الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء
*نص حديث الباب:
عَنْ عُمَرَبن الخطاب رضي الله عنه قَالَ:
كُنْتُ فِي رَكْبٍ أَسِيرُ فِي غَزَاةٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَحَلَفْتُ فَقُلْتُ: لَا وَأَبِي، فَسَمِعَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللهَ عز وجل يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، إِنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِشَيْءٍ دُونَ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فلَا يَحْلِفْ إِلَّا بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ.
قَالَ عُمَرُ: فَوَاللهِ مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا.
* أخرجه البخاري (6647) بَابُ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، ومسلم (1646) بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى.
*أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:
1 -
الفائدة الأولى: نقض مسائل الجاهلية:
لا شك أن شريعة الإسلام التى بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنت في المقام الأول بهدم علائق الجاهلية في قلوب الناس وأفعاهم وأقوالهم، وهذا دلائله كثيرة في الكتاب والسنة قال تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(المائدة /50)، وقال تعالى (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى)(الأحزاب /33)،
وقال عزوجل (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)(الفتح/26)
* ومن ذلك أيضاً ما ورد في السنة:
في حديث أبي ذر - رضى الله عنه- قال:
سَابَبْتُ رَجُلًا
فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فقال لي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ.
(1)
وعن عَبْدِ اللهِ بن مسعود - رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
«لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، أَوْ شَقَّ الْجُيُوبَ، أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» .
(2)
وقد جمع الرسول صلى الله عليه وسلم ما سبق في حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْلَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنْ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، النَّاسُ رَجُلَانِ:
بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللهُ:{يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
(3)
والأمثلة في هذا الباب كثيرة، ومنها ما ورد في حديث الباب:
فقد كانت عادة العرب القسم بما جل قدره وعظم خطره وكثر نفعه عند الخلق من السماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار ونحو ذلك.
ومن هذا الباب فقد كان من الشائع عند أهل الجاهلية الافتخار بالأباء وتعظيمهم، وكم من أمة كفرت بالله -عزوجل - من هذا الباب، قال تعالى:
…
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)) (المائدة/104)
وهذا كثير الذكر في كتاب الله تعالى،
(1)
متفق عليه. أي عيَّره بسبب أمه، وكانت سوداء، فقال له يا ابن السوداء. وقوله صلى الله عليه وسلم (فيك جاهلية): أى فيك خصلة من خصال الجاهلية، وهي التفاخر بالآباء.
(2)
متفق عليه.
(3)
أخرجه أحمد (8736) والترمذى (3270) قال الترمذى: هذا حديث حسن صحيح.
عُبِّيَّة الجاهلية: بضم عين مهملة، وكسر موحدة مشددة، وفتح ياء مثناة من تحت مشددة، نَخْوتُها وكبرها وفخرها وتعاظمها. "مؤمن تقي، وفاجر شقي"، أي: الناس رجلان: مؤمن تقي فهو الخير الفاضل، وإن لم يكن حسيباً في قومه. وفاجر شقي فهو الدنيء، وإن كان في أهله شريفاً رفيعاً. (معالم السنن (3/ 622))
كذلك كانوا يكثرون الحلف بالأباء في أيمانهم،
كما ورد في حديث ابْنَ عُمَرَ- رضى الله عنهما- قَالَ:
كَانَتْ قُرَيْشٌ تَحْلِفُ بِآبَائِهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»
(1)
* لذا فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغلق هذا الباب لحسم المادة وسد الذريعة الموصلة إلى تعظيم الأباء والطواغيت من دون الله - تعالى- فنهاهم عن الحلف بالآباء، كما في حديث الباب، وليس هذا النهى خاصاً عن الحلف بالآباء؛ بل بكل محلوف به سوى الله عزوجل، وإنما خرج الحديث على الغالب فلا مفهوم له.
فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فالقسم لا يكون إلا بمعظَّم، فيعم الحكم كل مقسَم به غير الله تعالى.
كما أن النهى خص الحلف بالأباء لأنه هو سبب ورود الحديث، وذلك لما حلف عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- فقال:" وأبي".
*يؤيده:
ما ورد في الروايات الأخرى، فعن عبدالرحمن بن سمرة-رضى الله عنه- قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّوَاغِي، وَلَا بِآبَائِكُمْ» .
(2)
وفي رواية أَبِي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالْأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ ".
(3)
وعن بريدة-رضى الله عنه- قَالَ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
" لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ "
(4)
قال الخطابي:
هذا يشبه أن تكون الكراهة فيها من أجل أنه إنما أمر أن يحلف بالله وبصفاته وليست الأمانة من صفاته، وإنما هي أمر من أمره وفرض من فروضه
(1)
أخرجه مسلم (1646)
(2)
أخرجه مسلم (1648) أحمد (20624) والمراد (بالطواغي) هي الأصنام، وقد سُمي باسم المصدر لطغيان الكفار بعبادته؛ لأنه سبب طغيانهم وكفرهم، وكل ما جاوز الحد في تعظيم أو غيره فقد طغى. فالطغيان المجاوزة للحد
ومنه قوله تعالى {لما طغى الماء} أي جاوز الحد. وانظر شرح مسلم للنووى (6/ 120) والعين (4/ 435) والتوضيح لابن الملقن (30/ 263)
(3)
أخرجه النسائي (3769) وأبو داود (3248)
الأنداد: جمع ند، وهو مثل الشيء الذي يضاده في أموره، ويناده، أي: يخالفه، ويريد بها ما كانوا يتخذونه آلهة من
دون الله.
(4)
أخرجه أحمد (22980) وأبو داود (3253) والحاكم (7816) وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
فنهوا عنه لما في ذلك من التسوية بينها وبين أسماء الله عز وجل وصفاته.
(1)
قال المهلب:
كانت العرب تحلف بآبائها وآلهتها، فأراد الله نسخ ذلك من قلوبهم؛ لينسيهم ذكر كل شيء سواه ويبقي ذكره، لأنه الحق المعبود؛ فلا يكون اليمين إلا به، والحلف بالمخلوقات في حكم الحلف بالآباء.
(2)
2 -
الفائدة الثانية: الحلف بغير الله تعالى، حكمه وحكمته:
* نقول أولاً:
قد دل حديث الباب على نهي الشرع عن الحلف بغير الله تعالى، والحكمة من ذلك هى أن الحلف يقتضى تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله - تعالى - لا شريك له فيها؛ فإنها إزاره والكبرياء رداءه فمن نازعه فيهما قصمه، كما صح في الأحاديث الصحيحة حكاية عنه سبحانه وتعالى، فلا يضاهى به غيره.
(3)
كذلك قَال تعالى (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: 22)
قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما:
الأَنْدَادُ هُوَ الشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى صَفَاةٍ سَوْدَاءَ، فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ. وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ، وَحَيَاتِكَ يَا فُلانَةُ، وَحَيَاتِي.
(4)
فدل ذلك على أنّ هذه الألفاظ التي ذكرها ابن عبّاس -رضى الله عنهما- تجري على ألسنة
كثيرٍ من النّاس وهي من الشّرك، لكنه شرك أصغر، ويسمّى شرك الألفاظ، ولو لم يقصد بقلبه، وهو من اتّخاذ الأنداد، فالحلف بغير الله - تعالى - من اتّخاذ الأنداد لله سبحانه وتعالى،
لأنّ النّد معناه:
النّظير والشّبيه، فالذي يحلف بغير الله -تعالى- يجعل المحلوف به
(1)
معالم السنن (2/ 520)
(2)
وانظر فتح الباري (11/ 335) رسالة الشرك ومظاهره (ص/409)
المهلب المذكور هو: المهلب بن أحمد بن أبي صفرة، أسيد بن عبد الله الأسدي الأندلسي المريي، وهو مصنف (شرح صحيح البخاري). وكان أحد الأئمة الفصحاء، الموصوفين بالذكاء، وقد أكثر الإمام ابن حجر النقل عنه في فتح الباري شرح صحيح البخاري، توفي في شوال سنة خمس وثلاثين وأربعمائة. (سير أعلام النبلاء: 17/ 579).
(3)
المجموع للنووي (19/ 115) والإعلام بفوائد عمدة الأحكام (9/ 255)
(4)
ذكره ابن كثير في تفسيره (1/ 99) وابن حبان (1/ 62) وإسناده صحيح.