياً عن إبليس (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)(الحجر/39) وقال (فَبِعِزّتك لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(ص/82)
وكذلك كان فرعون قال تعالى (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)(الإسراء/102)، وقال تعالى عن فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(النمل/14)
ممَّا يدل على أن إبليس وفرعون كانا يصدِّقان بوجود الله - تعالى - ويعرفونه، ومع ذلك لم ينفعهم هذا التصديق وحكما عيهم بالخلود في النار، فدل ذلك أن المعرفة وحدها لا يصح بها الإيمان، وأن الكفر لا يختص بالجهل كما زعم جهم ومن وافقه.
2 -
قال تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحقَ وَهمْ يعلَمونَ) فأخبر الله - تعالى - بمعرفة اليهود لصدق النبي-صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم ينفعهم ذلك، بل قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأخرجهم من ديارهم.
(1)
وانظر مجموع الفتاوى (7/ 397 - 400) والإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل (1/ 197)
(2)
وانظر فصوص الحكم (ص/291) والفتوحات المكية (1/ 301)
قال ابن حزم:
قد نَص الله عز وجل -على أَن الْيَهُود يعْرفُونَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَأَنَّهُمْ يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَقَالَ تَعَالَى
{فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون} وَأخْبر تَعَالَى عَن الْكفَّار فَقَالَ
{وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله} فَأخْبر- تَعَالَى- أَنهم يعْرفُونَ صدقه وَلَا يكذبونه، وهم الْيَهُود وَالنَّصَارَى وهم كفَّار بِلَا خلاف من أحد من الْأمة، وَمن أنكر كفرهم
فَلَا خلاف من أحد من الْأمة فِي كفره وَخُرُوجه عَن الْإِسْلَام، وَنَصّ تَعَالَى
عَن إِبْلِيس أَنه عَارِف بِاللَّه تَعَالَى وبملائكته وبرسله وبالبعث وَأَنه قَالَ {رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون} وَقَالَ {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} وَهُوَ مَعَ ذَلِك كُله كَافِربِلَا خلاف.
(1)
قال ابن القيم:
أهل السنة مجمعون على زوال الإيمان وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب، وهو محبته وانقياده، كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول- صلى الله عليه وسلم بل ويقرُّون به سراً وجهراً، ويقولون ليس بكاذب، ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به.
(2)
.
3 -
زعمهم أن إتيان الكفر بالجوارح واللسان ليس بذاته كفراً، بل يكون دالاً على
ما في قلوبهم من الكفر فهذه منهم دعاوى كاذبة مفتراة، لا دليل لهم عليها ولا برهان لا من نص ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا من حجة عقل أصلاً ولا من إجماع ولا من قياس ولا من قول أحد من السلف قبل اللعين جهم بن صفوان.
قد قَالَ تعالى {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} (التوبة: 74)، فنص تَعَالَى على أَن من الْكَلَام مَا هُوَ كفر.
وَقَالَ تَعَالَى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (النساء: 140)
فنص تَعَالَى أَن من الْكَلَام فِي آيَات الله - تَعَالَى - مَا هُوَ كفر بِعَيْنِه مسموع.
وَقَالَ تَعَالَى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
(1)
الفِصَل في الملل والأهواء والنحل (3/ 110)
(2)
الصلاة وحكم تاركها (ص/56)
وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة: 65)
فنص تَعَالَى على أَن الِاسْتِهْزَاء بِاللَّه -تَعَالَى- أَو بآياته أَو برَسُول من رسله كفر، فَخرج عَن الْإِيمَان، وَلم يقل تَعَالَى فِي ذَلِك أَنِّي علمت أَن فِي قُلُوبكُمْ كفراً، بل جعلهم كفَّارًا بِنَفس الِاسْتِهْزَاء، وَمن ادّعى غير هَذَا فقد قَوَّل الله -تَعَالَى - مَا لم يقل، وَكذب على الله تَعَالَى.
(1)
4 -
من اللوازم الباطلة لقول الجهمية:
أ) الحكم بالإيمان على كل من صدَّق الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن حارب دعوته وعارض شريعته، ولم يلتزم متابعته لا ظاهراً ولا باطناً.
ب) أن المصدِّق بقلبه لا يضره أن يجحد بلسانه، لأن الإيمان الذي يبنى على مجرد المعرفة لا يزول بجحود اللسان.
2) ثانياً: الإيمان عند الكرَّامية:
والإيمان عند الكرَّامية هو قول اللسان، وهو قول مجرد، لا هذا القول الذي يقوله القائل الآن أنه لا إله إلا الله، ولكن هذا القول الذي صدر عن ذرية آدم في وقت الميثاق. وأنه شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه، دون اشتراط تصديق القلب أوعمل الجوارح في أحكام الدنيا، فمن تكلَّم بلسانه فهو مؤمن كامل الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِل إسلام الناس بمجرد قولهم للشهادتين.
* لذا فالمنافق - وإن أظهر نفاقاً واضحاً - فهو عندهم مؤمن، إلا إنه يخلَّد فى النار.
(2)
(1)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/ 222 - 224)
(2)
وانظر الإيمان لابن منده (1/ 331) والتبصير في الدين (ص/318) ومقالات الإسلاميين (ص/86)
وللحق نقول:
ما نسبه ابن حزم إلى الكرَّامية أنهم يقولون بنجاة المنافق الذي يعتقد النفاق بقلبه من الخلود في النار فغير صحيح، لذا فقد فإن شيخ الإسلام ابن تيمية قد خطَّأ من حكى عن الكرَّامية ذلك، وذكر أن المؤمن المستحق للجنة لابد أن يكون مؤمناً في الظاهر والباطن باتفاق أهل الملة.
وقال رحمه الله:
قد حكى بعضهم عنهم أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة وهو غلط عليهم؛ إنما نازعوا في الاسم لا في الحكم، بسبب شبهة المرجئة في أن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل. وانظر مجموع الفتاوى (7/ 141 - 216)
* الرد على الكرَّامية:
قد نص شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا قول الكرَّامية في الإيمان هو قول ابتدعته، ولم يسبقها أحد إلى هذا القول، وهو آخر ما أُحدث من الأقوال في الإيمان.
قد قال تعالى (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14))
…
(الحجرات/14)
ومعلوم أنه قد وقع منهم القول الظاهر، الذي هو الإقراربالشهادتين، ولم يجعلهم بذلك مؤمنين؛ لعدم دخول الإيمان في قلوبهم بعد.
(1)
الإجماع:
قال النووي:
ومن أقوى ما يُرد به على الكرَّامية إجماع الأمة على إكفَّار المنافقين.
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والكرَّامية يقولون: من تكلَّم به بلسانه دون قلبه فهو مؤمن كامل الإيمان وإنه من أهل النار، فيلزمهم أن يكون المؤمن الكامل الإيمان معذَّباً في النار، بل يكون مخلَّداً فيها، وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم -أنه {يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان} ، وإن قالوا لا يخلَّد وهو منافق لزمهم أن يكون المنافقون يخرجون من النار، والمنافقون قد قال الله فيهم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} .
(3)
** قَالَ أَبُو مُصْعَب الْمَدَنِي: مَنْ قال الْإِيمَان قَول يستتَاب، فَإِن تَاب وَإِلَّا ضُرِبَت عُنقه.
(4)
.
(1)
وانظر الإيمان لأبي يعلى (ص/394)
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (1/ 147)
(3)
بتصرف يسيرمن مجموع الفتاوى (13/ 56)
(4)
سنن الترمذي (2622)
*ثم نقول:
أننا نتفق معكم أن نطق الشهادتين يكفي في الحكم بإسلام قائلها ظاهراً، وبها يُعصم مال المرء ودمه، ولكنه إذا أظهر نفاقاً جلياً واضحاً، حكمنا بنفاقه النفاق المخرج من الملة؛ فإنّ الأحاديث التي نصت على عصمة المال والنفس لمن نطق بكلمة التوحيد ليست على إطلاقها، بل هي مقيدة بالآيات التي دلت على الحكم بالنفاق على أناس نطقوا الشهادتين، وقد أتوا بالنفاق الأكبر المخرج من الملة.
* الإيمان عند الأشاعرة والماتريدية:
1 -
الإيمان عند الأشاعرة هو التصديق بالقلب، ولولم ينطق بلسانه، فقول اللسان عندهم شرط فقط لإجراء الأحكام الدنيوية، من التوارث والتناكح والصلاة خلف المرء وعليه، ودفنه في مقابر المسلمين.
فمن صدَّق بقلبه ولم ينطق فهو مؤمن، إلا إذا دُعِى للنطق بالشهادتين فأبى، فهنا تجري عليه أحكام الكفَّار في الدنيا والآخرة.
2 -
أعمال الجوارح ليست داخلة في الإيمان، بل هي شرط كمال فيه، والإيمان يزيد وينقص.
(1)
البيجوري:
والعمل شرط كمال من المختار عند أهل السنة -يقصد الأشاعرة - فمن أتى به حصَّل الكمال، ومن تركه فهو مؤمن، لكنه فوَّت على نفسه الكمال، إذ لم يكن مع ذلك استحلال أو عناد للشرع أو شك، إلا فهو كافر فيما عُلِم من الدين بالضرورة.
(2)
(1)
وانظر شرح المواقف للجرجاني (8/ 351) والإرشاد إلى قواطع الأدلة (ص/397) وشرح الصاوي على الجوهرة (ص/132)
(2)
وانظر شرح العقائد النسفية (ص/275) وشرح جوهرة التوحيد (ص/88)
* تنبيه مهم:
قد رجَّح صاحب الجوهرة أن قول اللسان مع تصديق القلب شرط فى صحة الإيمان، ولكنَّ الأشاعرة فيما ذهبوا إليه فى مسألة الإيمان فهم غير ملزمين بالقول بإيمان أبي طالب مثلاً؛ لأنهم يقولون أن الذى يُطلب منه قول اللسان فيتركه إباءً فهو كافر، كما نص عليه البيجوري في التحفة (ص/45).
وقد ذكرنا فيما سبق ضعف قولهم بأن قول اللسان ليس شرطاً فى صحة الإيمان؛ فقول اللسان مع عمل القلب وقوله. وعمل الجوارح هو مجموع ما يحصل به أصل الإيمان بإجماع أهل السنة والجماعة.
فإن قيل:
فما الفارق بين قول الجهمية فى الإيمان الذى هو المعرفة، وقول الأشاعرة الذى هو التصديق؟
فالجواب:
أنَّ متأخرى الأشاعرة لا يُثبتون تصديقاً مجرداً عن أعمال القلوب، بل يُدخلون فى التصديق الإذعان والإنقياد والقبول، كما أنهم يُكفِّرون المشركين الذين عرفوا الحق ولم ينقادوا له.
وانظرنقد الجوهرة (ص/89)
- وقال وعن القول بأن نطق اللسان شرط لصحة الإيمان:
هو قول ضعيف، كالقول بأنه شطر منه، والراجح أنه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، فهي شرط كمال في الإيمان على التحقيق.
(1)
3 -
قد ذهب جمهور الأشاعرة إلى القول بزيادة ونقصان الإيمان، وهذا عندهم باعتبار التصديق القلبي، وهو ما نص عليه البيجوري فى تحفة المريد، ومنهم من لم يجعل التصديق محلاً للزيادة والنقصان، وقصر ذلك على أعمال الجوارح وقول اللسان
فقط، والتي لا تدخل عندهم أصالة في الإيمان.
(2)
يقول سعد الدين التفتازاني:
حقيقة الإيمان لا تزيد ولا تنقص، لما مر من أنه- أي الإيمان- التصديق القلبي الذي بلغ حد الجزم والإذعان، وهذا لا يُتصور فيه زيادة ولا نقصان.
(3)
4 -
تبنّت طائفة من الأشاعرة بقول الجهمية في الإيمان، ولكنهم لم يلتزموا بلوازم هذا القول، بل التزم الأشعري التناقض الواضح عندما قبل أن يقول أن إبليس لمَّا كفَّر نُزعت منه المعرفة، وكذا وقع لفرعون، ولكن لمَّا لم يلتزم بلازم قوله دل على تناقضه، وبطلان أصل القول؛ لأن القول إذا لزم منه البطلان كان باطلاً.
(4)
(1)
وانظر حاشية البيجوري على متن السنوسية الصغرى (ص/57) والإيمان عند السلف (1/ 231)
(2)
وللأشاعرة فى مسألة زيادة ونقصان الإيمان أربعة أقوال، لكن جمهورهم على ما ذكرنا أعلاه.
انظر لذلك:
العقيدة النظامية للجوينى (ص/268) والمجرد لابن فورك (ص/153) وتحفة المريد (ص/150) والاقتصاد للغزالي (ص/122)
(3)
العقائد النسفية (ص/278)
(4)
وانظر إبطال القول بوحدة الوجود (ص/109 - 101)
*تنبيه:
وأما قول أبى الحسن الأشعري في الإيمان فله فيه قولان:
الأول الذي ذكره في كتبه (المقالات، والإبانة) وهو موافقة أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والثاني: ما ذكره عنه شيخ الإسلام ابن تيمية من أن أبا الحسن يقول بقول الصالحي في الإيمان، أنه هو معرفة الله، والكفر هو الجهل به، ونص أنه أشهر قولي أبي الحسن.
وانظر مجموع الفتاوى (7/ 544 - 582) والإيمان عند السلف (1/ 223)
5 -
الذي أوقع الأشاعرة في القول بإخراج أعمال الجوارح من مسمَّى الإيمان هو ظنهم أن هذا القول هو الذي يبطل دعوى الوعيدية القائلين بتكفير صاحب الكبيرة، كما نص على ذلك الجويني في الإرشاد.
* الرد على الأشاعرة من وجوه:
1 -
الوجه الأول:
أما قولهم بإخراجهم عمل الجوارح من الإيمان لرد دعوى الوعيدية بتكفير فاعل الكبيرة، فيقال:
أن الرد على أهل الباطل لا يحصل بنقد ما ثبت من الحق، وإنما يكون بإظهار الحق الذي خفي على أهل الباطل.
فقد دلت أدلة الكتاب والسنة والإجماع على أن أعمال الجوارح من الإيمان، بل لا يصح الإيمان إلا بوجود جنس عمل الجوارح.
فمن أدلة ذلك:
قال الله عز وجل {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ {[الروم: 31].
فرتَّب الله -عزوجل - أخوة الدين على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذه أعمال جوارح.
قال الأوزاعي:
فوصف الله الدين قولاً وعملاً، فقال: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين، والتوبة من الشرك، وهو من الإيمان، والصلاة والزكاة عمل.
(1)
*وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قَالَ:
«أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:
«شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ
(1)
وانظرالسنة للخلال (3/ 83) وبراءة أهل الحديث من بدعة الإرجاء (155)
الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ المَغْنَمِ الخُمُسَ».
(1)
قال البخاري: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يَعْنِي صَلَاتَكُمْ عند البَيْت.
(2)
* سئل سفيان بن عيينة عن الإرجاء، فقال:
" يقولون: الإيمان قول، ونحن نقول الإيمان قول وعمل، والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصرّاً بقلبه على ترك الفرائض، وسمُّوا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم، وليس بسواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر.
(3)
2 -
الوجه الثاني:
أما قولهم أن كمال الدين مجرد التصديق، وعليه فقد جعلوا إيمان أفجر الناس كإيمان جبريل وأبي بكر الصديق رضي الله عنه.
*فهذا يرده الإجماع الذى نقله ابن أبى مليكة، حيث قال:
" أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ".
(4)
* وقد قِيلَ لِابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ إِنَّهُ يُجَالِسُكَ رَجُلٌ يَزْعُمُ أَنَّ إِيمَانَهُ مِثْلُ إِيمَانِ جِبْرِيلَ عليه السلام، فقَالَ:
سبحان الله! " وَاللهِ لَقَدْ فَضَّلَ اللهُ جِبْرِيلَ فِي الثَّنَاءِ فَقَالَ:
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ، ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20]
(5)
قال ابن حجر:
وفي هذا- أي في كلام ابن أبي مليكة - إشارة إلى أن المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان، خلافا للمرجئة القائلين: بأن إيمان
(1)
متفق عليه.
(2)
ذكره البخاري تحت باب: الصلاة من الإيمان، وقد ذكر عدة أبواب على ذلك النحو، فقال:
باب اتباع الجنائز من الإيمان، باب: صوم رمضان احتسابا من الإيمان، باب: الجهاد من الإيمان
…
(3)
وانظر السنة لعبد الله بن أحمد (ص/347) والتوسط والاقتصاد أن الشرك يكون بالقول والفعل والاعتقاد (ص/26)
(4)
أخرجه البخارى معلقاً فى كتاب الإيمان، باب (36) وانظر حقيقة الإيمان وبدع الإرجاء (ص/42)
(5)
الإيمان لأبي عبيد (ص/63)
الصدِّيقين وغيرهم بمنزلة واحدة.
(1)
3 -
الوجه الثالث:
أما حصرهم للإيمان هو التصديق؛ بناءً على ما ذهبوا اليه أنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن هذا محله لا يكون إلا فى التصديق!!
مردود بأنَّ التصديق القلبي كذلك يزيد وينقص، وقد سبق ذكر أدلته بما يغني عن إعادته.
فمن صدّق فى الأمورالعملية والاعتقادية من أسماء الله -تعالى- وصفاته وأمور الغيب والملائكة يزيد إيمانه عمَّن خلا قلبه من هذا التصديق؛ لعدم علمه بهذه التفصيلات في مسائل الاعتقاد.
فكلما زاد علم المرء بهذه الأمور وصدّق بها فهو أكمل إيماناً ممَّن لم يعلمها، وعليه فتصديق القلب يتفاوت بين الأشخاص، يزيد وينقص بقدر ما في الشخص من العلم والتصديق.
قال النووي:
فالأظهر -والله أعلم- أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصدِّيقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبه ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيِّرة، وإن اختلفت عليهمَ الْأَحوال.
(2)
قال السبكي:
لا يشك عاقل في أن إيمان الصديق ليس كإيمان آحاد الناس حق، ففرقٌ بين إيمانٍ ثبت ورسخ وصار لا يقبل تزلزلاً، وإيمان بخلافه.
(3)
* ثم يقال:
القول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص هو قول متأخري الأشاعرة، فقد ذهب جماعة من المتقدِّمين منهم إلى خلاف ذلك، فقالوا بزيادة الإيمان ونقصانه، كما قول البيهقي وعبد القاهر البغدادي والآمدي وأبي القاسم القشيري وتقي الدين السبكي.
(4)
(1)
وانظر فتح الباري (1/ 169)
(2)
شرح مسلم النووي (1/ 69)
(3)
وانظر طبقات الشافعية للسبكي (1/ 133) والمسائل التي نقل فيها ابن تيمية الإجماع (ص/537)
(4)
وانظر الاعتقاد للبيهقي (ص/191) وشرح النووي على مسلم (1/)
4 -
الوجه الرابع:
أما تفسيرهم للتصديق -الذي هو معنى الإيمان عندهم - بالإذعان والقبول، وليس مجرد وقوع نسبة الصدق في القلب بلا إذعان ولا قبول، فيلزمهم أحد أمرين:
الأول:
أن يُدخلوا أعمال الجوارح أيضاً، لأنهم أثبتوا أن الإيمان ليس شيئاً واحداً، بل مركبٌ من التصديق وعمل القلب، فليركِّبوه من عمل الجوارح أيضاً.
الثاني:
أن يخرجوا أعمال القلوب، فيصير مذهبهم مطابقاً لمذهب الجهم بن صفوان في أن الإيمان هو الصديق، وهذا القول يلزم منه إيمان فرعون واليهود، وقد كفَّر أبو عبيد القاسم بن سلام الجهمية بهذا القول، وكذا وكيعُ وأحمدُ بن حنبل.
قال أبو العباس ابن تيمية:
إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً.
(1)
5 -
الوجه الخامس:
وأما قولهم بعد اشتراط نطق اللسان إلا لإجراء الأحكام الدنيوية:
فقد سبق ذكر أدلة اشتراط قول اللسان لثبوت صحة الإيمان من الكتاب والسنة وإجماع الأمة عند الحديث عن أركان الإيمان في أول شرحنا لحديث الباب.
فمن آمن قلبه إيماناً جازماً امتنع أن لا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم نطق الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام.
* الإيمان عند مرجئة الفقهاء:
وقد اختلف في أول من أظهر مذهب مرجئة الفقهاء، فذكرالإمام أحمد أنه ذر بن عبدالله الهمداني، وقيل هو حمَّاد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وتلميذ إبراهيم النخعي، وذكر الأوزاعي أن أول من تكلم فى الإرجاء رجل من أهل الكوفة يقال له قيس الماصر، وقيل غير ذلك، والعلم عند الله.
(2)
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 194)، ونظر "مقالات في تناقضات الأشاعرة"(ص/144)
(2)
وأما قول أبى حنيفة بالإرجاء فهو ثابت عنه، أثبته معاصروه ومن جاء بعده، وأما ما نسب إليه من كتاب الفقه الأكبر والوصية، وهى كتب شملت على جملة من المخالفات لمنهج أهل السنة، ففى سنده مجاهيل، وثبوتها إليه فيه نظر. وانظر مسائل الإمام أحمد لإسحاق ابن إبراهيم (2/ 162) وتهذيب التهذيب (7/ 490) والوعد الأخروي (2/ 587).
وأما سبب ظهوره فكان هو قصد جعل أهل القبلة كلهم مؤمنين ليسوا كفاراً، وذلك رداً على الخوارج والمعتزلة الذين يكفِّرون بالكبيرة، فصاروا طرفاً آخر.
وقد كان وقت ظهور القول بالإرجاء في الكوفة بعد أن ظهر الحجاج بن يوسف الثقفي على عبدالرحمن بن الأشعث.
وأما الإيمان عند مرجئة الفقهاء فهو تصديق القلب وقول اللسان، أما عمل الجوارح فهو خارج عن مسمَّى الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى منه.
مع قولهم أن مرتكب الكبيرة معرَّض للوعيد، وهو تحت المشيئة، وأما عمل القلب فمنهم من يدخله فى الإيمان، ومنهم من يجعله خارجاً عنه.
فالحاصل أن:
أعمال الجوارح عندهم ليست من الإيمان، ولكنها من لوازمه، فالعلاقة بينهما كعلاقة دائرتين متلازمتين لا تنفك إحدهما عن الأخرى، ويقولون:
انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم.
(1)
*وعليه:
فالناس عندهم فى أصل الإيمان سواء، وإنما التفاضل فى لازم الإيمان، الذى هو عمل الجوارح، فهم يتفاضلون فى الجنة بحسب أعمالهم الظاهرة، وهذا ما نص عليه صاحب الطحاوية.
وأما صاحب الكبيرة فقالوا: فهو تحت المشيئة، ويُخشى عليه من العذاب.
(2)
(1)
انظرحقيقة الإيمان (ص/36)
(2)
أوجه الوفاق و الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء:
(1) أما الموافقات فتتمثل فيما يلي:
(إدخال اعتقاد القلب والنطق باللسان في الإيمان - أن أهل الكبائر تحت الوعيد - الإيمان مع ترك العمل يعرِّض صاحبه للذم والعقاب)
(2) وأما مواضع الخلاف ففي أمرين:
أ) فيمن قال ولم يعمل:
فهو عند مرجئة الفقهاء مؤمن كامل الإيمان؛ لأنه أتى بما يمنعه من الخلود فى النار وهو الاعتقاد والقول، ومستحق للذم لتركه عمل الجوارح، وأما أهل السنة فيعدونه كافراً؛ لتركه عمل الجوارح بالكلية.
ب) قولهم بالتساوي بين الناس فى الإيمان:
فجعلوا إيمان أفجر الناس كإيمان جبريل، فمرتكب الكبيرة مؤمن تام الإيمان، إيمانه كإيمان كجبريل، وأهل السنة يقولون: أن مرتكب الكبيرة مؤمن بأصل إيمانه، فاسق بكبيرته، مع قولهم أنه مستحق لدخول النار، فهم يخالفون أهل الحديث فى الاسم لا الحكم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
فهؤلاء -أي المرجئة -لا ينازعون أهل السنة والحديث في حكمه في الآخرة، وإنما ينازعونهم في الاسم، وينازعون أيضاً فيمن قال ولم يفعل، وكثير من متكلمة المرجئة تقول لا نعلم أن أحداً من أهل القبلة من أهل الكبائر يدخل النار، ولا أن أحداً منهم لا يدخلها، بل يجوز أن يدخلها جميع الفسَّاق، ويجوز أن لا يدخلها أحد منهم، ويجوز دخول بعضهم.
انظر منهاج السنة (5/ 150) وشرح العقيدة الأصفهانية (ص/138) وبراءة أهل الحديث من بدعة الإرجاء (ص/261)، الإيمان عند االسلف (1/ 296)
*الرد على مرجئة الفقهاء:
وإذا نظرنا إلى العلة التى من أجلها ذهب مرجئة الفقهاء إلى جعل أعمال الجوارح ليست داخلة فى مسمَّى الإيمان، فهى علة عليلة، مفادها أن عدُّ العمل ركناً يجر إلى معتقد الخوارج والمعتزلة الذين يكفِّرون بترك العمل!!
** وجواب ذلك أن يقال:
فرق بين أن تجعل أعمال الجوارح ركناً فيبطل الإيمان بتركها كليةً، وهو ما تفيده نصوص الشرع، وهو مذهب أهل السنة، وبين أن تجعل كل عمل من أعمال الجوارح ركناً يبطل الإيمان بتركه، كالزكاة أوالصوم أو الحج مثلاً، وهو مذهب الخوارج والمعتزلة الذين يكفِّرون بترك أى واجب من واجبات الشرع أو بإيتاء كبيرة من الكبائر، فتأمل.
فالذي عليه أهل السنة أن العمل الذى هو ركن في الإيمان إنما هو جنس الأعمال، وليس كل فرد من العمل الظاهر.
فالقاعدة هنا " جنس العمل ركن في الإيمان، لا آحاده، إلا بدليل "
*وأما قول مرجئة الفقهاء: أن الناس فى أصل الإيمان سواء، والتفاضل فى لازم الإيمان!!
(1)
(1)
وهذا مما قد نص عليه صاحب الطحاوية، فقال:"والإيمان واحد، وأهله فيه سواء"
وهذا غلط؛ لأن الإيمان ليس واحداً، وليس أهله سواءً، بل الإيمان يتفاضل، ويزيد وينقص، والتصديق بالقلب ليس الناس فيه سواءً، فليس إيمان أبي بكر الصديق كإيمان الفاسق من المسلمين.
كذلك من ناحية العمل، الناس يتفاضلون في العمل، منهم كما قال الله عز وجل:(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) هذا العاصي الذي معصيته دون الشرك، فإنه ظالم لنفسه (ومنهم مقتصد) وهو الذي= =يعمل الواجبات ويتجنب المحرمات. (ومنهم سابق بالخيرات) وهذا هو الذي يعمل الواجبات والمستحبات، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات من باب الاحتياط، فدل على أن الإيمان متفاضل. وانظر التعليقات على متن الطحاوية للفوزان (ص/145)
*فالرد عليه:
أن التفاضل ليس فقط فى عمل الجوارح، بل أيضاً فى عمل القلب، فنفس تصديق القلب يزيد وينقص، ومن أدلة ذلك:
1 -
عنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -قَالَ:
يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ)
(1)
2) قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه يوم الحديبية:
وَاللَّهِ مَا شكَكْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ.
(2)
3) وعن أبيَّ بن كعب رضي الله عنه لما اختلف القرَّاءُ في قراءة بعض الآيات قال:
(3)
ولا يرتاب عاقل أن إيمان هذا الصحابي عند تلك الغشية دون إيمانه قبلها وبعدها.
4) وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:
شَهِدْنَا خَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ
(1)
أخرجه البخاري (42) وترجم له البخاري بقوله "باب: زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى"
(2)
أخرجه ابن حبان (7/ 222) وصححه الألباني. وهو -رضى الله عنه- لم يشك فى رسالة النبى صلى الله عليه وسلم فهو على يقين من ذلك، وإنما شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جانبه الصواب فى اجتهاده لما قبل الصلح على هذه الشروط.
(3)
أخرجه مسلم (820)
قال القاضي عياض: معنى قوله "سقط في نفسي" أنه اعترته حيرة ودهشة، وقوله " ولا إذ كنت في الجاهلية " معناه: أن الشيطان نزغ في نفسه تكذيبا لم يعتقده، وهذه الخواطر إذا لم يستمر عليها لا يؤاخذ بها.
شرح مسلم للنووي (6/ 102)
يَدَّعِي الإِسْلَامَ: «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَلَمَّا حَضَرَ القِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ أَشَدَّ القِتَالِ، حَتَّى كَثُرَتْ بِهِ الجِرَاحَةُ، فَكَادَ بَعْضُ النَّاسِ يَرْتَابُ، .. ".
(1)
* ومن النظر:
لا يرتاب عاقل أن المؤمنين يتفاوتون في التقوى تفاوتاً عظيماً، وأعظم أسباب ذلك تفاوتهم في اليقين، فإننا نرى أحوالهم في اتقاء الضرر الدنيوي لا يتفاوت ذاك التفاوت، بل إنك تجد من نفسك أنه قد يقوى عندك الإيمان فترغب نفسك في الطاعة وترغب عن المعصية، وقد يضعف فتتهاون بذلك.
وكذلك تجد ذلك عندما تطلع على الأدلة أو الشبهات، فقد يقف العالم على عدة نصوص من الكتاب والسنة فيتبين له أن بعضها يصدق بعضاً، وقد يتراءى له أنها تتناقض.
وقد يرى نصوصاً في العقائد، فيتبين له أن العقل موافق لها وقد يتراءى له أنه يخالفها. ويرى نصوصاً في الأحكام فيتبين له أنها موافقة للرأي والنظر والحكمة والقياس، وقد يتراءى له أنها مخالفة لذلك.
ولا أدرى عاقلاً يتصور حاله وحال الملائكة والأنبياء ويقول: إن يقينه مثل يقينهم.
(2)
قال الفضيل بن عياض:
قال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان افتراء على الله عز وجل -وخلافا لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر رضي الله عنه أهل الردة ".
وقال رحمه الله:
" يقول أهل البدع: الإيمان الإقرار بلا عمل والإيمان واحد، وإنما يتفاضل الناس بالأعمال، ولا يتفاضلون بالإيمان، ومن قال ذلك فقد خالف الأثر ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله.
(3)
* ومن الردود العامة على فرق المرجئة:
وأما قول المرجئة:
" لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة".
(4)
(1)
أخرجه البخاري (4203)
(2)
القائد إلى تصحيح العقائد (ص/129)
(3)
وانظر السنة لعبد الله (818) وبراءة أهل الحديث (ص/161)
(4)
وأما قولهم " لا يضر مع الإيمان ذنب " فهذا مما نص عليه صاحب الطحاوية؛ بناءً على قول مرجئة الفقهاء بإخراج عمل الجوارح من الإيمان. والصواب أن الذنوب تؤثر في الإيمان، فمنها ما يزيله بالكلية، كترك الصلاة = =، الترك الكلي، ومنها ما ينقصه فقط كسائر الذنوب الأخرى.
وانظر التعليقات المختصرة على الطحاوية للفوزان (ص/140)
فالرد عليه في حديث حُذَيْفَة رضي الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَىُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ".
(1)
والمعنى أن الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي، دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإيمان.
(2)
.
*ومن اللوازم الباطلة لقول المرجئة في باب الإيمان:
1 -
لما كان الإيمان عند المرجئة منحصرأ في التصديق ترتب على ذلك أن يكون
الكفر لا يحصل إلا بالتكذيب، وعليه فمن لطخ المصحف - مثلا - أوسجد لصنم فلا يكفر، وعمله هذا لا يكون كفراً، بل هذا عندهم دال على انتفاء الإيمان من قلبه.
وأهل السنة يقولون أن ذات الفعل يكون كفراً، لذا فمذهب الإرجاء قد ترتب عليه المفاسد العظيمة، حيث حصروا الكفر في كفر الاستحلال والجحود.
(3)
قال ابن حزم:
وأما سب الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد، إلا أن الجهمية، والأشعرية - وهما طائفتان لا يعتد بهما - يصرِّحون بأن سب
(1)
رواه مسلم (386)
(2)
الكوكب الوهَّاج شرح صحيح مسلم (4/ 40)
(3)
وعليه نقول:
أن من قال أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص، وجعل أعمال الجوارح شرط كمال، ويقول " لا كفر إلا باعتقاد وجحود" وينسب ذلك لأهل السنة، فقد نسب لأهل السنة ما ليس منهم.
وقد سئل الشيخ صالح الفوزان: هل تصح هذه المقولة: " من قال الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد وينقص فقد بريء من الإرجاء كله حتى لو قال لا كفر إلا باعتقاد وجحود "؟
فقال:
هذا تناقض!! إذا قال لا كفر إلا باعتقاد أو جحود فهذا يناقض قوله إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، لأنه إذا كان الإيمان قول باللسان واعتقاد الجنان وعمل بالجوارح وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية
…
فمعناه أنه من تخلى من شيء من ذلك فإنه لا يكون مؤمناً. وانظر أسئلة وأجوبة في مسائل الإيمان والكفر (ص/5)
الله تعالى، وإعلان الكفر، ليس كفراً، ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر، وهذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام.
ثم يقال لهم:
إذ ليس شتم الله- تعالى- كفراً عندكم، فمن أين قلتم: إنه دليل على الكفر؟
فإن قالوا: لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر؟ قيل لهم: نعم، محكوم عليه بنفس قوله، لا بمغيَّب ضميره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، فإنما حكم له بالكفر بقوله فقط، فقوله هو الكفر، ومن قطع على أنه في ضميره، وقد أخبر الله تعالى عن قوم {يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم} [آل عمران: 167] فكانوا بذلك كفاراً، كاليهود الذين عرفوا صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يعرفون أبناءهم، وهم مع ذلك كفَّار بالله -تعالى- قطعاً بيقين، إذ أعلنوا كلمة الكفر.
(1)
* فإن قيل:
فما تأويل قول صاحب الطحاوية: ولا نكفِّر أحداً بذنب ما لم يستحله؟
فالجواب:
ما نص عليه شيخ الإسلام أن هذه العبارة سيقت رداً على الخوارج الذين يكفِّرون بالكبيرة.
2 -
فتح باب التخلِّي عن الواجبات والوقوع فى المحرمات، كما إن فيه تجسير لكل فاسق وقاطع طريق على الموبقات، مما يؤدي إلى الإنسلاخ من الدين، وهتك حرمات الإسلام، نعوذ بالله من الخذلان.
(2)
.
* تنبيهات مهمة:
1 -
المرجئة يقولون نحن مؤمنون عند الله؛ حيث إن التصديق لا يقبل النقصان ولا الشك، فمجرد أن آمنوا ثبت لهم كمال الإيمان، أما أهل السنة فيقولون: نحن مؤمنون بالاقرار؛ فالمؤمن يقر بإيمانه، لكنه لا
(1)
المحلى بالآثار (11/ 526)
(2)
انظر درء الفتنة عن أهل السنة (ص/39) ومزيد من اللوازم الباطلة لمذهب المرجئة
قد ذكرها شيخ الإسلام فى مجموع الفتاوى (7/ 188 - 190)
يجزم بالنجاة، بل يرجو ربه ذلك.
2 -
المرجئة لا يمتنعون من القول بدخول الأعمال فى الإيمان إذا كان لا يترتب على زوالها زوال الإيمان، فالعمل ركن من الإيمان الكامل، وليس بركن من أصل الإيمان الذى لا نجاة من الخلود فى النار إلا به.
*شبهات أخرى لكافة فرق المرجئة:
1 -
الشبهة الأولى:
قالوا: العمل ليس من الإيمان؛ لأن الله فرَّق بينهما فقال (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)!!
والرد على ذلك أن يقال:
أولًا: هذا من باب عطف العام على الخاص، ورَد نظير ذلك قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
…
) (البقرة/277) وقول النبى صلى الله عليه وسلم (اتقوا الدنيا، واتقوا النساء...........) ولازم قولكم أن فتنة النساء ليست من فتن الدنيا.
وَكَقَوْلِه تَعَالَى {من كَانَ عدوا لله وَمَلَائِكَته وَرُسُله وَجِبْرِيل وميكال فَإِن الله عَدو للْكَافِرِينَ} وَلَا خلاف
فِي أَن جِبْرِيل وَمِيكَائِيل من جملَة الْمَلَائِكَة، وَكَقَوْلِه تَعَالَى {فيهمَا فَاكِهَة ونخل ورمان} وَالرُّمَّان
من الْفَاكِهَة. وَالْقُرْآن نزل بلغَة الْعَرَب، وَالْعرب تعيد الشَّيْء باسمه وَإِن كَانَت قد أجملت
ذكره تَأْكِيدًا لأَمره
(1)
.
ثانياً: إعمال الأدلة أولى من إهمالها، وكافة النصوص الأخرى دلت أن الإيمان قول وعمل، فهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
2 -
الشبهة الثانية:
ما ورد في حديث جبريل عليه السلام-في بيان الإسلام والإيمان والإحسان؛ حيث جعل أعمال الجوارح، من الصوم والزكاة والصيام والحج ليست من الإيمان!!!
* وجواب ذلك ما قاله البغوي:
جعل النبي صلى الله عليه وسلم -في هذا الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل
(1)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 124)
لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال:«ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم» ..
(1)
.
** ثم نقول:
: أليس الذى عرَّف الإيمان بالتصديق الباطن في حديث جبريل هو صلى الله عليه وسلم -الذي عرَّفه بأعمال الجوارح في قوله: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللهِ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:
«شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنَّ تُؤَدُّوا خُمُسًا مِنَ الْمَغْنَمِ؟!!!
3_
الشبهة الثالثة:
قوله تعالى (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فجعل محل الإيمان هو القلب، وعمل الجوارح ليست من الإيمان!!!
** وجواب ذلك أن يقال:
ليس في الآية ما يشير إلى إخراج عمل الجوارح من الإيمان، بل غاية ما فيها هو التأكيد على ضرورة الاعتقاد القلبي في ثبوت الإيمان، فالآية في الحقيقة حجة على من استدل بها، لا حجة له؛ وذلك من وجهين:
1 -
الأول: ما ذكره الطبري بقوله:
وهو أن الله تقدّم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول، ولم يحققوا قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا بالله ورسوله، ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محقّ، وهو أن يقولوا أسلمنا، بمعنى: دخلنا في الملة لحفظ الأنفس والأموال بالشهادة الحق
(2)
.
2 -
الثاني: ما ذُكر في الآية التي تليها مباشرة، في قوله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادقون} فلقد جعل الجهاد بالنفس والمال من الإيمان، وهى أعمال جوارح، فتأمل.
(1)
شرح السنة (1/ 11)
(2)
جامع البيان في تأويل القرآن (22/ 313)
* ثانياً: الإيمان عند الخوارج والمعتزلة:
فهو فعل الطاعات المفترضة كلها، فهو قول اللسان واعتقاد القلب وعمل الجوارح، ويرون أنَّ كل فرد من أفراد العمل ركن في الإيمان وجزء منه، فإذا ذهب بعض الإيمان سائره، وعليه فإنه لا يجتمع عندهم في الشخص الواحد ثواب وعقاب؛ فمن ارتكب كبيرة فقد خرج من الإيمان ودخل في الكفر عند الخوارج، وصار عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين، واتفق الفريقان أن مآله الخلود في النار، ولكنَّ المعتزلة يقولون أن عذاب أصحاب الكبائر دون عذاب الكفَّار.
ويقولون الإيمان شئ واحد لا يزيد ولا ينقص، ولا يُستثنى فيه.
(1)
* الرد على الخوارج والمعتزلة:
1 -
وممن يرد به على الوعيدية في قولهم أن الإيمان لا يتجزأ، وأن ذهاب بعض الإيمان هو ذهاب للإيمان كله:
ما رواه أَبو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ- رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
" أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ".
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار؛ فإن هذا القول من البدع المشهورة وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان؛ وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلَّد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا أيضا على أن نبينا صلى الله عليه وسلم -يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته، ففي " الصحيحين " عنه أنه قال:{لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
(3)
(1)
وانظر الإيمان لابن منده (1/ 331) والفِصل (3/ 227) ومسائل الإيمان لأبي يعلى (ص/156)
*قلت:
والعجيب في أمر المعتزلة أن أحد الأصول الخمسة عندهم هو العدل، وبنوا عليه قولهم بنفي خلق أفعال العباد، ثم يقولون أن من فعل كبيرة واحدة ألغت جميع الأعمال الصالحة، ولو كانت هذه الأعمال الصالحة أمثال الجبال.
(2)
متفق عليه.
(3)
مجموع الفتاوي (7/ 222)
وطريقة أهل السنة في علاقة عمل الجوارح بمسألة الإيمان أنهم جعلوا جنس الأعمال ركناً من أركان الإيمان، وليس كل فرد من أفراده ركناً فيه، وعليه فإنه يجتمع عندهم في الشخص الواحد حسنات وسيئات.
كما أنهم لم يجعلوا كل الأعمال شرطاً في صحة الإيمان، بل جعلوا كثيراً منها شرطاً في الكمال، والمعتزلة جعلوها كلها شرطاً في الصحة.
(1)
والقاعدة التي توضح لك منهج أهل السنة في ذلك أن يقال:
.
.
**جنس الأعمال ركن الإيمان لا آحاده، إلا بدليل **
والمعنى:
أن الذي يتحقق به الكفر إنما هو ترك العمل كلية، عمل القلب أو عمل الجوارح، وليس آحاد العمل، كما نص عليه الخوارج والمعتزلة، ثم جاء الاستثناء " إلا بدليل": أي إلا إذا دل الدليل على أن عملاً بعينه يكفر المرء بتركه كلية، كما هو الحال في ترك الصلاة بالكلية.
* أما ما ذهبوا إليه من القول بكفر فاعل الكبيرة فهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد استوفينا الرد عليه في رسالتنا " إتحاف الجماعة بشرح حديث أسعد الناس بالشفاعة" بما يغني عن إعادتها هنا.
(2)
** و مما نزيده هنا أن يقال:
النصوص المتواترة على عدم خروج مرتكب الكبيرة من مطلق الإيمان، ولذلك فإنَّ العقوبات الشرعية من القصاص و الحدود تُطبَّق على شارب الخمر والزانى والسارق، ولو كان يخرج بالكبيرة من الإيمان لطبق عليه حد الردة وقتل، ولما طبقت عليه تلك الحدود.
قال الأوزاعي:
قال: أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة، ولا يفرِّقون بين الإيمان والعمل، ولا يعدُّون الذنوب كفراً ولا شركاً.
(3)
(1)
وانظر معارج القبول (2/ 30) وبراءة أهل الحديث (ص/66) ودرء الفتنة عن أهل السنة (38)
(2)
هذه الرسالة ملحقة بكتابنا "الأربعون العقدية"
(3)
أخرجه حرب الكرماني فى مسائل أحمد واسحاق بن راهوية (ص/368) وانظر الإيمان عند السلف وحقيقته بالعمل (2/ 11)
*مسألة الاستثناء فى الإيمان:
ومعنى الاستثناء في الإيمان أن يقول " أنا مؤمن إن شاء الله "".
الأقوال في هذه المسألة:
1) القول الأول:
حرمة الاستثناء فى الإيمان:
قال به الجهمية والمرجئة الكرامية؛ لأن الإيمان عندهم واحد يعلمه المرء من نفسه، فإن استثنى كان ذلك دليلاً على شكه، فالأصل فى الإيمان الجزم؛ لقوله تعالى
…
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(الحجرات/15) وممن قال بهذا القول الحنفية " مرجئة الفقهاء "، وهو لازم قول الخوارج والمعتزلة بهذا الاعتبار.
فأصحاب هذا القول يعدُّون الاستثناء فى الإيمان شكاً، ويطلقون على من استثنى فى إيمانه اسم "الشكَّاكة"
(1)
.
- القول الثانى:
وهو وجوب الاستثناء في الإيمان، و قال به بعض أهل السنة والكلَّابية:
وذلك باعتبار الحال والمآل:
1 -
فأما المآل:
فلأنَّ المرء لا يعلم خاتمته، وعلى أي شيء يموت، وعليه فمن لم يستثن في الإيمان فقد جزم لنفسه بالجنة.
2 -
وأما الحال:
فلأن الإيمان إنما هو فعل المأمورات وترك المحظورات، وهذا لا يجزم به أحد؛ للنقص الذى يعتري المرء.
3 -
كما أن الجزم بالإيمان فيه تزكية للنفس، وقد قال الله تعالى (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى)(النجم/32)
*والراجح في ذلك هو التفصيل:
(1) حالات يحرم فيها الاستثناء، وذلك إن كان الاستثناء عن شك:
فهو محرم، بل
(1)
وذهب بعضهم الى تكفير المستثنى بحجة أنه شاك فى إيمانه، ولهذا منع بعض الحنفية من تزويج القائل بالاستثناء في الإيمان من المرأة الحنفية، ثم جوزوا نكاح الحنفى من الشافعية - التي تقول بالاستثناء - قياساً على نكاح أهل الكتاب، ولكن المحققين منهم على خلاف ذلك كله.
هو كفر؛ لقوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(الحجرات/15)
وذلك لأن اليقين شرط من شروط صحة " لا إله إلا الله ".
(1)
(2) حالات يشرع فىها الاستثناء:
أ- الاستثناء لمن يخشى تزكية النفس، أو باعتبارالموافاة فهو حق.
كما أدَّب الله -تعالى- أنبيائه على ذلك، كما فى قول إبراهيم عليه السلام (وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) (الأنعام: 80)
قال ابن بطة:
الاستثناء يصح من وجهين:
أحدهما:
نفي التزكية لئلا يشهد الإنسان على نفسه بحقائق الإيمان وكوامله، فإن من قطع على نفسه بهذه الأوصاف شهد لها بالجنة والرضوان، ومن شهد لنفسه بهذه الشهادة كان خليقاً بضدها.
الوجه الآخر:
يقع على مستقبل الأعمال ومستأنف الأفعال وعلى الخاتمة، وبقية الأعمار، ويريد إني مؤمن إن ختم الله لي بأعمال المؤمنين، وإن كنت عند الله -تعالى- مثبتاً في ديوان أهل الإيمان، وإن كان ما أنا عليه من أفعال المؤمنين أمرا يدوم لي ويبقى علي حتى ألقى الله -تعالى- به، ولا أدري هل أصبح وأمسي على الإيمان أم لا؟
(2)
* قَالَ اسحاق بن منصور:
وَسَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
…
«وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» ، الِاسْتِثْنَاءُ هَاهُنَا عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَقَعُ؟
قَالَ: «عَلَى الْبِقَاعِ، لَا يَدْرِي أَيُدْفَنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي عَلَيْهِمْ أَوْ غَيْرِهِ»
(3)
ب- أن يتوجه الاستثناء إلى الإيمان المطلق:
لأن عدم الاستثناء يتضمن أن العبد فعل جميع ما أمر به، وفى ذلك تزكية للنفس، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: وَاللَّهِ إِنِّى
(1)
الانتقاد الرجيح في شرح الاعتقاد الصحيح (ص/181)
(2)
وانظر الإبانة الكبرى (2/ 865) ونص على مثله البغوى في شرح السنة (1/ 41) والغزالي فى قواعد العقائد (ص/270)
(3)
انظر السنة للخلال (1065)
لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِى
(1)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
فمن قال: أنا مؤمن إن شاء الله وهو يعتقد أن الإيمان فعل جميع الواجبات ويخاف أن لا يكون قائما بها فقد أحسن ولهذا كان الصحابة يخافون النفاق على أنفسهم
(2)
.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: سفيان يقول: من كره أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فهو عندنا مرجئ.
(3)
.
وَقَال رحمه الله:
خالفنا المرجئة في ثلاث، نحن نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: قول بلا عمل. ونحن نقول: يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص. ونحن نقول: نحن مؤمنون بالإقرار، وهم يقولون: نحن مؤمنون عند الله.
(4)
قال الإمام أ حمد:
الإيمان قول، والعمل الفعل، فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل، فيعجبني أن نستثني في الإيمان، نقول:" أنا مؤمن إن شاء الله".
(5)
وقد ورد عن جماعة من السلف الإستثناء فى الإيمان، كابن مسعود وغيره.
(6)
3 -
أن يتوجه الاستثناء إلى مطلق الإيمان، الذى هو أصله:
فهنا يجب ترك الاستثناء؛ فالمرء عليه أن يجزم بالإيمان قاصداً التصديق بما يعتقده، كما حكى الله عن المؤمنين (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(آل عمران/53) (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ
(1)
رواه مسلم (1110)
(2)
مجموع الفتاوى (7/ 681)
(3)
تاريخ الإسلام (4/ 382)
(4)
شرح السنة للبغوي (1/ 40) فالمرجيء لا يستثني في الإيمان لأمرين:
الأول: أنه حصر الإيمان في التصديق، وهذا عنده لا يقبل الزيادة ولا النقصان، وعليه فإن الاستثناء فيه لا يكون إلا شكاً.
والثاني: لأنهم أخرجوا الأعمال من الإيمان.
(5)
وانظر السنة للخلال (1065) ومسائل ابن هانئ (ص/414)
(6)
انظر حقيقة الإيمان وبدع الإرجاء (ص /43)
الرَّاحِمِينَ) (المؤمنون/109)
ومثل هذا هو ما أمرنا به، كما في قوله تعالى (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(البقرة /136)
* عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ: إِنِّي مُؤْمِنٌ، فقَالَ عبد الله: " قُلْ: إِنِّي فِي الْجَنَّةِ!
وَلَكِنَّا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ".
(1)
قال أبو يعلى:
لا يكون الاستثناء شكاً إنما هي سنة ماضية عند العلماء، فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنه يقول:
أنا مؤمن إن شاء الله، ويقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.
(2)
تم بحمد الله.
(1)
الإيمان لابن أبي شيبة (ص/265) وسنده صحيح.
(2)
الاعتقاد (ص/24)