المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام: - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4))

والمُحكم هو قوله تعالى (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)(المائدة: 17)، المُحكم هو قوله:(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)(المائدة: 73)

المُحكم (وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)) (التوبة: 30)

المحكم قوله تعالى (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ)

إذاً: عيسى مخلوق.

المحكم في أول ما نطق المسيح في المهد (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ

)

* عودٌ إلى حديث الباب:

قوله صلى الله عليه وسلم: ليوشكنَّ أَن ينزل ابْن مَرْيَم حكماً مقسطاً..)

الوشيك: القريب، وأراد قرب ذلك الأمر.

ونزول المسيح ثابت بإشارات من القرآن، كما سيأتى بيانه، وبالسنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث الباب، وإجماع الأمة.

*فمن‌

‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

1) قال تعالى (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)(الزخرف/61)

والذى عليه جمهور المفسرين أن الهاء في قوله تعالى " وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ " إنما تعود على عيسى عليه السلام.

قال ابن كثير:

الصحيح أن الضمير في قوله (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ

) عائد على عيسى عليه السلام، فإن السياق في ذكره، ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة، كما قال تبارك وتعالى:{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} أي:

قبل موت عيسى، عليه الصلاة والسلام.

(1)

(1)

تفسير القرآن العظيم (7/ 236) وانظر أصول السنة (ص/237) والرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات (ص/243)

* فائدة:

قرأ الجمهور: «لَعِلْمٌ» بكسر العين وتسكين اللام، وقرأ ابن عباس وأبو رزين وأبو عبد الرحمن وقتادة وحميد وابن محيصن بفتحهما. قال ابن قتيبة: من قرأ بكسر العين فالمعنى أنه يُعْلَم به قُرْبُ الساعة، ومن فتح العين واللام فإنه بمعنى العلامة والدليل. زاد المسير في علم التفسير (4/ 82) وقراءة "لعَلَم للساعة " قراءة الأعمش، وهى شاذة. .

ص: 621

قال الشنقيطى:

التحقيق أن الضمير في قوله: (وإنه) راجع إلى عيسى لا إلى القرآن، ولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ومعنى قوله: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة - هو أن نزول عيسى في آخر الزمان حيا علم للساعة، أي علامة لقرب مجيئها; لأنه من أشراطها الدالة على قربها.

(1)

* وعن ابن عَبَّاسٍ-رضى الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: " نزول عيسى بن مريم من قبل يوم القيامة ".

(2)

2) قال تعالى (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا)(النساء/159)

وهذه الأية تشير إلى نزول المسيح عيسى عليه السلام، وقد قرأها أبوهريرة -رضى الله عنه- بعد روايته لحديث الباب الذى نص على نزول عيسى عليه السلام، وسيأتى مزيد من بيان ذلك في موضعه.

3) قول الله عز وجل، لعيسى ابن مريم عليه السلام {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]

وهذه فيها إشارة إلى نزوله؛ فقد دلت الأية على رفع المسيح عليه السلام، كما دل الإجماع الذى نقله شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال:

وأجمعت الأمة

(1)

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 128)

(2)

أخرجه ابن حبان (6817) وترجم له: ذكر البيان بأن نزول عيسى ابن مريم من أعلام الساعة، وأخرجه والحاكم (3003) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبى.

قال الألبانى في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان: حسن صحيح (9/ 451). وصححه سليم الهلالي في الروض الريان (1/ 853) وقد رواه الحاكم كذلك موقوفاً على ابن عباس -رضى الله عنهما (3675)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

ص: 622

على أن الله رفع عيسى إلى السماوات.

(1)

فإذا كان النص والإجماع على رفع المسيح حياً، فهذه دلالة على نزوله ليكون في الأرض موته ودفنه؛ وذلك لقوله تعالى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)} [طه: 55].

4) قال تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} (آل عمران/46)، وقال:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} (المائدة/110)

فأشارت هاتان الآيتان إلى آيتين من آيات المسيح عليه السلام:

الأولى: تكلمه في المهد، والثانية: تكلمه بعد نزوله قبل يوم القيامة وهو في حال الكهولة، وإلا فإن كلام الكهل في معتاد الأحوال أمر مألوف فلا وجه لعطفه على كلام الطفولة.

(2)

* وكذلك ثبت نزول عيسى عليه السلام بالسنة المتواترة:

وممن نص على تواتر أحاديث نزول المسيح:

الطبري والنووى والقاضى عياض وأبو العباس ابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن حجر وغيرهم.

وكذلك فقد نص الشوكانى في كتابه " التوضيح في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر والدجال والمسيح " على تواتر أحاديث نزول المسيح عليه السلام، وذكر من جملة ذلك تسعة وعشرين حديثاً، ما بين صحيح وحسن وضعيف منجبر.

(3)

وللإمام الشيخ محمد أنور شاه الكشميري كتاب جمع فيه هذه الأخبار، وسمَّاه:

(1)

بيان تلبيس الجهمية (1/ 125)

(2)

انظر جامع البيان (6/ 420) روح المعاني (4/ 179) وفصل المقال في نزول عيسى وقتله الدجال (ص/20)

(3)

وانظر تفسير القرآن العظيم (7/ 236) ونظم المتناثر من الحديث المتواتر (ص/230) ونظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى قبل الآخرة (ص/69)

ص: 623

"التصريح بما تواتر في نزول المسيح "، قد ذكر فيه نحواً من سبعين حديثاً عن نحو ثلاثين صحابياً.

قال الألبانى:

وقد تيقَّنت - أنا شخصياً - بتواتر أحاديث الدجال وعيسى، وقد بلغت الطرق التي تجمعت عندي أكثر من أربعين طريقاً عن نحو أربعين صحابيّاً، بعضها على شرط الصحة، وسائرها أكثر شواهدها معتبرة

، ثم ذكر أسماء الصحابة -رضى لله عنهم -الذين رووا أحاديث نزول المسيح، فبلغوا أربعة عشر صحابياً، ثم قال:

ومن هذا العرض السريع لطرق حديث عيسى عليه السلام، ورواتها من الصحابة الكرام الصادقين؛ ليتبين لكل ذي عينين أن الحديث متواتر بذلك.

(1)

* ومن أدلة السنة:

حديث أبى هريرة-رضى الله عنه- الذى صدَّرنا به الباب.

وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ- رضى الله عنه- قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ، فَقَالَ:

إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ، فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، فَإِنَّهَا جِوَارُكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ"، قُلْنَا: وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟

قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" أَرْبَعُونَ يَوْمًا: يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ "، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟

قَالَ صلى الله عليه وسلم:

" لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ، ثُمَّ يبَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى:

إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي،

(1)

قصة المسيح الدجال ونزول عيسى عليه السلام (ص/25)

ص: 624

لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ ".

(1)

*وأما الإجماع:

قال ابن أبي زَمَنِين المالكي:

وأهل السنة يؤمنون بنزول عيسى وقتله الدجال وقال عز وجل " وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ " يعني عيسى.

(2)

قال المناوى:

وقد حكى في المطامح إجماع الأمة على نزوله، وأنكر على ابن حزم ما حكاه في مراتب الإجماع من الخلاف في نزوله قبل يوم القيامة، وقال: هذا نقل مضطرب، ولم يخالف أحد من أهل الشريعة في ذلك وإنما أنكره الفلاسفة والملاحدة.

(3)

وممن حكى هذا الإجماع:

الأشعري فى المقالات (1/ 295) والقاضى عياض فى شرح مسلم (18/ 75)

ومما استنبط منه شيخ الإسلام ابن تيمية واستدل به على نزول عيسى عليه السلام -قوله:

"والمسيح عليه السلام وعلى سائر النبيين- لا بد أن ينزل إلى الأرض كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، ولهذا كان في السماء الثانية، مع أنه أفضل من يوسف وإدريس وهارون، لأنه يريد النزول إلى الأرض قبل يوم القيامة بخلاف غيره ".

(4)

وقد درج أئمة السنة في مصنفاتهم على ذكر نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان، حتى

(1)

أخرجه مسلم (2937) أحمد (17629) وأبوداود (4321)

وهذه المنارة هي المنارة البيضاء الموجودة اليوم على الباب الشرقي لمدينة دمشق القديمة، وقد بناها السلطان نور الدين محمود بن زنكي في القرن السادس.

وهذه المنارة تقع شرقي دمشق، و تسمى الآن " مئذنة عيسى "، وهي منطقة يسكنها النصارى اليوم وفيها كنائسهم و نزول عيسى عليه السلام فيها مناسب لأنهم يدَّعون ألوهيته وهو عليه السلام عند نزوله سيكسر الصليب و يقتل الحنزير.

وقوله صلى الله عيه وسلم " فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ "، وباب لّد الشرقي من أرض فلسطين، بالقرب من الرملة على نحو ميلين منها. وانظر عقيدة عبد الغني المقدسي (ص/95)

(2)

أصول السنة (ص/192)

(3)

فيض القدير (5/ 519) وكذلك ممن نقل هذا الإجماع:

ابن عطية في المحرر الوجيز (3/ 105) والسفاريني في " لوامع الأنوار"(2/ 94)، وانظر " منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة "(ص/857)

(4)

مجموع الفتاوى (4/ 329).

ص: 625

صار ذلك من أعلام الاعتقاد التى يمتازون بها.

(1)

* فإن قيل:

وما الحكمة من نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان دون غيره من الرسل؟

* والجواب هنا ما نص عليه ابن كثير، حيث قال:

أن المقصود إنما تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى عليه السلام-وصلبه، وتسليم من سلَّم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله -تعالى - أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شُبِّه لهم فقتلوا الشبيه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باقٍ حي، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، يعني لا يقبلها من أحد.

(2)

وقوله صلى الله عليه وسلم: حكماً مقسطاً..)

والحكم: الحاكم.

قال النووى:

والمعنى أنه ينزل حاكماً بهذه الشريعة؛ فإن هذه الشريعة باقية لا تنسخ بل يكون عيسى حاكماً من حكام هذه الأمة.

(3)

والمقسط: العادل. يقال: أقسط فهو مقسط: إذا عدل، ومنه قوله عزوجل:

{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، وقوله تعالى:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية [البقرة: 282]، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:

"إذا حكموا عَدَلوا، وإذا قَسَموا أقسطوا".

(4)

وأما قسط فهو قاسط: إذا جار، قال تعالى (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا)(الجن/15)

قوله صلى الله عليه وسلم: " فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ

":

وإنما قصد إلى كسر الصليب وقتل الخنزير من أجل أنهما فى دين النصارى المغترين المعتدين فى شريعتهم إليه،

(1)

وانظر أصول السنة أحمد (ص/34) وشرح العقيدة الطحاوية (ص/499) ومقالات الإسلاميين (ص/345) والشريعة للآجري (381)

(2)

تفسير القرآن العظيم (4/ 345)

(3)

شرح مسلم للنووى (2/ 190)

(4)

أخرجه أحمد (19541) بسند حسن. وانظر البحرُ المحيط الثجَّاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج (4/ 271)

ص: 626

فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن عيسى عليه السلام سيغير ما نسبوه إليه كما غيَّره محمد صلى الله عليه وسلم.

(1)

قال القاضي عياض:

فيه دليلٌ على تغييرآلات الباطل وكسرها، ودليلٌ على تغيير ما نسبته النصارى إلى شرعهم، وترك إقرارهم على شيء منه، وأنه يأتي ملتزمًا لشريعتنا.

(2)

وأما قتله للخنزير فدليل على أن الخنزير حرام في شريعة عيسى عليه السلام، وقتله له تكذيب للنصارى أنه حلال في شريعتهم.

* قال صلى الله عليه وسلم: وَيَضَع الجزية:

قيل في قوله: (ويضع الجزية) وجوه:

الأول:

أنه يحمل الناس على دين الإسلام، ولا يبقى أحد تجري عليه الجزية، فلا يقبلها ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، ومن بذل الجزية منهم لم يكف عنه بها، بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل. وقال بهذا ورجحه النووى والخطابي وابن حجر.

(3)

الثاني:

أنه يفرض الجزية على أهل الكتاب، فلا يبقى في الناس فقير يحتاج إلى المال، وإنما كانت تؤخذ الجزية فتصرف في المصالح، فإذا لم يبق للدين خصم عُدمت الوجوه التي تصرف فيها الجزية فسقطت.

الثالث:

وهو أنه يضرب الجزية، أى يفرضها على أهل الكتاب؛ وذلك لأن شرعه نسخ، فلما نزل استعمل شرعنا، ومن شرعنا ضرب الجزية.

(4)

والراجح الصحيح -والله أعلم- هو الوجه الأول.

*وأما ما ورد أن المراد بوضع الجزية: أي فرضها على أهل الكتاب فيرده أمور:

الأول: رواية أحمد عن أبي هريرة -رضى الله عنه- مرفوعاً:

" يَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَتَكُونَ الدَّعْوَةُ وَاحِدَةً ".

(5)

(1)

وانظر التوضيح لشرح الجامع الصحيح (14/ 555) وشرح صحيح البخارى لابن بطال (6/ 604)

(2)

إكمال المعلم (1/ 608).

(3)

وانظر معالم السنن (3/ 374) وشرح النووى على مسلم (1/ 468) و فتح الباري (6/ 686)

(4)

كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 325) والمفهم (1/ 370)

(5)

أخرجه أحمد (9121)، وحسَّنه الأرنؤوط.

ص: 627

الثانى: حديث النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رضى الله عنه- قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ.. وورد فيه: فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ ".

(1)

الثالث: ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَإنِّي أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ،

وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَيُهْلِكُ اللهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِسْلَامَ ".

(2)

وهذه الرواية كالنص في المسألة.

قال العراقي:

" ويظهر لي أن قبول الجزية من اليهود والنصارى لشبهة ما بأيديهم من التوراة والإنجيل، وتعلقهم ـ بزعمهم ـ بشرع قديم؛ فإذا نزل عيسى، زالت تلك الشبهة لحصول معاينته؛ فصاروا كعبدة الأوثان في انقطاع شبهتهم، وانكشاف أمرهم؛ فعوملوا معاملتهم في أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، والحكم يزول بزوال علته ".

(3)

** وما ذكرناه في الوجه الأول يبين لنا كذلك أمرين:

أولهما: أن المراد بوضع الجزية إنما هو نسخها، وليس فرضها.

والثانى: أن العلة من نسخ مشروعية الجزية إنما هو سيادة شريعة الإسلام وسقوط خيار الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام أو القتل، وهذا مثال لنسخ القرآن -الذى ثبتت به الجزية - بالسنة المتواترة التي دلت على نزول عيسى عليه السلام ووضعه للجزية.

(4)

(1)

أخرجه مسلم (2937)

(2)

أخرجه أحمد (9270) و أبو داود (4324) وابن حبان (6821) صححه الحافظ ابن حجرفي "الفتح (6/ 493) وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (1/ 188): هذا إسناد جيد قوي.

وأخرجه الحاكم (2/ 595) عن عفان بن مسلم، بهذا الإسناد وصححه، ووافقه الذهبي.

(3)

طرح التثريب (7/ 266)

(4)

وبهذا يتبين لنا أن العلة من نسخ الجزية إنما هو عدم قبول إلا الإسلام أو القتل، خلافاً لما ذهب إليه الطحاوى من أن العلة من نسخها هو أن المال إذا عاد في الناس آخر الزمان إلى أن صار لا يقبله أحد، صاروا بذلك جميعاً أغنياء وذهب الفقر والمسكنة، وعليه فإن الجزية التى جعلها الله - تعالى-على من جعلها عليه لتصرف فيما يحتاج إليه من قتال ومما سواه مما يجب صرفها فيه، فإذا ذهب ذلك ولم يكن لها أهل= =تصرف إليهم سقط فرضها. فكلامه هذا خلاف ما دل عليه النص والمعنى.

وانظر مشكل الأثار (1/ 100)

ص: 628

*وهنا شبهات تتعلق بنزول عيسى عليه السلام:

ذهب الجهمية وجماعة من المعتزلة إلى إنكار نزول المسيح عليه السلام آخر الزمان، وقد استدلوا على ذلك بجملة من الشبهات

(1)

، نذكر منها مايلى:

1) الشبهة الأولى:

أن أحاديث نزول المسيح عليه السلام -أحاديث آحاد متعلقة بأمر اعتقادي، فلا يؤخذ بها؛ لأن مسائل الاعتقاد لا تؤخذ إلا بالقطعي المتواتر النقل.

لذا فقد ادَّعى الشيخ محمود شلتوت بعدم صحة القول بنزول المسيح عليه السلام-آخر الزمان، بزعم أن الأثار الواردة فى ذلك من أخبار الآحاد ظنية الدلالة، فلا ينبنى عليها مسائل

(1)

والمخالفون لأهل السنة في قضية نزول عيسى عليه السلام تدور أقوالهم بين الإنكار والتحريف:

أ) أما أهل التحريف:

فهم الذين يدَّعون نزولاً لأشخاص وفق عقائدهم الباطلة، ومثال ذلك " القاديانية ":

أتباع ميرزا غلام أحمد (ت: 1908 م)، الذي ظهر في شبه القارة الهندية، وادَّعى النبوة، وأنه هو المسيح الذي ينزل في آخر الزمان، وادَّعى أن الأحاديث التي فيها إخبار بنزول عيسى إنما المقصود بها نزول مثيله، وأنه هو ذلك المثيل، وأن عيسى عليه السلام قد مات ودُفن في كشمير!

ب) أما المنكرون لنزول المسيح:

فيمثلهم ما يسمى بالمدرسة العقلية الحديثة، وهي مدرسة محمد عبده وتلاميذه ومنهم الشيخ رشيد رضا والشيخ المراغي والشيخ شلتوت رحم الله الجميع.

فهؤلاء قد تمهَّروا في نهج المدرسة العقلية القديمة «المعتزلة» ، وفي فلسفة القرن الثامن عشر والتاسع عشر،

فلم تتسع الفلسفات المادية في تفكيرللإيمان بالمعجزات والخوارق من انشقاق البحر لموسى والعصا له،

وآيات عيسى بن مريم عليه السلام ورفعه للسماء ونزوله وخروج الدجال والدابة وطلوع الشمس من

مغربها وانشقاق القمر وغيرهما من الآيات.

لذا فقد عمدوا إلى تأويلها في القرآن والتشكيك في أحاديثها. فتأولوا نزول المسيح بغلبة روحه وسر رسالته على الناس.

بل قال صاحب مجلة المنار:

" أن القول بنزول المسيح هى عقيدة أكثر النصارى، وقد حاولوا بثها في المسلمين "

ومع هذا فلا بد من الاذعان للشيخ رشيد رحمه الله رضا في ذبه عن حياض الدين ضد الطاعنين فيه. وانظرلذلك: منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة (ص/862)

ص: 629

الاعتقاد، بل قد زعم الإجماع على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة، ولا يصح الاعتماد عليها فى شأن المغيَّبات.

فهذا هو المسلك الأول: أنها غير قطعية الورود، وأما المسلك الثانى:

فقد ذكر الشيخ شلتوت أن الأثار فى ذلك ظنية الدلالة، وعليه فلا يجب حملها على ظاهرها، و لا يمتنع تأويلها.

ثم قال:

ومن ذلك أحاديث نزول المسيح، ولذا فقد أوَّلها بعض العلماء بأن المراد بها هو اندفاع الشر وظهور الخير!!

وقد نقل كذلك هذين المسلكين الشيخ رشيد رضا عن شيخه محمد عبده فى المنار وأقره عليهما.

(1)

*والرد على ذلك أن يقال:

1 -

أما الزعم أن الأثار الواردة فى نزول المسيح عليه السلام من أخبار الآحاد:

فكلام مردود على قائله؛ فقد سبق البيان قريباً أن هذه الأحاديث متواترة.

*ولو تنزلَّنا بأنها أحاديث آحاد فيقال:

أ- إن القول بأن أحاديث الآحاد لا ينبنى عليها مسائل الاعتقاد ونقل الإجماع على ذلك لا شك أنه كلام مردود بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.

ب- إن أحاديث نزول المسيح - مروية فى الصحيحين، وتلقتها الأمة بالقبول خلفاً عن سلف، فتحتم الأخذ بها.

(2)

وسيأتى مزيد بيان عن اعتبار أخبار الآحاد فى الاعتقاد عند شرحنا للحديث الثالث والثلاثين "حديث بعث معاذ -رضى الله عنه- إلى اليمن".

2 -

وأما القول بتأويل بعض العلماء أن المراد بأحاديث نزول المسيح هو اندفاع الشر وظهور الخير، فلا شك أن هذا من التحريف البيِّن المخالف لصريح أحاديث

(1)

وانظر كتاب "الفتاوى " للشيخ شتلوت (ص/52) وتفسير القرآن الحكيم (تفسير المنار)(3/ 261) ونظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى عليه السلام قبل الآخرة (ص/52)

(2)

نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى عليه السلام قبل الآخرة (ص/114)

ص: 630

نزول المسيح عليه السلام؛ فإن هذه الأحاديث لم تقتصر على ذكر مجرد النزول، بل قد ذكرت تفاصيل ذلك من حياة المسيح عليه السلام على الأرض وصلاته مع المسلمين، ثم وفاته وصلاة المسلمين عليه، فكل هذا يبطل القول بهذا التحريف الباطل.

وما أجمل قول القائل:

إذا وصل التقوُّل على النصوص والتحريف للأدلة إلى هذا الحد، فلا نقول إلا:

"نحمدك ربنا على سلامة الدين والعقل "، ونسكت.

2 -

الشبهة الثانية:

قد روى الشيخان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، " فهو خاتم النبيين، وشريعته ناسخة لشرائع من قبله من الرسل، فكيف ينزل عيسي عليه السلام بعده، بل وينسخ الجزية؟

(1)

* وجواب ذلك أن يقال:

أولاً:

نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان يختلف عن وجوده وقت أن بعثه الله -تعالى- إلى بني إسرائيل، فقد كان بين بني إسرائيل رسولاً بشريعة الإنجيل، أما نزوله في آخر الزمان فسيكون فيه تابعاً لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وحاكماً بما يُستجد وقتها من أحكام الشريعة الإسلامية، من كسر الصليب ورفض الجزية، ومما يؤيد هذا ما يلي:

*أولاً:

أنه يأبى عند أول نزوله أن يؤم المسلمين في الصلاة، وفي هذا إشارة منه لهذا المعنى الذى ذكرناه.

فقد روى جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ -رضى الله عنهما - قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:

«يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ ".

(2)

(1)

وهذا الذى حدا بابن حزم أن ينقل الخلاف فى مراتب الإجماع (ص/344) فى مسألة نزول المسيح عليه السلام ظناً بوجود معارضة بين قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبي بعدي "، وبين أحاديث نزول المسيح عليه السلام.

مع أنه نص فى المحلى (1/ 11) وفىالفصل (1/ 95) على نزول عيسى عليه السلام، فلنا قوله الذى يوافق فيه جماهير أهل السنة، وأما ما نقله من خلاف فمردود؛ إذ لا معارضة بين الأثار فى هذا الباب كما ذكرنا ذلك فى الرد على الشبهة الثانية أعلاه.

(2)

أخرجه مسلم (156)

*تنبيه:

قد ورد في الأثار أن أميرالمسلمين الذى يصلى خلفه عيسى عليه السلام -عند نزوله هو محمد بن عبدالله المهدى، فقد روى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ-رضى الله عنه- قَالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"يَنْزِلُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ فَيَقُولُ أَمِيرُهُمُ الْمَهْدِيُّ تَعَالَ صَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: " لا، إِنَّ بَعْضَهُمْ أَمِيرُ بَعْضٍ؛ تَكْرِمَةُا للَّهِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ ". قال ابن القيم: وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ.

وخروج المهدى ثابت بالسنة المتواترة وإجماع الأمة، وقد روى أحاديث خروجه ما يقرب من ستة وعشرين صحابياً، ورواها أئمة الصحاح والمسانيد.

وانظر تنبيه الغافلين شرح علامات يوم الدين (ص/199)

*وأما ما يُروى مرفوعاً "لا مهدي إلا عيسى ابن مريم""، فهو مما تفرد به محمد بن خالد. وقد ذكره ابن الجوزي في " العلل المتناهية في الأحاديث الواهية " (ح/ 1447)

=قال محمد بن الحسين الآبري: محمد بن خالد الجندي غير معروف عند أهل الصناعة من أهل العلم والنقل، وقد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة رواتها عن المصطفى صلى الله عليه وسلم -يعني في المهدي ا. هـ.

وقال البيهقى:

محمد بن خالد الجندي مجهول، عن أبان بن أبي عياش وهو متروك عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو منقطع، والأحاديث على خروج المهدي أصح إسناداً ".

قال ابن القيم:

لا يصح حديث " لا مهدي إلا عيسى ابن مريم "، ولو صح لم يكن فيه حجة؛ لأن عيسى أعظم مهدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الساعة. ا. هـ وقد حكم الذهبي في "الميزان" في ترجمة محمَّد بن خالد على حديث:"لا مهدي إلا عيسى ابن مريم" بالنكارة.

وانظر مناقب الشافعى (ص/95) والمنار المنيف (ص/148) وميزان الاعتدال في نقد الرجال (3/ 353)

ص: 631

قال ابن الجوزى:

اعلم أنه لو تقدَّم عيسى عليه السلام -لوقع في النفوس إشكال، ولقيل:

أتراه تقدم على وجه النيابة أم ابتدأ شرعاً؟، فيصلي مأموماً لئلاً يتدنس بغبار الشبهة، وجه قوله:(لا نبي بعدي).

(1)

قال ابن العربي:

إن ذلك- أى امتناع عيسى من التقدم للإمامة - إبقاء لشريعة النبى صلى الله عليه وسلم واتباع له، وإسخان لأعين النصارى، وإقامة الحجة عليهم.

(2)

*الثانى:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

" كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ ".

(3)

قال ابن أبي ذئب: «فأمَّكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم»

(1)

كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 88) وانظر الروض الرَّيان (1/ 845)

(2)

عارضة الأحوذي (9/ 78)

(3)

أخرجه مسلم (155)

ص: 632

* ثم يقال:

وإذا كان من هو أفضل من عيسى عليه السلام وهو موسى عليه السلام لو كان حياً لما وسعه إلا إتباع النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام:

" وَلَوْ كَانَ حَيًّا وَأَدْرَكَ نُبُوَّتِي، لَاتَّبَعَنِي»

(1)

، فلأن يقال ذلك في حق عيسى عليه السلام من باب أولى.

ثانياً:

أن الجزية وإن كانت مشروعة في هذه الشريعة فقبولها ليس بحكم مستمر إلى يوم القيامة، بل إن ذلك مقيد بنزول عيسى عليه السلام، كما في حديث الباب، وليس عيسى عليه السلام بناسخ لحكم الجزية، بل - نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ بقوله وإخباره بنزول عيسى.

(2)

قال بدر الدين العيني:

فإن قلتَ: هذا يدل على أن عيسى، عليه الصلاة والسلام، ينسخ الحكم الذي كان في شرعنا، والحال أنه تابع لشرع نبينا صلى الله عليه وسلم.

قلتُ: ليس هو بناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي بين بالنسخ. وأن عيسى، عليه الصلاة والسلام، يفعل ذلك بأمر نبينا صلى الله عليه وسلم.

(3)

* وبناءً على ما سبق:

من كون المسيح عيسى عليه السلام سوف ينزل إلى الأرض آخر الزمان، كما سبق بيانه، ويحكم بشريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بإسقاط الجزية وقتل الخنزير، أنه رفع حيّا، وأنه اجتمع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس فقد نص ابن حجر على كون عيسى عليه السلام صحابياً، وترجم له في كتابه " الإصابة في تمييز الصحابة"، وقال رحمه الله:

ذكره الذّهبيّ «في التّجريد» ، مستدركاً على من قبله، فقال: عيسى ابن مريم رسول اللَّه، رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم -ليلة الإسراء، وسلم عليه، فهو نبيّ وصحابيّ، وهو آخر من يموت من الصحابة، وألغزه القاضي تاج الدين السبكي في قصيدته في آخر القواعد له، فقال:

(1)

أخرجه الدارمي (499) وحسنه الألبانى.

(2)

شرح مسلم للنووى (1/ 469)

(3)

عمدة القاري (13/ 28)

ص: 633

من باتّفاق جميع الخلق أفضل من

خير الصّحاب أبي بكر ومن عمر

ومن عليّ ومن عثمان وهو فتى

من أمّة المصطفى المختار من مضر.

(1)

* الشبهة الثالثة:

قال تعالى (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا

) (آل عمران/55) وَقَوْلِهِ (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)[المائدة / 117]

أفادت هذه الأيات أن الله -تعالى - قد توفى عيسى عليه السلام قبل رفعه إليه، في حين أن الأحاديث قد أفادت أن عيسى عليه السلام سينزل آخر الزمان وسيموت ويصلى عليه المسلمون، فكيف الجواب؟

* وجواب ذلك من وجوه:

1) قيل أن: المراد بالتوفي هنا النوم، وكأن عيسى عليه السلام قد نام فرفعه الله -تعالى- نائماً إلى السماء، ويطلق على النوم وفاة، كما قال الله تعالى:" وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ"(الأنعام: 60)

وعَنْ حُذَيْفَةَ -رضى الله عنه- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ مَنَامِهِ قَالَ: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَ مَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» .

(2)

وهذا القول مروي عن الحسن، ومال إليه ابن كثير.

(3)

2) وقيل أن قوله تعالى (مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ) يحمل على الوفاة بمعنى الموت على الحقيقة، ولكنَّ الله -تعالى- عطف الرفع على الوفاة، والعطف إنما يفيد مطلق الجمع دون الترتيب، وكأنَّ المعنى: أنى رافعك إلىّ ومتوفيك بعد ذلك.

ويروى هذا القول عن ابن عباس وقتادة ووهب بن منبه، وهو قول ابن حزم ومحمد بن اسحاق.

(4)

(1)

الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 633)

(2)

أخرجه البخاري (6324)

(3)

تفسير القرآن العظيم (2/ 28)

(4)

وانظر تنزيه القرآن عن المطاعن (ص/88) والدرة (ص/109) وفصل المقال للهرَّاس (ص/10)

ص: 634