الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق
نص الحديث:
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ:«الْجَمَاعَةُ» ، وفي رواية:«مَا كان على مِثل ما أَنَا عَلَيْهِ اليومَ وَأَصْحَابِي» .
تخريج الحديث، وطُرقه:
هذا الحديث مستفيض، فقد ورد من حديث أبي هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وأنَس بن مالك، وعَوف بن مالك الأَشجَعِيّ، وأبي أُمامة الباهليّ، وسعد بن أبي وَقّاص، وعمرو بن عَوف المُزَنيّ، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي الدَّرداء، وواثِلة بن الأَسقع رضي الله عنهم.
ورواية هذا الجمع الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب تَرقى بالحديث إلى حد التواتر، أوما هو قريب منه.
كما أن كثيراً من هذه الأحاديث أسانيدها نظيفة؛ كحديث أبي هريرة، ومعاوية، وعوف بن مالك، وأبي أمامة وغيرهم.
وعلى فرْض أن أسانيد هذه الأحاديث في مفرداتها ضعف، فلا يشك من له أدنى
خبرة بالصناعة الحديثية أن ضعفها ليس شديداً، وهي بذلك ترتقي إلى درجة الصحة والثبوت والاحتجاج.
أضف إلى ذلك أن أئمة الصنعة الحديثية قد حكموا على حديث (الفرقة الناجية) بالثبوت ولم يختلفوا في تصحيحه، ودُونَك سردًا بأسمائهم ومواطن قولهم:
أولاً:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال عنه الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وقال الحاكم (1/ 128): "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي.
ثانياً:
حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
قال الحاكم: "هذه أسانيد تقوم بها الحجة في تصحيح هذا الحديث"، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ ابن حَجَر في تخريج أحاديث الكَشّاف (ص/ 63)"حديث حسن".
ثالثاً:
قال شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى](3/ 345): "الحديث صحيح مشهور في السنن والمسانيد".
قال الشاطبي في [الاعتصام](2/ 186): "حديث تفرُّق الأمة صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه". وقال الحافظ ابن كَثير في [تفسيره](2/ 482):
"هو حَدِيثٌ مَرْوِيٌّ فِي الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضاً".
كذلك فقد ذكره السخاوي وأسهب في سرد طرقه في "الأجوبة المرضية"(2/ 569)
رابعاً:
وممّن نص على ثبوته: عبد القاهر البَغداديّ في [الفَرْق بين الفِرَق]، فقال:"للحديث الوارد على افتراق الأمة أسانيدُ كثيرة".
خامساً:
وكذلك العلامة الأَلباني قد عقدَ في «الصحيحة» (204/ 205) بحثاً حديثياً نفيساً، وفنَّد شبهات المخالفين المضِّعفين للحديث، وردَّ عليها.
كل هؤلاء الأعلام الفُحول جزموا بصحة الحديث وثبوته، خلافاً لبعض المعاصرين الذين تكلموا في غير فنهم فأتَوْا بالعجائب!
ويمكن الجزم بتلقي أئمة الحديث هذا الحديثَ بالقبول بطريقتين:
1) كثرة أصحاب السنن، والمسانيد، والمعاجم، وكتب التراجم، والعقائد الذين روَوْا هذا الحديث دون إنكارٍ لمتنه.
2) كثرة الكتب التي صُنفت في «الملل والنحل» ، منها:[الفصل في الملل والأهواء والنِّحَل] لابن حزم، و [الفرْق بين الفرَق، وبيان الفرقة الناجية] لعبد القاهر البغدادي، و [مقالات الإسلاميين] لأبي الحَسن الأشعريّ
(1)
وممن صححه: الذهبي، والعراقي، والشاطبي، والبيهقي، والبَغَوي، وابن حَجَر، وابن كَثير، والحاكم، والذَّهَبي، والتِّرمذي، والسيوطي، وابن الوزير، وقال فيه السخاوي: رجاله موثقون، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. فهوحديث أتى من جملة من الطرق يقوى بعضها بعضاً، فيرتقي إلى الصحة. والله أعلم
(2)
.
وقد ذكره الكتاني في كتابه [نَظْم المتناثر من الحديث المتواتر/ 18]. وكذلك عدَّه الإمام السيوطي من الأحاديث المتواترة
(3)
، ولكن دعوى القول بتواتره فيها نظر، بل نقول: إن التواتر في هذا الحديث تواترٌ معنويّ، فقد جاءت جملة من الأحاديث تحمل المعنى نفسَه، مثل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً» ، وكذلك حديث الحوض، وأنه سيرِد ناس على الحوض، ثم يردُّون عنه، لأنهم قد خالفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا واختلفوا.
فالحاصل أن هذا الحديث حديث متواتر من حيث المعنى.
* وقد تكلم البعض في تضعيفه، فمنهم من ضعفه بالرأي، ومنهم من ضعَّفه من ناحية إسناده، والذين ضعفوه بالرأي قالوا:
إنه بناءً على هذا الحديث سيكون أكثر
(1)
بشرى المشتاق لحديث الافتراق للشيخ سليم الهلالي.
(2)
قد صُنفت رسائل في جمع طرق حديث الافتراق، وبيان ألفاظه ومَخارجه على سبيل التفصيل، ومن ذلك: دفْع المِراء عن حديث الافتراق لحمد العثمان.
(3)
فيض القدير (2/ 21).
هذه الأمة هَلْكى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة» .
يخالف ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، أن أمته نصف أهل الجنة، كما ورد ذلك في الصحيحينِ.
الرد على هذه الشبهة:
قال أبو العباس ابن تيمية: "الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة، وهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية، فضلاً عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة".
(1)
.
يقول الإمام الصَّنعانيّ:
"هذه الفرق المحكوم عليها بالهلاك قليلة العدد، لا يكون مجموعها أكثر من الفرقة الناجية. فلا يتم أكثرية الهلاك، فلا يرِد الإشكال.
وإن قيل يمنع عن هذا أنه خلاف الظاهر من ذكر كثرة عدد فرق الهلاك، فإنّ الظاهر أنهم أكثر عدداً!! قلتُ: ليس ذكر العدد في الحديث لبيان كثرة الهالكين، وإنما هولبيان اتساع طرق الضلال وشعبها ووحدة طريق الحق". اهـ
(2)
.
قال الشيخ صالح المُقْبلي:
"إن الناس عامة وخاصة، فالعامّة آخِرُهم كأولهم، كالنساء والعَبيد والفَلّاحين والسُّوقة ونحوهم ممن ليس من أمر الخاصة في شيء، فلا شك في براءة آخِرهم من الابتداع كأولهم، وهم الأكثر عدداً قديماً وحديثاً، وأما الخاصة فمنهم مبتدع اخترع البدعة وجعلها أصلاً يردُّ إليها صرائح الكتاب والسنة، ثم تبعه أقوامٌ مِن نَمَطِهِ في الفقه والتعصُّب، وهؤلاء هم المبتدعة حقّاً عند الله تعالى،
(1)
مجموع الفتاوى (3/ 345، 346).
(2)
افتراق الأمة إلى نَيِّفٍ وسبعينَ فِرقةً (ص/66).
وأفراد الفرق المبتدعة وإن كَثُرَت الفرق، فلعله لَا يكون مجموع أفرادهم جزءاً من ألف جزء من سائر المسلمين؛ فتأملْ هذا تَسلَمْ من اعتقاد مُناقَضة الحديث لأحاديث فضائل الأمة المرحومة". اهـ
(1)
.
وعليه فهذه الفرق (كثرة في الأعداد، لا في الأتباع)
فإن قيل: حديث الباب معارض لما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:
(2)
يقال:
إن هذا الاختلاف الواقع بين فرق هذه الأمة -أمة الإجابة- هو اختلاف لا يؤدي بها إلى الخلود في النار، بل غاية ما فيه إنما هو استحقاق العذاب، ولا يعني بأنها مرحومة أنها لن تُعذَّب، بل تؤول الرحمة على نفي الخلود في النار، لا أصل العذاب.
*وثمة جواب آخر: أن قوله صلى الله عليه وسلم: «كلها في النار» غاية ما فيه: أن هذا الحديث من أحاديث الوعيد، فهذه الفرق قد أتت بما تستحق عليه العذاب، وأحاديث الوعيد قد يتخلَّف وقوعها لموانع أخرى، والتي منها: أن تدركهم رحمة الله تعالى، أو شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أو شفاعة الصالحين.
بل إن نجاة الفرقة الناجية نفسِها لا يلزم منها عدمُ تعذيبها، فهم نَجَوْا بعقائدهم نَعَم، لكنهم سيحاسبون على أعمالهم، والمخالف منهم والعاصي مستحق للعذاب.
(1)
العَلَمُ الشّامِخ في إِيثار الحقِّ على الآباء والمَشايخ (ص/ 414).
(2)
أخرجه أحمد (410) وأبوداود (4278) وذكره الألبانى في الصحيحة (959)، وقال:"قال الحافظ ابن حجر في " بذل الماعون ": " سنده حسن ".