المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ هل تفنى الجنة والنار - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌ هل تفنى الجنة والنار

و"سِجِّينٌ": الأرض السُّفْلَى؛ فالنَّار: في الأرض.

وقد رُوِيَ في هذا أحاديثُ، لكنها ضعيفة، ورُوِيَ آثارٌ عن السَّلف كابن عباس وابن مسعود، وهو ظاهر القرآن: قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، والذين كذَّبوا بالآيات واستكبروا عنها "لا شَكَّ أنّهم في النّار".

(1)

* وفي حديث البراء رضي الله عنه في حق الكافر، يقول الله:«اكْتُبُوا كِتابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الأَرْضِ السُّفْلَى، فتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحاً» .

(2)

* قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى (كلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)) (المطففين: 7):

والصحيح أن "سجينا" مأخوذ من السجن، وهو الضيق؛ فإنَّ المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق، وكل ما تعالى منها اتسع، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها، حتى ينتهي السفول المطلق، والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة.

(3)

والحاصلُ: أنّ الجنة فوقَ السماء السابعة، وسَقْفُها العرشُ، وأنّ النار في الأرض السابعة على الصحيح المعتمَد، والله أعلم.

(4)

مسألة:‌

‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

؟

ذهبَ الجهمية إلى القول بفناء الجنة والنار.

وهو قول الجَهْم بن صَفوانَ، ووافقه عليه أبو الهذيل العلّاف شيخُ المعتزلة، وبعضُ الروافض.

وقالوا: إذا كانت الجنة والنار حادثتينِ، فما ثبتَ حُدوثُه استحال بقاؤه، وزاد على

(1)

الشرح الممتع (3/ 174 - 175 (.

(2)

أخرجه أحمد (18534)، وسنده صحيح.

(3)

: تفسير القرآن العظيم (4/ 198)

(4)

لوامع الأنوار البهية (2/ 239).

ص: 210

ذلك غيرهم فقالوا: بل يتحول عذابها إلى نعيم، كما قال بذلك ابن عربي وعبد الكريم الجيلي.

(1)

وقد حكى الإمام أحمد في آخر كتابه [الرد على الزنادقة] مذهبَ الجهمية أنّ النار والجنة تَفنيانِ، وردَّ عليهم ذاكراً النصوصَ الدالة على عدم فنائهما.

(2)

قال ابن القيم:

"وأما القول بفناء الجنة والنار فهو قولٌ قالَهُ جهمُ بنُ صفوانَ إمامُ المعطِّلة الجهمية، وليس له فيه سلفٌ قَطُّ من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الإسلام، ولا قال به أحدٌ من أهل السنة، وهذا القول مما أنكره عليه وعلى أتْباعه أئمةُ الإسلام، وكفّروهم به".

(3)

*مذهب أهل السنة والجماعة:

الجنة والنار حق، وهما موجودتانِ الآن، ولا يفنيان.

وقد تَضافرتْ أدلة الكتاب والسنة على تقرير هذا المعتقَد، فمِن أدلة القرآن:

قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)) (النساء: 168 - 169)، وقال عزوجل {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 37]، وقال تعالى {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75]،

وقال تعالى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن: 23]، وقال تعالى {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحِجْر: 48].

** ومن أدلة السنة:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى

(1)

وانظر [مقالات الجَهْم](ص/659)، وإبطال القول بوحدة الوجود (ص/71) و التبصير في الدين (ص/309) وتفسير المنار (8/ 60)

(2)

قال الإمام أحمد: "تأوّلت الجهميةُ مِن قول الله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد: 3]، فقالوا: يكون الله الآخِرَ بعدَ الخَلْق، فلا يبقى شيء ولا أرض ولا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عقاب ولا عرش ولا كرسيّ". [الرد على الزنادقة](ص/168)

(3)

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص/348).

ص: 211

بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ، خُلُودٌ فَلا مَوْتَ»، ثُمَّ قَرَأَ:

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39].

(1)

** وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ-رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ» .

(2)

* الإجماع:

قال أبو منصور البغدادي:

أجمع أهل السنة وكل من سلف من أخيار الأمة على دوام بقاء الجنة والنار، وعلى دوام نعيم أهل الجنة، ودوام عذاب الكفرة في النار.

(3)

قال ابن حزم:

"اتفقت فِرق الأمة كلُّها على أنّه لا فَناءَ للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لِعذابها، إلا الجهمَ بنَ صَفوانَ، وأبا الهذيل العلّافَ، وقوماً من الروافض".

(4)

وممن نقل هذا الإجماع:

الإمامان الحافظان الرازيَّان أبو حاتم وأبو زرعة كما في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة"(1/ 199)، ومرعي بن يوسف الحنبلي في رسالته " توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين"(ص/64)، وصدِّيق حسن خان في " يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر النار وأصحاب النار "(ص/117)

** مسألة فناء نار الكافرين:

قد نُسبت هذه المقالة لعدد من الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم:

عمر وابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، وهنا

(1)

رواه البخاري (4730)، ومسلم (5087).

(2)

أخرجه مسلم (185).

(3)

أصول الدين (ص/238)

(4)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 145).

ص: 212

أمران:

1 -

الأول:

أنه لم يصحَّ ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شيء.

(1)

الثاني:

ما روي في ذلك واحتمل سنده الصحة، مثل ما ذكره ابن القيم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه - قال:

ما أنا بالذي لا أقول أنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد وقرا قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الآية.

(2)

فيقال فيه أمور:

1 -

الأول:

أن يتم تأويله ليكون موافقاً لما هو محكم من أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة على عدم فناء نار الكافرين، فيؤول كما قال عبيد الله -وهو أحد رواة أثر أبي هريرة السابق -:

" كان أصحابنا يقولون يعني به الموحدين"، فحمل هذا الأثر على الطبقة الي فيها عصاة المسلمين متعيّن؛ وذلك لأنه به يحصل الجمع بين الأدلة.

ونص على مثل صاحب الزواجر، وذكر توجيه الكلام على التنزل بصحة سنده، فقال:

" لم يصح عن الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شيء، وعلى التنزل فمعنى كلامهم كما قاله العلماء ليس فيها أحد من عصاة المؤمنين، أما مواضع الكفار فهي ممتلئة بهم، لا يخرجون عنها أبداً، كما ذكره الله -تعالى- في آيات كثيرة ".

(3)

ونص على مثل هذا التوجيه الخازن في تفسيره، وزاد عليه قائلاً:

"وهذا إن صح عن ابن مسعود وأبي هريرة-رضي الله عنهم فمحمول عند أهل السنة على إخلاء أماكن المؤمنين الذين استحقوا النار بعد إخراجهم منها، لأنه ثبت بالدليل الصحيح القاطع إخراج جميع الموحدين وخلود الكفار فيها، أو يكون محمولًا على إخراج الكفار من حر

(1)

وقد ذكرَ طرفاً من ذلك تقيُّ الدين السبكي في رسالته [الاعتبار ببقاء الجنة والنار]، ثم ردَّ عليها، وبيَّن ضعف الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب.

*وممن صنَّف في ذلك: سليمان بن ناصر العلوان في رسالة "تنبيه المحتار على عدم صحة القول بفناء النار عن الصحابة الأخيار"، فقد أتى على كل الأثار التي نُسبت للصحابة رضي الله عنهم-وبيّن ضعفها.

(2)

وانظر حادي الأرواح (ص/359) والدر المنثور (4/ 478)

(3)

وانظر "الزواجر عن اقتراف الكبائر"(1/ 37)

ص: 213

النار إلى برد الزمهرير ليزدادوا عذاباً فوق عذابهم، والله أعلم.

(1)

2 -

الوجه الثاني:

إن أبي المخالف إلا أن يحمل ما هذا الأثر على فناء النار، فإنه يقال: هذا قول صحابي، وقول الصحابي إذا خالف القرآن أو خالف السنة لا يقبل، بل نقل ابن عقيل الإجماع على أن قول الصحابي على صحابي مثله ليس بحجة، فكيف إذا خالف القرآن والسنة وإجماع الأمة؟!!

* تنبيه مهم:

قد نُسب لشيخ الإسلام ابن تيمية ولتلميذه ابن القيّم القولُ بفناء نار الكافرين.

(2)

قال الشيخ مقبل الوادعي:

"ورَدِّي على الإمام الشَّوكاني لا يُنقص مِن قَدْره، وليس هو أوّلَ واحدٍ أخطأ، فذَلِكُمْ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية، وتلميذُه ابنُ القيّم زَلّتْ أقدامُهما في القول بفناء النار، وقد ردَّ عليهما الصَّنعانيُّ في كتاب " رفع الأستار في الرد على القائلين بفناء النار "!!

(3)

*نقول أولاً: أما نسبة هذا القول إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فهي باطلة؛ وذلك لأمورٍ:

1 -

الأول:

أن شيخ الإسلام رحمه الله قد سئل عن حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«سبعة لا تموت ولا تفنى ولا تذوق الفناء: النار وسكانها واللوح والقلم والكرسي والعرش» ، أهذا الحديثُ صحيح أم لا؟

فأجاب:

"هذا الخبر بهذا اللفظ ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام بعض العلماء، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتُها وسائرُ أهل السنة والجماعة على أنّ من المخلوقات ما لا يعدم ولا يَفنى بالكُلّيّة، كالجنة والنار والعرش، وغير ذلك".

(4)

(1)

وانظر" لباب التأويل في معاني التنزيل "(2/ 504) ونص على مثله البغوي في تفسيره (2/ 403)

(2)

وممن نسب ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية ولتلميذه ابن القيّم السفَّاريني في لوامع الأنوارالبهية (2/ 235) والصنعاني في رسالة سمَّاها" رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار".

(3)

انظر مقدمة [تحفة الشاب الربّاني في الرد على الشوكاني](ص/11)، وهي رد على كتاب الشوكاني [بلوغ المُنَى في حُكم الاستمناء].

(4)

مجموع الفتاوى (18/ 307)، وقد نص على مثله في "نقض التأسيس"(1/ 581)، وانظر "توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين"(ص/35)

ص: 214

2 -

الثاني:

أن شيخ الإسلام قد ذكرَ قول الجهم بن صفوان إنّ الجنة والنار تَفنيانِ ويَفنَى أهلُهما، فقال معقِّباً:"وقال أهل الإسلام جميعاً: ليس للجنة والنار آخِرٌ، وإنهما لا تزالان باقيتينِ، وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعَّمون، وأهل النار في النار يُعذَّبون، ليس لذلك آخِرٌ".

(1)

*ويقول رحمه اللهوهو يقرر شذوذ هذا القول:

" يقول هؤلاء: لا نسلم أن ما كان وعدم أو ما سيكون، إذا قدّر أن بعضه أقل من بعض يجب أن يكون متناهياً، والمؤمنون بأن نعيم الجنة دائم لا ينقضي من المسلمين وأهل الكتاب يسلّمون ذلك، ولم ينازع فيه من أهل الكلام إلا الجهم ومن وافقه على فناء النعيم، وأبو الهذيل القائل بفناء الحركات، وهما قولان شاذان قد اتفق السلف والأئمة وجماهير المسلمين على تضليل القائلين بهما، ومن أعظم ما أنكروه السلف والأئمة على الجهمية: قولهم بفناء الجنة.

(2)

3 -

الأمر الثالث:

أن شيخ الإسلام ابن تيمية لمّا ذكرَ طرفاً ممّا سيكون يوم القيامة من قبض الأرض وطيّ السماوات، قال:

" ثمَّ أخبرَ ببقاء الجنة والنار بقاءً مُطلَقاً ".

(3)

ويقول رحمه الله:

وكذلك لم يقل أحد من سلف الأمة وأئمتها، أن السماوات والأرض لم تخلقا من مادة، بل المتواتر عنهم أنهما خلقتا من مادة وفي مدة، كما دل عليه القرآن، قال الله تعالى:{أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9 - 12]

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ

(1)

دَرْء تعارُض العقل والنقل (2/ 503).

(2)

المصدر السابق (2/ 502)

(3)

بيان تلبيس الجهمية (1/ 157).

ص: 215

عَلِيمٌ (29)} [البقرة: 29].

وهذا الذي يذكره كثير من أهل الكلام، الجهمية ونحوهم في الابتداء، نظير ما يذكرونه في الانتهاء، من أنه تفنى أجسام العالم حتى الجنة والنار، أو الحركات، أو ينكرون وجود النفس، وأن لها نعيمًا وعذابًا، ويقولون: إن ذلك إنما هو للبدن بلا نفس، ويزعمون أن الروح عرَض من أعراض البدن، ونحو ذلك من المقالات التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، إذ كانوا فيها هم والفلاسفة على طرفي نقيض، وهذا الذي ابتدعه المتكلمون باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها.

(1)

* ومما يُثبت أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية لا يقول بفناء نار الكافرين:

أنّ النصوص التي يستدل بها القائلون إنّ أبا العباس ابنَ تيمية يرى فناء النار- هي نصوصٌ مجملة، غير صريحة في ذلك،

أمّا النصوص التي يستدل بها القائلون إنه يرى أبدية النار- فهي صريحة في أنه يرى أبديّتها.

ومن القواعد المقرّرة عند أهل العلم أن "المجمل مِمّا في نصوص الكتاب والسنة يُرَدُّ إلى المُحْكَم"، فلا يَتعلق بالمتشابِه والمُجمل ويَتركُ المُحْكَمَ والمُبينَ إلا أهلُ الزَّيغ والضلال.

* ومما يؤيِّد ذلك:

أن ابن حزم لما ذكر في كتابه " مراتب الإجماع " هذه المسألة فقال:

"وأن النار حقٌّ، وأنها دار عذاب أبداً، لا تفنى، ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية"، فإن شيخ الإسلام لم يتعقَّب هذا الإجماع كما تعقَّب غيرها من المسائل في نقده لهذه المراتب.

(2)

*ثم يقال:

لو تنزلنا مع الخصم - تجوّزاً - وسلّمنا بصحة نسبة هذا القول لشيخ الإسلام -ولم يُنقل عنه نصٌّ صريحٌ على ذلك- فإنّ غاية ما فيه:

أن يكون رأياً رآه في أول حياته، ثم تبيَّن له خلافُه؛ وذلك جَمْعاً بين ما ثبتَ عنه من نقل الاتفاق على عدم فناء النار، وما يُنسب له من القول بفنائها،

(1)

المصدر السابق (1/ 152)

(2)

انظر مراتب الإجماع (ص/343) و"توقيف الفريقين على خلود أهل الدارين"(ص/35)

ص: 216

ولا يمكن أن يَنقل الاتفاق على ذلك ثم يقولَ بخلافه! وقد قال شيخ الإسلام بحياة الخَضِر عليه السلام، ثم تبيَّن له الصوابُ في خلافه.

(1)

أما نسبة هذا القول -الذي هو فناء نار الكافرين- إلى ابن القيم:

فالذي يَظهر -بعد البحث في هذه المسألة- أنّ ابن القيم له في مسألة فناء النار ثلاثة أقوال:

*القول الأول:

ذكر فيه الخلاف في مسألة القول بفناء النار، ونقلَ جملة من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، ومال إلى تصحيحها، كما نَفَى دلالة القرآن على عدم فناء نار الكافرين، فقال:

"فأينَ في القرآن دليلٌ واحدٌ يدل على بقاء النار وعدم فنائها؟ نعم، الذي دل عليه القرآن:

أنّ الكفار خالدون في النار أبداً، وأنهم غيرُ خارجينَ منها، وأنه لا يُفَتَّرُ عنهم عذابُها،

وأنهم لا يموتون فيها؛ وهذا كلُّه مِمّا لا نزاع فيه بين الصحابة رضي الله عنهم والتابعين

وأئمة المسلمين، وليس هذا مَوْرِدَ النزاع، وإنما النزاعُ في أمرٍ آخرَ، وهو أنّه هل النار أبَديّة، أو مما كتب الله عليه الفناءَ؟

وأمّا كونُ الكفار لا يخرجون منها، ولا يفتَّر عنهم من عذابها، ولا يُقضى عليهم فيموتوا،

ولا يدخلون الجنة حتى يَلِجَ الجملُ في سَمِّ الخِياط، فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة، وإنما خالف في ذلك مَن قد حَكَيْنا أقوالهم من اليهود والاتّحادية، وبعض

أهل البدع".

(2)

*القول الثاني:

وقد ذكر فيه التوقُّف في هذه المسألة، فقال:

"إنْ قيل: إلى أين انتهى قدمك في هذه المسألة العظيمة؟ قيل: إلى قوله -تعالى-:

{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:

(1)

قد قال شيخ الإسلام بحياة الخَضِر عليه السلام وأنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم [مجموع الفتاوى (4/ 339)]، ثم لمّا تبيَّن له أن الصواب في خلافه قال:"والصواب الذي عليه المحقِّقون: أنه ميتٌ، وأنه لم يدرك الإسلامَ، ولو كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لَوجبَ عليه أن يؤمنَ به، ويجاهدَ معه". [مجموع الفتاوى (27/ 100)]

(2)

حادي الأرواح (ص/363). وتلاحظ هنا أنّ ابن القيم يفرِّق -لِرأيٍ رآهُ- بينَ مسألة خلود الكفار في النار، والقول بفناء النار.

ص: 217

107]، وإلى هُنا انتهى قدم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه".

(1)

*القول الثالث:

وهو القول بما أجمع عليه أهل السنة، وهو دوام نار الكافرين، فقال فى كتابه [الوابل الصَّيِّب] -وهو من أواخر ما ألّفَ:

"ولمّا كان الناس على ثلاث طبقاتٍ: طيِّبٌ لا يَشِينُهُ خبثٌ، وخَبيثٌ لا طيبَ فيه، وآخَرونَ فيهم خبثٌ وطيبٌ- كانت دُورُهم ثلاثاً:

دار الطيب المَحْضِ، ودار الخبيث المحض، وهاتان الداران لا تَفنيانِ، ودارٌ لِمَنْ معه خبثٌ وطيبٌ، وهي الدار التي لا تفنى، وهي دار العصاة، فإنه لا يبقى في جهنّمَ مِن عُصاة الموحِّدينَ أحدٌ، فإنّهم إذا عُذِّبوا بقدر جزائهم أُخْرِجوا من النار فأُدْخِلُوا الجنةَ، ولا يبقى إلا دارُ الطيب المحض، ودارُ الخبث المحض".

(2)

وقال في كتابه "طريق الهجرتينِ ":

"فاقتضتْ حكمتُه -سبحانه- أنْ خلقَ داراً لِطالِبي رِضاهُ، العاملينَ بطاعته، المُؤْثِرِينَ لِأَمْره، القائمينَ بمَحابِّه، وهي الجنة، وجعلَها محلَّ كلِّ طيِّبٍ من الذوات والصفات والأقوال، وخلقَ داراً أخرى لِطالبي أسبابِ غَضَبه وسَخَطه، المُؤْثِرينَ لأغراضهم وحُظوظهم على مَرْضاته، العاملينَ بأنواع مخالَفته، القائمينَ بما يَكره من الأعمال والأقوال، وهي جهنّمُ، وأودَعَها كلَّ شيء مكروهٍ، وجعلَ الشر بحَذافيره فيها، وجعلَها محلَّ كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال، فهاتان الداران هما دارا القَرار".

(3)

*وقال في النونية وهو يسرد عقيدة جهم:

وقضى بأنّ النَّار لَم تُخْلَقْ وَلا

جنّاتُ عدْنٍ بلْ هُمَا عَدَمَانِ

فإذا هُمَا خُلِقَا ليومِ معادِنَا

فهُما عَلى الأوقاتِ فانِيَتانِ.

(4)

* نقول:

ولقد غلَّبَ بعضُ الباحثينَ الظنَّ أنّ ما قاله ابن القيم في [الوابل الصيِّب]

(1)

المصدر السابق (ص/387).

(2)

الوابل الصيِّب (ص/20)

(3)

طريق الهجرتين (ص/161)

(4)

الكافية الشافية بشرح الهرَّاس (1/ 39)

ص: 218

و [طريق الهجرتينِ] -وهو الذي يوافق فيه جماهيرَ أهل السنة مِن عدم فناء نار الكافرين، وهو الناسخُ لِما ذكرَه في [حادي الأرواح] و [شفاء العَليل].

(1)

*يدل عليه:

أن كتابه "الوابل الصيّب"، والذي يقرر فيه القول بعدم فناء نار الكافرين، قد صنَّفه عندما كان مسجوناً مع شيخه أبي العباس ابن تيمية، وذلك قبل بوفاة ابن القيم بفترة قليلة، وعليه يقال أن كل كلام له في هذه المسألة جاء مجملاً فهو مردود إلى ما ذكره في "الوابل الصيّب"، فيكون كلامه هذا المتأخر-ولو على أقل احتمال- ناسخاً لما ذكره في كتبه المتقدمة.

* والخلاصة هذا المبحث:

أن القول بعدم فناء النار هو أقرب الأقوال لمذهب ابن القيم؛ وذلك لأنه مِن آخرِ ما كَتَبَ،

والمقرَّر عند أهل العلم:

" أنّ العالِم إذا كان له قولان لم يتبين المتأخِّر منهما، فإنّه يرجَّحُ منهما ما كان موافقاً لمذهب السلف، وقد قُرِّرَ أنّ مذهبَهم: عدمُ فناء النار -أعاذنا الله منها وجميعَ المسلمينَ! -.

* ثم نقول:

أمّا الآثارُ التي استدل بها من يقول بفناء النار، فإنّ الصنعانيّ -في كتابه [رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار] - ومحقِّقَه العلّامة الألبانيّ قد بيَّنا أنها آثارٌ لا تصحُّ، والصحيح منها غير صريح؛ فكيف يخالَفُ بها الإجماعُ المنقول عن سلف الأمة وأئمتها؟!

ثم نقول:

ومما يؤيد أن ابن تيمية وابن القيم لم يقولا بفناء النار:

أنه لم يَنقل أحدٌ من تلامذتهما عنهما هذا القولَ، وتلاميذهما علماءُ محقِّقونَ، وهم كُثْرٌ، أمثال الذهبي، وابن رجب، وابن كثير، والمزّيّ، وابن مُفلح.

(1)

وقد أيَّد هذا الاستنتاجَ ببعض الحُجَج الدكتور عليُّ بن علي جابر الحربي اليماني المدرس بجامعة أمّ القرى في جزء سمَّاه [كشف الأستار لإبطال ادّعاء فناء النار]، وهي رسالة في تبرئة أبي العباس ابن تيمية وتلميذِه ابن القيم مِن القول بفناء النار.

ص: 219

* وهنا تنبيه:

أنه لم يحصل إجماع على تخطئة القول بفناء نار الكافرين وعَدِّه من البدع -كما زعم بعضُهم، فالمسألة خلافية، وإن كان الجمهور لا يرَوْن القول بذلك، لكنه لم يتمَّ إجماعٌ على إنكاره، وإنما هو من المسائل الخلافية التي لا يُبتدع فيها.

فالقول بفناء النار وَحْدَها - وإنْ كان مخالفاً للصواب ومجانِباً للحق ولكنّ وصْفُه بالبدعة فضلاً عن وصفه بالكفر محلُّ نظرٍ؛ لاعتماد القائلين به على اجتهادٍ في فَهْم بعض النصوص الشرعية وآثارٍ تُروَى عن السلف في ذلك.

* عَودٌ إلى حديث الباب:

قوله صلى الله عليه وسلم: «أدخلَه اللهُ الجنةَ على ما كان من عملٍ» :

قوله: «على ما كان من العمل» يحتمل أمرينِ:

أ) الأول:

أن يدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، على حَسَبِ أعمال كلِّ واحد منهم تكون الدرجات

(1)

، كما قال -تعالى-:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف: 19].

ب) الثاني:

يعني أنّ: مآل العبد هو الجنة ما دام آتياً بهذه الشهادات الخَمْس مَهْما وقع في ذنوب، وإنْ أصابه قَبْلَ ذلك ما أصابه.

قال القرطبيّ:

"قوله «على ما كان من عمل» أيْ: يُدخله الجنَّة -ولا بُدَّ- سواءٌ كان عمله صالحاً أو سيئاً، وذلك بأن يغفر له السيّئَ بسبب هذه الأقوال، أو يُربيَ ثوابَها على ذلك العملِ السيئِ، وكلُّ ذلك يحصل إن شاء الله -تعالى- لِمن مات على تلك الأقوال، إمّا مع السلامة المطلَقة، وإمّا بَعْدَ المؤاخَذةِ بالكبائر". اهـ

(2)

في قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ على ما كانَ منَ الْعَمَلِ» :

فيه ردٌّ على الخوارج والمعتزلة الذين يكفِّرون صاحب الكبيرة، ويخلِّدونه في النار إنْ مات مُصِرّاً عليها،

(1)

فتح الباري شرح صحيح البخاري (6/ 475).

(2)

الكوكب الوَهّاج شرح صحيح مسلم بن الحَجّاج (2/ 261).

ص: 220

وكذلك فيه ردٌّ على الجهمية وغُلاة المرجئة القائلين: إنه لا يضر مع الإيمان ذنبٌ.

فالحديث يمثل وسطية أهل السنة والجماعة بين هاتينِ الطائفتينِ.

وبيان ذلك: أنّ حديث الباب ردّ على المعتزلة في مقامينِ:

أحدهما: أنّ العصاة من أهل القِبْلة لا يخلَّدون في النار؛ لِعُموم قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن شَهِدَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ» .

الثاني: أنّ الله -تعالى- قد يعفو عن السيئات قَبْلَ التوبة واستيفاءِ العقوبة؛ فإنّ قولَه: «عَلَى ما كانَ مِنَ الْعَمَلِ» حالٌ مِن الهاء في قولِه: «أَدخلَهُ الجنةَ» .

(1)

** وأمّا المرجئة:

فكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه مِن العُمومات التي يحتجُّ بها المرجئة: قولُه «مَن شَهِدَ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ، وأنّ عيسى عبدُ اللهِ ورسولُه، وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ، ورُوحٌ منه- أدخلَهُ اللهُ الجَنّةَ» ، ونحوُ ذلك من النصوص.

(2)

** ولكنّ حديث الباب فيه ردٌّ عليهم:

حيث ورد في معنى قوله صلى الله عليه وسلم «أدخلَهُ اللهُ الجَنّةَ على ما كانَ مِنَ الْعَمَلِ» : أنّ المرء قد يؤاخَذُ على ذنوبه التي مات مصرّاً عليها، ثم يكونُ مآلُه إلى الجنة.

قَالَ البقاعي:

" (لا إلَهَ إلَّا اللهُ) أَي: انْتَفَى انْتِفَاءً عَظِيماً أَنْ يكونَ معبوداً بِحَقٍّ غيرُ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ، فَإِنّ هَذَا الْعِلمَ هُوَ أعظمُ الذِّكْرَى المُنجيةِ من أهوال السَّاعَة، وَإِنَّمَا يكونُ عِلماً إِذا كَانَ نَافِعاً، وَإِنَّمَا يكونُ نَافِعاً إِذا كَانَ مَعَ الْإِذعانِ وَالْعَمَلِ بِمَا تَقْتَضِيهِ، وَإلّا فَهُوَ جهلٌ صِرْفٌ".

(3)

-- قال الشيخ العلامة حمد بن محمد بن عتيق رحمه الله معلقاً على قوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ شَهِدَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ» :

"أيْ: مَن شهد أنْ لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ، وقامَ بوظائف هذه الكلمة من إخلاص

(1)

فيض القدير شرح الجامع الصغير (6/ 159).

(2)

مجموع الفتاوى (7/ 613، 614).

(3)

فتح الْمَجِيد (ص/ 38)، وتيسير الْعَزِيز الحميد (ص/ 56).

ص: 221

العبادة بجميع أنواعها لله، وتبرَّأَ مِن كل المعبودات سِواهُ، سواءٌ كان ذلك المعبودُ نبيّاً أو غيرَه، وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه، الصادقُ المصدوقُ، أفضلُ الرسلِ، فهو عبدُ اللهِ ورسولُه، أوجبَ اللهُ -تعالى- على الخلْق طاعتَه، ونهى عن عبادته، وأمرَ بإخلاص العبادة لله بجميع أنواعها، كما قال:{وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36]، وليس المُرادُ أنّ الإنسان إذا شهِد بهذا من غيرِ عملٍ بمقتضاه يحصل له دخولُ الجنة، بل المراد به: الشهادة لله بالتوحيد، والعمل بما تقتضيه شهادةُ أنْ لا إله إلا الله من الإخلاص، وما تقتضيه شهادة أنّ محمداً عبده ورسوله من الإيمان به، وتصديقه، واتّباعه".

(1)

وعليه، إنما تقوم الشهادتانِ على أركانٍ ثلاثة:

العلم، والعمل، والصدق.

بالعلم يباين طريقة النصارى، وبالعمل يباين طريقة اليهود، وبالصدق يباين طريقة المنافقين.

فهذه الطوائف الثلاث هي شر الطوائف على وجه الأرض، اليهود والنصارى والمنافقون.

بالعلم يُباين طريقة النصارى، وبالعمل يباين طريقة اليهود، وبالصدق يباين طريقة المنافقين.

(2)

تمَّ بحمد الله

(1)

إبطال التنديد باختصار كتاب التوحيد (ص 21)، والموسوعة العقدية (4/ 479).

(2)

شرح كتاب التوحيد للحازميّ (دروس صوتية - الدرس السابع والتسعون).

ص: 222