المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ حسن المقصد يحتاج إلى حسن العمل - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌ حسن المقصد يحتاج إلى حسن العمل

لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52].

قال الراوي: "ويَنُوطُونَ عَلَيْها أَسْلِحَتَهُمْ" أيْ: يعلِّقون عليها أسلحتهم.

"فقلنا: يا رسولَ الله، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ" أي:

اجعلْ لنا شجرةً نُعلِّق عليها أسلحتنا، كما لهم شجرةٌ يُعلِّقون عليها؛ فالمشركون كانوا يفعلون ذلك طلباً للبَرَكة من هذه الأشجار؛ لتزداد الأسلحة قوةً -مثلاً- فلا تنكسرَ حالَ النِّزالِ في المَعارك.

فقال هَؤلاءِ الذين أسلموا حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم:

"اجعلْ لنا ذاتَ أَنواطٍ" أي: لِنُعلّقَ عليها أسلحتنا. ومعنى "أناط الشيءَ": علَّقَه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سُبْحانَ اللهِ» ، وفي روايةٍ قال: «اللهُ أَكبرُ، قُلْتُم كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى

».

*هذا الحديث فيه جُملةٌ من الفوائدِ:

الفائدة الأولى: *‌

‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

*

وهذه القاعدة من الأهميّة بمَكانٍ، أي: إن النية الصحيحة السليمة وَحْدَها لا تكفي لإصلاح العمل الفاسد، بَلِ النية السليمة تحتاج -كذلك- إلى صحة العمل، الذي هو عمل الجَوارح.

نَعَمْ، الأعمال بالنّيّات، ولكنَّ النية الصحيحة حتى يُقْبَلَ ما يترتّبُ عليها ويكونَ عليها الثوابُ- لا بُدّ أن يقترن بها عمل صالح موافقٌ لأصول الشرع؛ ولذلك قال تبارك وتعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]

فنهى الله تبارك وتعالى عن الشرك -شرك النيات، وشرك الأفعال- وأمرَ بإصلاح النية، ولم يقتصر على ذلك، بل قال:{فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} ، والعمل الصالح لا يكون صالحاً إلا إذا كان موافقاً للكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

* قال ابن كَثيرٍ:

قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: ثوابَه وجزاءه الصالحَ

ص: 59

{فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} ما كان موافقاً لشرع الله، {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ، وهو الذي يُراد به وَجْهُ الله وَحْدَه لا شريكَ له؛ وهَذانِ رُكْنا العملِ المتقبَّلِ: لا بد أن يكون خالصاً لله، صَواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1)

* وتأمَّلْ:

قد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابه-رضى الله عنه- وأمّته عن الصلاة بالمساجد التي بها قبور مع علمه صلى الله عليه وسلم أن أصحابه إذا دخلوا مسجداً -ولو فيه ألف قبرٍ- يُصلّون لله تعالى، وهو على يقينٍ مِن ذلك، ويَعلم حُسن نيّتِهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما اكتفى بحُسن النية، ولكنْ أمرَهم بحُسن العمل، وذلك بِتَرْكِ الصلاة في المساجد التي بها قبور.

*أما عن عَلاقة هذه القاعدة بحديث الباب:

فإنَّ هؤلاء النَّفَرَ الذينَ كانوا حُدَثاءَ عهدٍ بكفرٍ- كان مَقصِدُهم مقصداً حسناً، فهم لم يَقصدوا شجرةً يتبرّكون بها ويتمسّحون بها كما فعلَه المشركون الذين تعلّقت قلوبهم بالشجرة حتى عكفوا لها وأناطوا بها أسلحتهم طلباً للبَرَكة من ذات الشجرة؛ فلم يكن هَؤلاءِ الصَّحْبُ الكِرامُ قاصدينَ ذلك، بل كانت نيتهم نية حسنة، فهم ما أرادوا إلا شجرةً يعلّقون بها أسلحتهم للبركة، ويجلسون عندها للبركة؛ ومع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم -ما اكتفى بحسن النية، بل قد سوَّى طلبهم بطلب من قال:{اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]

2 -

الفائدة الثانية، وهي مسألة العذر بالجهل:

أولاً: نقول:

قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ

} [النساء: 48]، فما دُونَ الشرك فذلك كلُّه تحتَ المشيئة، قد يُغفر، وقد لا يُغفر، أما الشرك فهو خَطٌّ أحمرُ، فلو أتى المشركُ ربَّه تبارك وتعالى بقُرابِ الأَرضِ ذَهَباً وفِضّةً لم يُقبَلْ منه! ولكنَّ العلماء قالوا: إن هناك أعذاراً إذا ما تَلَبَّسَ بها المَرْءُ ثُمَّ وقعَ في الشرك

(1)

تفسير القرآن العظيم (5/ 205).

ص: 60

فإنها تَرفع عنه وَصْفَ الشرك (تَرْفعُه عن الشخص، لا عن الفعل نفسِه).

*ومن هذه الأعذار:

*الجهل، والتأويل، والخطَأ، والنِّسْيان

* فمن وقعَ في شرك وكان جاهلاً أو مخطئاً أو ناسياً أو متأوِّلاً- فهذه الأعذار تُسقط عنه حُكم الشرك، وهذا من حيث العَيْنُ لا النَّوْعُ، وهذا معنى مسألة العذر بالجهل.

* من أدلة العذر بالخطأ:

(1) قال تعالى: {

وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} [الأحزاب: 5]

(2) قد ورد في حديث الرجُل الذي كان في فَلاةٍ، وكان على دابّةٍ عليها طعام وشراب، وفقدَ دابته بما عليها، فجلس ينتظر الموت، وإذ به يرى ناقته التي عليها الطعام والشراب أمام عينيه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ.

(1)

فهذا الرجل قد أخطأ من شدّة الفرح، حتى أنه قد نطق كفراً، ولكنه لم يكفر بذلك؛ لِكَونه لم يُرِدْهُ، ولم يَقُلْه قاصداً حقيقة مَعْناهُ، بل في حالة كان فيها كالغافل والذّاهل والنّاسي الذي لا يؤاخَذ بما يصدُر مِنْهُ.

(2)

*وكذلك من هذه الأعذار: التأويل:

والتأويل مِن معانيه: تفسير النصوص الشرعية على غير مَدلولها الشرعي الصحيح.

* ويدل عليه:

قوله تعالى) وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ) (النحل: 106)

(1)

متفق عليه.

(2)

فتْح الباري (11/ 108)، وإعلام الموقِّعين (3/ 63).

ص: 61

قال ابن الوزير:

فقوله في هذه الآية الكريمة {ولكنْ من شرح بالكفر صدراً} يؤيد أن المتأولين غير كفار؛ لأن صدورهم لم تنشرح بالكفر قطعاً أو ظناً أو تجويزاً أو احتمالًا.

وقد يشهد لهم بذلك كلام أمير المؤمنين عليه السلام وهو الصادق المصدوق في المشهور عنه حيث سئل عن كفر الخوارج، فقال:" من الكفر فروا "، فكذلك جميع أهل التأويل من أهل الملة وإن وقعوا في أفحش البدع والجهل فقد علم منهم أن حالهم في ذلك هي حال الخوارج.

(1)

* يؤيده: قوله صلى الله عليه وسلم:

«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ

».

قال أبو سُليمانَ الخَطّابيُّ:

"فيه دلالة على أن هذه الفِرَق كلَّها غيرُ خارجة من الدين؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم جعلَهم كلَّهم من أمّته. وفيه: أن المتأوِّل لا يخرج من الملة، وإنْ أخطأ في تأوُّله" اهـ ـ

(2)

وقد كان الإمام أحمد مع قوله بكفر من قال بخلق القرآن، كان لا يكفِّر الأعيان لكونه يراهم متأولين.

قال أبو العباس ابن تيمية:

ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفِّروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لا يُرى في الآخرة.

وقد نُقل عن أحمد ما يدل على أنه كفَّر به قوماً معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل.

(1)

إيثار الحق على الخلق (ص/437)

(2)

معالم السنن (3/ 510).

ص: 62

فيقال: من كفَّره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه هذه مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم. والدليل على هذا الأصل: الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار.

(1)

وقال رحمه الله:

فالإمام أحمد -رحمه الله تعالى- ترحَّم عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لمن يتبين لهم أنهم مكذِّبون للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطأوا، وقلَّدوا من قال لهم ذلك.

(2)

ويقرر ابن حزم العذر بمثل هذا التأويل قائلاً:

" ومن بلغه الأمر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم من طريق ثابتة، وهو مسلم، فتأوَّل في خلافه إياه، أو رد ما بلغه بنص آخر، فما لم تقم عليه الحجة في خطئه في ترك ما ترك، وفي الأخذ بما أخذ، فهو مأجور معذور، لقصده إلى الحق، وجهله به، وإن قامت عليه الحجة فى ذلك فعاند فلا تأويل بعد قيام الحجة.

(3)

*وهنا فائدة: في ضوابط التأويل التى يُعذر بها المرء:

1 -

الضابط الأول:

يُشترط كونُه من التأويل السائغ، وهو ما لا يعود على الدين بالإبطال، ويكون مقبولاً في لغة العرب، ويكون قاله قاصداً أن يصيب الحقَّ، وقالَه وفْق قواعد العلم؛ ومِثل هؤلاء لهم أعذارٌ في وُقوعهم في التأويل.

فلا خلاف في كفر من جحد ذلك المعلوم بالضرورة للجميع، وتستر باسم التأويل فيما لا يمكن تأويله، كالملاحدة في تأويل جميع الأسماء الحسنى، بل جميع القرآن والشرائع والمعاد الأخروي من البعث والقيامة والجنة والنار.

(4)

(1)

مجموع الفتاوى (12/ 489)

(2)

المصدر السابق (23/ 349)

(3)

الدرة فيما يجب اعتقاده (ص/414)

(4)

إيثار الحق على الخلق (ص/415)

ص: 63

قال الشيخ ابن العثيمين وهو يبين التأويل السائغ من غيره:

إنكار شيء من أسماء الله -تعالى- أو صفاته نوعان:

النوع الأول: إنكار تكذيب، وهذا كفر بلا شك، فلو أن أحدا أنكر اسماً من أسماء الله، أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة، مثل أن يقول: ليس لله يد، فهو كافر بإجماع المسلمين؛ لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن الملة.

النوع الثاني: إنكار تأويل، وهو أن لا يجحدها، ولكن يؤولها وهذا نوعان:

الأول: أن يكون لهذا التأويل مسوغ في اللغة العربية فهذا لا يوجب الكفر.

الثاني:

أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية فهذا موجب للكفر، لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار تكذيباً، مثل أن يقول: ليس لله -تعالى- يد حقيقة، ولا بمعنى النعمة، أو القوة، فهذا كافر؛ لأنه نفاها نفياً مطلقاً فهو مكذب حقيقة، ولو قال في قوله تعالى:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} المراد بيديه السماوات والأرض فهو كافر، لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية فهو منكر مكذب.

لكن إن قال: المراد باليد النعمة أو القوة فلا يكفر؛ لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة.

(1)

2 -

الضابط الثانى:

يشترط في ذلك التأويل أن لا يكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وقبول شريعته؛ لأن هذا الأصل الذي هو الشهادتان لا يمكن تحقيقه مع حصول الشبهة فيه، ولهذا أجمع العلماء، على كفر الباطنية - مثلاً وأنهم لا يعذرون بالتأويل؛ لأن حقيقة مذهبهم الكفر بالله تعالى، و تمام عبادة الله وحده، وإسقاط شرائع الاسلام.

(2)

*وهنا الإشكال:

قد يقول قائل: إن المناط في قيام الحجة على المعين مطلقاً هو

(1)

فتاوى أركان الإسلام (ص/92)

(2)

وانظر رسالة ضوابط التكفير (ص/369) ونواقض الإيمان (ص/78)

ص: 64

مجرد بلوغها، ولا فرق في ذلك بين أن يكون عنده شبهة أو لا يكون. ومقتضى ذلك ألَّا يعذر أحد بالشبهة بعد بلوغ الحجة الرسالية.

ويستند من يقول هذا القول إلى أن الله -تعالى-قد حكم بالكفر على من وصفهم بأنهم لا يفقهون، وأنهم لا يعلمون، وأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ونحو ذلك.

ومن ذلك قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (الإسراء: 46)، وقول الله تعالى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان: 44).

وقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (الأنفال: 22 - 23).

وقوله تعالي: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون}

(الأعراف: 179)

والجواب أن هذا لا يعارض إعذار المتأول، ويتبين ذلك بوجهين:

الأول:

أن هناك فرقاً بين فهم الدلالة وفهم الهداية. فليس كل من بلغته الحجة وفهمها يهتدي بها.

لكنَّ الله -تعالى- قد جعل فهم الدلالة شرطاً في تكليف عموم الناس مؤمنهم وكافرهم، ولم يجعل فهم الهداية والتوفيق إلا لمن أراد لهم ذلك، وهو محض فضل من الله تعالي، أو بفضل منه جزاء لمن سعي في طلب الهدي.

فالفهم المشروط في قيام حجة الله -تعالى- على العباد غير الفهم الذي هو مقتضى هداية الله - تعالى -وتوفيقه، والشبهة التي تتعلق بفهم الحجة غير الشبهة التي هي لعدم الهداية ولو بلغت الحجة، وهذا فرق ظاهر.

يبين ذلك أن الآيات التي قد يستدل بها من لا يفرق بين هذين الأمرين كلها فيما

ص: 65

يتعلق بنفي العلم والفهم والعقل الذي هو مقتضى الهداية.

ولذلك فإن الله -تعالى- كما نفى عمن حكم بكفرهم في تلك الأيات العلم والفهم، فقد نفى عنهم أنهم يسمعون أو يبصرون. ومعلوم أن السمع والبصر المنفي هنا هو مقتضى الهداية لا أنهم صم لا يسمعون شيئاً عميٌ لا يرون شيئاً.

فكذلك العقل والفهم المنفي عنهم هو مقتضى الهداية والتوفيق، لا أنهم مجانين لا يعرفون شيئاً ولا يفهمون ما يقال لهم.

(1)

* ومن الأعذار في مسألة التكفير:

مسألة الجهل:

فالجهل بالحكم الشرعي أحد الأعذار التى يسقط بها حكم تكفير العين:

* فمن أدلة الكتاب على ذلك:

قال تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)(التوبة: 115)، وقال تعالى (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) (النساء: 165)

* ومن أدلة السنة:

1 -

حديث الرجل الذي شك في قدرة الله -تعالى- على أن يجمعَه بعدَ حَرْقه.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

" قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ: فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي البَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي البَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ، فَأَمَرَ اللَّهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ "

(2)

قال شيخ الإسلام ابن تَيميةَ:

"فهذا رجل شكَّ في قدرة الله وفي إعادته إذا ذُرِّي، بل

(1)

ضوابط التكفير عند أهل السنة لعلي القرني (ص/242)

(2)

متفق عليه.

ص: 66

اعتقدَ أنه لا يُعادُ -وهذا كفرٌ باتفاق المسلمينَ- لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمناً يخاف اللهَ أن يُعاقبَه؛ فغفر له بذلك. والمتأوِّل من أهل الاجتهاد، الحَريصُ على متابعة الرسول: أَوْلَى بالمغفرة مِن مِثل هذا".

(1)

قال ابن قتيبة:

وهذا رجل مؤمن بالله تعالى، مقر به، خائف منه، إلا أنه جهل صفة من صفاته، فظن أنه إذا أُحرق وذرِّي الريح أنه يفوت الله تعالى، فغفر الله -تعالى- له بمعرفته ما بنيته، وبمخافته من عذابه وجهله بهذه الصفة من صفاته.

(2)

2 -

حديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«أَرْبَعَةٌ يَحْتَجُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

»، ومنهم: «

رَجُلٌ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ، فَيَقُولُ: رَبِّ، مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ

»

(3)

.

3 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه-عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:

«لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، وَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»

(4)

.

قال يَحيَى بنَ حاطِبٍ: توُفِّىَ حاطِبٌ وكانَت له أمَةٌ نُوبيَّةٌ قَد صَلَّت وصامَت وهِىَ أعجَميَّةٌ لَم تَفقَهْ، فلَم تَرُعْه إلا بحَبَلِها، فذَهَبَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه فحَدَّثَه فأفزَعَه

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 321).

(2)

وانظرتأويل مختلف الحديث (ص/136) ونواقض الإيمان لعبدالعزيز بن عبد اللطيف (ص/64)

(3)

أخرجه أحمد (16345) والبيهقي في "الاعتقاد"(169) وقال البيهقي: "وهذا إسناد صحيح"، ونقله ابن كثير في تفسيره (الإسراء: 15) ولم يتعقبه، وصححه ابن حزم في الفصل (3/ 131). وقال الأرنؤوط: إسناده حسَن. وانظر [صَحِيحُ الْجَامِعِ: 881]

قلت:

والفَتْرَةُ: ما بين كل نَبِيَّيْنِ من الزمان الذي انقطعت فيه الرسالة. وأَهْل الْفَتْرَةِ: الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهم الدَّعْوَة. ومذهب أهل جمهور السنة أنهم يختبرون في العرصات، ويرى الأشاعرة أن أهل الفترة ناجون، وإن عبدوا الأصنام. وانظر "تحفة المريد"(ص/68)

(4)

أخرجه أحمد (8609)، ومسلم (153).

ص: 67

ذَلِكَ. فأرسَلَ إلَيها عُمَرُ رضي الله عنه فقالَ: أحَبَلتِ؟ فقالَت: نَعَم، مِن مَرغوشٍ بدِرهَمَينِ، فإِذا هِىَ تَستَهِلُّ بذَلِكَ لا تَكتُمُه، قال: وصادَفَ عَليًّا وعُثمانَ وعَبدَ الرَّحمَنِ بنَ عَوفٍ رضي الله عنهم، فقالَ: أشيروا عليَّ. وكانَ عثمانُ رضي الله عنه جالِسًا فاضطَجَعَ، فقالَ عليٌّ وعَبدُ الرَّحمَنِ رضى اللَّهُ عنهما: قَد وقَعَ عَلَيها الحَدُّ، فقالَ: أشِرْ عليَّ يا عثمانُ. فقالَ: قَد أشارَ عَلَيكَ أخَواكَ.

قال: أشِرْ عليَّ أنتَ، قال: أُراها تَستَهِلُّ به كأنَّها لا تَعلَمُه، ولَيسَ الحَدُّ إلا على مَن عَلِمَه، فقالَ: صَدَقتَ، والَّذِى نَفسِى بيَدِه ما الحَدُّ إلا على مَن عَلِمَه. فجَلَدَها عُمَرُ رضي الله عنه مِائَةً، وغَرَّبَها عامًا.

(1)

قال شيخ الإسلام ابن تَيميةَ:

"لهذا كنتُ أقولُ للجَهْميّة من الحُلوليّة والنُّفاةِ الذينَ نَفَوْا أن الله تعالى فوقَ العرش -لمّا وقعتْ مِحنتُهم-: أنا لو وافقتُكم كنتُ كافراً؛ لأني أعلمُ أن قولكم كفرٌ، وأنتم عِندِي لا تَكفُرونَ؛ لأنكم جُهّالٌ".

(2)

وقال رحمه الله:

"فإنّا -بعدَ معرفةِ ما جاء به الرسولُ- نَعلمُ بالضَّرورة أنه لم يشرع لأمّته أن تدعوَ أحَداً من الأموات، لا بلفظ الاستغاثة ولا بغيرها، كما أنه لم يشرع لأمّته السجود لميتٍ ولا لغير ميتٍ، ونحو ذلك؛ بل نَعلمُ أن ذلك من الشرك الذي حرّمه الله -تعالى- ورسولُه؛ لكنْ لِغَلَبةِ الجهل وقِلّة العلم بآثار الرسالة في كثيرٍ من المتأخرينَ لم يُمْكِنْ تكفيرُهم بذلك، حتى يَتبيَّنَ لهم ما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم"

(3)

.

قال ابن القَيِّم:

"وأما كُفرُ الجهل مع عدم قيام الحُجّة وعدمِ التمكُّن من

(1)

السنن الكبرى للبيهقى (17065) باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات. وانظر ضوابط التكفير (ص/240)

(2)

مجموع الفتاوى (23/ 326). وليس المقصود بالحلولية هنا من يقول بعقيدة الحلول والاتحاد، وإنما المراد بهم الجهمية الذين ينفون علو الله -تعالى- على عرشه.

(3)

الرد على البكري (2/ 731).

ص: 68

مَعرفتها- فهذا الذي نفى اللهُ التعذيبَ عنه حتى تَقُومَ حُجّةُ الرسلِ".

(1)

قال الذهبي:

وقد كان سادة الصحابة -رضى الله عنهم- بالحبشة، وينزل الواجب والتحريم على النبي-صلى الله عليه وسلم فلا يبْلغهم تحريمه إلا بعد أشهر، فهم في تلك الأشهر معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص، فكذا يعذر بالجهل كل من لم يعلم حتى يسمع النص. والله تعالى أعلم.

(2)

قال محمد بن عبد الوَهّاب:

"وإذا كُنّا لا نُكفّر مَن عبدَ الصَّنَمَ الذي على قبر "عبد القادر"، والصَّنَمَ الذي على قبر "أحمدَ البدويِّ" وأمثالهما لأجْلِ جهلِهم وعدمِ مَن يُنبّهُهُم

".

(3)

*عَودٌ إلى حديث الباب:

فهؤلاءِ جَمْعٌ من الصحابة رضي الله عنهم كانوا حُدَثاءَ عهدٍ بكفرٍ، وكان التبرُّك بالأشجار والأحجار والأصنام مما تَوارثُوهُ عن الجاهليّة، فكان عُذرُهم في هذا المَطلَبِ إنما هو الجهل الناشئ عن حداثة العهد بالإسلام، فطلبوا أمراً من الشرك بمَكانٍ، والصحابي يذكُر عُذراً في سياق الكلام، حيث قال: "ونحنُ حدثاءُ عهدٍ بكفرٍ

"، فعذرَهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لجهْلهم، لأنهم كانوا حدثاء عهد بكفرٍ.

قال شيخ الإسلام ابن تَيميةَ:

"اتفق الأئمة على أنّ مَن نشأَ بباديةٍ بعيدةٍ عن أهل العلم والإيمان، وكان حديثَ العهد بالإسلام، فأنكرَ شيئاً من هذه الأحكام الظاهرة المُتواترة- فإنه لا يُحكم بكفره حتى يَعرِفَ ما جاء به الرسولُ".

(4)

* فهذا يُفيد أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كُفر وهو لا يَدري، فنُبِّهَ على ذلك، فتاب مِن ساعتِه- أنه لا يكفُر كما فعلَ بنو إسرائيل والذين سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم.

(5)

(1)

طريق الهِجرتينِ (ص/611)، وضوابط تكفير المُعَيَّن (ص/ 57).

(2)

الكبائر (ص/25)

(3)

الدرر السّنيّة (1/ 66).

(4)

مجموع الفتاوى (11/ 407).

(5)

كشف الشبهات (ص/91)، والتكفير وضوابطه للسقار (ص/69).

ص: 69