المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ قصة الكهان: - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌ قصة الكهان:

في ذلك الحدسَ والتخمين، مثل: قراءة الكَفّ والفنجان، أو رسم الخَطّ على الرِّمال.

وأما الكاهن فهو الذي يستطلع الأمور الغيبية من الغيب النِّسْبيّ؛ وذلك عن طريق مُسْتَرِقِي السمع

من الجِنّ الذين يأتون الكُهّانَ بالأخبار.

- قال الخطابي:

"الكاهن إنما يَتَعاطى الخبرَ عن الكوائن في مستقبَل الزمان، ويدّعي معرفة الأسرار، والعَرّاف هو الذي يتعاطى معرفة الشيء المسروق، ومكان الضّالّة، ونحوهما من الأمور".

(1)

الفائدة الثانية:‌

‌ قصة الْكُهَّان:

كان الكُهَّان منتشرينَ في جزيرة العرب قبل البعثة النبوية، وكان لكلِ كاهنٍ رَئِيٌّ من الجن يأتيه بالخبر من السماء، وقد ذكرَ الله -تعالى- عن الجن قولهم:{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8 - 9]، فإذا ما أوحى الله -تعالى- لملائكته الأمرَ من الوحي صَعِدَ الجنُّ ليَسْتَرِقُوا أخبارَ السماء؛ فتُرسَلُ عليهم الشُّهُبُ لتُحرقهم، فمن لم تُصِبْه الشهبُ ألقى إلى الكاهن الكلمةَ من الصِّدْقِ، فيَزيد عليها الكاهنُ مئة كَذْبةٍ، كما قال عز وجل:{يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 223]، فالجن يُلقون إلى الكَهَنة ما يسمعون من الملائكة عند استراق السمع، {وَأَكْثَرُهُمْ} أي: الكهنة {كَاذِبُونَ} ؛ لأنهم كانوا يَخْلِطون ما يستمعون بِكذبٍ كثيرٍ.

(2)

وقد ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ الكَلِمَةُ مِنَ الحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِئَةِ كَذْبَةٍ» .

(3)

** قال شيخ الإسلام ابن تَيميةَ:

"قد عَلِم الخاصّةُ والعامّة بالتجرِبة والتواتُر أنَّ

(1)

وانظر معالم السنن (3/ 104) والنهاية في غريب الحديث والأثر (4/ 215).

(2)

فتح الرحمن في تفسير القرآن لمجير الدين المقدسي (5/ 107).

(3)

أخرجه البخاري (6213) ومسلم (2228).

ص: 86

الأحكام التي يحكُم بها المنجِّمون يكون الكذب فيها أضعاف الصدق، والمنجِّمون قد خاطبتُهم بدِمشق، وحضرَ عندي رؤساؤهم، وبيَّنتُ فسادَ صناعتهم بالأدلة العقلية التي يعترفون بصحتها، وقال رئيسٌ منهم: واللهِ إنّا نَكذب مئة كَذْبةٍ حتى نصدق في كلمة".

(1)

قال القُرطُبيّ:

"كان الجن يَقعُدون مَقاعِدَ لاستماع أخبار السماء، وهُمْ المَرَدةُ من الجن؛ كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يُلقوها إلى الكَهَنة، فحرسَها الله بالشهب المُحْرِقة، فقالت الجن حينَئذٍ: {

فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] ".

(2)

- وقال -تعالى-: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16 - 18].

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 172).

(2)

الجامع لأحكام القرآن (19/ 12)

*فائدة:

من الجن من استرق السمع في بدء بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخبر الكهانَ بخبر البعثة النبوية، وقد ورد في قصة إسلام الصحابي سَواد بن قارِب الدَّوْسِيّ رضي الله عنه الذي كان كاهناً في الجاهلية أن سبب إسلامه أن تابعه من الجن أخبره ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه إلى اتّباعه، وذلك في قصة طويلة قصَّها على عمرَ رضي الله عنه في خلافته، حيث قال: "كنت كاهناً في الجاهليّة، فبَيْنا أنا نائم إذ أتاني نَجِيِّي فضربَني برجله، ثم قال: يا سواد بن قارب، اسمعْ أقُلْ لك. قلتُ: هاتِ، قال:

عَجِبْتُ لِلْجِنِّ وأَرْجاسِها

وَرَحْلِها الْعِيسَ بِأَحْلاسِها

تَهْوِي إلى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى

ما مُؤْمِنُوها مِثْلَ أنجاسها

فارْحَلْ إلى الصّفوة من هاشم

واسم بعينيك إلى رأسها

قال سواد رضي الله عنه: فَأَصْبَحْتُ فَاقْتَعَدْتُ بَعِيراً لِي حَتَّى أَتَيْتُ مَكَّةَ، فَإِذَا رَسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَدْ ظَهَرَ، قَالَ: فَأَخبَرْتُه الْخَبَرَ وَبَايَعْتُهُ".

قال ابن حجر: وأصل هذه القصّة في صحيح البخاريّ من طريق سالم عن أبيه. وانظر الإصابة في تمييز الصحابة (3/ 183) وتجريد أسماء الصحابة (1/ 248) والوافي بالوَفَيات (16/ 35).

ص: 87

- قال قَتادةُ: "خُلقت النجوم لثلاثٍ:

1 -

زينة للسماء. 2 - وهداية للناس. 3 - ورُجوماً للشياطينِ".

(1)

** ووردَ بيانُ ذلك مفصَّلاً في رواية أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

«إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَاناً لِقَوْلِهِ، كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ، فَإِذَا {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} ، قَالُوا لِلَّذِي قَالَ:{الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ الْمُسْتَمِعَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَيُحْرِقَهُ، وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِيَ بِهَا إِلَى الَّذِي يَلِيهِ، إِلَى الَّذِي هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، حَتَّى يُلْقُوهَا إِلَى الْأَرْضِ، فَتُلْقَى عَلَى فَمِ السَّاحِرِ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِئَةَ كَذْبَةٍ، فَيُصَدَّقُ، فَيَقُولُونَ: أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، فَوَجَدْنَاهُ حَقّاً،

لِلْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ».

(2)

* وفي رواية عائشةَ رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«الملائكة تتحدث في العَنانِ -والعَنانُ: الغَمامُ- بالأَمْرِ يكونُ في الأرضِ، فتستمعُ الشياطينُ، فتَقَرُّها في أُذُنِ الكاهِنِ كَما تُقَرُّ القارُورةُ، فيَزيدون معها مئةَ كَذْبةٍ» .

(3)

** ومثال ذلك في قصة ابن صَيّادٍ:

عن ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ عُمَرَ انْطَلَقَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَقالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَفَضَهُ، وَقَالَ:

«آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ» ، فَقَالَ لَهُ:«مَاذَا تَرَى؟» ، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَرَى عَرْشاً عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ. وَمَا تَرَى؟» قَالَ:

أَرَى صَادِقَيْنِ وَكَاذِباً -أَوْ كَاذِبَيْنِ وَصَادِقاً-، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لُبِسَ عَلَيْهِ، دَعُوهُ» ،

(1)

أخرجه البخاري في صحيحه معلقاً (4/ 107)، ووصلَه ابن حجر في التغليق (3/ 479).

(2)

متفق عليه.

(3)

أخرجه البخاري (3288).

ص: 88

ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئاً» ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ:«اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ»

(1)

؛ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ» .

(2)

مما سبق يَتبين أنَّ:

الجن كانوا قبل البعثة النبوية يسترِقون السمع. وقد اختلف العلماء في استراق الجن للسمع بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم:

1 -

فقال قوم: إن استراق الجن لأخبار السماء قد زال بمبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك زالت الكِهانة.

2 -

وقال آخرون: إن استراقهم باقٍ بعد مبعثه عليه الصلاة والسلام.

(1)

قال صاحب المطالع: "الدُّخُّ" لغة في الدُّخان، لم يستطع ابن صياد أن يُتم الكلمة، ولم يهتد من الآية إلا لهذين الحرفين على عادة الكهان من اختطاف بعض الكلمات من أوليائهم من الجن، أو من هواجس النفس؛ ولهذا قَالَ له:«اخسأ فلن تعدو قدرك» . وهي كلمة زجرٍ وطرد، وهي مهموزة، تقول منه: خَسَأْتُ الكَلْبَ، ومنه: قوله -تعالى-: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. التوضيح لشرح الجامع الصحيح (10/ 90).

(2)

متفق عليه.

قول ابن صياد "الدُّخُّ" أراد أن يقول "الدُّخان" فلم يستطع ولم يهتد إلى ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: «اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ» ، أي: لن تُجاوز قدرَك أن تعلم الغيب من قِبل الوحي ولا من قبيل الإلهام. قال القاضي عياض: "وأصح الأقوال في قوله "الدُّخُّ": أنه لم يهتد من الآية التى أضمرها له عليه السلام إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهّان؛ إذ إنما يلقي الشيطان إليهم بقدر ما يختطف قبل أن يدركه الشهابُ، ويدل عليه: قولُه «اخسأ فلن تعدو قدرك»، أي: ابْعُدْ كاهناً منخرصاً، فلن تعدو قدر هذا الصنف من الاهتداء إلى بعض الشيء، وما لا يتبين منه حقيقة"(إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم (8/ 472)).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن يكنه فلن تسلط عليه» أي: إن كان هذا هو الدجال، فلست أنت الذي يقتله، وإنما يقتله عيسى بن مريم عليه السلام. وامتحان النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد، وقوله صلى الله عليه وسلم لعمرَ:«إن يكنه فلن تسلط عليه» يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متوقفاً في أمره لأنه لم يُوحَ إليه أنه الدجال ولا غيره. والخلاف في كون ابن صياد هو المسيح الدجال أو هو دجال من الدجاجلة خلافٌ عريضٌ، والله أعلم.

ص: 89

* والقول الراجح -والله أعلم-: أن استراقهم باقٍ بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك رميُهم بالشهب كان واقعاً قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يكن في الشدة مثل ما كان بعد بعثته؛ وهو ما رجحه ابنُ كَثير والقُرطبيّ وغيرهم.

** ومما يدل على ذلك:

1) قوله -تعالى-: {

فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9].

قال ابن كَثير معلقاً على الآية السابقة: "وقد كانت الكواكب يُرمى بها قبلَ ذلك، ولكن ليس بكثير، بل في الأحيان بعد الأحيان".

(1)

وقال القُرطُبيّ: "والقول بالرمي أصحُّ؛ لقوله -تعالى-: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا} [الجن: 8]. وهذا إخبار عن الجن أنه زِيدَ في حَرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم".

(2)

2) وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:

أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّهَا لَا يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنْ رَبُّنَا تبارك وتعالى اسْمُهُ إِذَا قَضَى أَمْراً سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟

فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ

». قَالَ: «فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بَعْضاً، حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ، فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَيُرْمَوْنَ بِهِ، فَمَا جَاءُوا

(1)

تفسير القرآن العظيم (8/ 241).

(2)

الجامع لأحكام القرآن (19/ 13).

ص: 90

بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ».

(1)

فدل الحديث أنّ سعي الجن لاستراق السمع ورمْيَهم بالشهب لم ينقطع بالبعثة النبوية.

3 -

الفائدة الثالثة: إتيان الكُهَّان والعَرّافينَ:

نقول: الأصل العام الذي ورد في هذا الباب هو النهي عن إتيان الكهّان.

عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُمُوراً كُنَّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، كُنَّا نَأْتِي الْكُهَّانَ، قَالَ:«فَلَا تَأْتُوا الْكُهَّانَ» .

(2)

وهذا النهي الأصل فيه التحريم، فهؤلاء الكهان -فيما عُلم بشهادة الامتحان- قومٌ لهم أذهان حادّة، ونفوس شِرِّيرة، وطَبائعُ ناريّة، فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم، ويستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات. ويختلف الحكم في ذلك بحسب حال من أتى العرَّافين والكَهَنة، وذلك على حالات:

1) الحالة الأولى:

أن يأتى رجلٌ الكاهنَ ليكشف كذبه وتدليسه وتزييفه؛ فهذا أمر مستحب من باب قوله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ

} [آل عمران: 110]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فلْيغيِّره

»، فهذه الحالة مستحبة، بل قد تكون واجبة إذا ما انتشر فساد الكهان والعرّافين في بلدٍ ما، فأمَّهم الناسُ من كل مكان، فصاروا فتنة في بلاد المسلمين.

** ومما يدل على مشروعية ذلك-مع الأدلة العامة-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى ابن صيَّاد ليبيِّن كذبه وتدليسه، وقد سبق قريباً رواية الحديث.

** وكذلك كان يفعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مناقشته ومناظرته للبطائحية، والرفاعية، وغيرهم، وقال لهم لما دخلوا في النار، وزعموا أن أجسادهم لا تحترق

(1)

أخرجه مسلم (2229).

(2)

أخرجه مسلم (537).

ص: 91

وكانوا قد طَلَوْا أجسادهم بالدهن: اغسلوها ثم ادخلوها لو كنتم صادقين، فبيّن عوارهم، وكشفَ دجلهم وباطِلهم أمام الناس مجتمعينَ.

** فمن كان عنده من العلم ما يمكّنه من نصح هؤلاء العرَّافين والدجالين، فتَواصَلَ معهم، أو أتاهم في أماكنهم لينكر عليهم ويبين لهم حكم الشرع فيما يفعلون- لم يكن ذلك إتياناً محرماً؛ بل هو مشروع مأمور به في حق القادر عليه، إما وجوباً، وإما استحباباً، أيّاً كانت وسيلة التواصل معهم.

2) الحالة الثانية:

أن يأتي رجلٌ الكاهنَ فيسأله عن شيء مجرد السؤال، دون أن يصدقه؛ فهذا محرم وكبيرة من الكبائر، وقد رتب عليها الشرع وعيداً كبيراً.

روى مسلم عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَتَى عَرَّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»

(1)

، وهذا وعيد شديد، فالجرم العظيم الذي وقع فيه هذا الذي ذهب إلى العرَّاف قد عادل ثواب الصلاة في أربعين صباحاً، فأسقطَه، وذلك مع كون الصلاة صحيحة.

(2)

** إذن فمعنى قوله-صلى الله عليه وسلم: «لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ

»:

أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مُجْزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى إعادة، فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتى بها المرء على وجهها الكامل ترتَّبَ عليها أمران:

الأول: سقوط المطالبة، وبراءة الذمة.

الثانى: ترتُّب الأجر عليها.

(1)

أخرجه مسلم (2230).

(2)

قوله صلى الله عليه وسلم: «لم تقبل له صلاة أربعين صباحاً» قال المناوي: "وخَصَّ الصلاةَ لكونها عِمادَ الدين؛ فصومُه كذلك" فيض القدير (6/ 22) قلتُ: وظاهر النص قصْر ذلك على الصلاة، والله أعلم.

ص: 92

فالأول لا يكون إلا بتوافر الشروط، والثانى لا يكون إلا بانتفاء الموانع.

(1)

ففي هذا الحديث قد أتى المرء بشروط الصلاة، فقُبلت منه، وبرئت بها الذِّمّة، وسقط بها الطلب يومَ القيامة، فلا يطالَب بها يوم القيامة مطالَبةَ مَن تركَ الصلاة

(2)

، لكن -مع استيفائه للشروط- قد قام المانع من تحقق الثواب عليها، ألا وهو سؤاله للعرَّاف.

** قال النووي:

"وأما عدم قبول صلاته فمعناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مُجْزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى إعادة، فالواجبات إذا أُتِيَ بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان: سقوط الفرض عنه، وحصول الثواب؛ ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العرَّاف إعادةُ صلواتِ أربعينَ ليلةً؛ فوجبَ تأويله، والله أعلم".

(3)

قال ابن القيم:

وصلاة من أتى عرافاً فصدَّقه فإن البعض قد حقق أن صلاته لا تقبل، ومع هذا فلا يؤمر؛ لأن عدم قبول صلاته إنما هو في حصول الثواب، لا في

(1)

فائدة:

ما ورد في العبادات من نفي القَبول هل يلزم منه نفيُ الصحة؟ للعلماء فيه قولان: الأول- أن القبول والصحة متلازمان؛ وعليه فإنه إذا نُفي أحدهما انتفى الآخر. الثاني- أن القبول والصحة مختلفان؛ وعليه فإنّ القبول أخصُّ من الصحة، إذ كل مقبول صحيح، وليس كل صحيح مقبولاً، فيكون القبول هو الثواب؛ ومثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافاً لم تُقبل له صلاة» .

والصحيح في ذلك التفصيل: قَدْ يأتَي نَفْيُ الْقَبُول فِي الشَّرْعِ تَارَةً بِمَعْنَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، كَمَا فِي حَدِيثِ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ)، فنفي قبول صلاة المُحْدِث -مثلاً- ليس كنفي قبول صلاة مَن أتى عرّافاً؛ فالأول هو نفي للصحة، ولازمُ ذلك هو: نفْي القبول، وأما الثاني فهو نفي لقبول العمل، أي: لثوابه المترتب عليه.

- ويمكن للتفريق بينهما أن يقال: إن المانع إذا كان متعلقاً بذات الفعل -كالحدث مع الصلاة- عادَ نفي القبول على نفي الصحة، وأما إذا عاد المانع لأمرٍ خارجٍ - كصلاة مَن أتى العرافَ- عادَ نفيُ القبول على نفي الثواب دُونَ الإجزاء.

(2)

وإنما قلنا ذلك لئلا يقول قائل: إذا كان لا أجر له، فلمَ تُطالِبونه بأداء الصلاة في الأربعين يوماً؟؟!!

نقول: بل لا بد من فعلها؛ ليَسقُطَ بها الطلب بين يدي الله تعالى.

(3)

شرح النووي على مسلم بتصرُّفٍ يسير (7/ 392).

ص: 93

سقوطها من ذمتهم.

(1)

لذا فإن مذهب أهل السنة أن السيئات لا تُبطل الحسنات، ولا يُحبطها شئ إلا الكفرُ، وأن المراد بمعاقبته بترك قبول صلاته، هو قبول الرِّضا، وتضعيف الأجر، لا قَبول الأداء وسقوط العهدة.

(2)

وتأملْ: إذا كان هذا حال السائل، فكيف بحال المسئول؟!!!

3) الحالة الثالثة:

أن يأتيَ الكاهنَ فيسأله، ويصدقه بما أخبر به؛ فهذا كفر بالله عز وجل لأنه قد صدَّقه في دعوى علمه الغيبَ؛ والتصديق لدعوى علم الغيب تكذيب لقول الله-تعالى-: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ

} [النمل: 65]، ولهذا جاء في حديث الباب:«من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفرَ بما أنزل على محمد-صلى الله عليه وسلم» .

(3)

قال الإمام البدر العينتابي (855 هـ) في شرح حديث المفاتيح: "مَن ادّعى أنه يعلم

(1)

المنار المنيف (ص/15)

(2)

إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم (7/ 154) والمُفْهِم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 215)

(3)

هذه الرواية قد سبق تخريجها أولَ الرسالة، وفيها زيادة لفظة "فصدَّقَه"، وهي ليست مروية عند مسلم في الصحيح، ولكن قد عَزاها لصحيح مسلم بعضُ كتب أهل العلم قديماً، منها: كتاب الترغيب والترهيب للمُنذري، ورياض الصالحين للنووي، ومنتقى الأخبار لابن تيمية الجَدّ، وفتاوى الرملي، والزواجر عن اقتراف الكبائر للهيتمي، وغذاء الألباب للسفاريني، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب.

وقد رد الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد عبد الوهاب على جَدِّه -مؤلف كتاب التوحيد- نسبتَها لمسلم في [تيسير العزيز الحميد](ص: 347)، فقال:"هذا الحديث رواه مسلم كما قال المصنف، ولفظه: حدثنا محمد بن المثنَّى العنْزي، ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله -في نسخة: عبد الله- عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً وليلةً» ـ هكذا رواه، وليس فيه: "فصدَّقَه". اهـ.

* وزيادة "فصدَّقَه" ثابتة في غير صحيح مسلم، فقد رواها الإمام أحمد بلفظ «من أتى عرافاً فصدقه بما يقول لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً». وقال الأرناؤوط والألباني:"إسناده صحيح على شرط مسلم". اهـ.

ص: 94

شيئاً من هذه الخمس-مفاتيح الغيب-فقد كفر بالقرآن العظيم".

(1)

والقاعدة. هنا: "كل من اعتقد في غير الله ما لا يُعتقد إلا في الله فقد وقعَ في الكفر الأكبر".

واعلم أنَّ الغيب على قسمين:

1) القسم الأول: الغيب المطلق (متعلِّق بالخالق):

وهو الغيب الذي يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا مما قد استأْثَرَ اللهُ عز وجل به لنفسه، ولم يخبر به أحداً من خلقه.

قال-تعالى-: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ

} [الأنعام: 59]، وقال-تعالى-: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ

} [النمل: 65]

فلما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله، كانت جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب-غيرَ الوحي-من. الضلال. المبين.

(2)

*ومن ذلك:

قوله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ

} [الأنعام: 50]، وكذلك قوله {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ

} [الأعراف: 188].

** عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ»

(3)

.

** وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

"مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً

(1)

جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القُبورية (2/ 928).

(2)

أضواء البيان (2/ 197).

(3)

أخرجه البخاري (4697).

ص: 95

مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ

»

(1)

.

** وفي حديث جبريل عليه السلام لما سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الساعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما المسئولُ عنها بأَعْلَمَ مِنَ السّائِلِ» . وقد استنبط العلماء من هذا الحديث أن الملائكة لا يعلمون متى الساعةُ.

** ولما سمع النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جاريةً تقول: "وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدِ" قَالَ لها صلى الله عليه وسلم: «دَعِي هَذِهِ، وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ؛ ما يَعلمُ ما في غَدٍ إلا اللهُ»

(2)

.

2) القسم الثاني- الغيب النسبي) متعلق بالمخلوق):

وهو الذي يتعلق بالمخلوق، أي: يعلمه بعض المخلوقين ولا يعلمه بعضهم، فيكون بالنسبة لك غيباً، وبالنسبة لغيرك معلوماً، فهذا إنما يُسمى غيبٌ بالنسبة للجاهل به الذي لا يعلمه، وليس بغيبٍ للذي يَعلمه. ** ومثال ذلك: في قول عيسى عليه السلام لقومه: {

وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ

} [آل عمران: 49].

** والآيات في ذلك كثيرة، ومنها ما يلي:

الحوادث التاريخية، فإنها غيب بالنسبة لمن لم يَعلم بها، لذلك قال الله -تعالى- للنبي صلى الله عليه وسلم:{ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44]، وقوله -تعالى-: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ

} [الجن: 26 - 27]، وفي قوله: {

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ

} [آل عمران: 179].

وبهذا يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم الغيب علماً كليّاً، وإنما كان يعلمه علماً

(1)

أخرجه أحمد (4318)، وانظر الصحيحة (199).

(2)

أخرجه البخاري (3779) والترمذي (1090).

ص: 96

جزئيّاً في حدود ما أطلعَه الله - تعالى- عليه.

فالله يوحي إلى الرسل ما يشاء، كما أوحى إلى نبينا صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة من أمر الآخرة وأمر القيامة وأمر الجنة والنار، وما يكون في آخر الزمان من الدجال ونزول المسيح، وهدم الكعبة، ويأجوج ومأجوج، وغير ذلك مما يكون في آخر الزمان، كل هذا من علم الغيب أوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فعلمنا إياه وصار معلوماً للناس، وهكذا ما يعلمه الناس من أمور الغيب عند وقوعه.

** وفي قصة موت سليمان عليه السلام قال -تعالى-: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14].

(1)

قال قَتادةُ: "

لو كان أحدٌ يَعلم الغيب لَعَلِمَ الجنُّ حيثُ مات سليمان عليه السلام فلَبِثَتْ تَعملُ حَوْلاً في أشدِّ العذاب، وهم لا يشعرون بموته، وما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خَرَّ تبيَّنتِ الجنُّ أنْ لو كانت تعلم الغيبَ ما لَبِثوا في العذاب المُهين، وكانت الجن تقول مثل ذلك، أنها كانت تعلم الغيب، تعلم ما في غدٍ؛ فابتلاهم الله بذلك".

(2)

* ومن خلال ما سبق مِن ذِكر أقسام الغيب، يكون حُكم من ادَّعى علم الغيب

(1)

قال العلامة الآلوسي: "وفي الآية دليل على أن الغيب لا يختص بالأمور المستقبَلة، بل يشمل الأمور الواقعة التي هي غائبة عن الشخص أيضا"[روح المعاني](229/ 11).

** ومن القصص التي تتعلق بمسألة الغيب النسبي: ما وقع مع بعض الصالحين، لما دخل على بعض الأمراء وعنده عرّاف يقول للناس:

خذوا ما شئتم من الحصى في أيديكم وأنا أعرف كم، فيأخذ الناس الحصى ويخبئونه عن ذلك الرجل، فيَعُدّونه، ثم يقول ذلك العرافُ: في يدك كذا من الحصى عدد كذا، ويكون كلامه صحيحاً، فلما جاء ذلك الرجلُ الصالح قال: أنا أتحداه أن يعرف ما في يدي، فأخذ قبضة من الحصى، فلم يَعُدَّها، قال: كم بِيَدي؟

قال: كذا، فعَدَّها، فإذا هي بخلاف ما قال العرافُ. فقالوا له: كيف فعلتَ؟! قال: أنتم عددتم لَمّا قبضتم الحصى، فَعَدَّ معكم القَرينُ فأَخبرَه، وأنا لم أَعُدَّ، فلم يَعُدَّ معي القَرينُ، فلم يستطع أن يعرف!

(2)

تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (16536)، وانظر الشرك في القديم والحديث (ص/472).

ص: 97

ومَن صدَّقه في ذلك على تفصيل:

1) من ادَّعى علم الغيب المطلق فقد كفرَ؛ لأنه مكذب لله عز وجل، قال الله -تعالى-:

{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]، وإذا كان الله عز وجل قد حجبَ عن نبيه صلى الله عليه وسلم علم الغيب، فهل أنتم تعلمونه؟!

كذلك فإن علم الغيب هو من اختصاص الله عز وجل، فمن ادّعى معرفته فقد جعل نفسه شريكاً لله-تعالى-في ذلك!

** كذلك يقال هنا:

"لمَّا تَمَدَّحَ -سُبحانَه- بعلم الغيب واستأثَرَ به دُونَ خَلْقِه، كان فيه دليلٌ على أنه لا يعلم الغيب أحدٌ سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعَهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعلَه معجزة لهم، ودلالة صادقة على نُبوّتهم، وليس المنجِّم ومَن ضاهاه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير- ممن ارتضاه من رسول فيُطلعه على ما يشاء من غيبه؛ بل هو كافر بالله، مفترٍ عليه بحدسه وتخمينه وكذبه".

(1)

** ومن اعتقد في منجم أو رَمَّال أنه يعلم الغيب فهو مشرك بالله؛ وذلك لأنه اعتقد في غير الله -تعالى- ما لا يُعتقد إلا في الله عز وجل.

* قال السعدي:

"فإن الله -تعالى- هو المنفرد بعلم الغيب، فمن ادعى مشاركة الله في شيء من ذلك بكِهانة أو عِرافة أو غيرهما، أو صدّقَ من ادّعى ذلك، فقد جعل لله شريكاً فيما هو مِن خصائصه، وقد كذَّب اللهَ ورسولَه".

(2)

فالذي أُنزِل على محمد هو قول الله -تعالى {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ

} [النمل: 65]، وهذا من أقوى طرق الحَصْر; لأن فيه النفي والإثبات; فالذي

(1)

الجامع لأحكام القرآن (19/ 28).

(2)

القول السديد (ص/100).

ص: 98

يصدق الكاهن في علم الغيب وهو يعلم أنه لا يعلم الغيب إلا اللهُ فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً عن الملة؛ وإن كان جاهلاً ولا يعتقد أن القرآن فيه كذب فكُفرُه كفرٌ دونَ كفرٍ.

(1)

2 -

أما من ما ادَّعى علم الغيب النسبي:

كحال الكهّان والعرَّافين الذين يدَّعون معرفة الأمور الواقعة بين الخلق وغيرها، فإنهم لا يصلون إلى ذلك إلا إذا تقرَّبوا للجن بالعبادات والذبح والنذر وغيرها من الطرق الشركية.

يقول الشيخ السِعدي:

"كثير من الكِهانة المتعلقة بالشياطين لا تخلو من الشرك والتقرب إلى الوسائط التي تستعين بها على دعوى العلوم الغيبية، فهو شرك من جهة دعوى مشاركة الله في علمه الذي اختص به، ومن جهة التقرب إلى غير الله".

(2)

** ومن الصور المعاصرة لِما يسلكه مَن يدعي علم الغيب:

ما يفعلونه عن طريق " قراءة الكف" أو "النظر في الفنجان" أو "رسم الخط على الرمال" أو "قراءة الأبراج" كبرج الثور وبرج العقرب وغيرها، ويزعمون بأن من وُلد في برج الثور مثلاً سيحدث له كذا، ويسافر إلى بلاد كذا، ونحوه مما فيه ادعاء علم الغيب.

(3)

*وممَّا يُلبِّسون به على العامة:

ترى طائفة من المنجِّمين المعاصرين الذين يستخبرون عن تواريخ مواليد الناس لربط ذلك بالأبراج، زعماً منهم وُجودَ علاقة تأثير بين الأحوال الفلكية والحوادث

(1)

القول المفيد (1/ 539).

(2)

القول السديد في مقاصد التوحيد (ص/84).

(3)

البروج: هي منازل الشمس، وهي اثنا عشر برجاً أقسمَ الله بها بقوله -تعالى-:{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، وهي: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسُّنْبُلة والمِيزان والعَقْرَب والقَوْس والجَدْي والدَّلو والحوت؛ وهي أشهرٌ عاديّة، ولا يعلم ما يحدث فيها إلا اللهُ-تعالى-، فمَن ادّعى أنه يحدث في برج الثور كذا أو في برج العقرب كذا فهو ممن يدعي علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

ص: 99

الأرضية. وما هؤلاء إلا ضرب من الكهانة، اختلفت أشكالهم وتوافقت مَشارِبُهم. وكثير من المسلمين قد تعلَّقت قلوبهم بمثل هذه الأمور، ولا شك أنّ من ادَّعى علم الطالع، أو ادّعى العلم بقراءة الكف- كاهن عرَّاف مكذِّب لله ورسوله.

وغالب حال هؤلاء من الكهَّان والمنجِّمين يأتون بأخبار الناس من خلال استخدامهم للجن الذين يأتونهم بالأخبار التى تتعلق بالغيب النسبي.

قال -تعالى-: {

وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا

} [الأنعام: 128]، والمعنى: تمتَّعَ كل من الجِنّي والإنسي بصاحبه، وانتفعَ به. فالجنّي يستمتع بطاعة الإنسي له وتعظيمه واستعاذته به، فيفعل الإنسي ما يُمليه عليه الجني من إهانة القرآن وكتابته بالدم ونحو ذلك. والإنسي يستمتع بخدمة الجِنّي له ببعض شهواته، ويحصل له منه بعض الحوائج الدنيوية، فيأتيه بالأخبار الغائبة عن بعض الناس.

** فلْيحذرِ المرء من هذه الأفعال التى تُحبط عمله من حيث لا يدري!

* فمن طالعَ هذه الأبراج التى تنتشر على المجلات أو مواقع الشبكة العنكبوتية فقد وقع بين واحد من هذه المحظورات:

أ) اعتقاد التأثير:

أن يعتقد أن النجوم والأفلاك والكواكب تؤثر في الخَلق وأفعالهم، والاعتقاد بأنّ برجاً معيناً من النجوم هو الذي يجلب الحظ أو النّحس؛ فهذا اعتقادٌ شركيّ مخرج من الملة، ومُعتقِد ذلك مشرك؛ فقد جعل مع الله -تعالى- من يخلق أفعال العباد، واعتقد في غير الله -تعالى- ما لا يُعتقد إلا في الله.

ب) اعتقاد السببية:

بأن يعتقد بوجود عَلاقة سببية بين ما يقع له من خير أو شر وبين مواقع الأبراج واختلاف توقيتاتها الزمنية، وصاحب هذا الاعتقاد واقع في الشرك الأصغر؛ فكل من اتخذ سبباً لم يشرعه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم سبباً فقد وقع في الشرك الأصغر، قال

ص: 100

-تعالى-: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ

} [الشورى: 21].

**قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"والله -سبحانه- قد جعل في النجوم من المنافع لعباده وسخرها لهم ومن منافعها الظاهرة ما يجعله -سبحانه- بالشمس من الحَرِّ والبرد والليل والنهار، وإنضاج الثمار، وخلق الحيوان والنبات والمعادن، وكذلك ما يجعله بها من الترطيب والتيبيس وغير ذلك من الأمور المشهورة، كما جعل في النار الإشراق والإحراق، وفي الماء التطهير والسقي، فمن قال من أهل الكلام إنّ الله يفعل هذه الأمور عِنْدَها لا بها، فعِبارتُه مخالفة لكتاب الله-تعالى-والأمور المشهورة، كمن زعمَ أنها مستقلة بالفعل هو شرك مخالف للعقل والدين".

(1)

جـ) وإما أن يكون قد فعل ذلك من باب التسلية:

فيقع تحت قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَى عَرَّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»

(2)

.

ووالذي نفسي بيده فإن من ادّعى أنه يفعل ذلك من باب التسلّي فسَيَجِدُ تأثيراً لما قرأَ على قلبه -ولا مَحالةَ- فالقلوب ضعيفة.

وتعظم الفتنة حينما يتوافق ما قرأَه مع ما قدّرَه الله-تعالى-: في بعض الأحيان قد يَصْدُقُ كلامُ الأبراج، ويكون هذا الأمر فتنة وامتحاناً، وليس دليلاً على صدقهم ولا على إبطال الشرع؛ فإن الدجال الأكبر يقول للسماء: أَمطري، فتُمطر، وللأرض: أَنبتي، فتُنبت، وللخَرِبة: أَخرجي كنوزك، فتُخرج كنوزها، تتبعه، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شِقَّيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فيقوم، ومع هذا فهو دجال، كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية؛ وقال: "يكون لأحدهم القرينُ من الشياطين يخبره

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 167).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 101

بكثير من المغيَّبات بما يستَرِقُه من السمع، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب".

فالواجب عدم التعلُّقِ بقول هؤلاء، فَمَنْ تَعَلَّقَ بأقوالهم وَكَلَهُ اللهُ إليهم، وحَرَمَهُ مِن توفيقه وهدايته!

د) وإما أن يكون قد فعل ذلك مصدِّقاً لكلام الكاهن أو العرَّاف:

فيكون قد وقعَ تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَى كَاهِناً أَوْ عَرَّافاً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»

(1)

.

* وهذا الكفر يختلف بحسب حال السائل:

أ) إن اعتقد أن الكاهن على علم بالغيب المطلق، فقد وقع في الكفر الأكبر المخرج من الملة.

ب) وإن اعتقد أن الكاهن على علم بالغيب النسبي، فقد وقع في الكفر الأصغر.

* ثم يقال أيضاً:

من التناقض البيِّن: الاعتقاد أنّ لمواليد كلّ برج صفاتٍ وخصائصَ متماثلة متفقة؛ فإنّه يولد في كلّ

ساعة الآلاف من البشر في العالم، ولم يَثبُت أنّ هؤلاء يحملون الصفاتِ نفسَها، فكيف يستقيم كلام المنجِّمين باتفاق خصائص مواليد الشهر نفسه أو البرج نفسه؟!

* قال الشيخ علي الملا القاري:

"ومما يدل على فساد قولهم: أن يقال لهم: أخبرونا عن مولودَيْنِ وُلدا في وقت واحد؛ أليس يجب تساويهما في كل وجه، ولا تمييز بينهما في الصورة والقَدّ والمَنظر، وحتى لا تصيب أحداً نكبةٌ إلا أصابَ الآخرَ، وحتى لا يفعل هذا شيئاً إلا والآخرُ يفعل مِثلَه؟ وليس في العالَمِ اثنانِ هذه صفتُهما".

(2)

* وكذلك ظهر اختلاف المنجّمين في الأبراج التي يبنون عليها أحكامهم من عدّة وجوه؛ منها: أعداد البروج، وأسماؤها، ومدّة كلّ منها، ودلالاتها على خصائص

(1)

سبق تخريجه.

(2)

وانظر مِرْقاة المفاتيح (7/ 2911).

ص: 102