المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

ص: 589

* نص حديث الباب:

عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ:

بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأْتُونِي بِهَا.

فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْمَرْأَة، فَقُلْنَا لَهَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْتُ: والذى يُحْلَفُ بِهِ، لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَأُجَرِّدَنَّكِ قَالَ:

فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدَّ مِنِّي أَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا فِيهِ:

" مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ غَزْوَهُمْ "

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟ "، فَقَالَ:

لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فِيهِمْ، أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ غِشًّا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نِفَاقًا وَلَا ارْتِدَادًا، وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ صَدَقَكُمْ، وَلَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا.

فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ؛ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " أَتَقْتُلُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟، مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

ص: 591

تخريح الحديث:

أخرجه البخاري (3007) بَابُ الجَاسُوسِ.

ومسلم (2494) باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم، وقصة حاطب بن أبي بلتعة.

مقدمة بين يدى الحديث:

لا شك أن قضية الولاء والبراء قد شغلت حيزاً عريضاً من الكتاب والسنة، وهذا إن دل إنما يدل على عظم هذه القضية.

قال الشيخ حمد بن عتيق:

فأما معاداة الكفار والمشركين، فاعلم أن الله سبحانه وتعالى أوجب ذلك، وأكد إيجابه، وحرَّم موالاتهم، وشدَّد فيها، حتى إنه ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر ولا أبين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده.

(1)

قال ابن القيم:

الله - سبحانه - يجب أن يعبد بأنواع العبودية، ومن أعلاها وأجلها عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والجهاد في سبيله وبذل مهج النفوس في مرضاته ومعارضة أعدائه، وهذا النوع هو ذروة سنام العبودية وأعلى مراتبها وهو أحب أنواعها إليه.

(2)

قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51]

وقال الله تعالى: (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَت لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنهُمْ فَاسِقُونَ) [المائدة: 80، 81]

فقد جعل الله -تعالى- من علامات صدق الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم ترك موالاة الذين كفروا بالله عزوجل.

قال شيخ الإسلام أبوالعباس ابن تيمية:

فإذا قوي ما في القلب من التصديق

(1)

سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشرك (ص/ 363) ضمن مجموعة التوحيد.

(2)

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (ص/222)

ص: 592

والمعرفة والمحبة لله ورسوله، أوجب بغض أعداء الله، كما قال تعالى:{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ} .

(1)

وقال تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} [المجادلة: 22]

فإذا وجدنا من يواد ويوالي ويعظِّم الكافرين المحادِّين لله ورسوله؛ علمنا أنه ليس بمؤمن، لأنَّ المؤمنين لا يكونون كذلك، فالمؤمن يتبرأ من أعداء الله، كما قال تعالى ((قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُاْ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4].

إنها سورة كاملة في كتاب لله -تعالى- تؤسس وتؤصل لهذا المعنى الذى هوالتبرؤ من المشركين، وهى سورة براءة الكبرى وهى سورة التوبة، وسورة براءة الصغرى وهى سورة الكافرون.

* قَالَ جَرِيرٌ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضى الله عنه: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُبَايِعُ، فَقُلْتُ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ، وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ:

"أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَبْرَأُ مِنَ الْكَافِرِ ".

(2)

فدل الحديث أن البراءة من الكافر أحد الأصول التى بُنيت عليها مبايعة الصحابة -رضى الله عنهم- للرسول صلى الله عليه وسلم.

* وسداً وحسماً لهذه المادة فقد نهى الشرع عن مساكنة المشركين في ديارهم: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " «لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ، وَلَا تُجَامِعُوهُمْ، فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَلَيْسَ مِنَّا» .

(3)

*قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

ولأجل هذا الأصل:

وقع التأثَّر والتأثير في بني آدم،

(1)

الإيمان الأوسط (ص/402)

(2)

أخرجه أحمد (19165) والنسائي (4177) و صححه الألبانى.

(3)

أخرجه الحاكم (2627) وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وقال الذهبي في تلخيصه على شرط الشيخين. وحسَّنه الألبانى في الصحيحة بمجموع الطرق (2330)

ص: 593

واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة، وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعاً من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه، ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمَّالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة، من أخلاق الجمال والبغال، وكذلك الكلَّابون، وصار الحيوان الإنسي، فيه بعض أخلاق الناس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة.

فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي.

وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافاً، وإن بعد المكان والزمان، فهذا أيضا أمر محسوس.

(1)

وقد كره مالك أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف، فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن وتعبد فيه من دونه الأوثان، لا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء مريض الإيمان.

(2)

* بل قد حث الشرع على التمسك بهذا الأصل الذى هو الولاء والبراء حتى بعد موت الكافر، فيبقي الولاء للمسلمين حتى بعد موتهم، ويبقي التبرء من المشركين حتى بعد موتهم.

قال الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وماتوا وهم فاسقون} (التوبة: 84)

وكذلك فالسنة لمن مر على مقابر المسلمين أن يسلِّم عليهم ويدعو لهم، فقد كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ أصحابه إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ أن يَقُولُوا:

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وَإِنَّا إِنْ

(1)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص/312)

(2)

الْمُقدمَات الممهداَت (ص/612)

ص: 594

شَاءَ اللهُ لَلَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ.

(1)

وأما من مر على مقابر المشركين فالسنة أن يبشرهم بالنار، وما ذاك إلا إمعاناً في التبرؤ من سبيلهم و نهجهم:

عن سعدٍ بن أبى الوقاص- رضى الله عنه-قالَ: أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأعرابي: «حيثُما مررتَ بقبرِ كافرٍ فبشِّرْه بالنارِ ".

(2)

* وما أجمل ما سطَّر ابن عقيل قائلاً:

إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة.

(3)

* عودٌ إلى حديث الباب:

المعنى العام للحديث:

فى العام الثامن من الهجرة النبوية عزم النبي صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، وكان حريصاً على ألا يُعرف ذلك لئلا يصل الأمر إلى قريش، فلما علم حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بذلك كاتب كفارَ مكّة سِرًّا، يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك - فأرسل مَن أخذ الكتاب مِمّن خرج ليصل به إلى كفار مكة. ودعا حاطبًا، فقال له صلى الله عليه وسلم: يا حاطب، ما هذا؟!

فبيَّن حاطب أنه كان له فى مكة قرابة فخشى أن يلحق بهم أذى من قريش، وتأول إنه يريد أن يضع يداً عندهم ليحموا بها أهله وعشيرته، فهذا عذره وهو صادق في ذلك، وقال رضى الله عنه:

فأحببتُ-إذ فاتني ذلك من النسب فيهم- أن أتّخذَ فيهم يداً، يحمون بها قرابتي. ولم أفعلْه كُفْرًا، ولا

(1)

أخرجه مسلم (975)

(2)

أخرجه الضياء المقدسي في "الأحاديث المختارة"(1005) والبزار في "البحر الزخار"(1089)

قال: سليم الهلالي في (عُجالةُ الرّاغِب/2/ 673) وهذا سند صحيح؛ رجاله ثقات معروفون.

وقال حسين سليم أسد: أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" 1/ 191 - 192، وابن السنيّ في "عمل اليوم اليوم والليلة" بدون رقم بعد الحديث (595) من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص

وهذا إسناد صحيح. وانظر مجمع الزوائد و ومنبع الفوائد (2/ 209).

وقد صحح الألباني إسناده في الصحيحة (18)

(3)

الآداب الشرعية (1/ 238)

ص: 595

ارتداداً عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد صدقكم)).

* وهذه من فوائد حدبث الباب: فقوله صلى الله عليه وسلم: " لَقَدْ صَدَقَكُمْ ":

فيه أن حكم المتأول في استباحة المحظور خلاف حكم المتعمد؛ لاستحالته من غير تأويل، وأن من أتى محظوراً أو ادَّعى فيه ما يحتمل التأويل قُبل وإن كان غالب الظن خلافه.

وقد أطلق عمر-رضى الله عنه-على حاطب اسم النفاق؛ لأنه والى كفار قريش، وإنما فعل حاطب -رضى الله عنه- ذلك متأولًا في غير ضرر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصدق الله بنيته فنجَّاه من ذلك.

(1)

قال أبو العباس القرطبي:

لكن حاطبًا لم ينافق في قلبه، ولا ارتد عن دينه، وإنما تأول فيما فعل من ذلك: أن إطلاع قريش على بعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخوِّف قريشًا، ويُحكى أنه كان في الكتاب تفخيم أمر جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا طاقة لهم به، يُخوفهم بذلك ليخرجوا عن مكة، ويفروا منها، وحَسَّنَ له هذا التأويلَ تعلقُ خاطره بأهله وولده، إذ هم قطعة من كبده، ولقد أبلغ من قال: قلَّما يفلحُ من كان له عيالٌ، لكن لطف الله به، ونجاه لما علم من صحة إيمانه، وصدقه، وغفر له بسابقة بدر، وسبقه.

(2)

* وكما وقع فعل حاطب متأولاً، كذلك فقد أقدم عمر بن الخطاب على رمى حاطب بالنفاق متأولاً، لذا فقد ترجم البخاري: باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلاً، ثم قال تحته: وقال عمر لحاطب بن أبي بلتعة:

إنه منافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" وما يدريك، لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر، فقال: قد غفرت لكم "

قال البيهقي:

ومن كفَّر مسلماً على الإطلاق بتأويل لم يخرج بتكفيره إياه بالتأويل عن الملة، وإنما يكفر من كفَّر مسلماً بغير تأويل، وقد روينا عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أنه قال في حاطب بن أبي بلتعة حين خان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتابة إلى مكة:

(1)

وانظر معالم السنن (2/ 258) والتوضيح لشرح الجامع الصحيح (18/ 165) وكشف المشكل (1/ 141)

(2)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 440)

ص: 596

" دعني أضرب عنق هذا المنافق " " فسمَّاه عمر منافقاً، ولم يكن منافقاً فقد صدَّقه النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر عن نفسه، ولم يصر به عمر كافراً لأنه أكفره بالتأويل، وكأنَّ ما ذهب إليه عمر يحتمل.

(1)

* قوله صلى الله عليه وسلم:

" لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ "

ولهذا الترجى توجيهان:

أ) الأول:

أن الترجي من الله واقع محقق للنبي صلى الله عليه وسلم بدليل ما ذكر الله تعالى في قصة أهل بدر في آل عمران والأنفال من ثنائه عليهم وعفوه عنهم، وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم للذي قال في حاطب إنه يدخل النار وأقسم عليه:

" كذبت، لا يدخلها؛ فإنه شهد بدراً "، فهذا إخبار محقق لا احتمال فيه ولا تجوُّز.

(2)

ب) الثانى:

قد وقع في حديث أبي هريرة -رضى الله عنه-عند بن أبي شيبة بصيغة الجزم.

(3)

* قوله صلى الله عليه وسلم: "اعملوا ما شئتم":

وفي توجيه هذا قولان:

الأول:

قيل ليس هو على الاستقبال، وإنما هو للماضي، تقديره: اعملوا ما شئتم أي عمل كان لكم فقد غفر، ويدل على هذا شيئان:

الأول: أنه لو كان للمستقبل كان جوابه فسأغفر.

والثاني:

أنه كأن يكون إطلاقاً في الذنوب، ولا وجه لذلك، ويوضحه أن القوم خافوا من العقوبة فيما بعد؛ فلهذا كان عمر يقول: يا حذيفة أنا منهم؟

وقال به ابن الجوزي.

القول الثانى:

أن هذا الخطاب خطاب إكرام وتشريف يضمن أن هؤلاء القوم حصلت لهم حالة غفرت لهم بها ذنوبهم السالفة وتأهلوا أن يغفر لهم ذنوب مستأنفة إن وقعت منهم، لا أنهم نجزت لهم في ذلك الوقت مغفرة الذنوب اللاحقة، بل لهم صلاحية أن يُغفر لهم ما عساه أن يقع، ولا يلزم من وجود

(1)

شعب الإيمان (1/ 175)

(2)

المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/ 440)

(3)

فتح الباري (8/ 687)

ص: 597

الصلاحية لشيءٍ ما وجود ذلك الشيء، إذ لا يلزم من وجود أهلية الخلافة وجودها لكل من وجدت له أهليتها، وكذلك القضاء وغيره، وعلى هذا فلا يأمن من حصلت له أهلية المغفرة من المؤاخذة على ما عساه أن يقع منه من الذنوب.

(1)

*قوله صلى الله عليه وسلم: (لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ):

وهذه بشارة لأهل بدر بمغفرة الذنوب وما ذلك إلا لسبقهم في البذل والجهاد، ولهذا فقد اتفق جمهورالعلماء أن أفضل الصحابة هم على الترتيب:

الخلفاء الراشدون ثم بقية العشرة المشهود لهم بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان.

قال ابن القيم:

من قواعد الشرع والحكمة ايضا أنّ من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل له مالا يحتمل لغيره ويعفي عنه مالا يعفي عن غيره؛ فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل فإنه لا يحمل أدنى خبث، ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه و سلم - لعمر:

"وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".

(2)

وقال رحمه الله:

أن الكبيرةَ العظيمَةَ مما دون الشركِ قد تُكَفَّرُ بالحسنةِ الكبيرةِ الماحية، كما وقع الجَسُّ مِن حاطب مكفراً بشهوده بدراً.

(3)

* وقوله تعالى (فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) فيه أمور:

1) الأول:

أن هذا الوعد بالغفران لهم إنما يكون في الآخرة، وإلا فإنْ توجه على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا، و قد نقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد على أن من ثبت عليه، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مِسطحاً الحد وكان بدرياً، وأقامه عمر - رضى الله عنه- على بعضهم.

(4)

(1)

المفهم (6/ 441)

(2)

مفتاح دار السعادة (1/ 529)

(3)

زاد المعاد (3/ 424)

(4)

وانظر المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (8/ 293) وإكمال المعلم (7/ 539)

ص: 598

قال ابن بطال:

أجمعت الأمة أن كل من ركب من أهل بدر ذنبًا بينه وبين الله فيه حد، أو بينه وبين الخلق من القذف أو الجرح أو القتل فإنه عليه فيه الحد والقصاص.

(1)

* وقد ذكر الطحاوى إشكالاً قال فيه:

فقال قائل:

كيف تقبلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركه العقوبة على حاطب فيما كان منه، فإن قلتم: لأنه قد كان من أهل بدر، وقد سبق لهم من الله ما سبق، قيل لكم: فقدامة قد كان له من بدر في شهوده إياها كما كان لحاطب في مثل ذلك، ولم ير عمر ولا عليُّ ولا من كان بحضرتهما دفع العقوبة عنه لذلك على جرمه الذي كان منه!!

(2)

فكان جوابنا له في ذلك:

أن من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بإقالة ذوي الهيئات عثراتهم إلا في حد من حدود الله تعالى، وكان حاطب لشهوده بدراً، ولما كان عليه من الأمور المحمودة من ذوي الهيئة، ولم يكن الذي أتى مما يوجب حداً، إنما يوجب عقوبة ليست بحد، فرفعها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان معه من الهيئة، وكان الذي كان من قدامة فيه حد لله فلم يرفعه عمر ولا عليُّ، ولا من سواهما لهيئته؛ لأن الهيئة إنما ترفع العقوبات التي ليست حدوداً، ولا ترفع العقوبات التي هي حدود.

(3)

* يؤيده:

ما ورد عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَقِيلُو ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ ".

(4)

(1)

شرح صحيح البخارى لابن بطال (8/ 598)

(2)

وكان قدامة -رضى الله عنه- قد شر الخمر متأولاً قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93]

(3)

شرح مشكل الآثار (11/ 276)

(4)

أخرجه أحمد (25474) وأبو داود (4375) قال ابن حجر: الحديث المشهور من طرق ربما يبلغ درجة الحسن، بل صححه ابن حبان بغير استثناء. وانظرالصحيحة (638)

المقصود بالإقالة: رفع العقوبة، والعثرات: الزلات والسقطات.

قال أحمد: وإنما أراد بهذا، والله أعلم، الأئمة يقيلون ذوي الهيئات عثراتهم ما لم يكن حد، فإذا كان حدا وبلغ الإمام فلا يدعه، ولا ينبغي لأحد أن يشفع فيه.

قال ابن الأثير: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم: هم الذين لا يُعرَفون بالشر، فيزل أحدهم الزلة. انظر معرفة السنن والآثار (6/ 471) والنهاية (5/ 285)

ص: 599

2) الثانى:

قوله تعالى (فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ):

وهذه المغفرة إنما حصلت لهم بذات العمل الذى أسلفوه والذى هو شهود بدر، لذا فما وقعوا فيه بعد ذلك إنما هو مغفور لهم بذلك وإن لم يحدثوا لذلك توبة، وهذا المعنى يقرره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:

والله - تعالى- لم يشترط في الأمر بالعفو عنهم والصفح والإحسان إليهم التوبة، وكذلك حاطب بن أبي بلتعة كاتب المشركين بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أراد عمر - رضى الله عنه- قتله قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه قد شهد بدراً، وما يدريك أن الله قد اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال:" لا يدخل النارَ أحدٌ بايعَ تحت الشجرةِ ".

وهذه النصوص تقتضي أن السيئات مغفورة بتلك الحسنات، ولم يشترط مع ذلك توبة، وإلا فلا اختصاص لأولئك بهذا، والحديث يقتضي المغفرة بذلك العمل.

(1)

* الثالث:

قوله صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أنَّ الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

فإذا سأل سائل:

هل المراد بقوله تعالى (فقد غفرتُ لكم) مغفرة الكبائر أم الصغائر فقط؟

فالجواب:

أن من شهد بدراً فإنه يُغفر له الكبائر؛ إذ لو قيل تُغفر لهم الصغائر إذا تاب،

فلا فرق إذن بين أهل بدر وغيرهم، فمن المعلوم أن كل واحد تغفر له الصغائر باجتناب الكبائر، وكل واحد يُغفر له بالتوبة، ولما كان ثمة خصيصة بهذا لأهل بدر، فدل على أن المراد بالمغفرة إنما هو ما يتعلق بالكبائر، والله أعلم.

(1)

الإيمان الأوسط (ص/335)

ص: 600

* ومن الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

الرد على المرجئة والكرامية الذين قالوا بحصر الإيمان في القول دون العمل، وقالوا لا يضر مع الإيمان ذنب، وأنه لا كفر إلا بالجحود أو الاستحلال.

(1)

وحديث الباب قد بيَّن أن الإيمان كما يُنقض بالقول فكذلك يُنقض بالعمل، فقد ذكر عمر بن الخطاب - رضى الله عنه- نفاق من والى أعداء الله - تعالى- وأنه عمل مستحق لضرب العنق فما أنكر عليه الرَسُولَ صلى الله عليه وسلم.

كذلك في قول حاطب رضى الله عنه: (وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ غِشًّا لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا نِفَاقًا وَلَا ارْتِدَادًا..) فجعل الردة حاصلة بفعل الجوارح كما تحصل بعمل القلب.

*وإنما جاء الاستثناء في شأن حاطب - رضى الله عنه - لأمرين:

1) أنه ما فعل ذلك نِفَاقًا وَلَا ارْتِدَادًا، وَلَا رِضًا بالْكفر بعد الْإسلَام، بل كان متأولًا، مع صدق نيته؛ ولذلك فقد عفا الله -تعالى- عنه.

2) كونه بدرياً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "

وعليه فإن الحكم العام فيمن أظهر نفاقاً أكبر، كحال موالاة أعداء الله - تعالى- نِفَاقًا وَارْتِدَادًا، وَرِضًا بالْكفر بعد الْإسلَام، فهذا كفر مخرج من الملة، وإن كان ينطق الشهادتين.

* والكتاب والسنة قد دلا على ذلك:

قال تعالى (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)) (المنافقون: 1)

وكذلك فقد أمر الله -تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال أمثال هؤلاء، قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ

(1)

والإيمان عند الكرامية هو قول اللسان، دون اشتراط تصديق القلب أوعمل الجوارح في أحكام الدنيا، فمن تكلم به فهو مؤمن كامل الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قَبِل إسلام الناس بمجرد قولهم للشهادتين.

* لذا فالمنافق - وإن أظهر نفاقاً واضحاً - فهو عندهم مؤمن، إلا إنه يخلد فى النار.

وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا القول هو الذي اختصت به الكرامية وابتدعته، ولم يسبقها أحد إلى هذا القول، وهو آخر ما أحدث من الأقوال في الإيمان.

وانظر لتفصيل ذلك رسالتنا الفرقان في بيان حقيقة الإيمان (ص/13)

ص: 601

جَاهِدِ الْكُفَّارَوَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التحريم/9)

وقال تعالى (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا)(الأحزاب/60)

* ومن السنة:

ما ورد عن عبدالله بن سلول الذي كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً، كما روى أبو هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه- قالَ:

مَرَّ رَسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى عَبْدِ الله بْنِ أَبَيّ ابْن سَلُولٍ فَقَالَ:

قَدْ غَبَّرَ عَلَيْنَا ابْنُ أبى كَبْشَةَ، فَقَالَ ابْنُهُ عَبْدُ الله بْنُ عَبْدِ الله:

وَالَّذِي أَكْرَمَكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَئِنْ شئْتَ لأتِيَنَّكَ بِرَأْسِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لا، وَلكِن بِرَّ أَبَاكَ، وَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُ.

(1)

وفي حديث جَابِر- رضي الله عنه قال:

غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ...... وفيه: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَقَالَ عُمَرُ:

أَلَا نَقْتُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الخَبِيثَ؟ لِعَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

«لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»

(2)

فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم العلة المانعة من قتله ليس أنه غير مستحق للقتل، بل لعلة أخرى وهى ألا يتناقل الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، فينفر ذلك الناس عن دين الله عزوجل.

* ويتفرع على هذا فرع مهم:

في حكم موالاة الكافرين: وموالاة الكافرين تنقسم بحسب القصد والنية إلى قسمين:

1) القسم الأول: الموالاة الصغرى:

(3)

وذلك إذا كانت موالاتهم لمصلحة دنيوية، لأجل منصب أو مال أو دفعاً لأذاهم، وليس رغبة في نصرة دينهم، فمثل هذا لا يكون

(1)

أخرجه ابن حبان (428) وانظر الصحيحة (3223)

وقال الحافظ ابن حبان:

أبو كبشة هذا والد أم أم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد خرج إلى الشام فاستحسن دين النصارى، فرجع إلى قريش وأظهره، فعاتبته قريش حيث جاء بدين غير دينهم، فكانت قريش تعير النبي صلى الله عليه وسلم وتنسبه إليه، يعنون به أنه جاء بدين غير دينهم كما جاء أبوكبشة بدين غير دينهم. (صحيح ابن حبان (2/ 170)

(2)

متفق عليه.

(3)

تسميتها صغرى ليس لأنها من الصغائر؛ ولكن للتفريق بينها وبين الكبرى، وإلا فإن الموالاة الصغرى شأنُها عظيم كما تقدَّم فهو باب لا يُستهان به.

ص: 602

كفراً، بل كبيرة من كبائر الذنوب، لأنها لا تتضمن ما ينافي أصل الإيمان من محبة الكفر والرضا به.

وفى مثل نزل قوله تعالى في قصة حاطب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)

إلى قوله (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)(الممتحنة/1)

ومما يدل على أنَّ فاعل مثل هذا لا يكفر بما وقع منه: أن الله - تعالى- خاطب حاطباً باسم الإيمان بقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء}

(1)

فحصل بذلك وجود أصل الإيمان ولم يسلب عن فاعله مع وجود الموالاة، فدل على على عدم الكفر بمثل هذا النوع من الموالاة، وإنما يستحق فاعل هذا النوع من الموالاة القتل، أوالتعزير، حسب ما يرى الإمام، وإنما اندفعت العقوبة عن حاطب رضي الله عنه لكونه من أهل بدر، كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، والله أعلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

وقد يحصل من الرجال نوع من موادتهم لرحم أو حاجة، فيكون ذنبًا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله فيه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ

الْحَقِّ} الآية. [الممتحنة: 1]

(2)

قال القرطبى:

من كثر تطلعه على عورات المسلمين وينبه عليهم ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافراً إذا كان فعله لغرض دنيوي واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ولم ينو الردة عن الدين.

(3)

*وهنا إشكالات:

1) إن قيل:

فعل حاطب - رضى الله عنه- لم يكن مظاهرة للمشركين، بل غاية ما فيه أنه

(1)

وانظر الاستيعاب في بيان الأسباب (3/ 375) والوعد الأخروي (2/ 796)

(2)

الإيمان الأوسط (ص/403)

(3)

الجامع لأحكام القرآن (18/ 52)

ص: 603