المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب: - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

الفائدة الأولى:

هذا الحديث قد ذكر تفرق الأمة يُعد عَلَماً من أعلام النّبوّة الذي تنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقع بالفعل، والتفرق أمر قدَري كوني قد قدَّره الله تعالى، قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 - 119].

قال ابن كَثيرٍ:

"ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مِللهم ونِحَلهم ومذاهبهم وآرائهم؛ وقوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} أيْ: إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أُمروا به من الدين، فأهْلُ رَحْمَتِهِ لا يختلفون"

(1)

.

وعن خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سَأَلْتُ رَبِّي عز وجل ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي عز وجل أَنْ لَا يُهْلِكَنَا بِمَا أَهْلَكَ بِهِ الْأُمَمَ قَبْلَنَا، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي عز وجل أَنْ لَا يُظْهِرَ عَلَيْنَا عَدُوًّا مِنْ غَيْرِنَا، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يَلْبِسَنَا شِيَعًا، فَمَنَعَنِيهَا "

(2)

.

2 -

الفائدة الثانية:

قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وستفترق أمتي

».

وهنا سؤال: ما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: «أمتي» ؟

نقول:

قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نعلم أولاً أن أمة النبي صلى الله عليه وسلم تأتى على عدة معانٍ:

1 -

المعنى الأول: أمة الدعوة، وتسمَّى أيضاً " أمة التبليغ ":

فهُم جميع من بُعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بُعث صلى الله عليه وسلم للناس كافة.

(1)

فتْح القَدير (2/ 607)، وتفسير القرآن العظيم (4/ 361).

(2)

رواه أحمد (21053) والنسائي (1638)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2433)

ص: 24

قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)) (سبأ: 28)

وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:

«وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» .

(1)

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «

وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً»

(2)

، فيدخل في ذلك: أهل الكتاب، وغيرُهم.

2 -

المعنى الثاني: أمة الإجابة:

وهم الذين استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودانوا بدين الإسلام، وذلك يشمل كل مسلم، وإن كان واقعاً في جملة من البدع المفسقة التى لا تُخرج من دائرة الإسلام.

وهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب:

" وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلَّا وَاحِدَةً ".

3 -

المعنى الثالث: أمة الاتباع:

وهم الذين سلكوا نهج أهل السنة والجماعة، فساروا على هَدى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم في ذلك ليسوا على درجة واحدة في الاتباع.

وعليه فهُم أخصُّ من أمة الإجابة، فهي الفرقة الناجية التي وردت في حديث الباب، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:«مَا كان على مِثل ما أَنَا عَلَيْهِ اليومَ وَأَصْحَابِي»

فهي كل من اتبع أصول الاعتقاد التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان على الأصول العامة لمنهج أهل السنة والجماعة، حتى وإن كان مقصراً في جانب العبادات العملية.

*وهنا نعود للسؤال:

لأي المعاني نوجه قوله صلى الله عليه وسلم: «وستفترق أمتي

»؟

هل هي أمة الدعوة أم أمة الإجابة أم الاتباع؟

أما أهل البدع فتراهم يفسرون هذا الحديث فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قصد بقوله «وستفترق أمتي

» أمة الدعوة.

(1)

أخرجه مسلم (153).

(2)

متفق عليه (103 (.

ص: 25

فإذا سألتَ: فما مقصدهم من ذلك؟

نقول:

إنما أرادوا أن يؤسسوا أصلاً باطلاً، وهو أن الافتراق الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو افتراق الناس إلى المِلل، وليس افتراق أهل الإسلام إلى مذاهب وفرق تنتسب إلى الإسلام، هكذا قالوا.

وعليه فتكون الفرقةُ الناجيةُ التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: هي «الْجَمَاعَةُ» - وفي رواية: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» - على تفسيرهم:

هي كل من قال: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، سواء أكان جَهْمياً أم حُلولياً أم قدَرياً أوقُبورياً.

وقالوا:

إن الشرك لن يقع في الأمة؛ لحديث النَّبِي صلى الله عليه وسلم:

«وَاللَّهِ، مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا» ، أي: أن تتنازعوا وتختصموا على الدنيا)

(1)

، وقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم:

«إنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»

(2)

.

*والصحيح - والله أعلم - أن المراد بقول صلى الله عليه وسلم: " «وستفترق أمتي

» ":

هى أمة الإجابة، وليست أمة الدعوة؛ وإنما رجحنا هذا المعنى للسباق والسياق واللِّحاق، ففي السباق ذكر الرسولُ صلى الله عليه وسلم افتراق اليهود والنصارى، وهي أمة الدعوة،، وفي اللحاق ذكرَ صلى الله عليه وسلم الفرقةَ الناجية، فقال:

«مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» . وفي السياق ذكرَ صلى الله عليه وسلم قوله: «وستفترق أمتي

»، فدل أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد أمة الإجابة فَقَطْ.

ومما يؤيد ذلك:

قوله صلى الله عليه وسلم: «وستفترق أمتي

»، أي: إنه أمرٌ سوف يحدث في المستقبل، وأما افتراق اليهود والنصارى فقد تفرقت قبل ذلك؛ ومما يؤيد ذلك: أن المتتبع لفظة "أمتي" التي وردت في الألفاظ النبوية يجد أنها

(1)

رواه البخاري (1344).

(2)

أخرجه مسلم (2812).

ص: 26

لم تخرج عن هذا المعنى المراد، الذى هو (أمة الإجابة).

وقد ذكر الإمام الصنعاني رحمه الله في كتابه [شرح حديث الافتراق] أنَّ المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «أمتي» ، أي: أمة الإجابة، وردّ على من قال:

إنَّها أمة الدعوة، وإنَّ الناجية أمة الإجابة كلُّها، وردَّ ذلك من خمسة أوجُه

(1)

.

ولما عدَّد أبو المظفر الأسفراييني الفرَق الثنتين والسبعين قال:

"والخطابية والحُلُولِيّة منهم فلا يُعدّون في زُمرة المسلمين؛ لأنهم كلهم يقولون بآلهية الأئمة".

(2)

* وأما الرد على فريتهم بعدم وقوع الشرك في أمة الإسلام، فالجواب أن يقال:

لا دلالة في تلك الأحاديث التي ذكروها على هذا القول الباطل الذي يريدون به أن يصححوا -والعياذ بالله - الشرك وعبادة القبور ودعاء الموتى، فقولهم:

إن الشرك لا يقع في هذه الأُمَّة، هذا تكذيبٌ للنصوص الصحيحة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا؛ فقد صح -في الصحيح وغيره- أن الشرك سيقع في آحاد الأمة قبل قيام الساعة، فقد روى الشَّيخانِ عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ»

(3)

، وروى مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى»

(4)

، وفي رواية ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى يَعْبُدُوا الأَوْثَانَ»

(5)

، بل قد وقع هذا في العهود الأولى، فلقد

(1)

شرح حديث الافتراق (ص/56).

(2)

التبصير في الدِّين، وتمييز الفرقة الناجية عن الفرَق الهالكين (ص/25).

(3)

أخرجه البخاري (7116)، ومسلم (2906).

(4)

أخرجه مسلم (2907).

(5)

أخرجه التِّرمذي (2219)، وأبو داود (4252)، وصححه الألباني، وقد بوَّب الإمام محمد بن عبد الوهاب لهذا الحديث باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبُد الأوثان.

ص: 27

قاتل الصحابة رضي الله عنهم مَن وقع في الكفر والردة، وذلك في حروب الردة.

*أما ما استدلوا به من أثار، فنقول:

الشرك الذي نفى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وقوعه إنما هو على مجموع الأمة، وعليه فقد يقع ذلك في الآحاد من أفرادها؛ ولذا قال:

«إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ» . وأشار بذكر "الصلاة"؛ لأنها أهم العبادات البدنية، فلا ينفي هذا أن يقع الشرك وعبادة الأوثان في بعض الأُمَّة كما وقع في كثير من الناس من هذه الأُمَّة في عبادة المقبورين، كما هو واقع في بلاد المسلمين إلى يومنا هذا كما هو مشاهَد.

قال ابن حجر: "قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أخافُ عليكم أن تُشركوا» أي:

على مجموعكم؛ لأن ذلك قد وقع من البعض. أعاذنا الله تعالى منها! "

(1)

.

أما الأمة في مجموعها فهي لا ترتدّ جملةً، فقد عصمها الله تعالى من ذلك، فالأمة معصومة من أن تجتمع على ضلالة، فضلاً عن الشرك:

عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«لا تَزالُ طائفةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ»

(2)

، وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَجَارَ أُمَّتِي أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ»

(3)

.

*وجوابٌ ثانٍ:

أن قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ

» كونه أيس فإن يأس الشيطان ليس معصوماً؛ لأنه يئس لما رأى ظهور الإسلام وظهور الدين فيئس أن يعبده المصلّون، كما في قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ

} [المائدة: 3]، فهو إخبار عن يأسه حينما رأى ظهور الدين

(4)

.

أو يُحمل يأسه على أنه يئسَ أن

(1)

فتْح الباري شرْح صحيح البخاري (3/ 211).

(2)

أخرجه مسلم (1920).

(3)

أخرجه الترمذي (2167)، وانظر صَحِيح الْجَامِع (1786).

(4)

القول المفيد (1/ 221).

ص: 28

يجتمع الناس جميعُهم على الكفر؛ وهذا ما رجّحه ابن رجَب

(1)

.

*قلت:

ويؤيده: قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].

جواب ثالث: أن يقال: إن نفي الشرك في الأمة خاص ببعض الأماكن دون بعض، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«إنّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ»

(2)

.

جواب رابع:

أن يقال: إنه في الصحابة رضي الله عنهم خاصة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم» . قال الحافظ: "فيه إنذار بما سيقع، فوقعَ كما قال صلى الله عليه وسلم، وأن الصحابة لا يُشركون بعدَه؛ فكان كذلك، ووقعَ ما أنذر به من التنافس في الدنيا"

(3)

.

جواب خامس:

أن يقال: لعلّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يوحى إليه بأن طوائف من الأمة سوف يضلون ويشركون

(4)

.

وأقرب هذه الأَجْوِبة هو الجواب الأول، ثم الثاني. والله أعلمُ.

*ومن الفوائد التي تتعلق بحديث الباب: تفرُّق السابقينَ، وتقليدُ اللاحقينَ:

والمعنى الذي ورد في الحديث من تفرق اليهود والنصارى قد ورد في عدة مواضع من القرآن، منها: قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4]، وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ

} [الشورى: 14]، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ

} [آل عمران: 19].

(1)

دعاوى المُناوئينَ (ص/223).

(2)

ومما يضعّف هذا الوجهَ: أن أكثر من ارتدَّ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كانوا في جزيرة العرب.

(3)

فتْح الباري شرح صحيح البخاري (6/ 614).

(4)

فتْح الباري شرح صحيح البخاري (6/ 614)، ويُنظر لهذه الأوجُه ولغيرها:[أحاديث يُوهم ظاهرُها التعارُضَ](ص/266).

ص: 29

وهنا إشكال في قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ

}، فمن المعلوم أن السنة تجمِّع والبدعة تفرِّق، فكيف تَفرقوا بعدما جاءهم العلم؟

الجواب: المعني أنّ تفرُّقهم واختلافهم لم يكن عن جهل منهم، إنما قد جاءهم العلم يأمرهم وينهاهم.، يأمرهم بعدم التفرق فكابروا وتمردوا، وأبَوا إلا الفُرقة، رغم قيام الحجة عليهم، كما في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ

} [الجاثية: 23]. وقولُه: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} يحتمل قولين: أحدهما- وأضله الله؛ لعِلمه أنه يستحق ذلك. والآخر- وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجة عليه. والثاني يستلزم الأول، ولا ينعكس

(1)

.

والحاصل أنه قد تفرَّق السابقون من أهل الكتاب، وسار على تقليدهم اللاحقون من هذه الأمة، كما تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بَاعاً بِبَاعٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، وَشِبْراً بِشِبْرٍ، حَتَّى لَو دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ فِيهِ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ، وَالنَّصَارَى؟

قَالَ: «فَمَنْ إِذاً؟!»

(2)

، فساروا على درب السابقين واختلافهم، ونسُوا أو تناسَوْا أن الجماعة رحمة، وأن الفُرقة عذاب؛ فإن الأصول العامة للشرع قد نَهَتْ عن التفرق والاختلاف: قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]،

وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وقال تعالى:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].

(1)

تفسير القرآن العظيم (7/ 268).

(2)

متفق عليه.

ص: 30

وتأملوا قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ

}، فهنا قد ذكر طريق الحق على سبيل الإفراد، فهو طريق واحد، وذكر سبل الشيطان على صيغة الجمع، فهي كثيرة متفرقة، وهذا كقوله تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، فجعلَ الظلماتِ جمعاً، والنورَ واحداً.

والسنة قد أكدت هذا المعنى: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطّاً، فَقَالَ:«هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطاً عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ:«وَهَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ» ، ثُمَّ تَلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا

} إلَى آخِرِ الآيةِ [الأنعام: 153]

(1)

.

وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا، وَيَقُولُ:

«لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِف قُلُوبُكُمْ»

(2)

.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَتَنَازَعُ فِي القَدَرِ؛ فَغَضِبَ حَتَّى احْمَرَّ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْنَتَيْهِ الرُّمَّانُ، فَقَالَ:«أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ أَمْ بِهَذَا أُرْسِلْتُ إِلَيْكُمْ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَنَازَعُوا فِي هَذَا الأَمْرِ، عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَتَنَازَعُوا فِيهِ»

(3)

.

وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثاً، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثاً، فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضَاعَةَ الْمَالِ»

(4)

.

قال النَّوَوِيّ: "قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تفرقوا» فهو أمر بلزوم جماعة المسلمين، وتألف

(1)

أخرجه أحمد (4437)، وصححه الألباني في ظِلال الجنة (16).

(2)

أخرجه أبو داود (664).

(3)

أخرجه الترمذي (2133)،، وصححه شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 141)

(4)

أخرجه مسلم (1517).

ص: 31

بعضهم ببعض، وهذه إحدى قواعد الإسلام".

(1)

.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الزموا هذه الطاعة والجماعة، فإنه حبل الله الذي أمر به، وإنّ ما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة".

(2)

واعلم أن الفرقة الناجية سبيلها واحد، نعَم قد يقع بينها خلاف، ولكن هذا الخلاف له سمات:

1) السمة الأولى: هو خلاف في التطبيق، لا التأصيل.

توضيح هذه العبارة: بمعنى أن التأصيل واحد، ولكنَّ الخلاف قد يقع بينهم في التطبيق: مثال: اتفاق أهل السنة على إثبات صفات الله عز وجل، ولكن قد يختلفون في بعض الآيات أو الأحاديث، هل هذه من آيات الصفات، أم لا.

مثال ذلك: قال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. أخرج البيهقي وابن خُزَيمة عن مجاهد قال: "وجه الله: قِبلة الله".

وقد نبَّه إلى ذلك الشافعيُّ وابنُ تيمية، وبيّنا أن قول مجاهد فيها صحيح، وأن هذا مما لم يخالفه فيه أحدٌ من الصحابة والتابعين، في حِينَ ذهبَ ابن خُزيمة في [التوحيد] والبيهقي في [الأسماء] أن هذه الآية من آيات الصفات.

فهذا الاختلاف حاصل بينهم، مع اتفاق الجميع على إثبات صفة الوجه لله -تعالى- من الأدلة الأخرى الصريحة. والأمثلة على ذلك كثيرة.

2) السمة الثانية:

أن خلافهم في الأحكام العملية، وليس في أصول الاعتقاد الكلّيّة كاختلاف الشافعية مع المالكية -مثلاً- في بعض الأحكام في أبواب الطهارة أو الصلاة، ونحن في ذلك لا نقول: فرقة الشافعية، أو فرقة المالكية مثلاً، بل نقول: المذهب الشافعي، والمذهب المالكي.

(1)

المِنهاج شرح صحيح مسلم بن الحَجّاج (12/ 11).

(2)

مصنف ابن أبي شَيبة (3849).

ص: 32

لذا فلا يُحمل حديث الباب على الاختلاف في الأحكام العملية، ولا في المسائل والأقوال الفقهية، ولم يزَل الخلاف حاصلاً في الفروع بين أهل العلم من لَدُنِ الصحابة رضي الله عنهم إلى يوم الناس هذا، دون أن يُحدث هذا الأمر فرقة بينهم. ولم يزَل علماء الأمة يصنِّفون في مسائل الخلاف بين العلماء في الفروع الفقهية، ومن الأمثلة على ذلك:

كتاب [اختلاف أبي حَنيفة وابن أبي ليلى] لأبي يوسف الأنصاري، وكتاب [اختلاف الفقهاء] للمَرْوَزِي، وكذلك [اختلاف الفقهاء] لابن جَرير، والأمثلة في ذلك كثيرة.

قال الإمام أبو منصور التميميُّ:

وقد عَلِم كلُّ ذي عقل من أصحاب المقالات المنسوبة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرد بالفرق المذمومة التي هى من أهل النارفرَق الفقهاء الذين اختلفوا في فروع الفقه مع اتفاقهم على أصول الدين؛ لأن المسلمين فيما اختلفوا فيه من فروع الحلال والحرام، ليس فيما بينهم تكفير ولا تضليل فيما اختلفوا فيه من أحكام الفروع، وإنما فصَّل النبي عليه السلام بذكر الفرق المذمومة فرق أصحاب الأهواء الضالة الذين خالفوا الفرقة الناجية في أبواب العدل والتوحيد، أو في الوعد والوعيد، أو في بابَي القدر والاستطاعة، أو في تقدير الخير والشر، أو في باب الهداية والضلالة، أو في باب الإرادة والمشيئة، أو في باب الرؤية والإدراك، أو في باب صفات الله عز وجل وأسمائه وأوصافه"

(1)

.

وهذا ما ذكره الامام الشاطبي معلقاً على حديث الباب كما في قوله: "فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق، بحيث يطلق صور لفظ الاختلاف على معنى واحد؛ لأنه يلزم أن يكون المختلفون في مسائل الفروع داخلينَ تحت إطلاق اللفظ، وذلك باطل بالإجماع؛ فإن الخلاف من زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية، ولم يَعِبْ أحد ذلك منهم، فكيف أن يكون الافتراق في المذاهب مما يقتضيه الحديث؟!

(1)

[الفَرْق بين الفِرَق، وبيان الفرقة الناجية](1/ 26)،

ص: 33

وإنما يراد افتراق مقيد، وإن لم يكن في الحديث نصٌّ عليه، ففي الآيات مما يدل عليه: قوله تعالى: {

وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ

} [الأنعام: 159]، وما أشبهَ تلك الآياتِ الدالةَ على التفرُّق الذي صاروا به شِيعاً. ومعنى "صاروا شيعاً": جماعات، بعضهم قد فارق بعضاً، ليسوا على تآلُفٍ ولا تعاضُدٍ ولا تناصُرٍ، بل على ضد ذلك"اهـ.

(1)

قال الشيخ صالح المُقبلي: "من المعلوم أنه ليس المراد من الفرقة الناجية: ألّا يقع منها أدنى اختلافٍ؛ فإن ذلك قد كان في فُضلاء الصحابة رضي الله عنهم، إنما الكلام في مُخالفة تُصيِّر صاحبَها فِرقةً مستقلةً ابتدَعَها".

(2)

*ومن الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب: «كلها في النارِ إلا واحدة

» يدل على أن الحق واحد لا يتعدد.

قوله عليه الصلاة والسلام: «إلا واحدة» قد أعطى بنصّه أن الحق واحد لا يختلف، إذ لو كان للحق فرَقٌ أيضاً لَما قال:«إلا واحدة»

(3)

. وهذا ما تكاثرت عليه أدلة الشرع: قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ

} [الأنعام: 153]، فهنا قد ذكر طريق الحق على سبيل الإفراد، فهو طريق واحد، وذكر سُبُل الشيطان على صيغة الجمع، فهي كثيرة متفرقة.

وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ

} [الأنعام: 1]، فقد وحَّدَ الله تعالى لفظ "النور" وجمعَ "الظلمات"؛ لأن

(1)

وانظرالاعتصام (3/ 125)، والتيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 179).

(2)

العَلَمُ الشَّامِخ في إِيثَار الحقِّ على الآباء والمَشايخ (ص/414).

(3)

الاعتصام (2/ 755 (.

ص: 34

الحق واحد والكفر أجناس كثيرة، وكلها باطلة، وقال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ

} [النحل: 48]، وغير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرده وتشعُّبه

(1)

.

وقال تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِين} [الأنبياء: 78 - 79]،

فأخبر الله -تعالى- أن سليمانَ عليه السلام هوالمصيبُ، وحَمِدَه على إصابته، وأثنى على داودَ في اجتهاده، ولم يذمّه على خطئه، وهذا نصّ في إبطال قول من قال: إذا أخطأ المجتهد يجب أن يكون مذموماً، فلو كان الحق بيدِ كل واحد منهما لَما كان لتخصيص سليمان بذلك معنًى.

وقال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32].

قال ابن حزم:

"ومن ادَّعى أن الأقوال كلها حق، وأن كل مجتهد مصيب- فقد قال قولاً لم يأت به قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا معقول، وما كان هكذا فهو باطل؛ قال تعالى:{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32]،

وقال تعالى: {وَلَوكَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} [النساء: 82]

(2)

.

وفي الحديث الذي رواه مسلم عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الطويل:

«

وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ، وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ؛ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ: أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ

(1)

تفسير القرآن العظيم (1/ 685).

(2)

المحلَّى (1/ 70).

ص: 35

أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا» رواه مسلم.

قال أبو البركات مَجْدُ الدين ابن تيمية (الجَدّ) رحمه الله معلقاً على هذا الحديث في كتابه [المنتقى]:

"وهو حجة في أن قبول الجزية لا يختص بأهل الكتاب، وأن ليس كل مجتهد مصيبًا، بل الحق عند الله واحد". اهـ.

كذلك يدل عليه:

قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجرانِ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ» متفق عليه.

قال الشوكاني:

"فقد دل -أي: الحديث- دلالةً بينةً أن للمجتهد المصيب أجرين، وللمجتهد المخطئ أجراً، فسماه مخطئاً، وجعل له أجراً، فالمخالف للحق بعد الاجتهاد مخطئ مأجور، وهو يردّ على من قال: إنه مصيب، ويرد على من قال: إنه آثم، ويرده ردّاً بيناً، ويدفعه دفعاً ظاهراً"

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"المجتهد إذا أدَّاه اجتهادُه إلى قول فعَمِلَ بموجَبه كلاهما مطيع لله، وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله وله أجر على ذلك، وليس مصيباً بمعنى: أنه علم الحق المعيّن؛ فإن ذلك لا يكون إلا واحداً، ومُصيبُهُ له أجران

(2)

.

وقال ابن القيم في [أحكام أهل الذمة] كلاماً رائعاً عن معنى (كل مجتهد مصيب): "وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد منع الأمير أن يُنزل أهل الحصن على حكم الله وقال: لعلك لا تدري أتصيبه أم لا؛ فما الظن بالشهادة على الله والحكم عليه بأنه كذا أوْ ليس كذا، والحديث صريح في أن حُكم الله سبحانه في الحادثة واحد معيَّن، وأن المجتهد يصيبه تارةً، ويُخْطئه تارة.

وقد نص الأئمة الأربعة على ذلك صريحاً: قال أبو عمر ابنُ عبد البَرّ:

"ولا أعلم خلافاً بين الحُذّاق من شيوخ المالكيّينَ

ثم عدّهم،

(1)

السيل الجَرّار (1/ 20 (.

(2)

مجموع الفتاوَى (10/ 478).

ص: 36

ثم قال: "كلٌّ يحكي أن مذهب "مالك" في اجتهاد المجتهدين والقائسين إذا اختلفوا فيما يجوز فيه التأويل من نَوازل الأحكام: أن الحق من ذلك عند الله واحد من أقوالهم واختلافهم، إلا أنّ كل مجتهد إذا اجتهد كما أُمِرَ وبالغَ ولم يألُ وكان من أهل الصناعة ومعه آلة الاجتهاد- فقد أدى ما عليه، وليس عليه غير ذلك، وهو مأجور على قصْده الصوابَ وإن كان الحق من ذلك واحداً.

قال: "وهذا القول هو الذي عليه أكثر أصحاب الشافعي".

قال: "وهو المشهور من قول أبي حنيفة فيما حكاه محمد بن الحسَن وأبو يوسف والحُذّاق من أصحابهم". قلت: قال القاضي عبد الوهاب:

"وقد نص "مالك" على منع القول بإصابة كل مجتهد، فقال:

"ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم- سَعةٌ، إنما هو خطأ أو صواب". وسئل أيضاً: ما تقول في قول من يقول:

إنّ كل واحد من المجتهدين مصيب لما كلف؟ فقال:

"ما هذا هكذا، قولان مختلفان لا يكونان قطُّ صواباً! ". وقد نص على ذلك الإمام أحمد، فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه:

إذا اختلفت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فأخذَ رجل بأحد الحديثينِ وأخذ آخرُ بحديث آخرَ ضِدُّه فالحق عند الله واحد وعلى الرجل أن يجتهد، ولا يدري أصابَ الحقَّ أم أخطأ. وأصول الأئمة الأربعة وقواعدهم ونصوصهم على هذا

إلخ"

(1)

.

*قلت:

وعليه فلكل مجتهد نصيبٌ، أي: من الأجر، وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب واحد، والآخَر مخطئ. ومنهم من يعبّر عن ذلك بعبارة أخرى فيقول:((كل مجتهد مصيب، وليس كل اجتهاد صواباً)

والمعنى: أن "كل مجتهد مصيب" أي: عند نفسه؛ لاستفراغه وُسعَه،

(1)

أحكام أهل الذِّمّة (1/ 117).

ص: 37

وسلوكِه المنهجَ العلمي والمسلكَ الشرعي في طلب الأحكام، وليس مصيباً للحق نفسِه.

"وليس كل اجتهاد صواباً" أي: لاحتمال ألا يوافق الحقَّ في الأمر نفسِه.

من الفوائد في هذا الحديث:

لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية قال: «هي الجماعة» ، فما معني الجماعة؟ الذى يتتبع الأحاديث التي وردت فيها كلمة "الجماعة" يجد أنها وردت على عدة معانٍ:

1 -

جماعة الصلاة: كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة تزيد عن صلاة الفَذّ بسبعٍ وعشرين درجةً» .

2 -

جماعة الأبدان:

والتي هي جماعة المسلمين، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم عن المرتد:«التارك لدينه المفارق للجماعة» ، وفي حديث حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنه يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَكُونُ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ:

«هُمْ قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» ، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «فَالْزَمْ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ»

(1)

.

3 -

جماعة الدين:

وهم الذين اتبعوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم والتزموا الكتابَ والسنة، وهم المَعنيّون في حديث الباب، وهي الفرقة الناجية التي ورد في شأنها قولُه صلى الله عليه وسلم في حديث الباب:«الجماعة» ، فـ "الجماعة" أي: أهل القرآن والحديث والفقه والعلم، الذين اجتمعوا على اتباع آثاره صلى الله عليه وسلم في جميع الأحوال كلها، ولم يبتدعوا بالتحريف والتغيير، ولم يبدلوا بالآراء الفاسدة

(2)

.

ومن هنا ورد مصطلح "أهل السنة والجماعة" إشارةً إلى كل مَن سار على نهج

(1)

متفق عليه.

(2)

عَون المعبود، ومعه حاشية ابن القَيِّم (12/ 223).

ص: 38

الكتاب والسنة، فلفظ "الجماعة" مُستقًى من حديث الباب.

أما مصطلح "السنة" فقد ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:

«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»

(1)

.

وكذلك رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ

} [آل عمران: 106]،

قال: "تبْيضُّ وجوه أهل السنة، وتسْوَدّ وجوه أهل البدع والضلالة"اهـ

(2)

.

وصار مصطلح "أهل السنة والجماعة" يتوجه إلى أهل الاعتقاد الصحيح الذى كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والقرون الخيرية الثلاثة، كما ورد في قول محمد بن سِيرين:

"كانوا لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم؛ فيُنْظر إلى أهل السنة فيُؤخذ حديثُهم، ويُنْظر إلى أهل البدعة فيُردّ حديثُهم"

(3)

؛ فجَعَلَ "أهل السنة" في مقابلة "أهل البدعة".

وقد دَرَجَ أهل العلم على تسمية مصنَّفاتهم التي تشتمل على معتقَد أهل الإسلام

(1)

رواه الترمذي (2676)، وصححه الألباني.

(2)

هذا الأثر قد ذكره اللالَكائيّ في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 79) من طريق عليّ بن قُدامة: ثَنا مجاشع بن عمرو، ثنا ميسرة بن عبد ربه، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس وقد حكمَ محقِّق الكتاب نشأت بن كمال على إسناد هذا الأثر بقوله:"كذب، موضوع، عليّ بن قدامة ضعيف، ومجاشع بن عمرو كان كذاباً -كما قال ابن مَعين، وغيره-، وميسرة بن عبد ربه كذلك كذاب"اهـ.

وكذلك قد تداولَه كثير من العلماء في كتم دون إنكار له، كابن تيمية -في مواضعَ كثيرة جدّاً-، وابن القيم، وابن كثير، والشاطبي، وغيرهم.

قال مشهور حسن في تحقيقه لإعلام الموقِّعينَ: "إسناده ضعيف جداً إن لم يكن موضوعاً؛ ففيه: علي بن قدامة، ضعيف، وشيخه مجاشع بن عمرو اتُّهمَ بالكذب، وشيخه ميسرة مِثلُه.

ثم إن المتأمل في هذا التفسير يجد فيه نَكارة، وهي أنه مخالف لنص القرآن الكريم، فقد بيّن الله تعالى لنا مَن الذين تبْيضّ وجوههم، ومَن الذين تسْودّ وجوههم، فقال:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106] "اهـ.

(3)

المسنَد الصحيح بنقل العدل عن العدل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم (1/ 15).

ص: 39

بهَذَيْنِ الاسمين (اعتقاد أهل السنة والجماعة)

(1)

.

وقد وجد في كلام السلف كثيراً مدحُ السنة، ووصْفُها بالغُرْبة، ووصْفُ أهلها بالقِلّة، ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه السالمة من الشبهات والشهوات

(2)

.

وكذلك قد صنف العلماء في بيان صفات أهل السنة والجماعة، وبينوا أنهم هم الفرقة الناجية، ومثال ذلك:[الإبانة الكبرى في بيان الفرقة الناجية] لابن بَطّة العكبرى.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مطلع العقيدة الواسطية: "هذا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ".

وقال رحمه الله: "وبهذا يتبين أنّ أحقَّ الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمُهم تمييزاً بين صحيحها وسقيمها"

(3)

.

قال عبد الرحمن بن حسن:

"الفرقة الناجية من الثلاث والسبعين: هي التي تمسكت بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعملوا بما في كتاب الله، وأخلصوا له العبادة، واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّ أصل دين الإسلام: ألا يُعبد إلا اللهُ، وألا يُعبدَ إلا بما شَرَعَ"

(4)

.

فإن قيل: وما دليلك على أن تلك الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة، مع أن كل فرقة تزعُم أنها هي أهل السنة دون غيرها؟

فالجواب أن يقال:

يؤْثر عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: "لا تَعرفِ الحق بالرجال. اعرِفِ

(1)

ومِن أمثلة ذلك: أصول السّنّة للإمام أحمد، وأصول السنة لابن أبي زَمَنين المالكي، وكذلك صنف الإمام اللالَكائيّ كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة. والأمثلة في هذا الباب كثيرة، فالمقصود هنا التمثيل لا الحَصْر.

(2)

كَشْف الكُرْبة في وصف أهل الغُرْبة (ص/319).

(3)

مَجموع الفتاوَى (3/ 347).

(4)

الدُّرَر السَّنِيّة في الأَجْوبة النَّجْدية (11/ 402).

ص: 40

الحقَّ تَعرفْ أهله"

(1)

. وهذا المعنى مستنبَط من كلام الله تعالى: قال الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]

قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، ولم يقل:"اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم"؛ لأنه لو قال: "اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم" لَكان هذا يقتضي أن يُعرف الحق بالرجال، والقاعدة الشرعية: أن الرجال يُعرفون بالحق، وأن الحق لا يُعرف بالرجال، فلما قال:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} صار الصراط غير مضاف إلى أحد، وإنما هو الصراط المستقيم المَرضيّ عند الله

(2)

.

وقال بعض العلماء: "من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال".

قال الشاطبي:

"ولقد زَلَّ -بسبب الإعراض عن الدليل، والاعتماد على الرجال- أقوامٌ خرجوا بسبب ذلك عن جادّة الصحابة والتابعين، واتبعوا أهواءهم بغير علم؛ فضلّوا عن سَواءِ السبيل".

ولْنذكُرْ عشرة أمثلة: أحَدها، وهو أشدُّها- قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين هوالمرجوع إليه دون غيره، حتى ردوا بذلك براهينَ الرسالة وحجةَ القرآن ودليلَ العقل، فقالوا:

(1)

قال الشيخ العلّامة عبيد بن عبد الله الجابري

في [أصول وقواعد في المنهج السلف] ما نصُّه: "القاعدة الثانية- يُعرف الرجالُ بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال: ومعنى هذه القاعدة: أنَّ الإنسان يُوصف بالتمسك، وأنه من أهل السنة، وأنه على الحق الذي لم تَشُبْهُ شائبة البدعة والخُرافة إذا كان على الحق. العلامة الدالة عليه: ما انتهجه من حقّ في أقواله وأعماله؛ وهذا هوالشَّطر الأول. ولا يُعرف الحق بالرجال، والمعنى أنه ليس مجرد سلوك الرجل بقولٍ أو فعلٍ هو دلالة على أنه مُصيب، بل -كما قدَّمتُ لكم- الحُكمُ على الأقوال والأعمال عند السَّلفيّينَ، عند أهل السنة والجماعة، عند الطائفة المنصورة، عند أهل الحديث، عند الفرقة الناجية: ميزانان فقط: النص، والإجماع. (44/ 11)

(2)

دروس صوتية للشيخ محمد الحسن الددو الشَّنْقِيطيّ (44/ 11).

ص: 41

{

إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ

} [الزخرف: 22]

(1)

.

*والمراد مما سبق: أن تقديم أهل السنة والجماعة على غيرهم، وجعْلهم هم الفرقةَ الناجية ليس مصدره الهوى أو العصبية للرجال، وإنما بُني هذا على مقدمات قامت على العدل والإنصاف؛ فإنّ أخصَّ ما ميَّزَ أهل السنة والجماعة عن غيرهم مِن فرق الأمة أمران:(تعظيم الأثر، والثبات على المنهج).

1) فأما الأمر الأول فنقول:

تعظيم الأثر هذا أحد أهمّ الدلائل على صحة الادعاء أن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية.

قال أبوالقاسم، الملقب بقِوام السنة:

"فإن قيل: كل فرقة تنتحلُ اتّباع السنة، وتَنسُبُ مخالفيها إلى خلاف الحق، فما الدليل على أنكم أهلُها دُونَ مَن خالفَكم؟ قلنا: الدليل على ذلك:

قول الله تعالى: {

وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا

} [الحشر: 7]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«عليكم بسنتي، ومَن رَغِبَ عن سنتي فليس مني» ؛ وعرفْنا سنته بالآثار المروية بالأسانيد الصحيحة، وهذه الفرقة الذين هم أصحاب الحديث: لها أَطْلَبُ، وفيها أَرْغَبُ، ولِصحاحها أَتْبَعُ؛ فعلِمنا بالكتاب والسنة أنهم أهلها دون سائر الفرَق"

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

إن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية أهل الحديث والسنة؛ الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، الذين يردون المقالات المجملة إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة؛ فلا ينصبون مقالة ويجعلونها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول، بل يجعلون ما بعث به الرسول من الكتاب والحكمة هو

(1)

الاعتصام (2/ 863).

(2)

[الحُجّة في بيان المَحَجّة، وشرح عقيدة أهل السنة](2/ 411).

ص: 42

الأصل الذي يعتقدونه ويعتمدونه.

(1)

فاعتصام أهل السنة والجماعة بالآثار أمر بيّنٌ واضحٌ وُضوحَ الشمس في رائعة النهار، وليس أدلّ على صحة هذا الأمر- الذي هو اتباع ظواهر النصوص والعَضّ عليها بالنَّواجِذ - من كونه صار سُبة يُرمى بها أهل السنة والجماعة.

فقد أطلق المبتدعة على أهل السنة اسم " الحشوية "، والمعنى:

أن أهل السنة والجماعة أصحاب حشْو في الكلام، أي: ما عندهم إلا " قال الله، قال الرسول"، ما عندهم قواعد عقلية، ما عندهم مقدمات منطقية.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

"وهؤلاء يَعيبون مُنازِعَهم: إما لجمعه حشوَ الحديث من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه، أو لكون اتّباع الحديث في مسائل الأصول من مذهب الحشْو؛ لأنها مسائل علمية، والحديث لا يفيد ذلك؛ لأن اتباع النصوص مطلقاً في المباحث الأصولية الكلامية حشو؛ لأن النصوص لا تَفي بذلك"

(2)

.

وإن كانت هذه تُهْمةً فلَنِعْمَ التُّهَمُ، كما يُوثر عن الشافعي رحمه الله أنه قال:

إنْ كَانَ رَفْضاً حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ

فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلَانِ أَنِّي رافِضِي

(3)

.

قال أبوالمظفَّر السمعاني:

والذي يَزيد ما قلناه إيضاحاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم حِينَ سُئل عن الفرقة الناجية قال: «ما أنا عليه وأصحابي» ، بمعنى: من كان على ما أنا عليه

(1)

مجموع الفتاوى (3/ 347)

(2)

مجموع الفتاوَى (4/ 88 (قال الجرجاني: الحشو: هو في اللغة ما تملأ به الوسادة، وفي الاصطلاح: عبارة عن الزائد الذي لا طائل تحته. (التعريفات (ص/85))

مناقب الشافعي (2/ 71). وقول الشافعي هذا نَظيرُ قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81].

(3)

وسنده صحيح. الشريعة للآجُرّيّ (1/ 316 (.

ص: 43

وأصحابي؛ فلا بد من تعرُّف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه، وليس طريق معرفته إلا النقل؛ فيجب الرجوع إلى ذلك"

(1)

.

أما المخالفون لأهل السنة والجماعة فقد تنكَّبوا الصراط، وخالفوا سبيل الرشاد؛ وذلك حينما جعلوا الدليل سَوْأة يجب سَتْرها بلباس العقل، وتَحْتَ هذا الانحراف خاضوا في التعطيل والتحريف والتشبيه والتكييف.

قال ابن أبي العز:

"وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله مِن جناية! فهل قُتل عُثمانُ رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟! وكذا ما جرى في يوم الجَمَل وصِفِّين، ومَقْتَل الحُسين رضي الله عنه، والحَرّة، وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزِلة ورفضت الروافض وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقةً إلا بالتأويل الفاسد؟!.

(2)

وقال رحمه الله: "وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته مع وجود النص، أوعارَضَ النص بالمعقول؛ فقد ضاهى إبليسَ؛ حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قال:{أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12].

(3)

فلما كانت مناهجهم مستقاة من العقول والأهواء، وليس من النص الثابت المحكَم؛ وقعَ لهم ما وقع من التضارُب والتخبُّط؛ وهذا جزاء مَن تركَ الكتاب والسنة وأقبلَ على علوم الكلام التي لا ترفع مِن جهلٍ ولا تُغني من جوع!

*ولْنذكرْ لكم مثلاً على نظرة هؤلاء البؤساء إلى أدلة الشرع، ومكانتها عندهم:

فقد ذكر الإمام الذهبي في ترجمة الشهرستانيّ محمد بن عبد الكريم بن أحمد:

أنه كان يبالغ في نصرة مذاهب الفلاسفة والذَّبِّ عنهم، فلم يكن يذكر في مجالسه:"قال الله" ولا "قال رسوله"، فسأله يوماً سائل، فقال:

سائر العلماء يذكرون في مجالسهم المسائل الشرعية، ويجيبون عنها بقول أبي حنيفة والشافعي، وأنت لا تفعل ذلك؟!

(1)

الانتصار لأصحاب الحديث (1/ 42).

(2)

شرح العقيدة الطحاوية (1/ 208).

(3)

المصدر السابق (1/ 242).

ص: 44

فقال: مَثلي ومَثلكم كمَثل بني إسرائيل يأتيهم المَنُّ والسَّلْوى، فسألوا الثُّوم والبصل!! "

(1)

.

2) وأما الأمر الثاني "الثبات على المنهج":

فمن سمات أهل السنة والجماعة الثبات على المنهج، وهذه مما حَظِيَ به أهل السنة والجماعة دون غيرهم من الفرق، فتقرأ كثيراً عن الاختلاف البيِّن الواسع والتخبُّط الظاهر الشاسع بين المتقدمينَ والمتأخرينَ في كل فرقة من الفرق الضالة، وتسمع كثيراً قول القائل: متأخِّرو القدرية، ومتقدِّمو الأشاعرة

إلخ؛ وما ذلك إلا مصداق لقوله تعالى:

{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. ومِثل هذا لا تراه -بفضل الله- عند أهل السنة والجماعة.

وكم من إمام من الأئمة الكبار في تلك الفرَق رأيناه يُظهر الندامة على عُمره الذي أضاعه في القِيلِ والقالِ والطريق السقيم الضالّ؛ لِيُعلنَ العودة إلى سواء السبيل وشِفاء العَليل، إلى آثار النبوة والتنزيل!

يقول أحد رؤسائهم

(2)

:

لَعمري لقد طُفتُ المَعاهِدَ كلَّها

وسيّرتُ طرفي بينَ تلكَ المعالمِ

فلم أَرَ إلا واضعاً كفَّ حائرٍ

على ذِقنٍ أو قارعاً سِنَّ نادمِ

ويقول آخرُ

(3)

:

نهايةُ إقدامِ العُقولِ عقالُ

وأكثرُ سَعْيِ العالَمينَ ضلالُ

(1)

سِير أعلام النُّبلاء (20/ 288).

(2)

هو أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستانيّ، المتوفى سنة ثمانٍ وأربعين وخَمسمئة هجرية (548). ذكرَهما في أول كتابه [نهاية الأقدام في علم الكلام](ص 3)، ونسبَهما إليه ابن أبي العز في [شرح العقيدة الطحاوية](ص 228)، وانظر [لوامع الأنوار](1/ 110).

(3)

هو فَخْر الدين محمد بن عمر الرازيّ (ت 606 هـ)، ذكرَها في كتابه [أقسام اللذّات].

انظر: دَرْء تعارُض العقل والنقل (1/ 159 - 160)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص/ 227) وطبقات الشافعية للسُّبْكيّ (8/ 96)، ولَوامع الأنوار (1/ 110 (.

ص: 45

وأرواحُنا في وَحْشةٍ مِن جُسومِنا

وغايةُ دُنيانا أذًى ووَبالُ

ولم نسْتفدْ مِن بحثنا طُولَ عُمْرِنا

سِوَى أنْ جمعْنا فيه قِيلَ وقالوا

وقد نُقل مثل هذا عن الجُويني والغزالي وغيرهم. ومثل هذا لا تراه -بفضل الله- عند أهل السنة والجماعة.

ومن الفوائد المهمة:

قول النبي صلى الله عليه وسلم -عن الفرق الضالة: «كلها في النار، إلا واحدةً»

(1)

، وهنا سؤال يطرح نفسه: هل هذا على التأبيد أم التأقيت؟

(2)

الجواب:

من العلماء من قال: إنها على نوعين، منها: فرق أتت ببدع كفرية؛ فتستحق الخلود في النار، أمثال: الحلولية، والبهائية، والنُّصيرية، والباطنية، والجهمية، وغُلاة المتصوفة

"فيخرج من الحساب:

غلاة أهل البدع، ولا يُعدُّون من الأمة ولا من أهل القبلة، كنفاة الأعراض من القدَرية؛ لأنه لا طريق لحدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض، وكالحلولية، والمنصورية، وأشباههم من الغلاة"

(3)

.

ومنها: من أتى ببدع مفسِّقة، أمثال أصحاب البدع العلمية أو العملية، كالخوارج -على الراجح- وكمن خالف أهل السنة في بعض مسائل الصفات أو القدر؛ فيكون عذابها على التأقيت، وهي في ذلك تحتَ المشيئة.

(1)

زيادة «كلها في النار إلا واحدةً» زيادة صحيحة قطعاً، فقد جاءت عن ستة من الصحابة بأسانيدَ وطرقٍ كثيرة، منها ما هو حسَن لذاته كحديث معاوية، والباقي يصحَّح بكثرة الطرق والشواهد.

(2)

قد وقعَ قلْبٌ لهذه اللفظة كما في حديث العقيليّ وابن عَدِيّ عن أنس مرفوعاً:

«تفترق أمتي على بِضْعٍ وسبعين فرقةً، كلهم في الجنة إلا فرقةً واحدةً» . وقد أورده ابن الجَوْزِيّ في الموضوعات (1/ 268)،

وقال ابن تيمية: "لا أصل له، بل هو موضوع كذب باتفاق أهل العلم بالحديث"اهـ.

وانظر: نظْم المتناثر من الحديث المتواتر (1/ 47).

(3)

الحوادث والبِدَع (ص/36).

ص: 46

والصحيح في ذلك:

أن هذه الفرق المذكورة في حديث الباب إنما هي من أصحاب البدع المفسقة الذين هم داخل دائرة الإسلام، وأنها داخلة تحت الوعيد؛ فهذا الحديث من أحاديث الوعيد العامة، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10]، وهو قول جمهور أهل العلم.

ويؤيده:

نص الحديث: قد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى، وهؤلاء من أمة الدعوة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «

وستفترق أمتي

».

فظاهر الحديث يقتضي أن ذلك الافتراق إنما هو مع كونهم من الأمة، وإلا فلو خرجوا من الأمة إلى الكفر لم يُعدّوا منها البَتّةَ

(1)

؛ فدل ذلك على أن هذا التفرق الذى وقعَ إنما كان في فرق تنتسب إلى الإسلام، فلم تُخرجها بدعُها المحدَثة من دائرة الإسلام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"وأما تعيين الفرق الهالكة فأقدمُ مَن بلغَنا أنه تكلم في تضليلهم: يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارَك، وهما إمامانِ جَليلان من أجلّاء أئمة المسلمين، قالا: أصول البدع أربعة: الروافض والخوارج والقدَرية والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب بأن أولئك ليسوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وكان يقول: "إنا لَنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية! "، وهذا الذي قاله اتبعه عليه طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم، قالوا: إن الجهمية كفار، فلا يدخلون في الاثنتين والسبعين فرقة، كما لا يدخل فيهم

(1)

الاعتصام (2/ 714).

ص: 47

المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وهم الزنادقة

(1)

.

وقال رحمه الله:

"وليس قوله: «ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة» بأعظمَ من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وقولِه:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 30]

وقال رحمه الله:

"ومن قال إن الثِّنْتَيْنِ والسَّبعينَ فرقةً كلُّ واحد منهم يكفُر كفراً ينقلُ عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- بَلْ وإجماعَ الأئمة الأربعة وغيرِ الأربعة، فليس فيهم مَن كفّر كل واحد من الثنتين والسبعين فرقة".

(2)

قال الذهبي:

"وإذا قال المسلم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] يقصد كل مَن سبقَه من قرون الأمة بالإيمان -وإنْ كان قد أخطأ في تأويلٍ تأوَّلَه فخالَفَ السنة أو أذنبَ ذنباً- فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان، فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة؛ فإنه ما مِن فرقة إلا وفيها خلقٌ كثير ليسوا كفاراً، بل مؤمنون فيهم ضَلال وذنب، يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين.

والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل:

إنهم يخلدون في النار؛ فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاتُه.

(3)

وقال البيهقي: "والذي رُوينا عن الشافعي وغيره من الأئمة مِن تكفير هؤلاء المبتدعة فإنما أرادوا به كفراً دُون كفرٍ"

(4)

.

(1)

مجموع الفتاوَى (3/ 351).

(2)

مجموع الفتاوَى (7/ 218).

(3)

المنتقَى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال (ص/334).

(4)

سُنن البيهقي الكُبرى (10/ 207).

ص: 48

المقصود:

أن حُكمه عليه الصلاة والسلام على جميع هذه الفرق أنها في النار إلا واحدة -وهي الفرقة الناجية- لا يراد به التعيين للطوائف، ولا التعيين -مِن بابِ أَوْلى- للأعيان

(1)

.

ضابط الفرق الهالكة، وتعيينها:

هذه الفرق لم يعيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائها؛ وقد اجتهد العلماء في تحديد أصولها وتعيينها

(2)

، وتكلموا كذلك في الضابط الذي يَنبني عليه تحديد هذه الفرق المنحرفة عن منهج أهل السنة، فقالوا:

كل فرقة خالفت أهل السنة في أصل من أصول الدين- تخرج بذلك عن أهل السنة والجماعة، وتدخل في هذه الفرق.

قال الشاطبي:

"هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية في معنًى كلّيٍّ في الدين وقاعدةٍ من قواعد الشريعة، لا في جُزئيٍّ من الجزئيات؛ إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شِيَعاً، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية"

(3)

.

وعلامة هذه الفرق التي بها تُعرف:

أنها تفارق الكتاب والسنة والإجماع بلا تأويل سائغ يتفق مع لغة القرآن وأصول الشريعة، حتى يُعذر به صاحبُه فيما أخطأ فيه.

فهم الذين تستهويهم الظنون الكاذبة والأهواء المُضلة والتأويلات الباطلة، وقد ورد في رواية لحديث الباب أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال:

«وَسَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا

(1)

شرح حديث الافتراق ليوسف الغفيص (3/ 6).

(2)

ونظير ذلك: ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» ، فمحل الاتفاق إنما هو في عدد الأسماء التي لها هذه الميزة (أن من أحصاها دخل الجنة)، وأما محل الاختلاف والاجتهاد فهو في تعيين هذه الأسماء على التفصيل.

(3)

الاعتصام (2/ 712).

ص: 49

دَخَلَهُ»

(1)

؛ فكل من كان كذلك هو مخالف للفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة.

*أما تعيينها:

فهذه الفرق لم يعيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وقد اجتهد العلماء في تحديد أصولها وتعيينها، وكلٌّ تكلَّمَ حسبَ اجتهادِه

(2)

.

وأقدمُ من تكلم في تعيين الفرق الضالة وتقسيمها: يوسف بن أسباط، ثم عبد الله بن المبارك؛ كما نص على ذلك شيخ الإسلام في [مجموع الفتاوى](3/ 350)،

فقالا في تعيينها: إن أصل البدع أربعة:

" الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة"

وإنما لم يذكرا الجهمية على اعتبار أنها خارجة عن فرق المسلمين*.

وممن قد ذهب إلى هذا التقسيم: البربهاري في [شرح السنة](ص/ 46)، والطرطوشي في [البدع والحوادث](ص/ 97).

ومن العلماء مَن ذكرهم على سبيل التفصيل:

قال أبو المظفر الإسفرايني:

فأما الاثنتان والسبعون: فعشرون منهم الروافض، وعشرون منهم الخوارج وعشرون منهم القدرية المعتزلة، وسبع فرق هم المرجئة، وفرقة هم الجهمية، والكَرّامِيّة وهم ثلاث فرق، والفرقة الثالثة والسبعون هي الناجية، وهم أهل السنة والجماعة"

(3)

.

وقيل: إن أصول الفرق ستة:

حرورية، وقدرية، وجهمية، ومرجئة، ورافضة، وجَبْرية، وانقسمت كل منها اثنتي عشرة فرقةً، فصارت اثنتين وسبعين فرقة؛ وهذا مما قد ذهب إليه ابن الجَوْزِيّ في [تلبيس إبليس](ص/ 25).

(1)

أخرجه أحمد (16937)، وسنده صحيح.

(2)

ونظير ذلك: ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» ، فمحل الاتفاق إنما هوفي عدد الأسماء التي لها هذه الميزة "أن من أحصاها دخل الجنة"، وأما محل الاختلاف والاجتهاد فهوفي تعيين هذه الأسماء على التفصيل.

(3)

التبصير في الدين، وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين (1/ 25).

ص: 50

والصحيح في ذلك: هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال:

"وأما تعيين هذه الفرق فقد صنَّف الناس فيهم مصنفات وذكروهم في كُتب المقالات؛ لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين والسبعين لا بد له من دليل؛ فإنَّ الله حرَّم القول بلا علم عموماً، وحرَّم القول عليه بلا علم خصوصاً"

(1)

.

ومن العلماء من قال: أصول أهل البدع أربعة: (الخوارج، والشيعة، والقدرية، والمرجئة).

الصحيح والذي عليه عمل السلف هو: تحديد أصول أهل البدع، دون تعيين الفرق عينِها.

في ختام الحديث

نطرح سؤالاً: هل هناك فرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؟

الجواب:

نعم هناك فرق بينهما:

أما الفرقة الناجية فهي أعم من الطائفة المنصورة، فالفرقة الناجية هي التي وردت في حديث الباب، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:

«مَا كان على مِثل ما أَنَا عَلَيْهِ اليومَ وَأَصْحَابِي» ؛ فهي كل من اتبع أصول الاعتقاد التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان على الأصول العامة لأهل السنة والجماعة، وإن كان ذا تقصير في الاتباع الظاهر، فهي أمة الاتباع التي سبق ذِكرها في فوائد حديث الباب.

أما الطائفة المنصورة فهم أخصّ من الفرقة الناجية، الذين وردَ ذكرُهم في قول رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم:

«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَو خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ»

(2)

.

وخير توصيف لهذه الطائفة المنصورة: ما ذكره النووي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ

»،

حيث قال: "وأما هذه الطائفة

(1)

مجموع الفتاوى بتصرُّفٍ يسير (3/ 346).

(2)

متفق عليه.

ص: 51

فقال البخاري: هم أهل العلم، وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهلَ الحديث فلا أدري مَن هم.

قال القاضي عِياضٌ:

إنما أراد أحمدُ أهلَ السنة والجماعة ومن يعتقدُ مذهب أهل الحديث.

قلت: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرَّقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدِّثون، ومنهم زُهّاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير. ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض"

(1)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

"وفي حديثٍ عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:

«هم مَن كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي» . صار المتمسكون بالإسلام المَحْض الخالص عن الشَّوْب هم "أهل السنة والجماعة". وفيهم: الصِّدِّيقون، والشهداء، والصالحون. ومنهم: أعلام الهُدى، ومصابيح الدُّجَى، أُولُو المَناقبِ المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال، ومنهم الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين؛ لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعةُ"

(2)

.

فالحاصل أنها دوائر متداخلة:

1) الدائرة الكبرى (أمة الدعوة):

وهم كل من بُعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد بُعث إلى الناس عامّةً.

2) الدائرة الأقل منها (أمة الإجابة):

كل من دخل في دين الإسلام، وإن لم يلتزم بأصول السنة، فوقع في جملة من البدع المفسِّقة، التي لم تُخرجه من دائرة الإسلام.

(1)

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحَجّاج (13/ 66).

(2)

العقيدة الواسطية (ص/133).

ص: 52

3) الدائرة الأقل (أمة الاتباع):

وهي الفرقة الناجية، هي التي وردت في حديث الباب، وهي كل من اتبع أصول الاعتقاد التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان على الأصول العامة لأهل السنة والجماعة.

4) الدائرة الأقل (الطائفة المنصورة):

وخير توصيف لها: ما ذكره الإمام النووي، أنها تشمل كل من قام لدين الله علماً أو عملاً.

تم بحمد الله

ص: 53