الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهاهي الصفة الثانية من صفات السابقين الأولين الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب أنهم لا يكتوون؛ وذلك لكمال توكلهم على الله عز وجل، واستسلامهم لقضائه، وصبراً عليه.
فقد استغنوا عن الخلق، ولجؤوا إلى الخالق، ولما في الاكتواء من شدة الألم مع ضعف احتمال الشفاء.
سؤال:
ما هو حكم الكي
؟
الجواب أولا: وردت أحاديث تشير إلى جواز الكي، نذكر منها ما يلي:
1 -
عَنْ جَابِرٍ-رضى الله عنه- قَالَ: رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذ -رضى الله عنه-فِي أَكْحَلِهِ، قَالَ:
(1)
2 -
قال ابن عباس -رضى الله عنهما-: قال الرسُولَ صلى الله عليه وسلم:
إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ، فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ.
(2)
ثانياً: قد وردت أحاديث في النهي عن الكي منها:
1) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رضى الله عنه-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الكَيِّ. قَالَ: فَابْتُلِينَا فَاكْتَوَيْنَا فَمَا أَفْلَحْنَا وَلَا أَنْجَحْنَا.
(3)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ..... ، وأنا أنهي أمتي عن الكي ".
(4)
* فكيف الجمع بين هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض؟
نقول: اختلفت مسالك العلماء في الجمع بين هذه الآثار، على أقوال:
1 -
القول بالنسخ: أن أحاديث الإباحة قد نسخت أحاديث النهي عن الكي.
(5)
(1)
أخرجه مسلم (2208) وأحمد (14343) والحسم هو الكي. والمشقص: "هو نصل السهم الطويل غير العريض. وجمعه: مشاقص. وانظر مطالع الأنوار على صحاح الآثار (6/ 73)
(2)
متفق عليه.
(3)
أخرجه أبوداود (3865) والترمذى (2049) وقال الترمذى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(4)
متفق عليه.
(5)
شرح معاني الآثار (4/ 321)
2 -
حمل أحاديث النهي على من فعل ذلك قبل نزول البلاء؛ وذلك دفعاً للقدر قبل نزوله.
(1)
3 -
حمل أحاديث النهي على نهي التنزيه، وذلك لما ورد من أحاديث قد أباحت الكي لمن به علة؛ وإنما قد نُهى عن الكى لما في الإكتواء من الألم الشديد مع ضعف احتمال الشفاء، ولهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم ونهى عنه؛ وإنما كرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم، ولهذا كانت العرب تقول في أمثالها " آخر الدواء الكي ".
وهذا -والله أعلم-هو الصحيح في الجمع بين تلك الأحاديث.
(2)
قال ابن القيم:
فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع، أحدها: فعله، والثاني: عدم محبته له، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى، فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه. وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه، بل يفعل خوفاً من حدوث الداء.
(3)
…
وتنقسم حالات الكي إلى عدة أحكام:
1) من استعمل الكي لغير علة، بل دفعا لنزول البلاء، فهذا حكمه التحريم؛ لأنه
(1)
فقد ذكر ذلك ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث"، فقال: وقد رأيت بخراسان رجلاً من أطباء الترك يعالج بالكي، يكوى العليل لعلته، ويكوى الصحيح لئلا يسقم؛ فتطول صحته.
وانظرتأويل مختلف الحديث (ص/463)
(2)
أما القول بالنسخ فهذا يرده عدم العلم بالتاريخ وإمكانية الجمع بين الأدلة، وأما حمل أحاديث
النهي على من فعله قبل نزول البلاء، فليس هذا هو الأغلب في أفعال الناس، بل إنهم في الأغلب لا يكتوون إلا لعلة.
(3)
الزاد (4/ 60)
إيلام للبدن بغير سبب، كما أن فاعله ظن أن الاكتواء يدفع عنه قدر الله، ولو توكل على الله عز وجل لما فعل ذلك.
2) من استعمل الكي لعلة قد غلب على ظنه نفع الكي في علاجها، فلا يكره الكي هنا، مثل الكي من ذات الجنب.
3) أن يكون العلاج بالكي متردداً بين النفع وعدمه، فلا يشرع الكي، لأنه ايلام بالنار، وربما حصل مضاعفات أكثر من المرض.
4) ما لا يظن نفعه، ولكن يغلب فيها ضرر الكي، فالأقرب التحريم، لأنه تعدي على البدن.
(1)
…
عودٌ إلى حديث الباب: وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.....
وها هي الصفة الثالثة التى ارتقت بالقوم إلى منازل السابقين: أنهم لا يتطيرون:
والتطير: أصله من زجر الطير، ومروره سانحاً أو بارحاً (السانح ما تيمّن، والبارح عكس ذلك)، و منه اشتقوا التطير، ثم استعملوا ذلك في كل شيء من الحيوان وغيره.
(2)
كان العرب في الجاهلية إذا همَّ الواحد منهم بأمر ما أتى بطير فأطلقه، فإن تيمّن الطائر تفاءل المرء ومضى في حاجته، وإن طار الطائر ناحية الشمال تشاءم المرء ورجع عن حاجته، ومنه جاء التطير وصار يطلق على: التشاؤم بمسموع أو مرئي أو معلوم.
* حكم التطير في الشرع:
نهى الشرع عن التطير بكل صوره، بل وعدَّه النبى صلى الله عليه وسلم -شركاً، والمتتبع لآيات القرآن وأحاديث السنة يجد أن التطير ما ورد إلا مذموماً، أو على لسان المشركين.
فأما من القرآن فقد قال الله تعالى {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} (الاعراف: 131)
(1)
ذكر هذا التقسيم الشيخ محمد بن صالح العثيمين في تعليقه على صحيح البخاري.
(2)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (4/ 243)
وقال تعالى (قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)(يس: 18)
*وأما في السنة:
1 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضى الله عنهما-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
: "مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ ".
(1)
2) عن أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -قَالَ: " لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ.
(2)
والنفى المذكور للطيرة في الحديث ليس نفياً لوجودها، فهى موجودة في اعتقاد الكثير، وإنما النفي هنا هو إبطال لهذا الاعتقاد الباطل؛ فإن الطيرة لا تأثير لها، لا بذاتها ولا بسببها.
3) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رضى الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا نَتَطَيَّرُ فى الجاهلية. قَالَ: "ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ "
(3)
فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه هو الذي يطيره ويصدّه، لا ما رآه وسمعه، فالله-سبحانه- لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة، ولا نصبها سبباً لما يخافونه ويحذرونه، لتطمئن قلوبهم ولتسكن نفوسهم إلى وحدانيتة تعالى.
(4)
** فرع في: حكم التطير:
هناك أحاديث صرحت بأن الطيرة شرك، فهل هي شرك أكبر أم أصغر؟
نقول: الأصل أن الطيرة شرك أصغر، ودليل هذه المسألة ما يلي:
- الأحاديث التي صرحت بأن الطيرة شرك؛ جاء فيها لفظ (شرك) نكرة، والقاعدة التي قعَّدها العلماء في هذا الباب:" كل كفر أو شرك جاء نكرة فهو شرك أصغر "
(1)
أخرجه أحمد (7045)، وصححه الألبانى في صحيح الجامع (6264)
(2)
متفق عليه.
(3)
أخرجه مسلم (121) وأبوداود (3909)
(4)
مفتاح دار السعادة (2/ 234)
ودليل هذه القاعدة هو التتبع والاستقراء للأدلة الشرعية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
الشرك " شركان ": شرك في التوحيد ينقل عن الملة، وشرك في العمل لا ينقل عن الملة وهو الرياء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم {الطيرة شرك} .
(1)
-يؤيده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدجعل للطيرة كفَّارة، والشرك الأكبر ليس له كفَّارة، لأن الشرك الأكبر تجب فية التوبة والنطق بكلمة التوحيد، ودليل الكفَّارة في الطيرة؛ ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو -رضى الله عنهما-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟،
قَالَ: أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: "اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ ".
(2)
-يؤيده:
أن الذى يتطير بشيء ما فإنه -في الأغلب- لا يعتقد فيه ضراً ولا نفعاً، وإنما يعتقد أنه سبب في ذلك، وهذا الاعتقاد شرك أصغر، لأن كل من اتخذ سبباً لم يشرِّعه الله -تعالى- سبباً فقد وقع في الشرك الأصغر.
لكن قد يصل التطير إلى الشرك الأكبر، وذلك إن اعتقد المرء أن الشيء الذي يتطير به بذاته يجلب له ضراً أويمنع عنه نفعاً، ومن اعتقد أن شيئاً سوى الله -تعالى- ينفع أو يضر بالاستقلال، فقد أشرك شركاً جلياً.
قال العظيم آبادي:
وإنما كانت الطيرة شركاً لاعتقادهم أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً، فمن اعتقد أن شيئاً سوى الله -تعالى- ينفع أو يضر بالاستقلال فقد أشرك شركاً جلياً.
(3)
* ومن صور التشاؤم المعاصرة:
1 -
من يتشاءم برقم معين أو شخص معين أو ساعة معينة، كالجهال الذين
(1)
مجموع الفتاوى (7/ 329)
(2)
أخرجه أحمد (7045) وصححه الألبانى في صحيح الجامع (6264)
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا طير إلا طيرك): أى أن كل ما يحدث للإنسان من الحوادث المكروهة؛ فإنها واقعة بقدر الله وجل، كما قال تعالى (أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ)(الأعراف/ 131)
(3)
عون المعبود (10/ 288)
يقولون أن في الجمعة ساعة نحس، وكذبوا بل في يوم الجمعة ساعة إجابة.
(1)
2 -
حال كثير من النساء اللاتي يتشائمن بحدوث اضطراب في العين، وهو ما يسمى (عيني بترف).
(2)
3 -
فتح المصحف على صفحة دون سابق تحديد، والنظر في أول سطر يخرج منها، فإن كانت آية رحمة وبشرى أقدم على ما يريد، وإن كانت آية عذاب ونحوه أحجم ورجع، ولا شك أن هذا من البدع المحدثة، وهو من نوع الاستسقام بالأزلام.
(3)
(1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله خيرًا إلا أعطاه)) (متفق عليه)
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، فيها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله شيئًا إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر))؛ أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه جمع من العلماء، منهم: المنذري، وابن حجر، ومن المعاصرين: الألباني
والذى عليه جمهور العلماء انها الساعة الأخيرة قبل الغروب.
(2)
وما هذا إلا فعل الشيطان الذي ينخس عين ابن آدم ليتشاءم، كما جاء في حديث امرأة ابن مسعود -رضى الله عَنها- قالت: كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني فإذا رقاني سكنت، فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقاها كفَّ عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما "
أخرجه أبوداود (3883)، وأصله في الصحيحين.
(3)
وحكي أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك تفاءل يوماً في المصحف فخرج له قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15]
فمزق المصحف، وأنشأ يقول:
أتوعد كل جبار عنيد
…
فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر
…
فقل يا رب مزقني الوليد
فلم يلبث إلا أياما حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، فنعوذ بالله من البغي ومصارعه، والشيطان ومكائده، وهو حسبنا وعليه توكلنا. وانظر "أدب الدنيا والدين"(ص/317) و "مسائل العقيدة قررها أئمة المالكية "(ص/108)
*وفي هذا الموضع من البحث إشكال:
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ- رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -يَقُولُ:
" إِنَّمَا الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: فِي الفَرَسِ، وَالمَرْأَةِ، وَالدَّارِ.
(1)
، فإذا كان الشؤم محرَّماً، فما تأويل هذا الحديث؟
*نقول: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث على أقوال:
القول الأول: نفي الشؤم والتطير مطلقاً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا طيرة
…
)، وحملوا حديث:«الشؤم في ثلاثة..» على رواية أخرى للحديث بلفظ (إن كان الشؤم ففي ثلاثة........)
(2)
فقالوا: هذه الرواية الثانية للحديث توافق النهي العام عن التطير، لذا فإن رواية الإثبات ليست على ظاهرها، بل لها محامل أخرى.
(3)
القول الثاني:
قالوا: بالنسخ، أي أن أحاديث إثبات الشؤم قد نُسخت بأحاديث النهي عن الطيرة والشؤم.
(4)
3) القول الثالث:
وهو الراجح -والله أعلم-: في هذه المسألة وهو القول بظاهر حديث الإثبات: (إنما الشؤم في ثلاثة..)، ولكنَّ الفرق بيَّنٌ واضح بين تشاؤم الجاهلية الذى بُنى على الظنون والهواجس العارية عن الواقع، وأنها مؤثرة بذاتها، وبين الشؤم الذى أثبته النص في هذه الثلاثة لأسباب ظاهرة متحققة فيها.
وهو قول مالك وابن قتيبة والشوكاني.
(5)
(1)
متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
ومن هذه المحامل ما قد ذهبت إليه عائشة-رضى الله عنها- حين خطّأت أبا هريرة -رضى الله عنه-في روايته للحديث بإثبات الشؤم في هذه الثلاثة، فَغَضِبَتْ غَضَبًا شَدِيدا وقالت: لم يسمع أبو هريرة، إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم (كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة) رواه أحمد (26088) وإسناده صحيح، وهذا القول ذهب إليه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (2/ 251)
(4)
قال ابن عبدالبر:
وقد يحتمل أن يكون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشؤم في ثلاثة في الدار والمرأة والفرس كان في أول الإسلام خبرا عما كانت تعتقده العرب في جاهليتها على ما قالت (عائشة) ثم نسخ ذلك وأبطله القرآن والسنن. وانظرالتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (4/ 243)
(5)
فيض القدير (2/ 560) شرح الزرقاني على الموطأ (4/ 602) والمعلم بفوائد مسلم (3/ 104) وأحاديث يوهم ظاهرها التعارض (ص/133)
* قلت:
ومما يرجح ذلك: أنه إذا تعارضت روايات الإثبات مع روايات النفي، قدمنا روايات الإثبات، فالمثبَت مقدَّم على المنفي.
* ثم يقال:
إن هذه رواية أبي هريرة -رضى الله عنه-وهو حافظ الأمة، الذى لو انفرد برواية لفظ لكان حجة، كيف وقد وافقه على رواية الحديث بالإثبات غيره من الصحابة: مثل ابن عمر وسعد بن أبي وقاص وجابر رضى الله عنهم. ولذلك قال الحافظ ابن حجر بعد ذكره الرواية عن عائشة -رضى الله عنها-بإنكار ذلك: ولا معنى لإنكار ذلك على أبي هريرة، مع موافقة من ذكرنا من الصحابة.
(1)
قال ابن الجوزي:
الخبر رواه جماعة ثقات فلا يعتمد على رد عائشة رضى الله عنها، والصحيح أن المعنى إن خيف من شئ أن يكون سبباً لما يخاف شره ويتشاءم به، فهذه الأشياء لا على السبيل التي تظنها الجاهلية من العدوى والطيرة، وإنما القدر يجعل للأسباب تأثيراً.
(2)
* ويكون تأويل الحديث: أن هذه الأعيان الثلاثة المذكورة قد يقع منها من الأمور المحسوسة المشاهدة ما يجعل المرء يتضرر إذا ما قارنها، وليس لمجرد هواجس وظنون كاذبة لا أساس لها كما هو في التطير المحرم، لذا يلزمه أن يفارق هذه الثلاثة التى ذكرها الحديث درءأً لشؤمها وشرها.
(3)
(1)
وانظر مفتاح دار السعادة (2/ 254) وفتح الباري (6/ 61)
(2)
كشف المشكل من حدبث الصحيحين (2/ 268) والإجابة لما استدركت عائشة على الصحابة (1/ 107)
(3)
وهذه الأمور المحسوسة قد ذكرها معمر في قوله: سمعت من تفسير الحديث: شؤم المرأة إذا كانت غير ولود، وشؤم الفرس إذا لم يغز عليها، وشؤم الدارفي جار السوء، أخرجه البيهقي في الكبري (16527) وسنده صحيح.
وانظر المعارج القبول (2/ 314)
وقد سئل الشيخ ابن العثيمين في " لقاءات الباب المفتوح": كيف التوفيق بين النهي عن الشؤم وقوله صلى الله عليه وسلم (الشؤم في ثلاثة)؟ =
=فقال: مراد النبي- صلى الله عليه وسلم -أن نفس هذه الأشياء قد يكون فيها شؤم، مثل أن يشتري سيارة فتكثر حوادثها، والمرأة تكون سليطة اللسان، والدار يضيق صدره إذا دخلها، فهذا هو شؤم هذه الأشياء، فليس هذا من الشؤم المنهي عنه الذي ليس له أصل.
قال ابن القيم:
فإخباره بالشؤم أنه يكون في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها وإنما غايته أن الله -سبحانه -قد يخلق منها أعياناً مشؤومة على من قاربها وسكنها، وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها، فهذا لون والطيرة الشركية لون آخر.
(1)
*ومما يؤيد هذا القول:
ما رواه سعد بن أبي وقاص-رضى الله عنه- عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" " مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ، مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ: الْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ ".
(2)
*وأما الرد على القول الأول:
الذى عارض رواية الإثبات بالحديث النافى الذى نصه (لا طيرة) فإن الشرع يؤخذ من مجموعه، فتحمل رواية النفى على العموم، ويُخص منها راوية الإثبات، فلا تعارض بين العام والخاص عند الجمع بين الأدلة، فكل طيرة محرمة لأنها مبنية على الظنون إلا ما خصه الدليل.
* وأما القول بالنسخ فلا يصار إليه إلا عند تعذّر الجمع والعلم بالتاريخ، وكلا الأمرين قد انتفى في مسألة الباب.
* ونختم مسألة الطيرة بمبحث مهم وهو " الفأل الحسن"
إذا كان الشرع قد حرّم الشؤم والتطير وعدَّه شركاً، لكنه فقد فتح باباً آخر من الفأل الحسن الذي يدخل السرور والانشراح على الصدر، ويجعل المرء مستبشراً بما سيمضي له في قدر الله غير وجل.
(1)
مفتاح دار السعادة (2/ 257)
(2)
أخرجه أحمد (1445) والحاكم (2/ 144) وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي، وانظرالصحيحة (282)
عن أبي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -يَقُولُ:
«لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الفَأْلُ» قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: «الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ» .
(1)
*ومن صور تفاؤل الرسول- صلى الله عليه وسلم بالكلم الطيب:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ-رضى الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -كَانَ يُعْجِبُهُ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَنْ يَسْمَعَ: يَا رَاشِدُ، يَا نَجِيحُ.
(2)
*وعن عبد الله بن السائب رضي الله عنه أَنَّ سُهَيْلًا قَدْ أَرْسَلَهُ قومه عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم:(أَتَى سُهَيْلٌ، سَهَّلَ اللَّهُ أَمْرَكُمْ)
(3)
-قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والفأل الذي يحبه الله هو أن يفعل الأمر أو يعزم عليه متوكلاً على الله فيسمع الكلمة الحسنة التي تسره، مثل أن يسمع:"يا نجيح، يا مفلح، ياسعيد، يا منصور "، ونحو ذلك، كما لقى صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة رجلاً فقال: ما اسمك؟ قال: بريدة، قال:" يا أبا بكر بَرُدَ أمْرُنا ".
(4)
* سؤال: ما الفرق بين الطيرة المحرمة والفأل الحسن؟؟
1 -
أما الطيرة فهى شرك حرَّمه الشرع لما فيه من سوء ظن بالله عز وجل -وتوقع للبلاء والسوء بناءً على الأوهام والظنون الكاذبة.
أما الفأل الحسن: فهو حسن ظن بالله عز وجل، والعبد مأمور أن يحسن الظن بربه عز وجل.
2 -
المتطير قد ضعف تعلُّق قلبه بالله وتوكله عليه، فترى قلبه مشوّشاً مشغولاً بما يتطير به من مسموع أو مرأي، معتقداً في أسباب هى من ظن الجاهلية.
أما صاحب الفأل الحسن: فقلبه متوكل على الله -عزوجل- متعلِّق به، معتقد في حسن تدبير الله له، مستأنساً في ذلك بما يرد على سمعه من الكلم الطيب.
(1)
متفق عليه.
(2)
أخرجه الترمذى (1616) انظر صحيح الجامع (4978) ومعني يا راشد: يا واجد الطريق المستقيم، ومعني يا نجيح: يا من قضيت حاجته.
(3)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (915) قال الألبانى: حسن لغيره.
(4)
مجموع الفتاوى (23/ 67)
قال العلامة السعدي:
والفأل الحسن لا يخل بعقيدة الإنسان ولا بعقله، وليس فيه تعليق القلب بغير الله، بل فيه تقوية النفوس على المطالب النافعة، أما الطيرة ففيها تعلق القلب بسماع أو رؤية ما يكره، فتراه يترك ما عزم عليه، وهذا من ضعف التوحيد والتوكل ومن طرق الشرك ووسائله.
(1)
*لذا فإن الفأل والطيرة يتفقان ويفترقان:
1 -
يتفقان: في التأثير إقداماً أو إحجاماً، حيث أن المتطير يقدم على الشيء أو يحجم عنه لرؤية الشيء أو لسماع الصوت، كذلك صاحب الفأل يقدم على الشيء بسماع كلمة طيبة، فالأول محرم والثاني جائز محمود.
2 -
يفترقان: أما المتطير فيمضي أو يحجم متوكلا على حركة الطير، وقلبه معلق بما رأي أو سمع، أما صاحب الفأل الحسن فيضي متوكلا على الله عز وجل، يعلم أن شأنه معلق بقدر الله لا بأحد سواه.
…
وبعد ذكر الداء الذي هو التطير يأتيك الدواء، وذلك بأمور:
1 -
الأول: ذكر كفارة التطير:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضى الله عنهما-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟، قَالَ:
أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ.
(2)
2 -
الثاني: حسن التوكل على الله عز وجل:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ-رضى الله عنه-عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -قَالَ:
"الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، ثَلَاثًا، وَمَا مِنَّا إِلَّا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ".
(3)
(1)
القول السديد في مقاصد التوحيد (ص/106)
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد (710) وأبوداود (3910) والترمذي (1614)، قال الترمذي: حسن صحيح. وانظر الصحيحة (429)
تنبيه مهم:
جملة «وما منا، ولكن يذهبه الله بالتوكل» ، هي مدرجة في الحديث من كلام ابن مسعود، قاله أحمد، كما نقله البيهقي في «الشعب» ، قال الخطابي: قال البخاري: كان سليمان بن حرب ينكر هذه الجملة، ويقول:
هذا عندي من كلام ابن مسعود. ذكر الترمذي ذلك في العلل الكبير (2/ 690 - 691)
وصوَّبه ابن القيم في "مفتاح دار السعادة"(3/ 284) وابن حجر فى الفتح (10/ 213). وإليه مال جمع من الحفاظ كالبخاري والترمذي والمنذري وغيرهم.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم -معصوم من أن يقع في الطيرة.
ومن العلماء من جعل جملة: (وما منا....) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وتأولها بمعني: وما من أمة المسلمين، والراجح الأول، والله أعلم.
وانظررسالة الشرك ومظاهره (ص/221)
3) الثالث: أن يمضي في أمره بلا تردد:
عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ -رضى الله عنه- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا نَتَطَيَّرُ فى الجاهلية. قَالَ: "ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ ".
(1)
والطيرة الشركية هي الانقباض القلبي الذي يستتبع عملاً بموجبه من إمضاء أو رد؛ ولهذا علَّق النهي بالعمل بموجب الطيرة، فقال:" فَلَا يَصُدَّنَّكُمْ "، أما مجرد الانقباض القلبي فهو انفعال لا يتعلق به التكليف، ولا يكاد يسلم منه أحد، لذا قال ابن مسعود رضي الله عنه:
" وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ".
يقول ابن الأثير: في هذا الكلام محذوف تقديره " وما منا إلا ويعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهة له "، فحذف ذلك اختصاراً، واعتماداً على فهم السامع ".
(2)
قال ابن القيم:
فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه.
(3)
* عودٌ إلى حديث الباب: وَ عَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.....
وهي الصفة الرابعة من صفات هؤلاء السابقين إلى الجنة بلا حساب ولا سابقة عذاب، وهي التوكل على الله عز وجل، فما هو التوكل؟؟
التوكل: هو صدق اعتماد القلب على الله -عز جل- في استجلاب المنافع ودفع المضار، من أمور الدنيا والآخرة مع الأخذ بالأسباب.
(1)
أخرجه مسلم (121) وأبوداود (3909)
(2)
جامع الأصول (7/ 630)
(3)
مفتاح دار السعادة (2/ 234)