الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن المسلمين إذا قالوا: القرآن كلام الله؛ لم يريدوا بذلك أن أصوات القارئين وحركاتهم قائمة بذات الله وإذا قالوا:
هذا الكلام حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ لم يريدوا بذلك أن حركات المحدِّث وصوته قامت بذات النبي صلي الله عليه وسلم.
(1)
وخير ما نختم به مسألة اللفظية:
*قال الذهبي:
والقرآن العظيم حروفه وألفاظه كلام رب العالمين غير مخلوق، وتلفظنا به وأصواتنا به من أعمالنا ا لمخلوقة، ولكن لمَّا كان الملفوظ لا يستقل إلا بتلفظنا والمتلو لا يسمع إلا بتلاوة تالٍ صعب فهم المسألة وعسر إفراز اللفظ الذي هو الملفوظ من اللفظ الذي يعني به التلفظ، والخوض في هذا خطر، نسأل الله السلامة في الدين، وفي المسألة بحوث طويلة الكف عنها أولي، وخاصة في هذه الأزمنة المزمنة.
(2)
*قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وكان الأئمة الكبار يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، لما فيها من لبس الحق بالباطل، مع ما توقعه من الإشتباه والفتنة، فإذا لم يكن اللفظ منقولاً
ولا معناه معقولاً ظهر الجفاء والأهواء، لذا قال مالك ر حمه الله" إذا قل العلم ظهر الجفاء وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء".
(3)
حكم من قال بخلق القرآن:
أما تكفير من قال بخلق القرآن فقد ورد عن سائر أئمة السلف في عصر مالك والثوري ثم عصر ابن المبارك ووكيع ثم عصر الشافعي وعفان والقعنبي ثم عصر أحمد ابن حنبل وعلي بن المديني ثم عصر البخاري وأبي زرعة الرازي ثم عصر محمد بن نصر المروزي والنسائي ومحمد بن جرير وابن خزيمة.
(4)
(1)
ذكره ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (1/ 248)
(2)
وانظر سير أعلام النبلاء (13/ 101)
(3)
وانظر درء تعارض العقل والنقل (1/ 255)
(4)
العلو للعلي الغفار (ص/173)
قال عبد الله بن المبارك:
سمعت الناس منذ تسعة وأربعين عاماً يقولون: من قال بأن القرآن مخلوق، فامرأته طالق ثلاثاً البتة.
(1)
قال سفيان بن عيينه:
من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر.
(2)
*قال عبد الله بن أحمد سمعت أبي رحمه الله يقول:
من قال: القرآن مخلوق فهو عندنا كافر؛ لأن القرآن من علم الله عز وجل، قال الله عز وجل {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} ، ومن قال علم الله مخلوق فهو كافر؛ لأنه يزعم أنه لم يكن لله علم حتى خلقه.
(3)
*وقد عدَّ اللالكائي أسماء كثيرة من طبقات شتى، ثم قال رحمه الله:
قالوا كلهم: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر. فهؤلاء خمس مائة وخمسون نفسا، أو أكثر، من التابعين، وأتباع التابعين، سوى الصحابة الخيرين، على اختلاف الأعصار، ومضي السنين والأعوام، ونقلت عن هؤلاء عصرا بعد عصر، لا ينكر عليهم منكر، ومن أنكر قولهم استتابوه أو أمروا بقتله أو نفيه أو صلبه.
(4)
*فوائد مهمة:
1 -
ما روي مرفوعاً: "من قال القرآن مخلوق فهو كافر"، لا يصح نسبته للنبي صلى الله عليه وسلم.
(5)
(1)
انظر شرح اعتقاد أهل السنة (2/ 386) وكذلك ممن أفتي بكفر من قال بخلق القرآن الأئمة الشافعي وأحمد والبخاري.
(2)
أخرجه عبدالله بن أحمد في السنة (ص/28) وسنده حسن.
(3)
وانظر المصدر السابق (ص/18)
(4)
شرح أصول الاعتقاد (2/ 344)
(5)
أما روايته مرفوعاً فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 107) والسيوطي في اللآلى المصنوعة (1/ 11)
قال الدارقطني: في سنده محمد بن عبيد يكذب ويضع الحديث. وقال الذهبي: روي من وجوه باطلة. قال الشوكاني: في إسناده محمد بن عبد الله بن عامر السمرقندي وضاع. وكذا رواه ابن عدي والخطيب بأسانيد فيها مجاهيل. وانظر اللآلئ المصنوعة (1/ 11) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة (1/ 134) وترتيب موضوعات ابن الجوزي للذهبي (ص/17).
2 -
كفر من قال بخلق القرآن إنما هو من كفر وشرك التعطيل، والذي يكون متعلقاً بذات المعبود وأسمائه وصفاته، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون وأشباهه، فالشرك والتعطيل متلازمان.
والقول بخلق القرآن كفر ظاهر؛ إذ هو تكذيب لنصوص الوحيين، وإلحاد في أسماء الله وصفاته، وتشبيه الله -تعالى- بخلقه، وهذا كفر محض.
3 -
قول الأئمة بتكفير القائل بخلق القرآن يتوجه على أنه كفر نوع لا كفر عين،
فلا يكفر القائل بهذا حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، فإن أصر بعدها كان كافراً نوعاً وعيناً.
لذا فالحكم على الأعيان، كالقول إن فلاناً القائل بخلق القرآن كافر؛ فهذا أمر آخر، يحكم به القاضي، أو العالم المتأهل للكلام في ذلك، بناء على صحة إيقاع الوصف على المعين، باستيفائه شروطه، وانتفاء الموانع المؤثرة عنه.
*واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا التفريق بأن الإمام أحمد - وغيره من السلف - لم يكفِّر كل من قال بخلق القرآن، فقال:
إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره. ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام؛ لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة؛ صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة.
وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفَّر به قوماً معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان؛ ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال:
أ) من كفَّره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه. ب) من لم يكفَّره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه، مع إطلاق قوله بالتكفير على
سبيل العموم. والدليل على هذا الأصل: الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار.
(1)
*وهذا التفريق السابق بين النوع والعين يفسر لنا ما قد يرد من الإشكال في فعل الإمام أحمد الذى كان يُكفِّر الجهمية، مع كونه كان يصلي خلف أئمة عصره القائلين بخلق القرآن، بل ويدعو ويستغفر لهم ويعتقد إمامتهم وينهى عن الخروج عليهم.
الشبهات التي استدل بها من قال بخلق القرآن، والرد عليها:
1 -
الشبهة الأولى: قوله تعالي: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)
(2)
وجه الدلالة:
القرآن شئ، فيدخل في عموم الآية، فالله خالق وما سواه مخلوق.
قال القاضي عبد الجبار:
قوله تعالى " اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ" يدل على حدوث القرآن، وأنه تعالى خلقه بعموم الآية، ولولا قيام الدلالة على إخراج أفعال العباد منه لوجب دخوله في العموم.
(3)
الجواب على هذه الشبهة أن يقال:
قوله تعالي: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) هذا من العام الذي يراد به الخاص، ونظير ذلك قوه تعالي عن ملكة سبأ (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23))
(النمل: 23)
مع أنه لم يدخل في ملكها شيء كثير، مثل ملك سليمان عليه السلام.
كذلك قوله " تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا "، فهذا العموم ليس على ظاهره، فهي لم تدمر السماوات والأرض.
(1)
مجموع الفتاوى (12/ 489).
(2)
نقول:
هذه الآية مما استدل به القاضي أحمد بن دؤاد علي قوله بخلق القرآن، وهذا من أعاجيب المعتزلة، وذلك أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالي، وإنما يخلقها العباد، فأخرجوها من عموم الآية، وأدخلوا كلام الله في عمومها، مع أنه صفة من صفاته، به تكون الأشياء المخلوقة.
(3)
المغني (7/ 94)
قلت:
تأمل كيف أخرج القاضي عبد الجبار خلق الله -تعالى- لأفعال العباد من عموم هذه الآية، رغم أن أدلة الكتاب والسنة والإجماع على خلاف ذلك، ثم تراه يدخل في عمومها خلق القرآن، رغم أن أدلة الكتاب والسنة والإجماع على خلاف ذلك.
عجيب والله أمر الهوى إذا ما تلاعب باعتقاد المرء، فعندها لا نملك إلا أن نحمد الله - تعالى - على سلامة العقل، والعافية في الدين.
وعليه نقول: أن قوله تعالى (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) إنما يتوجه لكل ما هو قابل لأن يكون مخلوقاً، والقرآن الذي هو كلام الله صفة من صفات الله عز وجل ليس مخلوقاً، لأن الله عز وجل لم يزل ولا يزال متصفاً بصفاته الحسني.
*وكذلك يقال:
أن عموم هذه الآية لا يتناول القرآن؛ لأنه بهذه الآية التي هي من القرآن قد حصل الإعلام بكونه خالقاً لكل شيء، وما حصل به الإعلام لم يكن داخلاً تحت الخبر، ولو أن شخصاً قال: لا أتكلم اليوم كلاماً، إلا كان كذباً، لم يدخل إخباره تحت ما أخبر به.
وهذا نفسه مذكور في القرآن في قوله تعالي في قصة مريم عليها السلام
(فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)) (مريم: 26)
به حصل الإخبار بأنها لا تكلم الإنس، ولم يكن ما أخبرت به داخلاً تحت الخبر، وإلا كان قولها هذا مخالفاً لنذرها.
(1)
*وكذلك يقال:
أرأيتم قوله تعالى (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ) فقد أخبر الله -تعالى- عن نفسه أنه شيء، فهل ترونه -تعالى- داخلاً في عموم قوله (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)، فجوابكم سيكون بالنفي؛ لأنه سبحانه هو الخالق، نقول:
فكذلك قولوا في صفاته -ومنها الكلام- أنها غير مخلوقة، فالكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات.
2 -
الشبهة الثانية:
قوله تعالى {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] والذكر هاهنا هو القرآن، وقد وصفه بالحدوث، والحادث لا يكون إلا مخلوقاً!!!
(2)
(1)
وانظر بدائع الفوائد (4/ 218).
(2)
وهذه الآية مما عورض بها الإمام أحمد-رحمه الله في إحدى مناظرات خلق القرآن، وكان ذلك في حضرة المعتصم.
*وقد أجيب عن ذلك بأن الذكر ليس هو القرآن، بل هو الرسل بدليل قوله تعالى
(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) [الطلاق: 10، 11]
وانظر سير أعلام النبلاء (11/ 245) والإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية (ص/435)
والراجح -والله أعلم- أن الذكر المقصود في الآية هو القرآن، والرد ما ذكرناه أعلاه.
قال القاضي عبد الجبار:
قوله تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا)(الزمر: 23)، وقوله تعالى (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) (الأعراف: 185)، فلا يجوز أن يوصف بذلك إلا وهو محدث.
(1)
*وجواب ذلك:
أننا لا بد أن نفرق بين أصل صفة الكلام وبين آحاده، فالله- عز وجل متصف بصفة الكلام من الأزل، فهي صفة ذات له عز وجل، لم يزل - سبحانه - ولا يزال متكلماً.
وأما آحاد الكلام - والذى منه القرآن - فهو بعض كلام الله عز وجل تكلم به متى شاء، وعليه فصفة الكلام قديمة الجنس، حادثة الآحاد.
فقوله تعالى (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ)
فالحداثة إنما هي وصف لآحاد الكلام، وليس لأصل الصفة، فتنبَّه.
قال ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:
" يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله ".
(2)
قال الذهبي:
قَوْله تَعَالَى: {مَا يَأْتيهم مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبّهم مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتمعُوْهُ وَهُمْ يَلعبُوْنَ}
عنى بحدوثه هو إنزاله إلى الأمة على لسان نبيها صلى الله عليه وسلم.
(3)
3 -
الشبهة الثالثة:
- قوله تعالي: (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْه ((النساء: 171)
فقالوا: بالإجماع فإن عيسى عليه السلام مخلوق، فلمَّا كان عيسى عليه السلام -كلمة الله، دل أن كلام الله مخلوق!!
وجواب ذلك:
أن المقصود بقوله تعالي: "وكلمته" هو أن عيسى- عليه السلام إنما خُلق بكلمة الله، وهي قوله تعالي:"كن"، فإن عيسى عليه السلام لم يُخلق من أبوين كسائر
(1)
المغني (7/ 89)
(2)
أخرجه البخاري (2685)
(3)
سير أعلام النبلاء (18/ 142)
الخلق. وإنما كان بكلمة "كن "، وليس هو الكلمة، وإنما أضيف إلى الله على سبيل التشريف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: كن فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو الكن، ولكن كان بكن، فالكن من الله قول، وليس الكن من الله مخلوقاً.
(1)
4 -
الشبهة الرابعة:
قالوا:
قال الله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} (الزخرف: 3)
والجعل في اللغة: هو الخلق، بدلالة قوله تعالي (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) (الأنعام: 1) أي خلقها، فالمجعول لا يكون إلا مخلوقاً.
(2)
*والرد على هذه الشبهة:
قد تعددت استعمالات " الجعل " في لغة العرب، لذا يقول ابن فارس:
" الجيم، والعين، واللام " كلمات غير منقاسة، لا يشبه بعضها بعضاً.
(3)
فنذكر من معاني الجعل ما يلي:
1 -
قد يأتي الجعل بمعنى التسمية والحكم، كما ورد في قوله تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا (19)) (الزخرف: 19)، وقوله تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) (الأنعام: 100)
2 -
وقد يأتي الجعل بمعني الخلق، كما في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189]، وقوله تعالى (الْحَمْدُ
(1)
مجموع الفتاوى (8/ 418)
والمتأمل في هذه الآية يدرك كم تجارت الأهواء بأهلها، فبهذه الآية يستدل النصاري على أن عيسى عليه السلام من الله؛ لأنه كلمة الله التي هي صفته، وبهذه الآية يستدل الخلقية على أن كلام الله مخلوق؛ لأن عيسى كلمة الله وعيسى مخلوق، وأما أهل الحق فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
(2)
وهذه من الشبهات التى استدل بها القاضي عبد الجبار في "المغني"(7/ 89)
(3)
مقاييس اللغة (1/ 460)
لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) (الأنعام: 1).
3 -
وقد يأتي الجعل بمعنى التصيير والتقدير، كما في قوله تعالى {فجعلهم جذاذاً} [الأنبياء: 58]، وقوله تعالى {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)} [الفيل: 5]، وقول إبراهيم عليه السلام (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ) (إبراهيم: 40)
فقوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبياً} إنما يُحمل على المعنى الثالث، فالله عز وجل قدَّره وصيَّره كلاماً عربياً لنزوله على العرب، مصداقاً لقوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم: 4)
*فإن قيل:
ولم حملتم قوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبياً} على المعنى الثالث دون الثاني؟
*فالجواب من وجوه:
1 -
الأول:
ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماعات أهل السنة أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
2 -
الثاني:
أنَّ "جعل" إذا تعدت إلى مفعول واحد كانت بمعنى " خلق "، وأما إذا تعدت إلى مفعولين لم تكن بمعنى خلق، بل كانت بمعني التقديروالتتصيير، مما يبطل دعوى الاستدلال بقوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبياً} أن القرآن مخلوق.
*وما أجمل ما قاله الآلوسي في تفسير قوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبياً} :
والجعل هنا بمعني التصيير، لا بمعنى الخلق المعدَّى لواحد، لأن ذلك يأباه ذوق المقام؛ لأن الكلام لم يسق لتأكيد كونه مخلوقاً، وما كان إنكارهم متوجهاً عليه، بل هو مسوق لإثبات كونه قرآناً عربياً، لا يعسر عليهم فهم معانيه.
(1)
-هذا وقد ذكر علماء التفسير كالطبري والقرطبي وابن كثير في تفسير قوله تعالي "إنا جعلناه".
(1)
روح المعاني (13/ 6).
قالوا: أنزلناه، وقيل سمَّيناه، وقيل: وصفناه.
5 -
الشبهة الخامسة:
4 -
عن أبي أُمامة-رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
البقرة وآل عمران تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا ".
(1)
فقالوا: فما كان غمامة أو غياية فلابد أن يكون مخلوقاً.
وكذلك فمما احتج به الجهمية علي الإمام أحمد في قولهم بخلق القرآن: حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
" إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِب ".
(2)
فقالوا: فما كان يأتي ويجئ فلابد أن يكون مخلوقاً.
*والرد على هذه الشبهة:
نقول: أما قولهم أن مجيء سور القرآن يدل علي أنه مخلوق!!
فالجواب عليه من وجوه:
1 -
قد ثبت بالكتاب والسنة أن الله عز وجل يجئ ويأتي، فهل يقول أحد بأن الله مخلوق؟!
(3)
فعلي فرض أن الذي يأتي هو القرآن نفسه، فليس في مجيئه دلالة على أنه مخلوق.
2 -
ثم نقول أن الذي يأتي هو ثواب قراءة القرآن، و ثواب قراءة القرآن مخلوق
(1)
رواه مسلم (804) وأحمد (22267) =
=وكان إسماعيل بن عليَّه ممن يذكر هذا الحديث في القول بخلق القرآن ويقول: " يحاجان بلسان "، كما ذكر ذلك الذهبي في السير (9/ 111)، ولكنه تاب ورجع عن قوله بخلق القرآن، وقال: ليس من الله شيء مخلوق، كما ذكر ذلك الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 220) واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (435)، وانظر "الآثار الواردة عن السلفلافي العقيدة"(1/ 296)
(2)
أخرجه أحمد (22950)، وانظر الصحيحة (2829)
(3)
وهذا مما أجاب به أحمد علي الجهمية في استدلالهم بهذا الحديث على خلق القرآن، وانظر مجموع الفتاوي لابن تيمية (5/ 398)
باتفاق أئمة الإسلام.
(1)
فإن قلتم: ظاهر الأحاديث هو مجيء البقرة وآل عمران، فلما تؤلون المجيء بأنه مجيء الثواب؟؟
فجوابه:
العجيب في أمركم أنكم -أي المعتزلة القائلون بخلق القرآن- قد أقررتم تأويلكم بأن مجيء الله عز وجل هو مجيء أمره، رغم أنه تأويل بلا قرينة، ثم تنكرون تأويل مجيء البقرة وآل عمران بأنه مجيء الثواب، وهو تأويل صحيح قد دلت القرائن من الكتاب والسنة والإجماع.
(2)
6 -
الشبهة السادسة:
قولهم: قال تعالي: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
وصف القرآن بأنه منزل يدل على أنه مخلوق، كما في قوله عن إنزال المطر والحديد والأنعام!!
جوابه:
أما الآيات التي ذكرت إنزال القرآن فهو إنزال مقيد؛ حيث ذكرت أنه إنزال من الله عز وجل -كما في قوله تعالي: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) وقوله تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)
وهذا بخلاف الإنزال المطلق كما في قوله: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)
ونزيد على ذلك:
أن المنزل إما أن يكون عيناً قائمة بنفسها، وعندها يكون مخلوقاً، لأنه بائن من الله عز وجل.
وإما أن يكون وصفاً لا يقوم إلا بغيره، وحينئذ يجب أن يكون من صفات الله،
(1)
انظر المصدر السابق (5/ 399)
(2)
وعلى هذا فمثل تفسير المعتزلة لأحاديث الصفات إنما هو من التأويل الباطل، وذلك لأنهم صرفوا الألفاظ عن ظاهرها بلا قرينة، أما فعل السلف فهو التأويل الصحيح لأنهم يصرفون اللفظ عن ظاهره بالقرائن، لذا فلقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دقيقاً في قوله:
نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل.
ولم يقل بلا تأويل؛ وذلك لأن التأويل يكون سائغاً إذا كان بالقرائن المحتفة، أما التأويل بلا قرينة فهو في حقيقته تحريف، وهو طريقة المتكلمين فقد نقل ابن القيم إجماع غير واحد من السلف على بطلانه.
والكلام وصف لا يقوم إلا بغيره، فإذا أضاف الله الكلام إلى نفسه فهو صفة من صفاته، أما أن الحديد فلا يكون صفة لله، فهذا غير معقول وكذا الماء النازل والأنعام، فهذه كلها أعيان قائمة بنفسها.
(1)
تم بحمد الله.
(1)
وانظر شرح العقيدة السفارينية لابن العثيمين (ص/187).
الحديث الرابع عشر: حصد الفكر: شرح حديث كل مولود يولد على الفطرة