الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* فرع:
مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها
، فليس كلُّ جاهلٍ معذوراً بجهله، بل المسألة تختلف بحسب حال الجاهل، وحال المجهول:
أ) بحسب حال الجاهل:
فالشخص الذي نشأ في باديةٍ ليس فيها عِلمٌ منتشر، أو كان حديثَ عهدٍ بالإسلام كأصحاب حديث الباب، أو قد يكون سعى في طلب العلم فجانَبَهُ الصَّوابُ؛ فهذا الشخص يكون معذوراً بجهله، بخلاف شخصٍ آخرَ فرَّطَ في العلم الشرعي، أو يأتيه الدليلُ فيُعانِدُ ويُجادلُ فيه أو يُعْرِضُ عنه؛ كقوله تعالى: {
…
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3]؛ فالحُكم في هَذَيْنِ مختلفٌ.
قال شيخ الإسلام ابن تَيميةَ:
" وهذا العذر لا يكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق فقصَّر فيها لم يكن معذوراً.
(1)
ب) بحسب حال المجهول:
وهي القضية التي وقع فيها الجهل، فمعنى قولنا "بحسب المجهول": أننا نفرِّق بين قضية خَفِيةٍ وقضية ظاهرة؛ فإنّ وُقوع الجهل -مثلاً- في قضية خفية، أو في قضية هي محلُّ نزاعٍ بين العلماء أو قضيةٍ تحتاج إلى إمْعانِ النَّظَر، فقال المخالِف قولاً من الكفر فليس هذا كمَنْ كفرَ بمسألة هي معلومةٌ من الدِّين بالضَّرورة.
قال النووى:
فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام واشترك فيه العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين، إذا كان علمه منتشراً، كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنى والخمر ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام.
(1)
مجموع الفتاوى (20/ 280).
إلا أن يكون رجلا حديث عهد بالإسلام، ولا يعرف حدوده فإنه إذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه.
فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً من طريق علم الخاصة، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمدا لا يرث وأن للجدة السدس، وما أشبه ذلك من الأحكام فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة.
(1)
ومن نصوص شيخ الإسلام ابن تيمية في التفريق بين المسائل الجَلِيّة والخَفِيّة:
قولُه رحمه الله:
" في المقالات الخفية قد يقال: إنه فيها مخطئ ضالّ، لم تقُم عليه الحجة التي يكفُر صاحبها؛ لكن ذلك يقع في طوائفَ منهم في الأمور الظاهرة التي تَعلَم العامة والخاصة من المسلمين أنها من دين المسلمين، مثل:
أمْره بالصلوات الخمس، ومثل معاداته لليهود والنصارى، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك، ثم تجد كثيراً من رؤسائهم وقعوا في هذه الأمور فكانوا مرتدين.
(2)
قال الشافعى:
وعلم عامة هو ما لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله، مثل الصلوات الخمس، وأن لله -تعالى- على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرَّم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا، وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، ولا يجوز فيه التنازع".
(3)
* لكن نقول:
إذا كان الجهل عذراً في عدم وصف الشخص الذي فعلَ كفراً، فإنّ المراد بالجهل هُنا هو:
عدم بلوغ الحُجة، وليس عدم فَهم الحجة.
فإنْ قِيلَ: وما الفارق بينهما؟
قلنا:
أما قيام الحجة فهو أن تَصِلَه الأدلة الشرعية بِلُغةٍ يَفهمُها مِثْلُه، وبلسان
(1)
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (1/ 205)
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 54).
(3)
الرسالة (ص/357)
قومه؛ فهُنا شَرطانِ في تحقُّق قيام الحجة: بُلوغها مع فَهمها بلسان قومه (وهو الفَهْمُ اللُّغَوِيّ): قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]
وقال تعالى: {
…
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، وقال تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]
وإذا كان كذلك فإنّ فَهْمَ اللسان هذا لا بُدَّ منه، أي:
إذا أتاك رجلٌ أَعجميٌّ فكلّمتَه بالحُجة الرِّساليّة باللغة العربية؛ فمِثلُ هذا لم تقُم عليه الحجة، وذلك لأنه لم يَفْهَمْ منها كَلِمةً، فلا تكون الحُجة قد قامت عليه حتّى يَبُلَغَه بما يَفهمُه بلسان قومه؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ
…
} [إبراهيم: 4]
*وأما فَهْمُ الحجة: فليس من شرط قيام الحجة أن يَفهمَ الحُجة فَهْمَ مَن أراد الله -تعالى- هِدايتَه وفَهْمَ التفقُّه المؤدي إلى الإذعان والانقياد - كفَهم أبي بكرٍ وعُمرَ والصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه لو قيل: إن قيام الحجة لا يتم إلا بفَهمها على هذا المعنى لَصار لا يكفر إلا مَن عانَدَ!
واللهُ عز وجل قد بيّنَ في القرآن أن الكافرينَ قد قامت عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله تعالى:
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا
…
} [الأنعام: 25]
فنَصَّ الله -تعالى- أنهم يستمعون سَماعَ مَن يَفهمُ المعنى ويَعقِلُه، لكنّهم لم يَفهموا الأدلة الشرعية فَهْمَ مَن أراد الله -جلّ وعلا- هدايتَه.
(1)
ولعلَّهم صُدُّوا عن السبيلِ، ومُنِعُوا الفَهْمَ؛ إمّا لِكِبْرِهم عن قَبول الحق، أو
(1)
مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (7/ 220)، والنبذة الشريفة لحمد بن ناصر التميمي (ص/117)، والجهل بمسائل الاعتقاد (ص/183).
لتقليدهم الآباءَ والأَسْلافَ، أو لغير ذلكَ، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
ففارِقٌ بين الفَهم والعلم؛ قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79].
قال ابن القيم:
قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم، فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعاً تقوم به عليهم حجته، فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم.
(1)
قال الشيخ السِعدي: والسمع الذي نفاه الله -تعالى- عنهم، سمع المعنى المؤثر في القلب، وأما سمع الحجة، فقد قامت حجة الله -تعالى- عليهم بما سمعوه من آياته، وإنما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيرا يصلحون به لسماع آياته.
(2)
قال عبد اللَّطيف بنُ حَسَن آل الشيخ في سياق كلامه عن قيام الحُجة: "وإنما يُشترط فَهْمُ المُراد للمتكلِّم والمَقصود من الخطاب، لا أنّه حقٌّ؛ فَذاكَ طَوْرٌ ثانٍ. هذا هو المُستفادُ مِن نَصِّ الكتاب والسنة".
(3)
وقال رحمه الله: "وينبغي أن يُعْلَمَ الفَرْقُ بين قيام الحجة وفَهْمِ الحجة؛ فإنّ مَن بلغتْه دعوةُ الرسل فقد قامت عليه الحجة إذا كان على وجهٍ يُمكنُ معه العلمُ، ولا يُشترطُ في قيام الحجة أن يَفهم عن الله ورسوله ما يفهمُه أهلُ الإيمان والقَبول والانقياد لِما جاء به الرسولُ؛ فافْهَمْ هذا يُكْشَفْ عنكَ شُبُهاتٌ كثيرةٌ في مسألة قيام الحجة.
قال الله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
(1)
شفاء العليل (ص/97)
(2)
تيسير الكريم الرحمن (3/ 155)
(3)
وانظر: مِصباح الظلام في الرد على من كذب الشيخ الإمام (1/ 206)، والجهل بمسائل الاعتقاد (ص/187).
غِشَاوَة} [البقرة: 7] "
(1)
.
إذَنْ فالفرقُ بين قيام الحجة وفهم الحجة:
هو ما نقوله في الفرق بين هداية التوفيق وهداية البيان؛ فقيام الحجة الرسالية على أَيْدِي الرسل وأَتْباعهم هي هداية البيان، قال تعالى لنبيّه:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وأما فَهْمُ الحجة والاقتناعُ بها فهذا من هداية التوفيق والإلهام، قال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]
(2)
؛ فالفَهمُ هذا مِنّةٌ من الله تعالى، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«من يُرِدِ اللهُ به خيراً يُفقِّهْهُ في الدين»
(3)
* فرع: قولهم في الحديث:
"اجعلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما أنّ لهم ذات أنواط" هل هذا الطلب شركٌ أصغرُ أم شركٌ أكبرُ؟
*قَبْلَ الإجابة عن هذا السؤال نريد أن نبين أن التبرُّك بالأحجار والأشجار قد يكون شركاً أكبرَ، وقد يكون شركاً أصغرَ:
أ) أمّا الحالات التى يكون فيها التبرك شركاً أكبرِ:
فكمَنْ يَعمدُ إلى شجر أو قبر أو حَجَر، فيلتمس البركة من ذات الحجر، كما كان فِعل مُشركي العرب، فكانوا يلتمسون البركة من أصنامهم. ولا فرق بين مَن يلتمس البركة من ذات الصنم -وهو شركٌ أكبر- ومَن يلتمس
(1)
كشف الشُّبهتينِ (ص/91) لسليمان بن سحمان. ومعنى قوله: "إذا كان على وجه يمكن معه العلم":
ألا يكون عديم العقل والتمييز كالصغير والمجنون، أو يكون ممن لا يفهم الخطاب ولم يَحضُر ترجمان يُتَرْجِمُ له.
(2)
فتأملوا في قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج:
«أينما لَقِيتموهم فاقْتلوهم» ، وقوله:«شر قَتْلَى تحتَ أَدِيمِ السماءِ» مع كَوْنهم في عصر الصحابة، ويحقر الصحابةُ رضي الله عنهم عباداتهم إلى عباداتهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلوّ والاجتهاد، وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بَلَغَتْهم الحجة، ولكن لم يفهموها؛ لذلك لمّا ناظرهم ابن عباس رجع الكثير منهم عن أقوالهم.
(3)
متفق عليه.
البركة من مقبور؛ هو يعتقد أن البركة تأتي من ذات القبر أو من ذات الصنم أو من ذات الشجر؛ فهذا شرك أكبرُ لأنه تعلق بغير الله سبحانه في حُصول البركة، وعُبّاد الأوثان إنما كانوا يطلبون البركة منها؛ فالتبرك بقُبور الصالحين كالتبرك باللّاتِ، والتبرك بالأشجار والأحجار كالتبرك بالعُزَّى ومَناةَ.
** قال ابن القَيِّم:
"فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعُكوفُ حَوْلَها- اتخاذَ إلهٍ مع الله -تعالى- مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها؛ فما الظَّنُّ بالعُكوف حولَ القبر، والدعاء به، ودعائه، والدعاء عنده؟! فأيُّ نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر؟ لو كان أهلُ الشرك والبدعة يعلمون! ".
(1)
*وتأملوا: لما طلبوا شجرة يعلقون عليها الأسلحة -كما في حديث الباب- وسمَّوْا ذلك "ذاتَ أنواط" سمّاه الرسول صلى الله عليه وسلم شِركاً، فقال: «قلتم كما قالت بنو إسرائيل: اجعلْ لنا إلهاً
…
»
فدل ذلك على أن (العبرة في الأحكام: بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمَباني).
* قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن:
الاعتبار في الأحكام: بالمعاني، لا بالأسماء؛ ولهذا جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم طلبهم كطلب بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونِهم سمَّوْها "ذاتَ أنواط"؛ فالمشرِك مشرِك وإنْ سمَّى شركَه ما سمّاه؛ كمن يُسمِّي دعاء الأموات والذبحَ والنذرَ لهم ونحوَ ذلك- تعظيماً ومَحَبّةً؛ فإنّ ذلك هو الشركُ وإنْ سمّاه ما سمّاه".
(2)
*إذَنْ الحالة الأولى التي يكون فيها التبرك شركاً أكبر:
أن يعتقد أن ذات القبر أو ذات الحجر أو ذات الشجرة هو مصدرٌ ومحلٌّ للبركة. وفي حديث الباب التنبيهُ على حُرمة ما يُفعل عند القبور من دعاء أصحابها
(1)
إغاثة اللهفان مِن مَصايد الشيطان (ص/205).
(2)
فتْح المَجيد شرْح كتاب التوحيد (1/ 140).
والاستغاثة بهم والذبح والنذر لهم؛ وهذا أعظمُ وأكبرُ مِن فِعل الذين اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أرباباً من دون الله، وأقبحُ من فعل الذين قالوا:"اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط".
*الحالات التي يكون فيها التبرك شركاً أصغر:
ويكون ذلك فيمن يعتقد أن البركة من الله تبارك وتعالى، لكنه يعتقد وجود أسباب البركة في أشياءَ مما ليس عليه دليلٌ: كمَوْضِعِ القبر الفُلانيّ، أو بُقْعةٍ معيَّنةٍ؛ لأن القاعدة تقول:
"كلُّ من اتخذ سبباً لم يُشرِّعْه اللهُ سبباً -لا شرعاً ولا قَدَراً- فقد وقعَ في الشرك الأصغرِ".
* وهنا سؤال:
الحاج حين يستلم الحَجَرَ الأَسودَ، هل يعتقد أن الحجر مصدر للبركة بذاته، أم يعتقد أن المسح على الحجر سبب للبركة؟
*والجواب:
من التمس الحجر الأسود معتقداً أن الحجر مصدر للبركة بذاته- فهذا من الشرك الأكبر؛ وأما من كان يعتقد أن المسح على الحجر سببٌ للبركة- فهذا من الشرك الأصغر؛ لِذا فالصحيحُ: أنه ينتوي في ذلك الاقتداءَ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي بيَّنه عُمَرُ - رضى الله عنه-:
" لمَّا قَبَّلَ الْحَجَرَ قَالَ: "أَمَا وَاللهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ"
(1)
فدلَّ ذلك على أن النية التي ينتويها مَن مَسَحَ على الحجر هي الاسْتِنان بسُنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن ذات اتباع السنة من آكد أسباب حصول البركة.
*إذَن.. نقول:
التبرك بالأشياء له ضوابطُ ثلاثةٌ:
1) الاعتقاد أن البركة من الله عز وجل في أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله؛ فمِن صفات الله الذاتية الفعلية: صفة التَّبارُك: قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
(1)
متفق عليه.
قَدِيرٌ} [الملك: 1]، وفي حديث أَيُّوبَ عليه السلام:
«لا غِنى لي عن بركتِكَ
…
»
(1)
.
وكذلك يجعل الله البركة فيما شاء من مخلوقاته؛ قال تعالى حاكياً عن المَسيح: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ
…
} [مريم: 31].
(2)
2) الأشياء التي جعل الله -تعالى- فيها البركة لا تُعرف إلا بأدلة الشرع.
3) الأشياء التي جعل الله -تعالى- فيها البركة لا تُستعمل إلا على الوصف الذي دَلَّتْ عليه أدلة الشرع.
* نعود. للسؤال:
عندما قال بعضُ الصحابة -رضى الله عنهم- للنبي صلى الله عليه وسلم:
"اجعل لنا ذات أنواط كما أن لهم ذات أنواط" هل هذا من الشرك الأكبر أم من الشرك الأصغر؟
من العلماء من قال: إنّ طلبهم هذا من الشرك الأكبر، ولكنْ عذرَهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم؛ لحَداثة عهدهم بالإسلام
(3)
.
لكن الراجح -واللهُ أعلم- أن هذا مِن الشرك الأصغر؛ وذلك لأُمورٍ:
1 -
الأمر الأول:
أنهم طلبوا ولم يَفعلوا، وقد نص العلماء على أنهم طلبوا مُجَرَّدَ المُشابَهة في أن تكون لهم شجرةٌ يَنوطون بها السِّلاحَ يستمِدُّون بها النَّصرَ، لا منها؛ بسبب ما ينزل من البركة عليها مِن قِبَلِ اللهِ؛ ونَظيرُ ذلك:
ما وردَ في حديث النَّوْءِ «مُطرنا بنوء كذا» ، أي: بسبب الكوكب، وليس منه؛ ففارقٌ بين نِسبة المطر إلى الكوكب على سبيل السببية، ونِسبة المطر إلى الكوكب على سبيل الخَلْق والإيجاد؛ فالأول شرك أصغرُ، والثاني شرك أكبرُ في باب الرُّبوبيّة؛ ولذلك سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقالوا:
"اجعلْ لنا ذات أنواط"، فهُمْ ما ادَّعَوْا
(1)
رواه البُخاريّ (3391).
(2)
فارقٌ بين "المبارِك" و"المبارك": الأولى بكسر الراء، فهو الله تعالى، يجعل البركة فيمن شاء من مخلوقاته، أما بفتح الراء فهو الشيء تَحلّ فيه البَرَكة.
(3)
وهذا ما نحا إليه من المُعاصِرين أئمّة، منهم: ابن باز [شرح كتاب التوحيد]، ومحمد بن عبدالوهاب في [كشف الشبهات]، وعبدالرحمن بن حسن في شرحه لكتاب التوحيد.
فيها هذا مِن قِبَلِ أنفُسهم، ولكن أرادوا أن يكون ذلك من الله عن طريق نبيّه صلى الله عليه وسلم.
2 -
الأمر الثاني:
أن المحذور الذي وقعوا فيه هو مُشابَهتُهم للمشركين، كما فى قول النبيُّ صلى الله عليه وسلم:
«قلتم -والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة}»
فالكاف في لغة العرب تفيد التشبيه لا المُماثَلة، ومن المعلوم أن المشبَّه يُشْبِهُ المشبَّه بِهِ في بعض الأَوْجُه دُونَ بَقيتها.
قال ابن القيم:
ورتبة المشبه به أعلى من رتبة المشبه وهذا كقوله: "مدمن الخمر كعابد وثن ".
(1)
قال الشاطبي:
قوله عليه السلام: هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلها». . . " الحديث.
فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله، لا أنه هو بنفسه، فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه، والله أعلم.
(2)
*ونظير ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر»
(3)
ومن المعلوم أن التشبيه هنا في وصف الرؤية، وليس وَصْفِ المَرْئِيّ بِحالٍ.
*لذا نقول:
إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقطع مادّة المشابَهة من أصلها؛ فإنّ بَني إسرائيل طلبوا مشابهة المشركين ولكن في الشرك الأكبر، وأما من طلب ذلك النبي- صلى الله عليه وسلم فمع كون طلبهم من الشرك الأصغر لكنه قد يَؤول إلى الشرك الأكبر مع طُول الزمان؛ لأن الشرك الأصغر بَرِيدُ الشرك الأكبر.
وأوّلُ شركٍ وقعَ على وجه الأرض كان بدايته تصوير الأصنام على صُوَرِ الصالحينَ، ثم لما تنسَّخ العلم عُبِدَتْ؛ فكان تصوير الأصنام ذَرِيعةً إلى الشرك الأكبر.
* وكذلك فقد حُرِّم في شريعتنا بناء المساجد على القبور أيضاً لهذا المعنى، لأنها
(1)
عدة الصابرين (ص/111)
(2)
الاعتصام (2/ 752)
(3)
متفق عليه.
تَؤول بأصحابها إلى الشرك الأكبر.
وقد نص الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد أن ساق الحديث في كتاب التوحيد، باب "مَن تبرَّكَ بشجر أو حجر ونحوِهما": "فيه مَسائلُ:
أن الشرك فيه أكبرُ وأصغرُ؛ لأنهم لم يرتدُّوا بهذا" اهـ.
قلتُ: فهذا نصٌّ من الشيخ أن القوم طلبوا الشرك الأصغر.
(1)
*فإن قيل:
فإنْ كان سؤالهم من الشرك الأصغر، فلِمَ قال صلى الله عليه وسلم:«قلتم كما قالت بنو إسرائيل: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}» ؟
فالجواب عن ذلك:
أن ذلك مِن قَبِيلِ الاستدلال بالآيات التي نزلت في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر، كما قال حُذَيْفةُ -رضى الله عنه- لمّا رأى رجلاً في عَضُدِه خَيْطٌ:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]،
أو يقال:
إن ذلك مِن باب ما يَؤول إليه الأمرُ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم -للرجل الذي قال له:"ما شاء اللهُ وشِئْتَ"، فقال صلى الله عليه وسلم:«أجعلتَني للهِ نِدّاً؟»
وهذا من باب ما يَؤول إليه الأمرُ.
(2)
قال الشّاطِبِيّ:
"قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمّتي بما أخذ القرونُ مِن قَبلِها» يدل على أنها تأخذ بمثل ما أخذوا به في الأعيان أو الأشباه. والذي يدل على الثاني (أي: الأشباه): قولُه لمن قال: "اجعل لنا ذات أنواط":
«هذا كما قالت بنو إسرائيل: {اجعل لنا إلهاً}» ؛ فإنَّ اتخاذ ذات أنواط يُشْبه اتخاذ الآلهة من دون الله، لا أنه هو بعينه؛ فلذلك لا يَلزم في الاعتبار بالمنصوص عليه أن يكون ما لم يُنَصَّ عليه مِثْلَه من كل وجهٍ، والله أعلم".
(3)
(1)
وانظر: كتاب العُذْر بالجهل تحتَ المِجْهر الشرعيّ لأبي يوسف آل فراج (ص/244).
(2)
فالكلام قد يطلق: باعتبار ما كان عليه، كقوله تعالى:{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الشعراء: 46]، وباعتبار ما سيؤول إليه، كما في حديث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ
…
»
(3)
بتصرُّفٍ يسيرٍ من [الاعْتِصَام](3/ 189).
*قال شيخ الإسلام ابن تَيميةَ:
"قوله صلى الله عليه وسلم: «قلتم كما قال قوم موسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، إنها السُّنن لتركبُنَّ سنن من كان قبلكم»، فأنكرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها، معلقين عليها سلاحَهم؛ فكيف بما هو أعظمُ من ذلك مِن مشابهتهم المشركين، أو هو الشرك بعينه؟!! "
(1)
.
** ونختم فوائد هذا الحديث بذكر صفة تتعلق بحديث الباب، وهي صفة التَّبارُك لله تعالى:
صفةٌ ذاتيّةٌ. وفعلية لله عز وجل.
وقولنا: "تَبارَكَ اللهُ" أي: تَقَدَّسَ وتَنَزَّهَ وتَعالَى وتَعاظَمَ. لا تكونُ هذه الصِّفةُ لغيرِه، أي: تَطَهَّرَ. والقُدْسُ: الطُّهْر.
(2)
ثابتةٌ. بالكتاب. والسّنّة:
·الدليل. من. الكتاب: الكتاب:
1 -
قوله تعالى: {رَحْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ} [هود: 73].
2 -
قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1].
·الدليل من السنة:
حَديث أبي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- مرفوعاً:
…
(3)
قال ابن القَيِّم رحمه الله: "وأما صفتُه تبارك فمُخْتصّةٌ به تعالى كما أطلقَها على.
(1)
اقتضاء الصراط المستقيم لمُخالَفة أصحاب الجَحيم (2/ 157).
(2)
لِسان العَرَب (10/ 395 برك).
(3)
أخرجه البخاري (279).
نَفْسِه
…
".
(1)
وقال رحمه الله بعد أن ذكرَ عِدّةَ تفسيراتٍ لمعنى "تَبارَك":
"وقال الحُسينُ بنُ الفَضْلِ: تبارَك في ذاته، وبارَكَ مَن شاءَ مِن خَلْقِه. وهذا أحسنُ الأقوالِ، فتبارُكُه -سُبحانَه- وصْفُ ذاتٍ له، وصِفَةُ فِعلٍ
…
".
(2)
** أنواع البركة:
البركة نوعان:
أ) النوع الأول: بركةٌ هي فِعله سبحانه وتعالى، والفعلُ منها: بارَكَ. ويَتَعدَّى بنفسه تارةً، وبالحرف "عَلَى" تارةً، وبالحرف "فِي" تارةً. والمفعول منه: مُبارَكٌ، وهو: ما جُعل كذلك، فكان مبارَكاً كما يَجعلُه تعالى.
ب) النوع. الثاني:
بركةٌ تُضاف إليه إضافةَ الرحمةِ والعِزّةِ، والفِعل منها: تَبارَكَ؛ ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يَصلُحُ إلا له عز وجل، فهو سُبحانَه المُبارِك، وعَبْدُه ورسولُه: المُبارَك، كما قال المَسيح عليه السلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم: 31]؛ فمَن بارك الله فيه وعليه فهو المُبارَك. وأما صفته تعالى فمختصّة به تعالى، كما أطلقها على نفسه بقوله تعالى:{تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
(3)
تم بحمد الله
(1)
بدائع الفوائد (2/ 185).
(2)
جلاء الأفهام (ص/167)، وانظر: صفات الله في الكتاب والسنة (ص/182).
(3)
مختصر الأسئلة والأجوبة على العقيدة الواسطية لعبد المحسن السلمان (ص/67).
المجلس الثالث
* الصنوان في حكم من أتى العرافين والكهَّان*