الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَلَبُوا الآية؛ لِذا تراهم يحتجّون بالقدر في حال المعايب، يقولون: هذا بقدَر الله!.
وهنا كلام بديع لشيخ الإسلام ابن تيمية، يقول:
"وأمّا آدم عليه السلام فإنه قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، فمَنِ استغفرَ وتاب كان آدميّاً سعيداً، ومَن أصرَّ واحتجَّ بالقدر كان إبليسيّاً شقيّاً؛ وقد قال - تَعالَى - لإبليس: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} ".
(1)
*
العبد بين المقدور والمأمور:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وجِماعُ ذلك: أنّهُ لا بُدَّ له في الأمر مِن أصلينِ:
ففي " الأمر ":
عليه الاجتهاد في الامتثال علماً وعملاً، ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور وتعدّيهِ الحدودَ؛ ولِهذا كان من المشروع أن يَختمَ جميع الأعمال بالاستغفار، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرفَ مِن صلاته استغفرَ ثلاثاً، وقد قال الله - تَعالَى -: {
…
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]، فقاموا بالليل، وختموه بالاستغفار، وآخرُ سورةٍ نزلت: قولُ الله - تَعالَى -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3]، وفي الصحيح: أنه كان صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» يتأوَّلُ القرآنَ.
وأما في " القدَر ":
فعَلَيْهِ أن يستعين بالله في فعل ما أُمر به، ويتوكلَ عليه، ويدعوَه، ويَرْغَبَ إليه، ويَستعيذَ به، ويكونَ مُفتقراً إليه في طلب الخير وترْك الشر؛ وعليه أن يصبر على المقدور، ويَعْلَمَ أنّ ما أصابَهُ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وما أخطأَهُ لم يكُن لِيُصِيبَهُ؛ وإذا آذاه الناسُ عَلِمَ أنّ ذلك مقدَّرٌ عليه. وقد جَمَعَ الله -سبحانه- بينَ هذينِ الأصلينِ في مواضعَ، كقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
(1)
مجموعة الرسائل والمسائل (1/ 74).
نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وقوله:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] " ا. هـ
(1)
** نعود فنقول:
إنَّ آدم عليه السلام أعلمُ بالله -تعالى- مِن أن يحتجَّ بالقدر على المعصية؛ فليست هذه طريقةَ المؤمنينَ، فَضْلاً عن النبيّينَ! فالاحتجاج بالقدر على المعصية إنما هي طريقة المشركين:{وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا
…
} [الأنعام: 148].
وهي طريقة إبليسَ، كَبيرِهِمُ الذي علَّمَهم الشركَ، إبليس الذي احتج بالقدر على كِبْرِهِ وغِوايَتِهِ، فـ {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16].
والاحتجاجُ بالقدر على المعصية: طريقة الجَبْريّة، تِلْكَ الفِرْقةِ الضّالّة، التي جعلت القدَر ذَريعةً للخَوْضِ في الكفر والفُسوق والعِصْيان.
(2)
* الوجه الرابع:
لو كان هذا اللوم من موسى لآدم عليهما السلام على المعصية، فأجابَ آدمُ -مَثَلاً-: «أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيَّ
…
» لَكانَ لموسى الحجة على آدم عليهما السلام، ولَقالَ موسى: يا آدمُ، أتحْتجُّ بالقدر على المعصية؟! لكنْ لمّا انقطعَ موسى عليه السلام عن لومه، دلَّ ذلك أن: الحُجة كانت لآدم عليه السلام، وهذا الذي نصَّ
(1)
التدْمريّة: تحقيق الإثبات للأسماء والصفات، وحقيقة الجمع بين القدر والشرع (ص/229).
(2)
لذا فمَنْ فَهِمَ الحديث على هذا الفَهم بأنّ موسى عليه السلام قد لام آدم عليه السلام على المعصية، فاحتج آدم عليه السلام بالقدر على فعله للمعصية، وبناءً على هذا الفهم قد ذهبَ مَن ذهبَ إلى تكذيب الحديث، والطعنِ في أصل ثبوته.
ومن أمثال هؤلاء: الضالُّ المُضِلُّ (عدنان إبراهيم)، الذي قال:
إن هذا الحديث قد وضعه (بَنُو أُمَيّةَ)؛ وذلك تسويغاً لِما فعلَه معاويةُ بن أبي سفيان رضي الله عنه يومَ أنْ خرجَ في مَوقِعة (صفّين)، ويومَها قال معاويةُ:"ما جئنا إلى صفّين إلّا بقدر الله، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] ".
* أقول:
ولعل القارئ يستقرئ من خلال ذلك: أنّ هذا المدعوّ (عدنان إبراهيم) ما هو إلا شخص رافضيٌّ خبيث، فلقدْ صرَّح أنّ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كان يستحلُّ الخمر ورِبا الفَضْلِ.
وكمْ طعنَ هذا الضالُّ في أبي بكرٍ وعمرَ وأبي هريرةَ وعائشةَ وأنسٍ
…
رضي الله عنهم!
ومن أراد الوقوف على أقوال هذا الضالّ في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فلْيرجعْ إلى مقال "حقيقة الدكتور عدنان إبراهيم المتشيِّع" لـ داود العتيبي.http://www.saaid.net/bahoth/171.htm
عليه الحديثُ في قول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» ثَلَاثاً.
* الوجه الخامس:
أنَّ بابينِ عظيمينِ يمنعانِ أن يكون لوم موسى لآدم عليهما السلام لوماً على ذات المعصية: باب الأدب، وباب العلم
…
أمّا باب الأدب:
فإنّ موسى عليه السلام آدَبُ مِنْ أنْ يُعَيِّرَ أباه آدمَ عليه السلام على معصية قد تاب منها بالفِعْل، فمِثْلُ هذا لا يقع من التلميذ لشيخه؛ فكيفَ بموسى الكَلِيمِ أنْ يلوم أباه على معصيةٍ فَعَلَها، وقد تابَ منها بالفِعْلِ؟!
ولهذا لم يقُل له موسى عليه السلام: لماذا أكلتَ من الشجرة؟ وإنما قال له: «أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟»
(1)
.
وهذا اللفظ قد رُوي في بعض طرق الحديث، وإنْ لم يكن في جميعها؛ فهو مبيِّنٌ لِما وقعت عليه المَلامة.
(2)
** أمّا باب العلم:
فإنّ موسى عليه السلام أعلمُ بالله عز وجل من أن يلوم آدم عليه السلام على معصية قد تاب منها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فأدبُ موسى عليه السلام وعلمُه يَمنعانِهِ من أن يفعل ذلك!
*ولو أنّ آدم عليه السلام فَهِمَ أنّ اللوم هو على الذنب لَقالَ -مثلاً-: يا موسى، وأيُّ مَلامةٍ عليَّ وأنا قد تُبْتُ بالفِعْلِ؟!
فلمّا احتجَّ بالكتابة لا بالتوبة، دلَّ ذلك على المراد.
* وعَلَيْهِ فلا وَجْهَ لِأَنْ يُلامَ آدمُ عليه السلام لا شرعاً، ولا قدَراً:
لا شرعاً: لأنه قد تاب من ذنبه،
ولا قدَراً: لأنّ خروجه من الجنة كان بقدَر الله تبارك وتعالى.
ثم يقال:
ولو أنَّ موسى لَامَ آدم عليهما السلام على الذنْب لَأجابَهُ: إنني
(1)
وهذه اللفظة قد أخرجها البخاري (4736) ومسلم (2652) وأحمد (7387).
(2)
شِفاء العَليل في مسائل القضاء والقدر والحِكْمة والتعليل (1/ 14)، ورفع الشُّبْهة والغَرَر عمن يحتجُّ على فعل المعاصي بالقدر (ص/32).
أذنبتُ فتُبْتُ، فتابَ اللهُ عليَّ، ولَقالَ له: وأنت يا موسى أيضاً قتلتَ نَفْساً، وألقيتَ الألواح
…
إلى غير ذلك، إنما احتج موسى بالمصيبة، فحَجَّهُ آدمُ بالقدَر.
(1)
* ولكن أَنَّى لموسى عليه السلام أن يلوم أباه آدم عليه السلام على أمرٍ وهو نفسُه لم يَسْلَمْ؛ فقد قَتَلَ نفساً لم يؤمرْ بقتلها، وسألَ اللهَ -تعالى- أن يغفرَ له ذلك، فقال - تَعالَى -:{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16].
قال أبو العَبّاسِ ابنُ تيمية:
"وذلك أنّ موسى لم يكن عَتبُه لآدم لأجْل الذنب؛ فإنّ آدم قد كان تابَ منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولكنْ لأجْل المصيبة التي لَحِقَتْهُمْ مِن ذلك. وهُمْ مأمورونَ أن يَنظُروا إلى القدَر في المصائب، وأن يستغفروا مِن المَعايب، كما قال - تَعالَى -: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] ".
** ويقول رحمه الله:
"الصَّوابُ في قصة آدم وموسى: أنّ موسى لم يَلُمْ آدمَ إلّا مِن جِهَةِ المُصيبة التي أصابته وذُرِّيَّتَهُ بما فَعَلَ، لا لأجْل أنّ تارك الأمر مذنبٌ عاصٍ؛ ولِهذا قال:
«لِماذا أَخْرَجْتَنا وَنَفْسَكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟» ، لم يقل: لماذا خالفتَ الأمر؟ ولماذا عصيتَ؟
والناس مأمورون -عندَ المصائب التي تصيبهم بأفعال الناس أو بغير أفعالهم- بالتسليم للقدر، وشُهودِ الربوبية؛ كما قال - تَعالَى -:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، قال ابن مسعود أو غيرُه:"هو الرجل تصيبه المصيبة، فيَعلمُ أنّها مِن عند الله، فيَرضى ويسلِّمُ".
(2)
وهذا هو الراجح في هذه المسألة، والله أعلمُ.
* هناك جواب لابن القيِّم قال فيه:
"وقد يتوجَّهُ جوابٌ آخرُ، وهو أنّ الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في مَوْضِعٍ، ويضرّ في موضعٍ:
فينفع إذا احتجَّ به بعد وقوعِه والتوبةِ منه وتَرك مُعاوَدته كما فعلَ آدمُ، فيكون في ذِكر
(1)
انظر: الاحتجاجُ بالقدر لشيخ الإسلام ابن تيمية (18 - 22).
(2)
مجموع الفتاوى (8/ 319).
القدَر إذْ ذاكَ من التوحيد ومعرفة أسماء الرَّبِّ وصفاته
…
وأمّا الموضعُ الذي يضرُّ الاحتجاج به ففي: الحال، والمستقبَل؛ بأنْ يَرتكب فعلاً محرَّماً، أو يتركَ واجباً، فيلومَه عليه لائمٌ، فيحتجَّ بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيُبطلَ بالاحتجاج به حَقّاً، ويَرتكبَ باطلاً، كما احتجَّ به المُصرّون على شركهم وعبادتهم غيرَ الله، فقالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]،
…
{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]
…
فإذا لامه لائمٌ بعد ذلك قال: كان ما كان بقدَر الله! " ا. هـ
(1)
* ومفاد كلام ابن القيّم:
مشروعيّةُ الاحتجاج بالقدر للتّائب مِن ذنبه، ولنا أن نستأنس في هذا المقام بما ورد في قوله تَعالَى {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]؛ فقوله تَعالَى {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا
…
} وقد بُنِيَ لِما لَمْ يُسَمَّ فاعلُه- فيه إشارةٌ إلى أنّ ما وقعوا فيه مِن تخلُّفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تابوا ونَدِموا على ذلك قد وقعَ بقدر الله عز وجل؛ ولِذا فمِنْ عظيم لُطفه ورحمته بهم لم يَقُلْ - تَعالَى -:
"وعلى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تخلَّفوا
…
"، فتَبقى الآيةُ مُوجِعةً لقلوبهم ومؤلمة لأسماعهم.
*ومن فوائد حديث الباب:
** فائدة في قول النبي صلى الله عليه وسلم في ختام الحديث: «فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى»
…
…
وقد عمدَ أهلُ التحريف وسَعَوْا إلى تحريف هذه اللفظة تحريفاً لفظيّاً، ومعنوياً:
** أولاً: التحريف اللفظيّ:
وأصلُ مَن فتحَ هذا البابَ هم اليهود، فلقد أخذوا بنصيبٍ وافرٍ من هذه الصفة لمّا أُمِروا أن يقولوا:"حِطَّة"، فقالوا:"حِنْطَة"، فقد قال الله تَعالَى
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ
(1)
شفاء العليل (ص/18).
نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 58 - 59]
* وهذا ما فعلَه محرِّفةُ هذه الأمّة في أدلة الشرع التي تخالف أهواءهم، وعلى الطريق السَّقيم نفسِه سارَ أهلُ التحريف من المعتزِلة القدَريّة، فحرَّفوا آياتِ الكتاب وأحاديثَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لِلهوى، ولنُصْرة بِدَعهم، وذلك
لأنّ نَصَّ الحديث يخالف أصول مذهبهم في نَفْيهم للقدر.
(1)
* لِذا حرَّفوا قول الله - تَعالَى -: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، كما
روى ذلك أصحاب السِّيَر هذه القصّة التي وقعت لعمرو بنِ عبيدٍ، أحد كِبار المعتزِلة، فقد قَالَ لأبي عمرو ابن العلاء أحد القُرّاء السبعة المعروفين المشهورين: أريد أن تقرأ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} بنَصْبِ اسم الله؛ وذلك ليكون موسى هو المتكلم، وليس الله، قال أبو عمرو:
هَبْ أنّي قرأتُ هذه الآية كما تقول، فكيف تصنعُ بقوله - تَعالَى -: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ
…
} [الأعراف: 143]؛ فبُهِتَ المُعتزليُّ.
(2)
*وكذلك مما يُنقل عن المعتزلة في هذا الباب:
تحريفهم لقوله - تَعالَى -: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164]، وقالوا: إنه من الكَلْم (بسكون اللام)، أي: الجَرْح، ويكون المعنى: جَرَحَ اللهُ موسى بأَظافِرِ المِحَنِ ومَخالِبِ الفِتَنِ.
والذي حملَهم على ذلك هو فرارهم من إثبات صفة الكلام لله؛ فوقعوا في التحريف.
(3)
قال المتنبِّي:
وكَمْ مِنْ عائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً
…
وآفتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
(1)
وذلك لأن -على ما دل عليه الحديث- آدم عليه السلام قد احتج بالقدرعلى ما وقع له من مصيبة الخروج من الجنة بعد أكله من الشجرة التي حرّمها الله -تعالى- عليه وعلى زوجه.
(2)
انظر: الصواعق المرسَلة (3/ 1037)، وشرح الطّحاويّة (ص/170).
(3)
الكَشّاف (1/ 314)، ومفاتيح الغيب (11/ 87).
* ومن هذا الباب:
ما فعلوه في حديث الاحتجاج، فقد ضبط رواة الحديث من أهل السّنّة لفظةَ "فحَجَّ آدمُ موسى" برفْع لفظة "آدمُ"؛ لأنه هو الفاعل الذي له الحُجّة، فقد غلب آدمُ موسى عليه السلام بالحجة، وظَهَرَ عليه بها.
أما المعتزلة القدرية -المنكرون للقدر- فقد حرَّفوا لفظ حديث الباب؛ لأنه صريح في إثبات القدر السابق، وذلك في قول آدم عليه السلام:
«أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً» ؛ وبِناءً عليه قد عمدوا إلى تحريف الحديث.
* أمّا قولهم بتحريف الحديث فقالوا في ضبط هذه الكلمة: "فحَجَّ آدمَ موسى" بنصْب "آدم"؛ فتكون الحُجّة لموسى!
** وجواب ذلك أنْ:
نأتيَكم بقاصمة الظهر فيما رواه أحمدُ وابنُ بَطّةَ وعبد الرّزّاق وابنُ أبي شَيبةَ بسندٍ صحيحٍ كالشَّمْسِ عنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى لِآدَمَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ الَّذِي أَدْخَلْتَ ذُرِّيَّتَكَ النَّارَ؟ فَقَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى، اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ، فَهَلْ وَجَدْتَ أَنِّي أَهْبِطُ؟ قَالَ: نَعَمْ» ،
قَالَ: «فَحَجَّهُ آدَمُ» .
(1)
…
لذلك قال أحمدُ بن ثابتٍ الطَّرقيّ:
سَمِعْتُ ابنَ الخاضبة يقولُ: كان مسعود بن ناصر السَّجْزِيّ قَدَريّاً، وسمعته يقرأُ:«فحَجَّ آدمَ مُوسَى» بالنصْب،
فقال الحافظ ابن
(1)
أخرجه أحمد (7635) وعبد الرّزّاق (20067)، وابن أبي عاصمٍ في السّنّة (148)، والدارميُّ في الرد على الجهمية (ص/86)، والآجريّ في الشريعة (ص/ 324 - 325).
وقال الدارَقُطْنِيُّ: "والمحفوظ: حديث الزُّهْرِيِّ عن سعيدٍ (ابن المسيّب)، وحديثُه -أي: الزُّهْرِيِّ- عن أبي سَلَمةَ: ليس بمحفوظٍ عن الزهريّ". [العلل](7/ 284).
وقال الحافظ ابن حَجَر عن هذه الرواية: "قد أخرجها أحمد من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فإنّ رُواتها أئمّةٌ حُفّاظٌ، والزهريُّ من كبار الفقهاء الحُفّاظ، فروايته هي المعتمَدةُ في ذلك".
وانظر: فتح الباري (11/ 509)، ومُستخرَج أَبي عوانةَ (20/ 246).
وقد صحح الأَلبانيُّ إسناد هذا الحديث في ظِلال الجَنّة (1/ 68) رقم/ 148.
حَجَرٍ رَدّاً على مسعود السَّجزيّ:
"هو محجوج بالاتفاق قَبْلَهُ على أنّ "آدم" بالرفع على أنه الفاعل، وقد أخرجه أحمدُ من رواية الزُّهْريّ عن أبي سَلَمةَ عن أبي هُريرةَ بلفظِ: «فحَجَّهُ آدَمُ»، وهذا يرفعُ الإشكالَ؛ فإنّ رُواته أئمّةٌ حُفّاظٌ، والزُّهْرِيُّ مِن كبار الفقهاء الحُفّاظ؛ فروايتُه هي المعتمَدةُ في ذلك".
(1)
قال النووي:
"قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَحَجَّ آدمُ مُوسَى» هكذا الروايةُ في جميع كتب الحديث باتفاق الناقلينَ والرُّواةِ والشُّرّاحِ وأهلِ الغَريب، بِرَفْعِ "آدَمَ"، وهو فاعلٌ، أي: غَلَبَهُ بالحُجّة وظَهَرَ عليه بها".
(2)
* ثانياً: التحريف المعنويّ:
وهو تحريف المعنى، مع بقاء اللفظ على ما هو عليه،
والمقصود به: صرْف اللفظ عن ظاهره وما يَفهمه كلُّ عربيٍّ من معناه،
وهو الذي يسميه بعض المتأخرين بالتأويل، وهو أكثرُ خَفاءً من النوع الأول.
وباب التأويل الفاسد وغير المستساغ بابٌ عريضٌ دخلَ منه الزَّنادِقَةُ لِهَدْمِ الإسلام! حيثُ حرَّفوا النصوص، وصَرَفُوهاعن مَعانيها الحقيقية، وحَمَّلُوها من المعاني ما يشتهون، فسَمَّوا التَّحريفَ "تأويلاً"؛ تزييناً له وزَخْرفةً، لِيُقْبَلَ منهم!
وهذه طريقة إبليسَ الذي حرَّفَ اللفظ عن موضعه: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120]، فسمَّى شجرةَ التحريم "شجرة الخُلْد"!
وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل، قال الله - تَعالَى -:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112].
والعِبرة بالحقائق والمعاني، وليست بالألفاظ والتراكيب والمَباني، فكَمْ مِن باطلٍ أُقِيمَ على دليلٍ مُزَخْرَفٍ عُورِضَ به دليلُ الحَقِّ
…
!
(1)
سِيَرُ أعلام النُّبَلاءِ (14/ 54)، وفتح الباري (11/ 509).
(2)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (16/ 202)، وطرح التثريب في شرح التقريب (8/ 247).
* ومن أمثلة هذا التحريف:
1 -
تأويل المبتدِعة لآيات الصفات، كتفسيرهم صِفةَ (الغَضَب) بإرادة الانتقام، وتفسيرهم (الرحمة) بإرادة الإنعام، وقولِهم: إنّ المُراد بـ (اليَدَيْنِ) النِّعْمة، أو القُدْرة
…
وغير ذلك.
** ومن هذا الباب ولجَ المُحَرِّفةُ إلى تحريف حديث الباب:
فلمّا عَجزوا عن التحريف اللفظيّ للرِّواية الصحيحة الصريحة جاءُوا إلى التحريف المعنويّ، فقالوا: إنّ الحجة إنما كانت لآدمَ عليه السلام لَيْسَ لأنّ الحقَّ كان معه، وإنما كانت له الحُجّةُ لِأُمورٍ:
1 -
أنَّ آدم عليه السلام كان هو (الأَبَ)، وموسى عليه السلام في مَقام (الابن)، فكيف للابن أن يَغلب أباه في الحُجّة؟!
** الرد على ذلك:
فهذا كلام باطل، فإنَّ الحق يؤخذ مِن كل مَن جاء به، ولو كان كافراً؛ فالله تبارك وتعالى ذَكَرَ الحق الذي جاءت به اليهود وجاءت به النصارى، قال - تَعالَى -:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} ، وكذلك قول الله - تَعالَى -:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ، فاللهُ قَبِلَ قولَهم إنّ آباءهم قاموا بذلك، ورَدَّ قولَهم إنّ الله -تعالى- أمرَهم بها؛ بَلْ إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قَبِلَ الحقَّ مِن الدَّجّالِ في حديث الجسّاسة في صحيح مسلم، حيث قال الدجالُ:"أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ"، وكذلك حديث تعليم آية (الكُرْسِيّ) عندَ النوم، ذَكَرَهُ الشيطانُ للصّاحبِ الجَليلِ أَبي هُريرةَ رضي الله عنه، وأقرَّه الرسولُ صلى الله عليه وسلم.
*وعليه نقولُ:
إنّ قولكم "إنّ الحُجّة إنما كانت لآدم عليه السلام لأنه هو الأب، وموسى عليه السلام هو الابن، وليس للابن أن يَحجَّ أباه" هذا كلام باطل
…
أَلَمْ يَكُنْ إبراهيمُ عليه السلام هو الابن، وكانت له الحُجّة على أبيه (آزَرَ)؟!
*قال ابن القَيِّم:
"وهذا الكلامُ لا محصّلَ فيه البَتّةَ؛ فإنّ حجة الله يجب المَصيرُ
إليها، مع الأب كانت، أو الابنِ، أو العَبْدِ، أو السَّيِّدِ، ولو حَجَّ الرجلُ أباه بحقٍّ وَجَبَ المَصيرُ إلى الحجة".
(1)
2 -
كذلك قالوا في تحريفهم المعنويّ:
إنّ الحجة إنما كانت لآدم عليه السلام لأنَّ هذه المناظَرة كانت في دارٍ لا تكليفَ فيها، أي: لم تكن في الدنيا!
وهذا باطلٌ من وجهينِ:
الوجه الأول: انظروا في جواب آدم عليه السلام، هل قال مثلاً:"يا موسى، أنتَ قد لُمْتَنِي في غير دار التكليف"؟
والجواب: لا، فلم يتعرّض لذلك، بل استدلَّ بالقدر.
فهل أنتم أعلمُ بالاستدلال الصحيح من آدمَ عليه السلام؟
* الوجه الثاني:
لو تنزَّلْنا معكم، فإنّ المَلامةَ في غير دار التكليف لا تمتنعُ، فالله عز وجل يلوم المشركينَ يومَ القيامة، بل إنّ أمّة محمد صلى الله عليه وسلم تلومُ الأُمَمَ الأخرى التي كَفَرَتْ في عَرَصات القيامة؛ ولَيستْ هي بِدارِ تكليفٍ!
3 -
كذلك قالوا في تحريفهم المعنويّ:
إنّ الحجة كانت لآدم عليه السلام لأنّ ذَنبه كان في شريعته، واللوم من موسى عليه السلام ليس له وِجْهةٌ؛ لاختلافِ الشرائعِ بَيْنَهما، فليس لموسى أن يلوم غيرَه على شيءٍ ليس من شريعته!
* والجواب:
وهذا كلام باطل؛ فإنّ أمّة محمد صلى الله عليه وسلم تلوم الأممَ السابقة على ذنوبها في عَرَصات القيامة.
* وخِتاماً:
قالوا: إنّ الحجة إنما كانت لآدم عليه السلام لأنّه قد وَصَلَ إلى درجة (اليقين)، وهي درجة عالية من العلم، والمَرْءُ إذا وَصَلَ إليها استوت عندَه المعصيةُ والطاعةُ.
** الجواب:
وهذه طريقة الصُّوفِيّةِ الغُلَاةِ الّذينَ يُسقطون التكاليف عن المَرْءِ إذا
(1)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (1/ 14).
وَصَلَ إلى مَرْحَلَة (اليقين)؛ مستدِلِّينَ بقوله - تَعالَى -: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].
وكلامُهم هذا بَيِّنُ البُطْلانِ، وإلّا فَلَوِ استَوَتِ الطاعةُ والمعصيةُ في حقِّ آدمَ عليه السلام فلِمَ أخرجَهُ ربُّه من الجنة، وقال عنه:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، ولِمَ قال له ولزوجه:{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} ؟!
(1)
* بَيْنَ التحريفِ والمُغالاةِ:
كما أنّ المعتزلة القدرية من أصحاب التحريف قد سَلَكوا مَسْلَكَ ردِّ حديث الباب، وذلك لأنهم يَنْفُونَ القَدَرَ، تأتي على الجانب الآخَرِ فِرْقةُ (الجَبْرِيّة)
…
فتراهم يَطيرون فَرَحاً بحديث الباب؛ فَهْماً منهم أنّ الحجة كانت لآدم
عليه السلام، ليس لأنه احتجَّ بالقدر على المصيبة -كما عليه أهلُ السنة-، بل لأنّ آدم عليه السلام احتج بالقدر على المعصية؛ وذلك لأنهم يقولون: إن الإنسان مجبور على أفعاله، فلا إرادةَ له فيها، ولا مشيئة!
* ففي الرد عليهم نقولُ:
أولاً:
إن آدم عليه السلام فعلَ ما فعلَ بإرادته، نعمْ، كان الأمرُ بقدر الله، ولكنْ كان لآدم عليه السلام إرادةٌ ومشيئةٌ، والدليل في روايةٍ عند مسلم، وفيها:«قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلاً كَتَبَهُ اللهُ عَلَيَّ؟» ؛ فثَبَتَ بذلكَ الأمرانِ:
أ) كتابة القدر.
ب) الإرادة والمشيئة لآدمَ عليه السلام.
* قال ابنُ المُلَقّنِ:
"وأمّا قولُ الجَهْميّة: إنّ الله - تَعالَى - أجبرَ العباد على أفعالهم، وهم مكرَهون على الطاعة والمعصية، واحتجّوا بقول آدمَ: «أتلومُني
…
» إلى آخره- فلا
(1)
وانظر لهذه الأوجُهِ: الفُرْقانُ بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص/135)، وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (1/ 14)، ورفع الشبهة والغَرَر عمن يحتج على فعل المعاصي بالقدر لمرعي الحنبليّ (1/ 29).
وقد قال ابن عبد البَرِّ رحمه الله وهو يُشيرُ مِن بَعيدٍ إلى هذه الأوجه الباطلة التي تَذَرَّعَ بها أهلُ البدع لردِّ حديث الباب: "
…
وأمّا أهلُ البدع فيُنكرونه، ويَدفعونه، ويعترضون فيه بدُروبٍ من القول، كَرِهْتُ ذِكْرَ ذلك لأنّ كِتابَنا هذا كِتابُ سُنّةٍ واتّباعٍ، لا كتابُ جِدالٍ وابتداعٍ". وانظر: الاستذكار (8/ 257)
حُجّةَ لَهُمْ فيه أيضاً؛ لأنّ الموجود بالاعتبار والمشاهَدة خلافُ قولِهم، وذلك أنّ العباد لا يأتون الذنوبَ إلا مُشْتَهِينَ لها، راغبينَ فيها، والإجبارُ عند أهل اللغة: هو اضطرار المَرْءِ إلى الفعل، وإدخالُه فيه، غيرَ راغبٍ فيه، ولا مُحِبٍّ له، كالمسحوبِ على وجهه، والمُرْتَعِشِ من الحُمَّى والفالِجِ".
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"إنَّ القَدَرَ ليس حُجَّةً لأحدٍ على اللهِ، ولا على خَلْقِهِ؛ ولو جازَ لأحدٍ أن يحتجَّ بالقَدَر على ما يفعلُه من السيِّئات لَمْ يُعاقَبِ الظّالِمُ، ولَمْ يُقْتَلِ المُشْرِكُ، ولَمْ يُقَمْ حَدٌّ، ولَمْ يُكَفَّ أَحَدٌ عن ظُلْمِ أحدٍ، وهذا من الفساد في الدين والدنيا المَعلومِ ضَرُورةً".
(2)
ثانياً:
إننا لا نسلِّم لَكُمْ أنّ احتجاج آدم عليه السلام احتجاجٌ بالقدر على المعصية، وإنما كان احتجاجه على المصيبة التي ترتَّبَ عليها إخراجُ آدمَ عليه السلام وذريتِه من الجنة، كما سبقَ ذِكرُه مفصَّلاً.
** ولو تنزّلْنا معكم أنّ آدم-عليه السلام قد احتج بالقدر على المعصية، فهو قد تاب من ذلك، وأنابَ؛ ولِلعاصي أن يحتجَّ بالقدر إذا تاب من معصيته، كما تَبَنَّى ذلك ابنُ القَيِّمِ.
(3)
* ومما سبق يتبيّنُ أنّ الفِرقتينِ قد تَنازَعُوا الحديثَ بينَ الجُفُوِّ والغُلُوِّ:
أ) أمّا الجبرية:
فجعلوا الحديثَ حجةً لهم على الاحتجاج بالقدر على فعل
(1)
التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/ 165).
(2)
مجموعة الرسائل الكبرى (1/ 353).
(3)
قال اللَّيْثُ بن سَعْدٍ: "وإنّما صَحَّتِ الحُجّةُ في هذِه القصة لآدمَ على موسى؛ مِن أجْل أنّ الله قد غفرَ لآدمَ وتاب عليه، فلم يكنْ لموسى أنْ يُعيِّرَه بما قد غفرها الله له؛ ولذلك قال له آدمُ: أنت موسى الذي آتاك اللهُ التوراةَ، وفيها عِلمُ كل شيء، فوجدتَ فيها أنّ الله قد قدّر عليّ المعصية، وقدّر عليّ التوبة منها، وأسقطَ بذلك اللومَ عنّي، أفتلومني أنت، واللهُ لا يلومني؟!
وبِمِثْلِ هذا احتجَّ ابن عمر على الذي قال له: إنّ عثمان فرَّ يومَ أُحُدٍ، فقال ابنُ عمرَ:"ما على عثمانَ ذَنْبٌ؛ لأنّ الله قد عفا عنه بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] ".
وانظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح (30/ 163).
وقد ذكر ابن عبد البر جواباً ثالثاً في مسألة اعتذار التائب بالقدر، فقال:"هو خاصٌّ بآدم عليه السلام لأنّ الله عز وجل أخبره أنه تاب عليه؛ فيجوز له أن يحتج بالقدر، وأمّا غيرُه فلا يَعلمُ بتوبة الله عليه، فلا يَحتجّ بالقدر".
وانظر: الاستذكار (8/ 258)، والقضاء والقدر لعبد الرحمن بن المحمود (ص/411).
المعاصي، وجعلوا قولَ آدم عليه السلام:«كَتَبَهُ اللهُ عَلَيَّ» أي: أجبرَني عليه.
ب) أمّا القدرية:
فحرَّفوا الحديث تحريفاً لفظيّاً ومعنويّاً؛ لِيجعلوا الحجةَ لموسى عليه السلام في نَفْيِ القَدَرِ السابق.
* قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وهذا الحديثُ ضَلَّتْ فيه طائفتانِ: طائفةٌ كذَّبتْ له لمّا ظَنُّوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عَمَّنْ عصى اللَّهَ لأجْل القدر، وطائفةٌ شرٌّ مِن هؤلاءِ جعلوه حجةً".
(1)
** فرعٌ:
من مسالك أهل البِدَع في رد حديث الباب: الطَّعْنُ في سَنَده:
* قال البركانيّ للجبّائِيّ المُعتزليّ: ما تقولُ في حديثِ أَبي الزِّنادِ عن الأَعْرَجِ عن أبي هُريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِها وَلا خالَتِها» ؟ فقال الجبائي: هو صحيح. قال: فبهذا الإسناد نقل حديث «حَجَّ آدَمُ مُوسَى» ، فقال الجبائي: هذا الخبر باطل، فقال البركاني:
"حديثانِ بإسنادٍ واحدٍ، صَحَّحْتَ أَحَدَهُما، وأَبْطَلْتَ الآخَرَ؟! "
(2)
** والقول بتضعيف الحديث قول مردود باطل
…
فهذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة، وطرق متكاثِرة، وهو في عُلْيا درجات الصحة، وقد اتفق الإمامانِ البُخاريُّ ومُسلمٌ على إخراجه في صحيحَيْهِما،
(1)
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص/134).
وقوله رحمه الله: "وهذا الحديث ضلت فيه طائفتان: طائفة كذّبت به لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذم والعقاب عمن عصى الله لأجْل القدر"
…
هؤلاء هم المعتزلة، فقد كذّبوا بالحديث، وقالوا: إنّ هذا الحديث باطل. قالوا هذا مع أنه في الصحيحينِ، ومتفقٌ على صحته!
ثم يقول: "وطائفةٌ شرٌّ مِن هؤلاء، جعلوه حجةً"، أي: إذا كان المعتزلة نُبدِّعُهم ونُضلِّلُهم لأنهم أبطلوا حديثاً واحداً؛ فالجَبْرِيّةُ سيُبطلون الشريعة كلها، سيبطلون الصلاة والصوم والزكاة، وحُرْمةَ الزنى وحرمةَ شُرْبِ الخمر؛ ولذلك هُمْ شرٌّ من المعتزلة.
(2)
طبقات المعتزلة (ص/81).
كما أقرَّ بصحّته واحتجَّ به أهلُ العلم قاطبةً.
يقول الحافظ ابنُ عبد البَرِّ:
"هذا الحديث -عند جماعة أهل العلم بالحديث- صحيحٌ من جهة الإسناد، وكلُّهم يرويه ويُقِرُّ بصحّته، ويحتجُّ به أهل الحديث والفقه -وهم أهلُ السّنّة- في إثبات قِدَمِ علمِ الله عز وجل ذِكرُه-".
وقد نصَّ بعضُ أهل العلم على تواتُره عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنّه لا يردُّه ولا يعترض عليه إلا مبتدعٌ معانِدٌ
…
يقول الحافظ ابن كَثيرٍ رحمه الله:
"ومَن كذَّبَ بهذا الحديث فمُعاندٌ؛ لأنّه متواتِرٌ عن أبى هريرة رضي الله عنه، وناهِيكَ به عَدالةً وحِفْظاً وإتقاناً".
(1)
- قال ابن القيِّم:
"هذا حديث صحيح متّفَقٌ على صحته، لَمْ تَزَلِ الأمّة تتلقّاه بالقَبُول مِن عَهْدِ نبيِّها قَرْناً بعدَ قَرْنٍ، وتُقابِلُهُ بالتصديق والتسليم، ورواه أهلُ الحديث في كُتبهم، وشَهِدوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قالَهُ؛ فما لِأَجْهَلِ الناسِ بالسّنّةِ وهذا الشَّأْنِ؟! ولَمْ يَزَلْ أهلُ الكلامِ الباطلِ المذمومِ مُوكَّلينَ بِرَدِّ أحاديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخالف قواعدَهم الباطلةَ وعقائدَهم الفاسدةَ! ".
(2)
* وقد ذكرَ ابن منده حديثَ الاحتجاج هذا من عدة روايات وطرق، ثم قال:
"وهذه الأحاديث صِحاحٌ ثابتةٌ، لا مَدْفَعَ لها، ولِهذا الحديثِ طرقٌ عن أبي هريرةَ، منها: أبو سَلَمةَ، ومحمدُ بنُ سِيرينُ، والأَعرجُ، وسعيدُ بنُ المسيّبِ، وغيرُهم".
(3)
وختاماً:
قد جاء في الحديث: أنّ آدم قال لموسى عليهما السلام: «أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟»
…
وهنا الإشكال:
فالذي ثبتَ في الصحيح: أنّ الله - تعالى - قدَّرَ مقاديرَ الخَلائقِ قبلَ أن
(1)
الاستذكار (8/ 258)، وقصص الأنبياء (1/ 37).
(2)
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل (1/ 14).
(3)
من عقائد السلف (الرد على الجهمية) لابن مَنْدَه (1/ 215).
يخلق السماوات والأرض بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وهُنا في حديث الباب يقول آدمُ عليه السلام:«أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟»
…
فكيف الردُّ على هذا الإشكال؟؟؟
ردَّ العلماء بعدة أجوبةٍ:
الأول:
أنّ هذه المُدّة -التي هي (أربعون سنة) - إنما كانت بَيْنَ أنْ خُلِقَ آدمُ عليه السلام-من الطين وبين أن نُفِخَ الرُّوحُ فيه.
الثاني:
أنّ هذه المدة يُقصَدُ بها: ما كُتِبَ في التوراة مِن أنّ آدمَ سيُخْرَجُ من الجنة، كما وردَ في الرواية:«فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَاماً» .
فإنْ قِيلَ: ما معنى تحديد (أربعين سنةً) في المكتوب، وفي الحديث:«إنَّ اللهَ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» ؟
* فالجواب:
أنّ المعلوماتِ كلَّها قد أحاطَ بها العِلمُ القَديمُ قبلَ وُجودِ مخلوقٍ، ولكنَّه كتبَها في زمانٍ؛ فجائزٌ أنْ يكونَ كَتَبَ خطيئةَ آدمَ قبلَ أنْ يخلقَه بأربعينَ عاماً، وجائزٌ أن تكون الإشارة إلى مُدّةِ لُبْثِهِ طِيناً، فإنّه بَقِيَ أربعينَ سنةً طِيناً، فكأنه يقول:"كتبَ عليَّ قبلَ أنْ أَعْصِيَ منذُ سوَّاني طِيناً قبلَ أنْ ينفخَ فيَّ الرُّوح".
(1)
وصلى الله وسلَّمَ على نبينا محمد، وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ
تمَّ بحمد الله
(1)
كشف المُشْكِل من حديث الصحيحينِ (3/ 383).