المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

ص: 223

إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

* نص الحديث:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَلّا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْكَ؛ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ. أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ: مَنْ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» .

** تخريح الحديث:

أخرجه البخاري (4999) بَابُ: الحِرْصِ عَلَى الحَدِيثِ، وأحمد (8845).

** معنى الشفاعة في اللغة والاصطلاح:

الشفاعة في لغة العرب: مشتقة من "الشفْع" الذي هو خلاف "الوتْر"، والشفع: ما كان من العدد أزواجاً، تقول: كان وتراً فشفعتُه بالآخَر حتى صار شفعاً، وتقول: أعطيتك كتاباً ثم شفعتُه بآخَرَ، أي: صار ما معك زوجاً بعد أن كان وتراً.

(1)

قال ابن منظور: الشفع: خلاف الوتر، وهو الزوج، تقول: كان وتراً فشفعته شفعاً، وشفعَ الوترَ من العدد شفعاً: صيّره زوجاً، والشَّفيع من الأعداد: ما كان زوجاً، تقول: كان وتراً فشفعتُه بآخرَ.

(2)

وسُمي الشافع شافعاً؛ لأنه يضمّ طلبه ورجاءه إلى طلب المشفوع له.

(1)

وانظر كتاب العين (1/ 260)، وتاج العروس (ص/280).

(2)

لسان العرب (8/ 183).

ص: 225

** الشفاعة في الاصطلاح:

التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.

ومناسَبتها للاشتقاق ظاهرة؛ لأنك إذا توسّطتَ له صِرْتَ معه شفعًا تشفعه.

* والشفاعة تنقسم إلى قسمين:

شفاعة باطلة، وشفاعة صحيحة.

- أما الشفاعة الباطلة:

ما يتعلق به المشركون في أصنامهم؛ حيث يعبدونهم ويزعُمون أنهم شفعاء لهم عند الله؛ كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، ويقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3].

- وأما الشفاعة الصحيحة فهي ما جمعت شروطًا ثلاثة:

الأول: رضا الله - تعالى - عن الشافع.

الثاني: رضاه - تعالى - عن المشفوع له.

الثالث: إذنه - تعالى - بالشفاعة.

وهذه الشروط الثلاثة مجموعة في قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى {[النجم: 26]، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109].

** أدلة الشفاعة:

أمّا من القرآن:

فقد ذُكِرت الشفاعة في كتاب الله -تعالى- في أكثرَ من عشرين موضعاً، منها:

قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وقوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109].

وأدلة الشفاعة الواردة في القرآن تدل بمُجمَلها على ثبوت الشفاعة يوم القيامة.

مع العلم بأن كل نص قرآني يفيد نفي الشفاعة عن الكافرين فهو في ذاته دليلٌ على إثباتها لأهل التوحيد، كما في قوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:

ص: 226

48]؛ إذ لو كانت الشفاعة منفية عن الجميع لم يكُن في نفيها عن الكافرين فائدةٌ.

*وأما أدلة السنة:

قد عدَّ السيوطي أحاديث الشفاعة من الأحاديث المتواترة، وذكرَ أنه قد رواها اثنا عشر صحابيّاً.

(1)

وقد جاءت الأحاديث النبوية مصرِّحةً بذلك، ومن تلك الأحاديث:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا» .

(2)

- وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

«أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي:

»، وذكرَ منها:«وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» .

(3)

* وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

«مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ- حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

(4)

*أما من الإجماع:

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

"أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة، بعد أن يسأل الناسُ ذلك، وبعد أن يأذنَ اللهُ له في الشفاعة".

(5)

** قال المرداوي:

"شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نوع من السمعيّات، قد وردت بها الآثار حتّى بلغت مبلغَ التواتُرِ المعنويِّ، وانعقد عليها إجماع أهل الحق، قبلَ ظهور الخوارج

(1)

وانظر قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة (ص/303).

(2)

أخرجه مسلم (339)، وأحمد (21314).

(3)

متفق عليه.

(4)

متفق عليه.

(5)

مجموعة الرسائل والمسائل (1/ 10).

ص: 227

الذين ينكرون الشفاعة".

(1)

أقسام الشفاعة:

الشفاعة العظمى:

قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، وهذا المقام المحمود هو الشفاعة العظمى.

وفي حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

«إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ القِيَامَةِ، حَتَّى يَبْلُغَ العَرَقُ نِصْفَ الأُذُنِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ، ثُمَّ بِمُوسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الخَلْقِ، فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا، يَحْمَدُهُ أَهْلُ الجَمْعِ كُلُّهُمْ» .

(2)

** وقد ذكرَ البخاري في صحيحه: باب قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، ثم روى قول ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما:

"إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ جُثًا، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، يَقُولُونَ: يَا فُلانُ اشْفَعْ، يَا فُلانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ".

(3)

وعن حُذَيْفةَ بنِ اليَمانِ رضي الله عنه أنه قال:

"يَجْمَعُ اللهُ النّاسَ يَوْمَ الْقِيامةِ فِي صَعِيدٍ واحِدٍ حُفَاةً عُرَاةً كَما خُلِقُوا، يُسْمِعُهُمُ الدّاعِي، وينفذهم الْبَصَرُ، ولا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ إلّا بإذْنِهِ؛ فأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى: محمد، فَيَقُول:

لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، والشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ، والْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ، وعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، ومِنْكَ، وإلَيْكَ، ولا مَلْجَأَ مِنْكَ إلّا إلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وتَعالَيْتَ، وعَلَى عَرْشِكَ اسْتَوَيْتَ، سُبْحانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ، ثُمَّ يُقالُ لَهُ: اشْفَعْ". قال: "فذلك الْمَقامُ المحمودُ الذي وَعَدَهُ اللهُ عز وجل".

(4)

(1)

اللآلي البهيّة (ص/94).

(2)

أخرجه البخاري (1475).

(3)

أخرجه البخاري (4718).

(4)

صحيح موقوف. أخرجه ابن أبي زمنينَ في أصول السنة (رقم: 99)، وابن أبي شيبة في مصنَّفه (11/ 484). وانظر الصحيح المسند من أقوال الصحابة والتابعين (ص/271).

ص: 228

** وهذا القسم من الشفاعة هو من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ فقد ورد في الصحيح من حديث الشفاعة الطويل:

«يَطُولُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عَلَى النَّاسِ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى مَنْ يَشْفَعُ إِلَى رَبِّنَا عز وجل

فَيَأْتُونَ آدَمَ ونُوحاً ومُوسَى وعِيسَى عليهم السلام، كُلُّهُمْ يَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا غَيْرِي

فَيَأْتُونِي، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَلْيَقْضِ بَيْنَنَا، فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا».

(1)

* وقد ذكرَ شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عبد البر وابن جَرير وغيرُهم أن المقام المحمود المراد في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] هو الشفاعة العظمى، وذكروا أن هذا هو المأثور في تفسير هذه الآية عن الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول جمهور المفسرين.

(2)

الشفاعة لأهل الجنة ليدخلوها:

عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«إِنِّي لَأَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَمْ يُصَدَّقْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدِّقْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنَّةِ، آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ، فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ، لَا أَفْتَحُ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ» .

(3)

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب:

* عن العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ رضي الله عنه أنه قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟

قَالَ: «هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ»

(4)

.

(1)

متفق عليه.

(2)

مجموع الفتاوى (14/ 390)، وجامع البيان في تأويل القرآن (17/ 527).

(3)

أخرجه مسلم (197)، وأحمد (12420).

(4)

متفق عليه.

وقوله "يَحُوطُكَ" هو مِن الْحِيَاطَة، وَهِيَ الْمُرَاعَاةُ، وأمّا الضَّحْضَاحُ فهو: مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ "يُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ" - فتْح الباري (ج 11/ ص 210).

ص: 229

وفي رواية: «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ»

(1)

.

وهذا النوع من الشفاعة هو من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، فالشفاعة منفية عن الكافرين؛ كما في قوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وإنما خُصَّ منها أبو طالب عمُّ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لِما كان يقدّمه مِن دفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك لقَرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد قال تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا، فَأَذِنَ لِي".

(2)

* وروى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

«يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لا تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَلّا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ؟

فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ عَلَى الكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ».

(3)

* وهذا يعلمنا درساً بليغاً ألا وهو فضل العمل للدين، فالله -عزوجل- قد قبل شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم في كافر لأنه قد ذبَّ عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم وأمَّنه ليبلغ دعوة ربه. فإذا كان هذا أثر العمل للدين من شخص ليس من أهله، فكيف إذا كان من أهله؟!!

وكم من أناس ماتوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعمد إلى قبر أحدهم للصلاة عليه كما فعل مع المرأة التى

(1)

متفق عليه.

(2)

أخرجه مسلم (976).

(3)

أخرجه البخاري (3350).

الذيخ: ذَكَرُ الضَّبْعِ الكثيرُ الشَّعَرِ. أُرِيَ أباه على غير هيئته ومنظره؛ ليُسرعَ إلى التبرّؤ منه.

"متلطخ": ملوَّث بالدم ونحوِه.

ص: 230

كانت تقم المسجد النبوي، وما أراه -والله أعلم- فعل ذلك إلا لعظيم فعلها في العمل لدين الله عزوجل.

الشفاعة فيمن دخل النار ليخرج منها:

وهذه الشفاعة حاصلة للنبي صلى الله عليه وسلم ولسائر النبيّينَ والصِّدِّيقِينَ وغيرهم.

والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا، بل متواترة، نذكر منها ما يلي:

- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ-رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ، وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمُ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ - أَوْ قَالَ: بِخَطَايَاهُمْ - فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً، حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ» .

(1)

** وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«أَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ» ،

قَالَ: فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ: «فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ» .

(2)

* وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذكرَ الصِّراطَ، ثم قَالَ:

«فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ،

(1)

أخرجه مسلم (185).

(2)

متفق عليه.

ص: 231

فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا، كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، وَيُصَلُّونَ، وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ، فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا، ثُمَّ يَقُولُ:

ارْجِعُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا، لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا، فَيَقُولُ اللهُ عز وجل: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ - وفي رواية:«فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي» - فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: نَهَرُ الْحَيَاةِ».

(1)

الشفاعة لأُناسٍ قد استحقوا النار في ألّا يدخلوها.:

وهذه قد يُستدل لها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

«ما مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جنازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلاً لا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئاً- إلّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ»

(2)

فإنّ هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفّعهم الله في ذلك.

الشفاعة لأناس من أهل الإيمان -قد استحقوا الجنة- أن يزدادوا رِفعةً في الجنة:

عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ

(1)

متفق عليه.

(2)

أخرجه مسلم (1577).

ص: 232

فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ».

(1)

أقسام الناس مع الشفاعة:

الكلام في قضية الشفاعة يدور بين الغلو والجفو، و {هَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]:

فالمشركون قد غالَوْا في إثبات الشفاعة، فقاموا يستشفعون بالآلهة الباطلة التي عبدوها من دون الله، أو معه؛ ظنّاً منهم أنّ عبادتها وسيلةٌ لأنْ يشفعَ لهم أصحابُها عند الله عز وجل، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]،

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3]، فالله عز وجل أبطل هذه الشفاعة الشركية، وحكمَ على من تلبَّسَ بها أنه كاذب كَفَّار.

وعلى الجانب الآخَرِ

يَجيءُ أصحاب المُجافاة من النُّفاة، وهُمْ: الخوارج، والجهمية، والمعتزلة، الذين أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في العصاة من أهل الكبائر، الذين ماتوا دون توبة.

وأمّا الجهمية:

فلمّا كان الإيمان عندهم هو المعرفة، والأعمال خارجة عن مسمَّى الإيمان، والكفر محصور في الجهل بالله -تعالى- فحسْبُ، ولا يُتصور عندهم أن يُعذَّب أحدٌ على ذنبٍ- فإنّ قولهم بإنكار الشفاعة مبني على عدم وجود من تَحْصُلُ له أصلاً.

* وأمّا الخوارج والمعتزلة:

فلمّا تبنَّوُا الْقولَ إنّ فعل الكبيرة يَسْتوجب أن يخلَّد صاحبُها في نار جهنم، فيرَوْن

أنّ مَن زنى - مثلاً - ومات مصرّاً على ذلك لا تنفعه الشفاعة، ولن يأذن الله -تعالى-

(1)

أخرجه مسلم (920).

ص: 233

لأحدٍ بالشفاعة له.

(1)

يقول القاضي عبد الجبار- أحد كبار مشايخ المعتزلة - في بيان رأي المعتزلة في الشفاعة:

"لا خلاف بين الأمة في أنَّ شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة للأمة، وإنما الخلاف في أنها تَثبُتُ لِمَنْ؟ "،

ثم قال: "فعندنا أن الشفاعة: للتائبين من المؤمنين".

ويقول في موضع آخر: "

فحصلَ لك -بهذه الجُملةِ- العلمُ بأنّ الشفاعة ثابتة للمؤمنين، دُونَ الفُسّاقِ من أهل الصلاة".

(2)

* وأوّلُ مَن أنكرَ الشفاعة في أهل الكبائر هم الخوارج، وذلك في آخِرِ عصر الصحابة رضي الله عنهم، ثم سار على دربهم -في إنكار الشفاعة في أهل الكبائر- المعتزلةُ الذين ظهروا في عصر التابعينَ، ووافقوا الخوارج في مآلِ فاعل الكبيرة، فقالوا بخلوده في النار.

** وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم مذهب الخوارج في ذلك، وحدَّثوهم بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.

قَالَ يَزِيدُ الْفَقِيرُ:

كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ، فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ، ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ، قَالَ:

فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ، جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ، قَالَ:

فَقُلْتُ لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ، مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ؟ وَاللهُ يَقُولُ:

{إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] وَ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]، فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ؟

قَالَ: فَقَالَ: «أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟»

قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:«فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ عليه السلام يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ فِيهِ -؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ:

«فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ» ، قَالَ: ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ

(1)

وانظر التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (ص/128)، ومقالات الجهم (ص/684).

(2)

وانظر شرح الأصول الخمسة (ص/688)، ونص على مثله في" فضلُ الاعتزال، وطبقاتُ المعتزلة "(ص/73).

ص: 234

الصِّرَاطِ، وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ، - قَالَ: وَأَخَافُ أَنْ لَا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَاكَ - قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا، قَالَ: - يَعْنِي - فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ، قَالَ:

«فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ» ، فَرَجَعْنَا قُلْنَا: وَيْحَكُمْ أَتُرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَرَجَعْنَا، فَلَا وَاللهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ واحد.

(1)

قال أنس بن مالك رضي الله عنه:

«يخرج قَومٌ مِن النَّار، ولا نُكَذِّبُ بها كَما يُكَذِّبُ بها أَهلُ حَرُورَاءَ» .

(2)

* قال ابن حجر:

"إنّ الخوارج - الطائفة المشهورة المبتدعة - كانوا ينكرون الشفاعة، وكان الصحابة ينكرون إنكارَهم، ويحدّثون بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك

"، ثم ذكرَ رحمه الله جملة من الآثار في ذلك.

(3)

** مما سبق يتضح لنا:

أن مسألة التكذيب بالشفاعة مسألة قديمة تصدَّى لها الصحابة رضي الله عنهم، وبيَّنوا زَيْفها وبطلانها.

** وأمّا الذي حملَ الخوارج والمعتزلة على إنكار الشفاعة لأصحاب الكبائر فهو جملة من الأمور:

1) آياتٌ ظاهرُها نفْي الشفاعة عن أصحاب الكبائر.

2) أدلةٌ أفادَ ظاهرُها كُفْرَ فاعل الكبيرة.

3) دعوى أنّ أحاديث الشفاعة من أحاديث الآحاد التي لا تثبت بها مسائل الاعتقاد.

4) دعوى أنّ أحاديث الشفاعة محمولة على الذين تابوا من أصحاب الكبائر.

5) شبهات عقلية.

(1)

أخرجه مسلم (191)

(2)

أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار (14/ 346)، والبيهقي في البعث (467).

(3)

فتح الباري (11/ 426).

ص: 235

الجواب عن أصول الشبهات التي استدل بها نفاة الشفاعة:

1 -

أولاً: الشبهة الأولى:

ركنوا إلى جملة من الآيات التي أفادت نفي الشفاعة عن الكافرين، فأنزلوها على عصاة المسلمين من أصحاب الكبائر، كما روى البخاري عن ابْنُ عُمَرَ-رضي الله عنه أنه كان يَرَاهُم شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ، وَقَالَ عنهم:

«إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ» .

(1)

كقوله تعالى: {واتقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48].

(2)

وقوله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وقوله تعالى:{فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ) [الشعراء: 100]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]

* والرد أن يقال:

إنّ مقتضَى الفقه في الدين، واتباع سبيل المؤمنين هو الأخذ بمجموع ما وردَ في الكتاب والسنة، وعدم اجتزاء نصوصهما، وعدم الأخذ ببعض الكتاب والإعراض عن بعض؛ فإنّ ذلك دليلُ هَوى، ومَسْلَكُ زَيغ.

فجميع ما استدل به نفاة الشفاعة من الآيات هي ليست أصلاً في محل النزاع.

قال الإمام أبو بكر الآجري:

"إنّ المكذّب بالشفاعة أخطأ في تأويله خطأً فاحشًاً، خرجَ به عن الكتاب والسنة؛ وذلك أنه عمدَ إلى آيات من القرآن نزلت في أهل الكفر، أخبر الله عز وجل أنهم إذا دخلوا النار فهم غير خارجين منها، فجعلَها المكذِّب بالشفاعة: في الموحِّدينَ، ولم يلتفت إلى أن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات الشفاعة إنما هي

(1)

ذكره البخاري معلقاً في باب " قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم"، وقال ابن حجر:

"وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار، وسنده صحيح". وانظر فتح الباري (12/ 401) والوعد الأخروي (2/ 580)

(2)

قال الزمخشري مستدلّاً بهذه الآية على نفي الشفاعة: "فإنْ قلتَ: هل فيه دليلٌ على أنّ الشفاعة لا تُقبلُ للعُصاة؟ قلتُ: نَعَمْ؛ لأنه نَفَى أن تَقضيَ نفسٌ عن نفسٍ حقّاً أخلّت به مِن فعلٍ أو تركٍ، ثُمَّ نَفَى أنْ يُقبلَ منها شفاعةُ شَفيعٍ؛ فعُلِمَ أنّها لا تُقبلُ للعُصاة". وانظر الكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 136).

ص: 236

لأهل الكبائر، والقرآن يدل على هذا".

(1)

** فأما الرد على استدلالهم بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]

فحال من يستدل بهذه الآية على نفي الشفاعة كحال من يقول بحرمة الصلاة مستدلاً على ذلك بقول الله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون: 4]، فاجتزاء النصوص من سياقاتها هو طريقة أهل البدع؛ فقوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} إنما هو في نفي الشفاعة عن المشركين، وسياق الآيات يدل على ذلك، فقد قال -تعالى- قبلها:

{ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)}

[المدثر: 46].

بل لنا أن نقول:

إن هذه الآية دليل عليهم، فلما نفَى الله -تعالى- الشفاعة عن الكافرين دل ذلك على وجودها لِمن سِواهم، وإلا لَمَا كان في نفيها عنهم فائدةٌ.

قال الذهبي:

"قال الله في حق الكفار: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، فمفهوم أنّ غير الكفار تنفعهم شفاعة الشافعين".

(2)

** وكذلك يقال في الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} ؛ فسياق الآيات يتناول نفي الشفاعة عن الكافرين الذين اتخذوا أنداداً مع الله عز وجل: قال تعالى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100)} [الشعراء].

** الرد على استدلالهم بقوله تعالى: {واتقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48]:

استدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر باطلٌ؛ وذلك لأن الشفاعةَ المنفية في الآية الشفاعةُ للكافرين، ويدل على ذلك وُجوهٌ:

(1)

وانظرالشريعة (3/ 1203) والوعد الأخروي (2/ 580).

(2)

إثبات الشفاعة (ص/20).

ص: 237

أولاً: إجماع المفسرين على أن المراد بالنَّفْس في قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً

} هي النفس الكافرة، لا كلُّ نفسٍ، فهي من العامّ الذي أُرِيدَ به الخاصُّ.

يقول القرطبي:

"أجمع المفسرون على أن المراد بقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ

} الآية: النفس الكافرة، لا كل نفس".

(1)

ويقول الطبري:

"قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ

} الآية إنما هي لمن مات على كفره غيرَ تائب إلى الله عز وجل؛ فعلى هذا يكونُ من العامِّ الذي أُرِيدَ به الخاصُّ".

(2)

ثانياً:

أن السِّباق والسِّياق واللحاق من المقيِّدات والمرجِّحات، فالآية التي قبلَها، والآية التي بعدها إنما يوجَّه فيهما الخطاب إلى بني اسرائيل: فقد قال -تعالى- قبلها: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ

}، وقال بعدها: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ

}؛ فتعَّينَ بذلك أنهم هم المَعْنِيُّونَ بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ

}.

ثالثاً:

أن الآية ليست دليلاً لمُنكِرِي الشفاعة؛ لأنّ قوله تعالى: "يوماً" أخرجَه مُنكَّراً، ولا شكَّ أنّ في القيامة مَواطنَ، ويَومُها معدودٌ بخمسينَ ألفَ سَنةٍ، فبعض أوقاتها ليس زماناً للشفاعة، وبعضها هو الوقت الموعود، وفيه المقام المحمود لسيِّد البشر -عليه أفضل الصلاة والسلام-.

قد وردت آيٌ كثيرةٌ تُرشد إلى تعدُّد أيامها واختلاف أوقاتها، منها: قوله تعالى: {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ} [المؤمنون: 101] مع قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ} [الصافات: 27]؛ فيتعيَّن حملُ الآيتين على يومين مختلفين متغايِرَيْنِ: أحدهما محلٌّ للتساؤل، والآخرُ ليس محلّاً له؛ وكذلك الشفاعة".

(3)

(1)

الجامع لأحكام القرآن (1/ 379)

(2)

جامع البيان في تأويل القرآن (1/ 23).

(3)

الانتصاف فيما تضمَّنه الكشّاف (1/ 137).

ص: 238

ثانياً: الرد على الأصل الثاني الذي بنَوْا عليه ردَّهم لأحاديث الشفاعة:

قد بنَوْا قولهم في رد الشفاعة في أصحاب الكبائر على جملة من الأدلة التي أفاد ظاهرُها كُفرَ فاعل الكبيرة وخلودَه في النار؛ وعليه قد جعلَ المعتزلةُ

"مسألة الوعيد" هي أحدَ أُصولِهم الخمسة، ومفادها: أنّ المسلم إذا خرج من الدنيا بكبيرة من الكبائر دون أن يتوب منها- يستحق الخلود في النار، ولا يدخل تحت المشيئة.

(1)

الأدلة التي بنوا عليها هذا الأصل:

قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا

} [النساء: 93]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)} [الفرقان]

وقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

" مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا".

(2)

وقوله صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»

(3)

، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث.

(1)

والأَوْلى أن يقال:

إنّ القول بخلود فاعل الكبيرة في النار على التأبيد- إنّما هو قول جمهور المعتزلة، لا جميعِهم، أمّا ما نقله القاضى عبد الجبّار من إجماع المعتزلة على كفر فاعل الكبيرة، وأنه مخلَّد في النار كالكافر- فهذا إجماعٌ منه فيه نظرٌ؛ فقد قال البغداديّ:

"دعوى إجماع المعتزلة على أن الله - سبحانه - لا يغفر لمُرتكبي الكبائر من غير توبةٍ منهم- غلطٌ مِنْهُ عليهمْ؛ لأنّ محمد بن شبيب البصريَّ والصالحيَّ والخالديَّ هؤلاءِ الثلاثة مِن شيوخ المعتزلة، وهم واقفيّةٌ في وعيد مرتكبي الكبائر، وقد أجازوا من الله - تعالى - مغفرةَ ذنوبِهم مِن غير توبةٍ"؛ لذا قد خصَّ الأشعري الإجماعَ بأهل الوعيد منهم، فقال:

"وأجمعَ أصحاب الوعيد من المعتزلة أنَّ مَن أدخله الله -تعالى- النارَ خلَّدَه فيها".

وانظر الفَرْقُ بين الفِرَقِ (ص/96) والوعد الأخروي (1/ 459)،.

(2)

متفق عليه.

(3)

متفق عليه.

ص: 239

* أمّا الرد على استدلالهم بقوله تعالى:

{بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] فهذه الآية نزلت في اليهود بدلالة الآية التي سبقتها، وهي قوله تعالى:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 80]، فالآية إخبار عن اليهود فيما نقلوه وادَّعَوْه لأنفُسهم من أنْ لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة كما ذكرَ ابن كثير في تفسيره.

كذلك قد ذكرَ القرطبي أنّ كلمة "سيئةً" تعني في الآية: الشِّرْكَ، كما نقلَه ابن جريج عن عطاء.

(1)

* قال عبد الرحمن السِّعْدي:

"قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] قد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية؛ وهي حجة عليهم، فإنها ظاهرة في الشرك، بدليل قوله: {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، أيْ: أحاطت بعامِلِها، فلم تَدَعْ له مَنفذاً، وهذا لا يكون إلا الشرك، فإنّ مَن معه الإيمانُ لا تُحيطُ به خطيئتُه؛ وهكذا كلُّ مُبْطِلٍ يحتج بآية أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حُجّةٌ عليه".

(2)

* استدلالهم بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]:

استدل المعتزلة بهذه الآية على أن قتل المؤمن على وجه التعمُّد- يستحق به الخلود في النار، ولا يمكن حمل الكلام في الآية على الكافر؛ لأنّ "مَنْ" لفظٌ عامٌّ، ولأنّ الله جعل ذلك الجزاء لهذا الفعل المخصوص.

(3)

(1)

انظر تفسير القرطبي (2/ 12)، ومختصر تفسير ابن كثير (1/ 71).

(2)

وانظر تيسير الكريم الرحمن (1/ 75)، والمعتزلة وأصولهم الخمسة (ص/221).

(3)

وهذه الآية أحد الأدلة التي استدل بها القاضي عبد الجبار المعتزليُّ على كفر فاعل الكبيرة. وانظر شرح الأصول الخمسة (ص/659).

ص: 240

-- وقد رد أهل السنة على هذه الشبهة من وُجوهٍ:

الأول:

إن الخلود في الآية إنما هو لمُستحِلِّ القتل، فهذا كافر إجماعاً، وفي هذا يقول الطبري عند تفسير هذه الآية:"قوله: "متعمداً" أيْ: مستحِلّاً قَتْلَه".

ويقول القرطبي حاكياً ما رُوي عن ابن عباس في معنى قوله تعالى: "متعمداً" أنّه قال: "متعمداً أيْ: مستحلاً لقتْله، وهو ما يؤدي إلى الكفر إجماعاً، والكافر مخلَّد في النار".

(1)

الثاني:

إن القول بخلود شخص في النار - ومن ذلك القاتل عمداً - لا بد فيه من استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، ومن هذه الموانع التي تمنع من الخلود في النار:

أن يموت القاتل على التوحيد؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقوله تعالى:

{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ "لا إلَهَ إلّا اللهُ" يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ»

(2)

.

ومِثل هذا الجواب يقال في كل دليلٍ نصَّ على خلود فاعل الكبيرة في النار.

** ومما يدل على أنّ لفظ "الخُلود" في حق أصحاب الكبائر ليس على ظاهره: أنّ قوله صلى الله عليه وسلم:

«مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» أنه قد جاء في حديث آخرَ يبيّن أن قاتل نفسه ليس بكافر.

فقد روى جابر رضي الله عنه أن رَجُلاً مَرِض فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتَّى مَاتَ، فَرَآهُ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَرَآهُ مُغَطِّيًا يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟

فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِي إِلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيًا يَدَيْكَ؟ قَالَ: قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ، فَقَصَّهَا الطُّفَيْلُ عَلَى

(1)

جامع البيان في تأويل القرآن (6/ 91)، والجامع لأحكام القرآن (5/ 334).

(2)

متفق عليه. والمراد: تحريم التخليد، أو تحريم دخول النار المُعَدّة للكافرينَ، لا الطَّبَقةِ المعَدّة للعُصاة.

ص: 241

رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«اللَّهُمَّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ»

(1)

.

قال النووي:

"في هذا الحديث حُجّةٌ لقاعدة عظيمة لأهل السنة: أنّ مَن قتلَ نفسَه أو ارتكبَ معصيةً غيرَها وماتَ مِن غيرِ توبةٍ- فليس بكافر، ولا يُقطعُ له بالنار، بل هو في حُكم المشيئة.

وهذا الحديث شرحٌ للأحاديث التي قبلَه المُوهِمِ ظاهِرُها تَخليدَ قاتل النفس وغيرِه من أصحاب الكبائر في النار".

(2)

* وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» فتأويلُه على: الكفر غيرِ المُخرجِ من المِلّة.

* ذكرَ الشالنجي أنه سأل أحمد بن حنبل عن المُصِرِّ على الكبائر يطلُبُها بجهده -أي: يطلب الذنب بجهده- إلّا أنّه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم؛ هل يكون مُصرّاً مَن كانت هذه حالَهُ؟ قال: "هو مُصِرٌّ، مثل قوله:

«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» يَخرجُ من الإيمان، ويَقَعُ في الإسلام! ومِن نَحْوِ قولِه:«ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» ، ومِن نحوِ قولِ ابنِ عبّاسٍ في قوله:

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، فقلتُ له: ما هذا الكفرُ؟ قال: كُفرٌ لا يَنقلُ عن المِلّة، مثل الإيمان بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ".

(3)

* قال أبو عبيد:

"وأمّا الآثارُ المرويّات بذِكر الكفر والشرك ووُجوبهما بالمعاصي- فإنّ معناها عندنا: ليست تُثبتُ على أهلها كفراً ولا شركاً يُزيلانِ الإيمانَ عن صاحبه، إنّما وجوهها: أنّها من الأخلاق والسُّنن التي عليها الكفّارُ".

(4)

* وهذا ما دلت عليه الأدلة الأخرى التي أبقت على مُسمَّى الإيمان والأخوّة بين المتقاتلين: في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا

}

(1)

أخرجه مسلم (116).

(2)

شرح النووي على مسلم (2/ 132).

(3)

مجموع الفتاوى (7/ 254).

(4)

الإيمان لأبي عبيد (ص/93).

ص: 242

[الحجرات: 9]، وقوله عز وجل:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10].

* قال ابن حزم:

"حجة قاطعة على المعتزلة المُسْقِطة اسمَ الإيمان عن القاتل، وعلى كل مَن أسقطَ عن صاحب الكبائر اسمَ الإيمان، وليس لِأَحَدٍ أن يقول: إنّه -تعالى- إنّما جعلَهم إخوانَنا إذا تابوا؛ لأنّ نصَّ الآيةِ أنّهم إخوانٌ في حال البغي، وقَبْلَ الفئةِ إلى الحق".

(1)

*وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .

(2)

قال ابن حجر معقِّباً على هذا الحديث:

"وفيها رد على الخوارج الذين كانوا يكفّرون عليّاً ومَن معه ومعاويةَ ومَن معه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتينِ بأنهم من المسلمينَ؛ ومِن ثَمَّ كان سفيانُ بنُ عُيَيْنةَ يقولُ عقبَ هذا الحديث: "قوله "مِنَ المُسلمينَ" يُعجبُنا جِدّاً".

(3)

*ومما استدل به نفاة الشفاعة:

ما يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

" لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي "

(4)

، وهذا مما لا يصح له سند.

قال أبو عبد الرحمن الحوت:

خبر: " لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي "، لم يصح، وهو من أكاذيب المعتزلة.

(5)

قال مقبل الوادعي:

بعض الأحاديث الموضوعة تستغلها بعض الطوائف المنحرفة لترويج باطلها، وإليك مثالاً على ذلك وهو ما قرأناه في "العقد الثمين في معرفة رب العالمين" ونحن بصعدة " ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي"، فهذا حديث ليس له أصل، إنّما هو من أباطيل المعتزلة.

(6)

(1)

الفصل في المِلَل (3/ 132).

(2)

أخرجه البخاري (2704).

(3)

فتح الباري (13/ 66).

(4)

وانظرالأصول العشرة للإباضية (ص/212)

(5)

أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب (ص/116)

(6)

وانظر الشفاعة " (ص/22، ورسالة "العقد الثمين في معرفة رب العالمين" من رسائل الهادوية الشيعة التى تدرس في صعدة عند الشيعة.

ص: 243

*نقول:

بل الذي صح هو خلاف ذلك، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«شَفاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» .

(1)

*ومن أدلة حدوث الشفاعة لأهل الكبائر:

ما ورد في حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، فَأَخْبَرَنِي - أَوْ قَالَ:

بَشَّرَنِي - أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ»، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى؟ وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ» .

(2)

فدلَّ الحديثُ على عدم كفر صاحب الكبيرة الذي مات مصرَّاً عليها، وأنّ مآله إلى الجنة، وإنْ أصابه قبلَ ذلك ما أصابه.

كما جاء ذلك مفصّلاً في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:

«بَايِعُونِي عَلَى أَلّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا- فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» .

(3)

فدلّتْ هذه الرواية على أن مرتكب الكبيرة الذي لم يتُب منها داخلٌ تحتَ المشيئة، وأن وعيد الله -تعالى- في أمثال هؤلاء قابلٌ للخلف.

* قال المازني:

"في حديث عبادة رد على الخوارج الذين يكفّرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبةٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَخبرَ بأنه

(1)

أخرجه الترمذي (2435)، وأبو داود (4739)، وأحمد (13222).

قال ابن كثير: "إسناد صحيح على شرط الشيخين". قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه البيهقي في السنن الكبرى (8/ 17)، وابن حبان (6468)، وابن أبي عاصم، وصححه الحاكم، وصححه الذهبي في رسالته [إثبات الشفاعة]، وصححه الألباني في [المشكاة](5598 - 5599).

(2)

متفق عليه.

(3)

متفق عليه.

ص: 244

تحت المشيئة، ولم يقُل: لا بد أن يعذّبه".

(1)

*يؤيّده:

لم تَزَل الأمّة مِن زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومِ الناسِ هذا يُصلُّون على كلِّ مَن مات من أهل القِبلة، وإنْ كان من أهل الكبائر؛ فهذا منهم إجماعٌ ضِمْنِيٌّ على بقاء اسم الإيمان مع كبيرته؛ لأن الصلاة لا تجوز على غير المؤمن بالإجماع.

(2)

* قال أحمد:

"ومن مات من أهل القبلة موحِّداً- يُصلَّى عليه، ويُستغفر له، ولا يُحجب عنه الاستغفارُ، ولا تُترك الصلاة عليه لذنبٍ أذنبَه - صغيراً كان أو كبيراً - أمره إلى الله تعالى".

(3)

مما سبقَ يتبيّن لنا:

الفرق بين طريقة الراسخين في العلم في تناول وفَهم النصوص، وطريقة أهل البدع، ومفاد ذلك في قوله تعالى:

{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}

[آل عمران: 7]؛ فأمّا أهلُ البدع فيتعلقون بما يوافق أهواءهم مِن نُصوص المتشابه، ويغضُّون الطَّرْفَ عن المُحْكَمِ منها، وأمّا أهل العلم الذين هم أهلُه فتراهم يحملون المتشابِه منها على المُحْكم، فيجتمعُ عندهم الحقُّ كلُّه.

الشبهة الثالثة:

أمّا دعوى نفاة الشفاعة أنّ أحاديث الشفاعة أحاديث آحاد- فدعوى مردودةٌ على أصحابها؛ إذْ قدْ نصَّ أهلُ العلم على أن أحاديث الشفاعة متواترة، وممّن نصَّ على ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر، والسخاوي، والقاضي عياض، وغيرهم.

** قال الذهبي:

"فمن رَدَّ شفاعتَه ورَدَّ أحاديثَها جَهْلاً منه- فهو ضالٌّ جاهلٌ قد ظنَّ أنها أخبار آحاد؛ وليس الأمر كذلك، بل هي من المتواتر القطعيّ، مع ما في القرآن من

(1)

فتح الباري (1/ 68).

(2)

الوعد الأخروي (2/ 516).

(3)

أصول السنة (ص/60).

ص: 245

ذلك: قال الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقال:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال:{وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] ". ا. هـ

(1)

- قال الباقلاني:

"والأخبار في الشفاعة أكثرُ مِن أن يُؤْتَى عليها، وهي كلُّها متواترة متوافية على خروج الموحِّدينَ من النار بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وآلِه-، وإنِ اختلفتْ ألفاظُها، وقد أطبقَ سلفُ الأمة على تسليم هذه الرواية وصحّتها مع ظهورها وانتشارها.

ولو كانت مِمّا لم تقُم الحُجّة بها لَطَعَنَ طاعنٌ فيها بدفْع العقل والسمع لها -على

ما يقوله المعتزلة-، ولَكان الصحابةُ رضي الله عنهم أعلمَ بذلك وأشدَّ تسرُّعاً إلى إنكارها؛ وفي العلم بفساد ذلك دليلٌ على ثبوت خبر الشفاعة وبُطلانِ قول المعتزلة".

(2)

قال القاضي عياض:

"وقد جاءت الآثار -التي بلغت بمجموعها التواتُرَ- بصحة الشفاعة في الآخرة لمُذنِبِي المسلمينَ، وأجمعَ السلف والخلف ومَن بعدَهم مِن أهل السنن عليها".

(3)

* قال الشيخ التاودي في حواشيه على الصحيح:

وقد نَظَمْتُ ذلك فقلتُ:

مِمّا تَواتَرَ: حَدِيثُ «مَنْ كَذَبْ»

و «مَن بَنَى لِله بَيْتاً وَاحْتَسَبْ»

ورُؤْيةٌ، شَفاعةٌ، والحَوْضُ

ومَسْحُ خُفَّيْنِ، وهَذِي بَعْضُ.

(4)

*ثم يقال ها هُنا:

ولو تنزلنا وقلنا: " إن أحاديث الشفاعة أحاديث آحاد"، فإنّ القول بالتفريق بين الأحاديث المتواترة والآحاد في الاحتجاج في العقائد قولٌ باطل مُبتدَع

(1)

إثبات الشفاعة للذهبي (ص/20).

(2)

تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل (ص/419).

(3)

شرح مسلم للنووي (3/ 31).

(4)

نظم المتناثر من الحديث المتواتر (ص/19).

ص: 246

مُحْدَث، لا أصل له في الشريعة، لم يَعرفه السلف، ولم يُنقل عن أحد منهم، بل هذا تفريقٌ مخالفٌ للكتاب والسنة وإجماع الأمة.

(1)

قال ابن القيم:

"وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنّها لم تَزَلْ تحتجُّ بهذه الأحاديث في الخَبَرِيَّات، كما تحتج بها في الطَّلَبِيّاتِ العَمَلِيّاتِ".

(2)

كذلك قد نقلَ مثلَ هذا الإجماعِ: الشافعيُّ في الرسالة، وابنُ عبد البر في التمهيد.

** فإذا ما سألتَ:

وما الذي حملَ أهلَ البدع على رد الاحتجاج بأحاديث الآحاد في الاعتقاد خاصّةً؟ فالجواب: ما قاله ابن القَاصّ:

"وإنّما دَفَعَ خبرَ الآحاد بعضُ أهل الكلام؛ لعجزه - واللهُ أعلمُ - عن علم السُّنن، زعم أنه لا يقبل منها إلا ما تَواترتْ به أخبارُ مَن لا يجوز عليه الغلطُ والنسيانُ؛ وهذا عندَنا مِنْهُ ذَريعةٌ إلى إبطال سُنن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

(3)

** وهل نقلت إلينا رُءوس مسائل الاعتقاد وأُصولها إلا بنقل الآحاد؟!

قال ابن حبّانَ:

"مَن تنكَّبَ عن قبول أخبار الآحاد فقد عمدَ إلى ترْك السنن كلها؛ لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد".

(4)

4 -

رابعاً: دعوى أنّ أحاديث الشفاعة للذين تابوا من أصحاب الكبائر:

كما جنح إلى ذلك القاضي عبد عبد الجبار، فجعل أحاديث الشفاعة بناءً على هذا الأصل راجعة إلى نفع التفضل على المشفوع له، ورفعة الدرجات له.

(5)

(1)

لذا فمما نص عليه القاضي عبد الجبار قوله أن حديث "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" لم يثبت، ولو صح فإنه منقول بطريق االآحاد، فلا يصح الاحتجاج به!! (شرح الأصول الخمسة (ص/690))

قد فصّلنا القول في هذه المسألة بأدلتها في رسالتنا [البيان الأَثِيث في قواعد علم الحديث].

(2)

الصواعق المرسَلة (2/ 412).

(3)

الفقيه والمتفقِّه (ص/ 281)، وابن القاص هو أحمد بن أبي أحمد الطبري، أبو العباس، الإمام الفقيه، شيخ الشافعية، تلميذ أبي العباس بن سريج، قال ابن خلِّكانَ:"كان إمامَ وقتِه في طبرستان"، تُوفي سنةَ (335 هـ).

(4)

مقدمة صحيح ابن حبان (1/ 156).

(5)

وانظر فضل الاعتزال (ص/210) ومنهج المتكلمين (2/ 681)

ص: 247

ولا شك أن هذا خلاف ظاهر الأدلة الواردة في أحاديث الشفاعة، وذلك من وجوه:

1 -

عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي اخْتَبَأْتُ شَفَاعَتِي لِمَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَمْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا ".

(1)

. فهذا يدخل فيه دخولاً أولياً بلا شك أمسُّ الناس لشفاعته يوم القيامة، وهو أصحاب الكبائر.

2 -

أن حمل المخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: «شَفاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» .

(2)

على الذين تابوا!! فهذا بلا شك من تحريف الكلام عن مواضعه؛ فلو أن أصحاب الكبائر قد ماتوا على توبة لما قيل في حقهم أهل الكبائر، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولكفاهم فضل الله -تعالى- بقبول توبتهم عن حاجتهم لشفاعة الشافعين.

3 -

قد ثبت في نصوص أحاديث الشفاعة وقوعها لأناس من أهل الكبائر دخلوا النار بالفعل، ثم أدركتهم شفاعة الشافعين فخرجوا منها ودخلوا الجنة، فلو كانوا تائبين لما دخلوها أصلاً؛ فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

*خامساً: الشبهات العقلية التي استدل بها نفاة الشفاعة:

قول القاضي عبد الجبار:

"لقد دلت الدلائل على أن العقوبة تُستحق على طريق الدَّوام، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والحالُ ما تقدَّمَ؟! "

(3)

.

* وقد رد أهل السنة على هذه الشبهة العقلية:

بأنّ الأدلة على دوام العقوبة عامّةٌ، وأدلة إثبات الشفاعة لأهل الكبائر خاصّةٌ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامّ؛ فوجبَ القطعُ بأنّ النصوص التي دلت على الشفاعة مقدَّمة على العمومات الدالّة على دوام العقوبة.

(4)

* كذا يُقالُ:

إنّ هذه الشبهة هي نتيجة قد بُنيت على مقدمة باطلة، وهي أنّ صاحب الكبيرة مآلُهُ الخلودُ في النار، وهذا مما سبقَ بيانُ بُطلانِهِ، وإذا فسدت المقدماتُ

(1)

أخرجه أحمد (19735)، وسنده صحيح.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

شرح الأصول الخمسة (689)

(4)

نقد الأصول الخمسة للمعتزلة (ص/243).

ص: 248