المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

ص: 193

بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

نص الحديث:

عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصّامِتِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ- أَدْخَلَهُ اللهُ الجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ» ،

وفي رواية: «أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ» .

تخريج الحديث، وبيان فضله:

أخرجه البخاري في صحيحه - كتاب أحاديث الأنبياء (3435)، ومسلم في صحيحه - كتاب الإِيمان (28)، وأحمدُ في المسنَد (22675)، وابنُ مَنْدَه في كتاب الإيمان (44، 405)، والنسائيُّ في سُننه الكبرى (10904).

قال النووي:

"هذا حديث عظيم الموقع، وهو أجمعُ -أو مِن أجمعِ- الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه صلى الله عليه وسلم جمعَ فيه ما يُخرج عن جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعُدهم، فاختصرَ صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرُفِ على ما يباين به جميعهم".

(1)

* شرح حديث الباب:

يقول النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ

(1)

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (1/ 227).

ص: 195

وَرَسُولُهُ

».

وهنا فوائدُ:

الفائدة الأولى: دليل شهادة أن لا إله إلا الله:

من القرآن:

قال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]،

وقال -تعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]،

* ومن السنة:

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الْإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» .

(1)

*الفائدة الثانية:

في معنى شهادة أن لا إله إلا الله:

أيْ: لا معبود بحقٍّ إلا اللهُ، فكلُّ معبود سِوى الله -تعالى- هو معبود باطل، فمعنى "لا إله إلا الله": نفْي العبادة عمَّن سِوى الله، وإثباتُها لله سبحانه وتعالى، أيْ: إبطال عبادة كل ما سوى الله، وإثباتُ العبادة لله، فآلهة المشركين قد سمَّاها الله -تعالى- آلهة:

قال -تعالى-: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3]، لكنها آلهة معبودة بغير حق، فهي باطلة؛ بل قال -تعالى-:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23]، فأطلقَ على الهوى اسم "إله"، ولكنها بلا شك آلهة كاذبة خاطئة.

لذلك فإنّ تفسير كلمة التوحيد بأن يقال: "لا إله موجود إلا الله" هو تفسير باطل؛ لأن هذا يَلزمُ منه أنّ كل معبود في الوجود هو الله!

فقوله "لا إله": هذا إبطال لجميع المعبودات مِن دون الله عز وجل، وإنكار لها،

وقوله "إلا اللهُ": هذا إثباتٌ للعبادة لله -تعالى- وحدَه لا شريك له.

قال -تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ

(1)

متفق عليه.

ص: 196

وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62].

(1)

**الفائدة الثالثة:

مقتضى كلمة "لا إله إلا الله":

المقصود الأعظم من هذه الكلمة إنما هو: تحقيق معناها في القلب، مع النطق بها باللسان، والقيام بمقتضاها بالجوارح.

ولا أدلَّ على ذلك مِنْ: إجماع السلف على أنّ مَن نطقَ الشهادة ولم يعتقدْ معناها ولم يعملْ بمقتضاها، فإنه لا يكون مسلماً، ويُقاتَلُ على ذلك، حتّى يعملَ بما دلَّت عليه من النفي والإثبات.

*قال عبد الرحمن بن حسن:

فقوله صلى الله عليه وسلم «مَنْ شَهِدَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللهُ

» أيْ:

مَن تكلّمَ بها عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً؛ فلا بد في الشهادتينِ من العلم واليقين والعملِ بمدلولهما، كما قال الله -تعالى-:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد: 19]، وقوله:{إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86]؛

أمّا النطق بها مِن غير معرفة لمعناها ولا يقينٍ ولا عملٍ بما تقتضيه -مِن: البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل (قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح) - فغيرُ نافع بالإجماع، وفي الحديث ما يدلّ على هذا، وهو قوله:«مَنْ شَهِدَ» ؛ إذْ كيفَ يَشهدُ وهو لا يَعلمُ، ومجرَّدُ النطقِ بالشيء لا يسمَّى شَهادةً به".

(2)

* الفائدة الرابعة:

"لا إله إلا الله" مركَّبة من: نفي، وإثبات، وهما رُكْنا شهادة التوحيد، فقوله "لا إله" فيه نفي استحقاق العبادة عمَّن سوى الله، وقولُه "إلا الله" فيه إثبات العبادة لله -تعالى- وحده لا شريك له.

** وتحقيق كلمة التوحيد إنما يُبنى على النفي والإثبات، وهذا هو حقيقة التوحيد؛ فالنفي المَحْضُ ليس بتوحيدٍ، وكذلك الإثبات دُونَ نفيٍ لا يمنع المشارَكةَ، فلا يكون

(1)

إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (1/ 61).

(2)

انظر فتح المَجيد (39 - 41)، والمختصر المفيد في عقائد أئمة التوحيد (ص/71).

ص: 197

التوحيد إلا متضمِّناً للنفي والإثبات.

(1)

** وهذا ما نستقرئه من مواضعَ عديدةٍ:

فمن القرآن:

قال تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لأبيه وَقَوْمِهِ إنني بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى

} [الزخرف: 26 - 28]،

وقوله -تعالى- على لسان إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77]،

وقال -تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]،

وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36]،

*ومن السنة:

في حديث جبريل عليه السلام قَالَ: مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم:

«الإِسْلَامُ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ، وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» .

(2)

** ولا أدلَّ على ذلك مِنْ حرصِ الرسول صلى الله عليه وسلم على تأكيد هذا الأصل دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ، فكان يقول:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النِّعْمَةُ، وَلَهُ الْفَضْلُ، وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» .

(3)

** وهذا الأصل -الذي هو النفي والإثبات- لا يُحقَّق التوحيد إلا به، فالإثبات وحدَه لا يكفي للحكم بإسلام المرء، فمَن أثبتَ العبادة لله قولاً وعملاً، ولكنْ ما نفاها عن غيره، فسوَّغَ لغيره -مثلاً- أن يعبد غيرَ الله -تعالى- فهذا كافرٌ، حتى لو أفردَ العبادة لله -تعالى-؛ لأنّ هذا اعترافٌ منه أنّ غير الله -تعالى- يستحق أن يُعبد.

* ولقد قاتلَ الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين الذين حقّقوا طرفاً من الإثبات على عِوَجٍ منهم في ذلك؛ لأنهم ما حققوا نفي الألوهية عمَّن سوى الله تعالى، وقد حكى الله

(1)

التّخَلّي عن التقليد والتّحلّي بالأصل المفيد (ص/73).

(2)

متفق عليه.

(3)

أخرجه مسلم (594).

ص: 198

عنهم قائلاً: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى

} [الزمر: 3]، وقال تعالى:{ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12]

فهُم ما أشركوا إلّا لمّا دُعوا إلى تحقيق نفي الألوهية عمَّن سوى الله تعالى {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا

} [الأعراف: 70]، فهم ما أنكروا على رسلهم أصلَ قضية الدعوة إلى الله، بل كان إنكارهم لتحقيق نفْي الألوهية عمَّن سوى الله تعالى.

* وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «وَيْلَكُمْ، قَدْ قَدْ» ، فَيَقُولُونَ: إِلَّا شَرِيكاً هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ، وَمَا مَلَكَ.

(1)

** عَودٌ إلى حديث الباب

قوله صلى الله عليه وسلم: «وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه» :

وهذه مَنزلة التوسُّط بين الإفراط والتفريط في حق النبي صلى الله عليه وسلم،

وهذا الذي نصَّ عليه كتابُ الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ

} [الكهف: 110]، فوصْفه صلى الله عليه وسلم بمقام العبودية والبشرية فيه ردٌّ على الغلاة الذين بالغوا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قالوا في حقه ما لا يقال إلا في حق الله تعالى، وحتّى جَوَّزُوا الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقاموا يسألونه عند المُلِمّات لكَشف الكُرُبات!

* وكم كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على إغلاق باب الغلو فيه صلى الله عليه وسلم، وسدّ كل الذرائع المُفْضِية إلى ذلك!

* عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَجَعَلْتَنِي لِلهِ نِدّاً؟! بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ» .

(2)

(1)

أخرجه مسلم (1185).

(2)

أخرجه أحمد (1839). انظر السلسلة الصحيحة (136).

ص: 199

* ولمّا قَالَتْ جَارِيَةٌ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَد، قالَ لها النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:

«لا تَقُولِي هَكَذَا، وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ» .

(1)

* وقال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» .

(2)

** وقوله صلى الله عليه وسلم «فإنّما أنا عبدُ الله ورسولُه» هو من أساليب اللغة في الحصر، أي: ما هو صلى الله عليه وسلم إلا عبدٌ رسولٌ، وجاء هذا الحصرُ بعد فاءِ التعليل؛ لِبيانِ أنّ العلة في عدم الإطْراء هي كَونُه -فحسْبُ- عبداً رسولاً، فهو عبدٌ لا يُعبد، ورسولٌ لا يكذب.

(3)

هكذا مقام عدم الإفراط

وأما عدم التفريط فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم هو نبيُّ الله وَرَسُولُهُ، فقد جاءت البِشارة به في: التوراة، والإنجيل، والقرآن.

قال -تعالى-: {الذينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]

وقال -تعالى-: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ

} [الصف: 6]، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقد سُئل عن صِفة رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكورة في التوراة، قال:

"وَرَدَ في التوراة: "يا أيها النبيُّ، إنّا أرسلناك شاهداً ومبشِّراً ونذيراً، وحِرْزاً لِلْأُمِّيِّينَ، أنتَ عَبْدي ورسولي، سَمَّيْتُكَ (المُتَوَكِّلَ)، ليسَ بِفَظٍّ ولا غليظٍ ولا صَخّابٍ في الأسواق، ولا يَدفعُ بالسيئةِ السيئةَ، ولكنْ يعفو ويَغفرُ".

(4)

*وأدلة ذلك في القرآن كثيرة:

قال -تعالى-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ

} [الفتح:

(1)

أخرجه البخاري (4001).

(2)

أخرجه أحمد (164)، والبخاري (3261).

(3)

التوضيح الرشيد في شرح التوحيد (ص/147).

(4)

أخرجه أحمد (6622)، والبخاري (2125).

ص: 200

29]،

وقال -تعالى-: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

** مَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ:

الذي تقتضيه هذه الشهادةُ هو تصديق القلب أنّ محمدَ بنَ عبدِ اللهِ رسولٌ مِن عند الله، والتصديق واليقين بأنّه رسول الله إلى جميع الناس، وكذلك تصديقه في كل ما أخبرَ به عن رب العِزّة.

وهذا التصديق لا ينفع صاحبَه إلا إذا قُرن بطاعته صلى الله عليه وسلم فيما به أَمَرَ، وفيما عنه نَهى وزَجَرَ.

قال -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، وليس مجرَّد التصديق فحسْب، وإلّا فاليهودُ كانوا على يقينٍ أنه رسول الله: قال تبارك وتعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]؛ فلم ينفعْهم ذلك!

وقد نفى الله -تعالى- الإيمان عمّن ادّعى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أعرضَ عن اتّباعه: قال -تعالى-: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [النور: 47].

** قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"الله -تعالى- خلقَ الخَلْق لعبادته، كما قال الله -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وإنّما تَعَبَّدَهُمْ بطاعته وطاعةِ رسوله صلى الله عليه وسلم".

(1)

** واعلمْ أنَّ الشهادتين تَشمَلان نوعينِ من التوحيد: (توحيد العبادة)، و (توحيد الاتّباع).

فكما نشهد أنّه "لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ" -وهذا هو توحيد العبادة- نشهد كذلك

(1)

مجموع الفتاوى (1/ 4).

ص: 201

أنّه "لا متبوعَ بحقٍّ إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم".

** وهذا ما ذكره الله -تعالى- في قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110]، وذلك تحقيق الشهادتينِ.

** قال -تعالى-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2].

قال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ:

"أحسنُ العملِ: أخلصُه وأصوبُه، فإنّ العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبلْ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبلْ، حتّى يكون خالصاً صواباً. والخالص: إذا كان لله، والصواب: إذا كان على السّنّة".

(1)

*قال ابن كَثيرٍ:

"لا يكون العمل حَسَناً حتى يكون خالصاً لله على شريعة رسول الله، فمتى فقدَ العملُ واحداً من هذينِ الشرطينِ حَبِطَ وبَطَلَ". ا. هـ

(2)

* يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

"وجِماع الدِّين شيئانِ: أحدُهما: ألّا نعبد إلا اللهَ -تعالى-، والثاني: أن نعبده بما شرع، لا نعبده بالبِدَع، كما قال:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]

وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه: اللهم اجعلْ عملي كلَّه صالحاً، واجعلْه لوجهك خالصاً، ولا تجعلْ لأحدٍ فيه شيئاً".

(3)

* قال ابن القيم:

"العمل بغير إخلاصٍ ولا اقتداءٍ كالمسافر يملأ جِرابَه رَمْلاً، يُثْقله، ولا ينفعُه! ".

(4)

* قال ابن القيم في نونيّته:

فقِيامُ دِينِ اللهِ: بِالإخلاصِ

والإحسانِ، إنَّهُمَا لَهُ أَصْلانِ

لَمْ يَنْجُ مِن غَضَبِ الإلهِ ونارِهِ

إلّا الذِي قَامَتْ بِهِ الأَصْلانِ

(1)

تفسير القرآن الكريم لابن القيم (1/ 78).

(2)

تفسير القرآن العظيم (2/ 574).

(3)

المجموع (28/ 23).

(4)

الفوائد (ص/49).

ص: 202

واللهُ لا يَرضَى بِكَثْرةِ فِعْلِنا

لكنْ بأحسَنِهِ معَ الإيمانِ

(1)

*وهُنا فائدة مهمة في قول ابن القيم:

واللهُ لا يَرضى بكثرةِ فعلِنا

لكنْ بأحسنِه معَ الإيمانِ

وهي أنّ إصابة السنة خيرٌ من كثرة العمل، وهذا الذي دلَّ عليه حديث أَبِي سَعِيْدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: "خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَتَيَمَّمَا صَعِيداً طَيِّباً، فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ، وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ:«أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ» ، وَقَالَ لِلْآخَرِ:«لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» .

(2)

فقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم للذى لم يُعِدْ: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأتْكَ صَلاتُكَ» ، وقال للذي أعاد صلاته:«لكَ الأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» : أجرٌ للصلاة الأولى، وأَجْرٌ للصلاة الثانية؛ ولكنَّ إصابة السنَّة أفضلُ من ذلك.

(3)

(1)

النونيّة الكافية الشافية (ص/35).

(2)

أبو داود (338)، والنسائي (433)، وصححه الألباني.

(3)

توضِيح الأحكام مِن بُلوغ المَرام (1/ 425).

** قال الشيخ ابن العثيمين رحمه الله:

"ومِن فوائد هذا الحديث: أنّ الإنسان إذا فعلَ العبادة يَظنُّ أنّ فِعلها واجبٌ عليه، فإنّه يُثابُ على ذلك ولو أخطأَ؛ لأنه عَمِلَ طاعةً لله، وتقرُّباً إليه، فيؤجرُ على هذا.

ومن فوائد هذا الحديث: أنّ إصابة السنة خيرٌ من كثرة العمل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي لم يُعِدْ: «أَصَبْتَ السُّنّةَ» ، ومعلومٌ أنّ إصابة السنة خيرٌ من كثرة العمل.

فإن قال قائل: وهل لو أعاد أحدٌ الآنَ بعد أن تبيّنت السنةُ، لو أعاد الصلاةَ بعد وجود الماء، هل يؤجر أو لا يؤجر؟

نقول: إنه لو كان عَلِمَ بالسنة فإنه لا يؤجرُ، بل لو قيل: إنه يأثم لَكانَ له وجهٌ؛ لأنه إذا وجدَ الماء بعد انتهاء الصلاة، فإنه ليس عليه إعادة؛

لكنه لو لم يَعلم بالسنة وأعادَ بناءً على أنّ ذلك هو الواجب عليه، فإنّ الحُكم واحد، بمَعنى: أنّ الحُكم الذي حكمَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أعاد ينطبقُ تماماً على مَن جَهِلَ السنّة في عصرٍ وأعادَ". ا. هـ

وانظر فتْح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المَرام (1/ 370).

ص: 203

** عَودٌ إلى حديث الباب

قوله صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ

»:

في قوله صلى الله عليه وسلم «وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ

» رد على النصارى، وفي قوله صلى الله عليه وسلم «ورَسولُهُ» رد على اليهود.

وهكذا تكون شهادة الحق لعيسى عليه السلام بين المغالاة والمجافاة، بين غلوّ النصارى الذين أَلَّهُوه مِن دُون الله، وبين جفوِّ اليهود الذين كذَّبوه، وزعَموا أنهم صلَبوه!

**وبَيْنَ هذا وذاك جاءت وسطية أمّة الإسلام، أمة الإسلام التي هي أَوْلى بكلِّ نبيٍّ كذَّبَه قومُه، وقد تجلَّت هذه الوسطية في نبي الله عيسى عليه السلام كما ورد في حديث الباب، وذلك باعتقاد بَشَرية عيسى عليه السلام، مع الإيمان برسالته إلى بني إسرائيل.

** وما ورد في حديث الباب من الاعتقاد في عيسى عليه السلام قد نص عليه كتاب الله -تعالى-: قال -تعالى-: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12]، فَأَرْسَلَ اللهُ -تعالى- إِلَيْهَا رُوحَه جبريلَ عليه السلام فنَفَخَ في جَيْبِ دِرْعِها، فنزلت النَّفْخةُ حتى وَلَجَتْ فَرْجَها، فصارت حاملاً مِن ساعَتِها.

* قال ابن كثيرٍ:

"أَمَرَ اللَّهُ -تعالَى- جِبريلَ أَنْ يَنْفُخَ بِفِيهِ فِي جَيْب دِرْعِها، فَنَزَلَت النَّفْخَةُ، فَوَلجتْ في فَرْجِها، فَكَانَ مِنْهُ الْحَمْلُ بعِيسَى عليه السلام".

(1)

* وقوله تعالى: «وكَلِمتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ» :

فعيسى كلمةُ الله، وقد سُمِّيَ عيسى عليه السلام "كلمةَ الله"؛ لوُجوده ولخَلْقه بكلمةٍ من الله مِن غيرِ أبٍ: قال -تعالى-: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]؛ فبقوله -تعالى- {كُن} خُلِقَ عيسى عليه السلام، فإنّ "كن" هي كلمة الله عز وجل، وهي الكلمة التي ألقاها إلى مريم، وكلمةُ الله ليست مخلوقة، وعيسى عليه السلام مخلوقٌ.

(1)

تفسير القرآن العظيم (8/ 173).

ص: 204

* أمّا قولُه -تعالى- «ورُوحٌ مِنْهُ» :

فالمعنى: أنّ رُوح عيسى عليه السلام مبتدَأة من الله -تعالى-، وأنّ الله خلقَها، كما قال الله عما خلقَ في السماوات والأرض:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13]، فكلُّ ذلك من الله -تعالى-، هو الذي ابتدأ خلْقه وأوجدَه وأعطاه ووهبَه، فلقدْ خُلق عيسى عليه السلام مِن أثر نَفخة جبريل عليه السلام في جَيب دِرع مريم عليها السلام بأمْر الله إياه بذلك، فنُسِبَ إلى أنه رُوح من الله، فنُسبت رُوح عيسى عليه السلام إلى الله -تعالى-؛ لأنها وصلت إلى مريم عليها السلام في آيةٍ من آيات الله، فقدْ حَملتْ بعيسى من غير أب؛ فبهذا امتاز عن بقيّة الأرواح.

عَودٌ إلى حديث الباب

«والجَنّةُ حقٌّ، والنارُ حقٌّ» :

أيْ: وشَهِدَ أنّ الجنة التي أخبر الله -تعالى- بها في كتابه حقٌّ، مخلوقةٌ موجودةٌ الآنَ، لا شكَّ فيها، وشَهِدَ أنّ النار التي أخبر الله -تعالى- بها في كتابه حقٌّ مخلوقةٌ موجودةٌ الآنَ لا شكَّ فيها.

قال -تعالى-: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، وقال -تعالى-:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 13 - 15]، وقال -تعالى-:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال -تعالى-:{وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131].

وهذا الفعل {أُعِدَّتْ} في الآيات هو فعلٌ ماضٍ، دلَّ على أنّ الجنة مخلوقة موجودة الآنَ، وكذلك النارُ.

ص: 205

** ومن السنة:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِبِلَالٍ:

«يَا بِلَالُ، حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ عِنْدَكَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْفَعَةً، فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ» ، قَالَ بِلَالٌ:"مَا عَمِلْتُ أُصَلِّيَ".

(1)

** وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَمَا مَنَعَنِي أَنْ أَدْخُلَهُ -يَا بْنَ الْخَطَّابِ- إِلَّا مَا أَعْلَمُ مِنْ غَيْرَتِكَ» ، قَالَ:"وَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! ".

(2)

**وعن أنسٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ ما رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وبَكَيْتُمْ كَثِيراً» ، قالوا:"وما رَأَيْتَ يا رَسُولَ اللهِ؟ " قال: «رَأَيْتُ الْجَنَّةَ والنّارَ» .

(3)

وعن عِمْرانِ بنِ حُصَينٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اطَّلَعْتُ فِي النّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِها النِّساءَ» .

(4)

وقد عقدَ البخاريُّ في صحيحه باباً قال فيه: "باب: ما جاء في صفة الجَنة، وأنها مخلوقة"، وذكرَ أحاديثَ، منها: ما تقدَّمَ مِن أنّ الله يُري الميتَ مَقعدَه من الجنة والنار بعدَ أن يُوضعَ في قَبْرِهِ.

(5)

(1)

متفق عليه.

(2)

أخرجه أحمد (12008).

(3)

صحيح مسلم (646).

(4)

متفق عليه.

(5)

تنبيه:

مِن العلماء مَن استدل على مسألة الباب بقوله -تعالى-: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، حيثُ ذكرَ الله -تعالى- قصة آدمَ وحوّاءَ عليهما السلام، وإسكانهما الجَنّةَ، فلو لم تكُن الجنةُ موجودةً لَمَا كانَ هناك مَعنًى لإسكانهما بها، وإذا ثبتَ خلْقُ الجنة ثبتَ خلْقُ النار؛ لأنه لا قائلَ بالفَصْل.

قالوا: ومما يدل على أنها جنة الخُلْد: أنّ الله -تعالى- ذكرَ لآدم عليه السلام أوصافَ هذه الجنة عندَ إدخالِه إياها، وهذه الأوصاف لا تكون إلا في جنة الخلد، وهذه الأوصاف لا تُعقل إلا في الجنة الموعودة، قال -تعالى-:{فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا= =يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه: 117 - 119]، أخبرَ أنه لو خرجَ من الجنة يَشقى، وأنه في الجنة لا يجوع ولا يعرى ولا يظمأ ولا يضحى، وهذا من صفات جناتِ عَدْنٍ، لا مِن صفات جنّات الدنيا؛ فدلّتْنا هذه الآية أنّ آدم عليه السلام كان في جنات عدنٍ.

*يؤيّده:

أنّ اللام في لفظ "الجنة" هي لام العَهْد، فقوله -تعالى- لآدم:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، ذكرَ الجنة بلام التعريف، فيَنصرفُ إلى ما هو المعلومُ عند المسلمينَ، وليس ذلك إلا دارَ الثوابِ".

وانظر لذلك [خلْق الجنة والنار بين (أهل السنة والجماعة) و (المعتزلة)] - د. محمد النويهي (ص/140).

ص: 206

*الإجماع:

قال القاضي عِياضٌ:

"مَن أنكرَ الجنة أو النار فهو كافرٌ بإجماعٍ؛ للنَّصِّ عليه، وإجماعِ الأمة على صِحّة نَقلِه متواتِراً، وكذلك مَن اعترفَ بذلك ولكنه قال: إنّ المراد بالجنة والنار معنًى غيرُ ظاهِرِه، وإنّها لَذّاتٌ روحانية ومعانٍ باطنةٌ، كقول النصارى والفلاسفة والباطنية وبعضِ المتصوِّفة".

(1)

الدليل العقلي على خلق الجنة والنار:

دليل الإمكان:

يُقصد بهذا الدليل: أنّ العقل لو تُرك ونفْسه دُونَ مؤثِّرٍ خارجيٍّ لَحَكَمَ بجواز خلْق الجنة والنار، فلا يُرتَّبُ على خَلْقِهما أيُّ مُحالٍ.

وفي ذلك يقول القيروانيُّ: "واعلمْ أنّه لا إحالة في خلْق الجَنّة".

(2)

الشاهد من ذلك: أنَّ الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآنَ بإجماع أهل السنة.

* ولَمْ يَزَلْ على ذلك أهلُ السنة حتى ظهرَ المخالفون في ذلك، ومنهم:

1) الجهمية والمعتزلة:

لم يقعْ خلاف بين أهل السنة والجماعة والمعتزلة في حقيقة الجنة والنار

(1)

الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 290).

(2)

وانظر النُّكَتُ المفيدة في شرح الخُطبة والعقيدة (ص/ 132).

بل إنّ الرازيّ يجعل دليل الإمكان مع ورود النص ضابطاً لثُبوتِ مِثلِ هذه القضية العقدية الغيبية، فيقول:"والضابط في جميع هذه الأبواب: أنّ كل ذلك مُمْكِنٌ، وقد وردَ الخبرُ الصِّدْقُ به؛ فوجبَ تصديقُه".

وانظر الإشارة في أصول الدين (ص/352).

ص: 207

وثُبوتهما؛ لأنَّها من المسائل العقدية التي لا تحتمل الخلاف، لوُرودها بأدلة قطعية الثبوت، وقطعية الدلالة.

* يقول القاضي عبدُ الجبّار:

"فإنّ الأمة أجمعتْ على أنْ لا دارَ غيْر الجنة والنار".

(1)

وإنما خالف أهل البدع جماهير أهل السنة في وجودهما، فقد أنكر الجهمية وأكثرُ المعتزلة أن تكون الجنة والنار مخلوقتينِ الآنَ، وقالوا: إنهما تُخلقانِ يوم الجزاء، بل قد زاد في الضلالة مداً ذلك الذي وصف من يقول بوجودهما الآن بالكفر، وهو هشام بن عمرو الفوطي، وكان من جملة القدرية وزاد عليهم في بدع كثيرة.

والذي حملَهم على هذا: إنما هو القياس الفاسد؛ حيث قاسوا أفعال الله -تعالى- على أفعال خلقه، وقالوا: إن الله ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا!!

** فقالوا:

خلْق الجنة والنار قبلَ الجزاء عَبَثٌ؛ لأنهما تَصيرانِ معطَّلتينِ مُدَداً مُتطاوِلة!!

فردُّوا من النصوص ما خالفَ هذه الشريعةَ الباطلةَ التي وضعوها للرب -تعالى-، وحرَّفوا النصوص عن مواضعها، وضلّلوا مَن خالفَ قولَهم وبدَّعوه.

(2)

* والصحيح الذي عليه جماهير أهل السنة، والذي قد دل عليه الكتاب والسنة:

أنّ الجنة والنار مخلوقتانِ الآن؛ فهذا ما أفادَه النقلُ، وأمّا العقلُ فسواءٌ في ذلك

(1)

شرح الأصول الخمسة (ص/623).

(2)

وانظر التبصير في الدين (ص/265) وشرح العقيدة الطحاوية (1/ 420)، والفصل في المِلَل والأهواء والنِّحَل (4/ 68).

وممن قال بذلك من رُءوس المعتزلة: أبو هاشم، وعبد الجبار.

وقد خالفهم في ذلك: أبو علي الجبائي، وأبو الحسين البصريّ، وبِشْر بن المعتمر، فقالوا بقول أهل السنة والجماعة في هذه المسألة.

وانظر شرح العقائد النسفية" (ص/253)، و"خلق الجنة والنار بين أهل السنة والجماعة، والمعتزلة " (ص/148).

ص: 208

أعَلِمَ الحِكمة من وُجودهما أم لَمْ يَعلم، فمَدارُ الأمر على التسليم.

وقد نصَّ البيجوري على انعقاد الإجماع على أن الجنة والنار مخلوقتانِ الآنَ، وذلك قَبْلَ ظُهور المُخالِف.

(1)

قال الغزالي:

"قوله -تعالى- عن الجنة {أُعِدَّتْ}: دليلٌ على أنها مخلوقة، فيجب إجراؤه على الظاهر؛ إذْ لا استحالةَ فيه، ولا يُقال: لا فائدةَ في خلْقهما قبلَ يومِ الجزاء؛ لأن الله -تعالى- {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ".

(2)

2) الفلاسفة، والمَلاحدة:

قالوا: ليس عندنا جنة ولا نار، إنما الربُّ يذكُر ذلك في القرآن من باب زجْر الناس فحسْب.

** فرعٌ: مكانُ الجنة والنار:

أمّا الجنة: فهي فوقَ السماء السابعة، وتحتَ عَرْشِ الرحمنِ.

قال -تعالى-: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 14 - 15]،

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سَأَلْتُمُ اللهَ فاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فإنَّهُ أَوْسَطَ الجَنّةِ، وأعلى الجَنّةِ، وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، ومِنْهُ تفَجَّرُ أَنْهارُ الجَنّةِ» .

(3)

فثبتَ بهذا الحديث أنّ: الجنة تحت عرش الرحمن.

وقد ثبتَ في حديث قصة الإسراء في صحيح مسلم (162): أنّ سِدْرة المنتهَى فوقَ السماء السابعة؛ وعليه فالجنةُ يقيناً -والعلمُ الحق عند الله- فوقَ السماء السابعة، وتحتَ عرش الرحمن، كما دل عليه هذانِ الحديثانِ.

* أمّا مكانُ النار:

ففي الأرض السابعة: قال -تعالى-: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ* كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} [المطففين: 7 - 9].

(1)

تُحفة المريد على جوهرة التوحيد (ص/502).

(2)

قواعد العقائد (ص/227).

(3)

البخاري (7423).

ص: 209