الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة
** نص. الحديث:
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
…
تخريج الحديث: أخرجه البخاري: كتاب الاستئذان، باب: بَدْء السلام (6227)، ومسلم:
كتاب الجنة، باب: يدخل الجنة أقوامٌ أفئدتُهم مِثْلُ أفئدة الطير برقم (2841).
*وقفات مع فوائد حديث الباب:
1 -
الفائدة الأولى:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ على صُورَتِهِ» :
اختلف العلماء في مَرْجِعِ الهاء في قوله «صُورَتِهِ» ، هل الهاء تعود إلى الله عز وجل، أم تعود إلى آدم عليه السلام؟
1)) القول الأول:
يُروى عن الإمام مالك أنه كان ينهى عن التحديث بهذا الحديث، وكان ينكر على من يحدّث به، وينهى عن التحدُّث بها.
(1)
(1)
أصول السّنّة لابن أَبي زَمَنِينَ المالكيّ (ص/75).
وقد ذكرنا لفظة "يُروى" عند الكلام عن قول الإمام مالك؛ وذلك لأن الإسناد إليه في ذلك فيه مقال، فهو مرويّ عن مقدام بن داودَ، وقد تكلم بعض الأئمة في هذا الراوي.
* ونَهْي مالك عن التحديث بحديث الصورة -على تقدير ثبوته عنه- محمول على توجهين:
1 -
الأول:
ضعف أسانيدها عنده، وهو ظاهر رواية ابن القاسم، وهو اختيار أبي بكر الأبهري والذهبي.
2 -
الثاني:
كان يخشى أن يكون في التحديث بذلك فتنة لبعض الناس، فيشبّهوا اللهَ بخلْقه، أو يتأولوا الحديث بما يوافق أقوال الجهمية.
وهذا الذي رجحه ابن عبد البَرّ في " التمهيد"(7/ 150)، وابن رشد في "البيان والتحصيل"(16/ 402)، حيث قال الأول:"وإنما كرِه ذلك مالكٌ خشيةَ الخوض في التشبيه بكيفٍ ها هُنا"ا. هـ.
وقد روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلُغُه عقولُهم إلا كان لبعضهم فتنة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"الشيء قد يُمنع سماعُه لبعض الجهّال، وإن كان متفَقاً عليه بين علماء المسلمين".
وانظر "بيان تلبيس الجهمية"(6/ 445)، والضعفاء الكبير (2/ 251)، و"مسائل العقيدة قررها أئمة المالكية "(ص/135) و"عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن"(ص/10).
2)) القول الثاني:
أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وهو آدم عليه السلام.
ويدل على ذلك السِّياق؛ فهو من المقيِّدات والمرجِّحات، ففي الحديث:
«خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، وَطُولُهُ: سِتُّونَ ذِرَاعاً» ، فالجملة الثانية قد بُنيت على الأولى، والمعنى: أن آدم عليه السلام له ميزة عن سائر الخلْق؛ فسائرُ الخلقِ يجري عليهم قولُه تعالى:
أما آدم عليه السلام فقد خلقه الله - تعالى - على صورته التي هو عليها، ستون ذراعاً، فلم يمرْ بأطوار الخلق التي مرَّ بها سائر الخلق مِن بعدِه، كما قال تعالى عنه {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} [آل عمران: 59].
(1)
(1)
مع العلم بأن من أصحاب هذا القول من ينفي صفة الصورة عن الله -تعالى- بزعم التنزيه!
وانظر " أصول الدين "(ص/76) و [مُشْكِل الحديث، وبيانه](ص/52)، و [أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات](ص/168).
3)) القول الثالث:
قالوا: إن الهاء تعود إلى الله عز وجل.
ويقولون: الصورة هي وصف لآدم عليه السلام، وإنما أضاف الله عز وجل صورة آدم عليه السلام إلى نفسه إضافةَ تشريفٍ، أو مِلْكِيّةٍ.
وممن قال بذلك: ابن خزيمة، والبيهقي، وابن حزم.
(1)
4)) القول الرابع:
وهو الراجح الصحيح الذي عليه جمهور أهل السنة، والذي نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى جمهور السلف.
هو أن الهاء تعود إلى الله عز وجل، وأن ذلك يقتضي القولَ بظاهر الحديث مع إثبات صفة الصورة لله عز وجل على ما يَليق به -سبحانه-.
فالقول إن الله خلق آدم عليه السلام على صورة الله عز وجل لا يَلزَمُ مِنه المماثلة؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ: عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ»
(2)
،
فمراده صلى الله عليه وسلم: أن أول زمرة هم على صورة البَشَر، ولكنهم في الوضاءة والحُسْن والجمال واستدارة الوجه وما أشبهَ ذلك: على صورة القمر، فصُورتهم: فيها شَبَهٌ
(1)
قال ابن خزيمة: "
…
فصورة آدم ستون ذراعاً، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم عليه السلام خُلق عليها، لا على ما توهَّمَ بعضُ من لم يتحرَّ العلمَ، فظنَّ أنّ قوله «على صُورتِه» صورة الرحمن صفةً من صفات ذاته؛ جلَّ وعلا! قد نزَّهَ الله نَفْسَهُ وقَدَّسَ عن صفات المخلوقين، فقال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]
…
"، وإنما إضافة الصورة إلى الرحمن هو إضافة الخلق إليه؛ لأن الخلق يضاف إلى الرحمن؛ إذِ اللهُ -تعالى-خلقَه، وكذلك الصورة تُضاف إلى الرحمن؛ لأنّ الله صوَّرها.
وانظر كتاب [التوحيد] لابن خزيمة (ص/93).
وممن قال بقول ابن خزيمة: البيهقي في كتابه [الأسماء والصفات].
* وقال ابن حزم: "وكذلك القول في الحديث الثابت «خلق الله آدم على صورته» فهذه إضافة مِلكٍ، يريد:
الصورة التي تخيَّرها الله سبحانه وتعالى ليكون آدم مصوَّراً عليها، وكلُّ فاضلٍ في طبقته فإنه يُنسبُ إلى الله عز وجل كما يقول:"بيت الله تعالى" عن الكعبة، والبيوت كلها بيوت الله تعالى
…
" ا. هـ.
وانظر [الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل](2/ 128)، و [إيضاح الدليل في قطْع حُجَج أهل التعطيل](ص/155)، و [التوضيح لشرح الجامع الصحيح](29/ 12).
*وهنا تنبيه مهم:
فارقٌ بينَ من يحمل إضافة الصورة في قوله «على صورته» إلى الله -تعالى-، مَن يحملها على سبيل التشريف - وهو أحد الأوجه التي قال بها الشيخ العثيمين- مع إثبات صفة الصورة لله -تعالى- من النصوص الأخرى، وبين من يحملها على ذلك نفياً لصفة الصورة عن الله عز وجل!
(2)
متفق عليه.
بالقمر، لكن دُونَ مماثَلةٍ.
فتبيَّنَ أنه: لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثِلاً له من كل وجهٍ، ولا يلزم أن يكون على مَثيل صورة القمر.
** وقال شيخ الإسلام في ردِّه على الرازيّ في تأويله للحديث:
"لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاعٌ في أن الضمير عائد إلى الله، فإنه مُستفيضٌ من طُرُقٍ متعدِّدة عن عدد من الصحابة، وسياق الأحاديث كلها يدل على ذلك، وهو أيضاً مذكور فيما عندَ أهل الكِتابَيْنِ، حتى ظهرَ الجهميةُ، فزعموا نسبة الهاء لآدم عليه السلام تنزيهاً لله عن صفة الصورة".
(1)
* لما سئل الإمام أحمد عن حديث الصورة، وهل الهاء تعود إلى غير الله عز وجل؟
قال: "مَن قال ذلك فهو جهميّ، وأيُّ صورةٍ كانت لآدم قبل أن يخلقه الله؟! ".
(2)
**قال ابن قُتيبة: "والذي عندي -والله أعلم- أن الصورة ليست بأعجبَ من اليدينِ والأصابعِ والعينِ، وإنما وقعَ الإلْفُ لتلك لمجيئها، ووقعت الوَحْشةُ من هذه لأنها لم تأتِ في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيءٍ منه بكيفيّةٍ ولا حَدٍّ".
(3)
تنبيه:
قد ذهب الجهمية والمعتزِلة إلى نفي الصورة عن الله عز وجل بدعوى نفْي المماثَلة والمشابَهة بين الله -تعالى- وخلْقه
…
قال القاضي عبد الجبار -وهو يعرِّض بأهل السنة-:
"ثم حَدَثَ قومٌ من المشبِّهة
(1)
[بيان تلبيس الجهمية](2/ 356).
وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على من زعمَ أن الهاء تعود إلى آدم عليه السلام من ثلاثة عشر وجهاً.
وانظر [تلبيس الجهمية](2/ 346)
(2)
[طبقات الحنابلة](1/ 309).
وفي رواية: قال إبراهيم بن أبان الموصلي: سمعت أبا عبد الله، وجاءه رجل فقال:
إني سمعت أبا ثور يقول: إنّ اللَّه خلق آدم على صورة نفسه، فأَطْرَقَ طويلاً، ثم ضربَ بيده على وجهه، ثم قال:
"هذا كلام سوء، هذا كلامُ جَهْمٍ، هذا جهميٌّ، لا تَقْرَبُوه! ". [طبقات الحنابلة](1/ 91)
(3)
[تأويل مختلف الحديث](ص/322).
زعموا أن الله -تعالى- على صورة الإنسان، ورَوَوْا فيه خبراً، وهو «إنّ اللهَ خلقَ آدمَ على صُورته» ، ولو كان الله -تعالى- على صورةِ آدمَ لَما صَحَّ قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ".
(1)
*ونَفْيُهم هذا بيِّنُ البُطْلانِ مِن وُجوهٍ:
1 -
الأول:
من ينظر في كتب الأئمة التي ألّفوها لبيان صفات الله عز وجل يجدُ أن أكثرَهم أوردَ فيها أحاديث الصورة:
فقد أوردها ابن أبي عاصم في [السّنّة]، والآجريّ في [الشريعة]، واللالَكائيّ في [شرح اعتقاد أهل السنة]، والدارَقُطني في [الصفات]، وعبد الله ابن الإمام أحمد في [السّنّة].
ولا معنى لإيرادهم هذه الأحاديث إلا إثباتهم لمدلولها، وهو:
(1) أن الله -تعالى- يوصف بأن له صورةً ليست كالصُّوَر.
(2) وأن آدم عليه السلام خُلق على صورة الرحمن عز وجل؛ إذ ليس في هذه الأحاديث مما يتعلق بصفات الله عز وجل إلا هذين المدلولينِ، وهم أئمة ناقدون بصيرون متبوعون، فلو كان لهم فيها رأيٌ أو قول يخالف مدلولها أو شكٌّ في صحتها لَبيَّنُوه.
(2)
2 -
الثاني:
وأما قولهم: "ولو كان الله -تعالى- على صورة آدم-عليه السلام لعارض ذلك قوله تعالى:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] "
فالرد عليه أن يقال:
إنكم لم تعرفوا من الإثبات إلا ما كان لازمه التشبيه والتمثيل، فنظرتم لأدلة الصفات نظرةً قاصرةً، وأما أهل السنة فهم أسعد الناس بالأخذ عن الله -تعالى- وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد أعملوا أدلة الصفات، فأثبتوها لله تعالى، وأعملوا أدلة التنزيه، فجعلوا الصفات الإلهية ثابتة لله -تعالى- على ما يليق به، فلا سَمِيَّ له، ولا كُفُؤَ له، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
(1)
[فضل الاعتزال، وطبقات المعتزلة](ص/101 - 104).
(2)
الانتصار في الرد على المعتزلة (2/ 627).
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
ثم إنكم ترمون غيركم بما هم في حِلٍّ منه؛ فإن أهل السنة إذْ يثبتون الصورة لله عز وجل ما كيّفُوها بكيفٍ، ولا شبَّهوها بغيرٍ؛ لأن مثل هذه الفروع التي هي التشبيه والتكييف إنما تُبنى على أصل لم يتحقق وجودُه، وهو رؤية الله تعالى.
*فرع:
هناك رواية صحيحة تَحْسِمُ هذا النزاع، رواية يرويها ابن أبي عاصمٍ في كتاب [السّنّة]، ورواها الحاكم، ورواها الآجري في [الشريعة]، هذه الرواية:«إنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ» .
(1)
(1)
والحديث رواه عبد الله بن أحمد في [السُّنّة](498)، وابن أبي عاصم في [السنة](ح/529)، وابن خزيمة في [التوحيد](1/ 85)، والدارَقطني في [الصفات](45 - 48)، وغيرهم من طريق جَرِير عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عَطاءٍ، عن ابن عمر مرفوعاً:«لا تُقَبِّحُوا الْوَجْهَ؛ فإنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ» ، وعُمْدة مَن ضعَّفَ هذا الحديث هو ابن خزيمة رحمه الله في كتاب [التوحيد](1/ 87)، وقد أعلَّه بثلاث عِلَل:
الأُولى: أنَّ الثَّوري قد خالف الأعْمش في إسناده، فأرسَلَه.
الثانية: عَنْعَنةُ الأعمش، وهي مردودة؛ لأنَّه مدلِّس ما لم يصرِّح بالسَّماع من حبيب بن أبي ثابت.
الثالثة: لا يُعلَم لحبيب بن أبي ثابت سَماعٌ من عطاء.
*ذِكْرُ من صحَّحَ الحديث:
أمَّا ما يُذكر من أنَّ ابن خُزَيمة ضعَّفَه، فقد صححه مَن هو أجَلُّ منه، صحَّحه إسحاقُ بنُ راهَوَيْهِ، وأحمدُ؛ ذلك لأن أحمد وإسحاق أعلمُ بالأسانيد والعِلل ممن أقدمَ على تضعيف الحديث بغير مستنَد صحيحٍ.
وكذلك قد صححه الذهبي، وابن حجر، وشيخ الإسلام ابن تيمية. كما أن عبد الله بن أحمد بن حنبل وابن أبي عاصم والدارقطني والآجري قد رَوَوا الحديث، وأمرُّوه كما جاء، ولم يتعرضوا لتضعيفه، ولو كان في إسناده علة قادحة لَما سكتوا عن بيانها، وخصوصاً الدارقطني، فإنه من أئمة الجرح والتعديل وأهل العلم بعلل الأحاديث.
*أما الجواب عن العلل التي ذكرها ابن خزيمة فيقال:
1) أما مخالفة الثوري للأعمش، فإنها لا تؤثر في رواية الأعمش؛ لأنّ كلاً منهما حافظ إمام وشيخ من شيوخ الإسلام. قال ابن عيينة:"كان الأعمش أقرأهم لكتاب الله وأحفظهم للحديث"، وقال يحيى القَطّان:"الأعمش علّامة الإسلام"، وقال شُعْبة:"ما شفاني أحد في الحديث ما شفاني الأعمشُ".
وقد كان أحمد يَعلم إرسال الثوري، ولم يَقدح في الحديث عنده.
2) وأما عنعنة الأعمش في روايته عن حبيب بن أبي ثابت، فإنها لا تؤثر في صحة الإسناد؛ لأن الأعمش معدود من المرتبة الثانية من المدلِّسين الذين احتَمَلَ الأئمة تدليسهم وأخرجوا لهم في الصحيح؛ لإمامتهم وقلة تدليسهم في جَنْبِ
ما رَوَوْا.
3) وأما عنعنة حبيب بن أبي ثابت في روايته عن عطاء، فإنها لا تؤثر في صحة الإسناد؛ لأن الظاهر أنه لم يدلس في هذه الرواية. ويدل على ذلك: أنه كان يروي عن ابن عمر رضي الله عنهما مباشرة، فلو كان دلَّسَ في هذا الحديث لَكان جديراً أن يرويَه عن ابن عمر رضي الله عنهما دُونَ واسطة بينهما ليَحصل له علوُّ الإسناد. =
=* ومن جهة أخرى فإن للحديث شواهدُ تقوِّيه:
أوَّلُها: عند ابن أبي عاصم (1/ 227 - 228):
حدَّثنا محمد بن ثعلبة بن سَواءٍ، حدَّثني عمِّي محمَّد بن سَواءٍ، عن سعيد بن أبي عَرُوبةَ، عن قَتادة، عن أبي رافعٍ، عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ؛ فإنَّ اللهَ - تعالى - خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ وَجْهِهِ» . إسناده صحيح.
الشيء الذي يَمنع تفسير ضمير «على صورته» بـ "آدم" الَّذي جاء من حديث أحمدَ عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «إذا قاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ؛ فإنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ» (2/ 512)
…
غيرَ أنَّ الشيخ الألبانيّ ضعَّفَ زيادة «على صورة وجْهه» .
وفي ذلك نظَر؛ لأنَّ الزِّيادة إذا كانت بياناً وليس فيها نوعُ مُنافاةٍ؛ فلا شُذُوذَ فيها وتكون مقبولة، كما قرَّرَه ابنُ الصَّلاح في مقدِّمته حيث قال في النوع الثاني من أنواع الزيادات: "ألّا يكونَ فيه منافاةٌ ومخالَفةٌ أصْلاً لِما رَواهُ غَيْرُهُ
…
".
ثانيها: ما رواه ابن أبي عاصم (533) من طريق ابن أبي مَرْيمَ، حدَّثَنا ابن لَهيعةَ عن أبي يُونُسَ سُلَيْمِ بنِ جُبَيْرٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«مَنْ قاتَلَ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ؛ فإنَّ صُورَةَ وَجْهِ الْإنْسانِ: على صُورةِ وَجْهِ الرَّحْمَنِ» . وابن لهيعة -وإن رُمِي بسُوء الحفْظ- حَديثه يُعتبر به، ويَصْلُح في الشَّواهد والمتابَعات
وقد أخرج ابن أبي عاصم في [السنة](1/ 230)، والدَّارَقطني في [الصفات](49) من طريق ابن لَهيعة عن أبي يُونُسَ والأعرجِ، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إذا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ؛ فإنَّ صُورةَ الْإنْسانِ: على صُورةِ الرحمنِ عز وجل» . وهذا إسنادٌ رجاله ثقات، إلّا ابن لهيعة، وهو يَصْلح في الشواهد والمتابعات.
قال الحافظ في [النُّزْهة]:
"ومَتَى تُوبِعَ السَّيِّئُ الحِفْظِ بِمُعتَبَرٍ، وكذا المستورُ والمُرْسِلُ والمدلِّسُ- صار حديثُهم حَسَناً، لا لِذاته، بل بالمجموع".
لذا صحَّح الحديثَ كلٌّ من الذَّهبيّ في [الميزان]، والهيثميّ في [مجمع الزوائد]، وابن حجر العسقلانيّ في [الفتح]،
*ومن المعاصرينَ:
حماد بن محمد الأنصاري في رسالته [تعريف أهل الإيمان بصحة حديث إن آدم خلق على صورة الرحمن]، وحمود التويجري في [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن]، والشيخ عبد الله الغنيمان في [شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري]. منقول من [إثبات صفة الصورة لله -جل وعلا-] لعبد الجليل مبرور.
وانظر [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن](ص/24).
*تنبيه مهم:
ما يُروى عن الإمام مالك رحمه الله من كراهته التحديثَ بأحاديث الصورة، فالجواب عليه مِن وُجوهٍ:
1 -
أن الإسناد إليه في ذلك فيه مَقالٌ، فهو مرويّ عن مِقدامِ بنِ داودَ، وقد تكلم بعض الأئمة في هذا الراوي.
2 -
أن الإمام مالكاً لم يَبْلُغْه حديثُ الصورة.
قال الذهبيّ: "أنكر الإمام ذلك؛ لأنه لم يثبُت عندَه ولا اتّصلَ به، فهو معذورٌ".
(1)
3 -
أنّ الإمام مالك -على تقدير أنه ثَبَتَ عنه النهي عن التحديث بحديث الصورة- لعلَّه كان يخشى أن يكون في التحديث بذلك فتنةٌ لبعض الناس، فيشبّهوا اللهَ بخلقه، أو يتأولوا الحديثَ بما يوافق أقوال الجهمية.
وهذا الذي رجحه ابن عبد البَرّ، حيث قال:"وإنما كَرِهَ ذلك مالكٌ خشيةَ الخوض في التشبيه بكيفٍ هاهُنا".
(2)
وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ما أنتَ بمُحَدِّثٍ قوماً حديثاً لا تَبْلُغُه عقولُهم إلا كان لبعضهم فتنةً".
(3)
قال ابن قُدامةَ:
"ومِن أجْل ذلك فقد صحَّ عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أنْ عاقَبَ صبيغ العراقيّ لأجْل سؤاله عن المتشابه".
وقد قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين، إنّا لَقِينا رجلاً يسأل عن تأويل القرآن، فقال: اللهُمَّ أَمْكِنِّي منه. قال: فبَيْنَما عُمَرُ رضي الله عنه ذاتَ يوم يغدي الناس إذْ جاءه عليه ثياب وعِمامة، فتغدى حتى إذا فَرَغَ قال: يا أمير المؤمنين، {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً *
(1)
وانظر [سِيَر أعلام النبلاء](8/ 104)، و [دفع إيهام التشبيه](ص/178).
(2)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 150)
(3)
مقدمة صحيح مسلم (1/ 11).
فَالْحَامِلاتِ وِقْراً}
[الذاريات: 1 - 2]، فقال عمر: أنت هو؟ فقام إليه، فحَسَرَ عن ذراعيه، فلم يَزَلْ يَجلِده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفسي بيده، لو وجدتك محلوقاً لَضربتُ رأسك، أَلْبِسوه ثيابَه، واحْمِلُوه على قتب، ثم أَخْرِجوه حتّى تَقْدُموا به بلادَه، ثُمَّ لْيَقُمْ خطيبٌ، ثمَّ لْيَقُلْ:
إنّ صبيغاً طلبَ العلمَ فأخطأَ، فلم يَزَلْ وضيعاً في قومه حتى هَلَكَ وكان سيّدَ قومِه. وهو ظاهر الدلالة على ما ذهب إليه مالك.
(1)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"الشيء قد يُمنع سماعُه لبعض الجُهّال وإنْ كان متفَقاً عليه بين علماء المسلمين".
(2)
** ولكنّ القول ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وأما إنْ قيل: إنّ مالكاً كرِه التحدُّثَ بذلك مُطلَقاً فَهَذَا مَرْدُودٌ على مَن قالَه؛ فقدْ حدَّثَ بهذه الأحاديثِ مَن هم أجلُّ مِن مالكٍ عند نفسه وعند المسلمين، كعبد الله بن عمرَ، وأبي هريرة، وابن عباس، وعطاء بن أبي رَباحٍ، وقد حدَّثَ بها نظراؤه، كسفيان الثوريّ، والليث بن سعد، وابن عُيينة؛ والثوريُّ أعلمُ من مالكٍ بالحديث، وأحفظه له".
(3)
*فرع: معنى الصورة:
الصورة في اللغة: الشكل، والهيئة، والحقيقة، والصفة، فكل موجود لا بد أن يكون له صورة.
قال ابن الأَثير: "الصُّورة تَرِد في كلام العرب على ظاهرها، وعلى مَعْنَى: حقيقة
(1)
[قاعدة مهمة فيما ظاهرُه التأويلُ من صفات الرب](ص/87). وأثرُ عمرَ رضي الله عنه قد أخرجه الآجريّ في [الشريعة](1/ 210)، وابن بَطّة في [الإبانة](330)، وسنده صحيح.
(2)
[بيان تلبيس الجهمية](6/ 445).
وقد ترجم البخاري لمثل هذا المعنى، فقال رحمه الله-فى الصحيح:"باب مَن تركَ بعض الاختيار مَخافَةَ أنْ يَقْصُرَ فَهْمُ بعضِ الناسِ عنهُ، فيقعوا في أشدَّ مِنْهُ"، وفي باب آخر قال:
"باب مَن خَصَّ بالعِلم قوماً دُونَ قَوْمٍ كَراهِيَةَ ألّا يَفهموا"، وأوردَ بعدَه قولِ عليٍّ:"حدِّثوا الناسَ بما يَعرفون! أتُحبّونَ أن يكذَّب اللهُ ورسولُه؟! ".
وانظر [الضعفاء الكبير](2/ 251)، و [عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن](ص/10).
(3)
[دقائق التفسير](2/ 172).
الشيء وهيئته، وعلى معنى: صفته".
(1)
فأهل السنة قد أثبتوا صفة الصورة لله عز وجل على ظاهرها، وقالوا بمعناها على مقتضاها في لغة العرب، فالصورة في اللغة غير مجهولة، وكيفيتها غير معقولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وإنما لم يتعرَّضِ السَّلَفُ للكلام عن الكيف لأنّ الكَيْف مجهولٌ.
** أما ما نُقل عن بعض الأئمة من القول بتفويض معنى الصورة -كالنووي، والذهبي
(2)
- فهو خلاف ما ثبت عن جماهير السلف: فالصورة ليست حروفاً لا يُعلم معانيها كما يقال -مثلاً -في الحروف المقطَّعة "الم" أو "عسق"، بل الصورة في اللغة معلومة.
وأما المفوِّضة فقد جعلوا الصفات -ومنها صفةُ الصورة- من حيث المعنى: كالحروف المقطَّعة.
*وقد نصَّ الإمام الآجريّ على صحيح قول جماهير السلف في صفة الصورة، فقال:
"هذه من السُّنن التي يجب على المسلمين الإيمان بها، ولا يقال فيها: كيف؟ ولِمَ؟ بل تُستقبل بالتسليم والتصديق وترْك النظر، كما قال مَن تقدَّمَ من أئمة المسلمين". اهـ.
(3)
(1)
[النهاية](3/ 59).
(2)
قد نصَّ النوويُّ أن: جمهور السلف على ترك التعرض لمعنى الصورة، حيث قال:
"وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنَّ اللهَ خلقَ آدمَ على صُورته» فهو من أحاديث الصفات
…
وأنّ مِن العلماء مَن يُمسك عن تأويلها، ويقول: نؤمن بأنها حق، وأنّ ظاهرَها غيرُ مرادٍ، ولها معنًى يَليق بها. وهذا مذهب جمهور السلف، وهو أحوطُ وأسلمُ" ا. هـ.
[المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحَجّاج](16/ 165 - 166).
وممن قالوا بذلك: الإمام الحافظ الذهبيّ، حيث قال:
"أما معنى حديث الصورة فنرُدُّ عِلمه إلى الله ورسوله، ونَسكُتُ كما سكتَ السلفُ، مع الجَزْمِ بأنّ الله ليس كمثله شيءٌ". [ميزان الاعتدال](2/ 420)
وفي موضعٍ آخرَ في كتابه [سير أعلام النبلاء](5/ 450) قال عَقِبَ حديثِ الصورة:
"فنؤمن، ونفوِّض، ونُسَلِّم، ولا نخوض فيما لا يَعنينا، معَ عِلمِنا بأن الله ليس كمثله شيء". اهـ.
* وكذلك قال المباركفوري:
"ذهبَ السلفُ في أمثال هذا الحديث -إذا صحَّ-: أنْ يُؤمَنَ بظاهره، ولا يفسَّر بما يفسَّرُ به صفات الخلق، بل يُنفى عنه الكيفية، ويُوكَل عِلمُ باطنه إلى الله تعالى"[تحفة الأَحْوَذِيّ](9/ 73).
وكل هذا كلامٌ فيه نظرٌ.
(3)
وانظر [الشريعة](رقم/725).
وهنا سؤال: إذا كان هذا هو القول الراجح، فما تأويل الحديث؟
*والجواب:
أن الله -تعالى- خلق آدم عليه السلام على صورته، أي: على صورة الله عز وجل، ولكن ليست الصورة كالصورة، فلله -تعالى- صورة، وله وجه، وله يد، وله عين
…
، والله عز وجل خلق آدم على صورته، ولكن ليست اليد كاليد، وليست العين كالعين، وليس الوجه كالوجه، والقاعدة هنا أنّ التساوي في الاسم لا يستلزم التساوي في المسمَّى.
*ومثاله:
أنني حينما أقول للإنسان يد، وللفيل يد، فهل استلزم من تساوي الاسم وقوع التساوي في المسمَّى؟!
، وحينما أقول:" أمسكت بيد أخي"، فهذا لا يشبه بوجه قولى "أمسكت بيد الإبريق"، فهذه مخلوقات تشابهت بينها الأسماء دون الدلالات، فكيف بالفارق بين الخالق والمخلوق؟!!
* وكذلك مُطلَق المشابَهة لا يستلزم المشابَهة المطلَقة، فوجود مشابَهة بين الله -تعالى- وعباده في
الأسماء لا يستلزم المشابَهة المطلَقة الكاملة فى ذات المسمَّى، فقوله صلى الله عليه وسلم:
«خلقَ اللهُ آدمَ على صورته» يقتضي نوعاً من المشابهة، ولا يقتضي تماثلاً في حقيقة ولا قدْر، ومن المعلوم أنّ الشيئين المخلوقين قد يكون أحدهما على صورة الآخر مع التفاوُت العظيم بين جنس ذاتيهما وقدر ذاتيهما.
** قال ابن عباس رضي الله عنهما:
" لا يُشبه شَيءٌ مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء"، وفي رواية:"ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماءُ".
(1)
وهذا مصداقاً لقوله تعالى عن أهل الجنة (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا)(البقرة: 25)}، يعني في اللون والمرأى وليس يشبه في الطعم.
فإذا كانت المشابهة بين ما في الدنيا وما في الجنة لا تكون إلا في الأسماء فحسْب،
(1)
رواه ابن جَرير في تفسيره (1/ 66)، وصححه الألباني في [صحيح الترغيب](3769).
وهي مخلوقات مِن خلْق الله عز وجل؛ فما بالُكَ في الفارق بين الخالق والمخلوق؟!
فالذين يفرّون من حديث الصورة لم يعرفوا مِن إثبات الصفات إلا ما كان لازِمُه التشبيه، ففرُّوا من الإثبات، فوقعوا في التعطيل!
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: " أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ "
(1)
، هل معنى ذلك أنهم يدخلون في صورة القمر، لا رؤوس لهم، ولا عيون، ولا مَلامِح؟!
- 3 ومن الفوائد المتعلقة بحديث الباب:
إثبات الصورة لله عز وجل:
وهي صفة ذاتية خبرية لله عز وجل، وقد ثبتت بالسنة والإجماع، ومن أدلة ثبوتها:
1 -
حديث الباب، وذلك على ما ذكرْنا ورجّحنا أنَّ الهاء تعود إلى الله عز وجل، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:«خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ على صُورَتِهِ» ، وما ذكرناه من صحة رواية «على صُورةِ الرَّحْمَنِ» .
2 -
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«أَتَانِي اللَّيْلَةَ رَبِّي تبارك وتعالى فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، هَلْ تَدْرِي فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟
…
»
(2)
.
قال أبو يَعْلَى: "قوله صلى الله عليه وسلم: «رأيتُ ربِّي في أحسنِ صُورةٍ»، هذا فيه جواز إطلاق الصورة على الله تعالى".
(3)
3 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هَلْ نَرَى ربَّنا يَوْمَ القيامةِ؟ فقال عليه الصلاة والسلام:«هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟» ، قالوا: لا يا رسول الله
…
...
…
وفيه:
«يَجْمَعُ الله الناسَ يومَ القيامةِ، فيقولُ: مَن كان
(1)
متفق عليه.
(2)
أخرجه أحمد (3484)، والترمذي (3233)، وقال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح. سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(3)
[إبطال التأويلات](1/ 126).
يعبدُ شيئاً فلْيَتَّبِعْهُ، فيَتَّبِعُ مَن كان يعبدُ الشمسَ الشمسَ، ويتّبعُ مَن كانَ يعبدُ القمرَ القمرَ، ويتّبعُ مَن كان يعبدُ الطواغيتَ الطواغيتَ، وتَبقى هذه الأُمَّة فيها مُنافِقوها، فيأتِيهِمُ اللهُ تبارك وتعالى في صُورةٍ غيرِ صورتِه التي يَعْرِفونَ، فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولونَ: نعوذُ بالله منكَ، هذا مَكانُنا حتى يأتينا ربُّنا، فإذا جاء ربُّنا عَرَفناه، فيأتِيهِمُ الله - تعالى - في صورته التي يعرفون، فيقولُ: أنا ربُّكم، فيقولونَ: أنت ربُّنا، فيتّبعونه».
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لفظ "الصورة" في الحديث: كسائر ما وردَ من الأسماء والصفات التي قد يسمَّى المخلوقُ بها على وجه التقييد، وإذا أُطْلِقَتْ على الله اختصّت به، مثل: العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير، ومثل خَلْقه بيديه، واستوائه على العرش، ونحو ذلك".
(2)
** قال أبو محمدٍ ابنُ قُتيبةَ:
"والذي عندي - والله تعالى أعلم - أن الصُّورة ليست بأعجبَ من اليدين والأصابع والعين، وإنما وقعَ الإلْفُ لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشةُ من هذه لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيءٍ منه بكيفية ولا حدٍّ".
(3)
* فرع:
وهنا مسألة من الأهمية بمكان:
إن مخالفة إمام من أئمة أهل السنة لجماهير العلماء في إثبات صفةٍ ما: لا يُعَدُّ قَدْحاً في ذلك الإمام، ولا يُخرجه عن كونه من أئمة أهل السنة والجماعة، وإلا فلو أنّ كل عالِمٍ توقَّفَ فيه العلماءُ لِزلّة لَما سَلِمَ لنا عالِم
…
لذا لا بد هنا من التفريق بين إمام من أئمة السنة نَفَى صفةً عن الله عز وجل باجتهادٍ قد أَدَّى به إلى ذلكَ لِكَوْنِه رأى هذا الدليلَ بعينه ليس صريحاً في إثبات تلك الصفة، مع كونه متفقاً مع أهل السنة في إثبات سائر الصفات لله عز وجل، وبينَ مَن جعلَ نفْي
(1)
أخرجه البخاري (6573)، ومسلم (182).
(2)
[نَقْضُ التأسيس](3/ 396).
(3)
[تأويل مختلف الحديث](261).
الصفات كُلِّيَّةً أصلاً يَرْكَنُ إليه، ويطعن -أيضاً- فيمن أثبتَ الصفاتِ الإلهيّةَ، ويَرميه بالتجسيم والتشبيه!
(1)
…
وتطبيق ذلك:
ما نص عليه العلماء من مخالفة الإمام ابن خُزيمة في تأويله لحديث الصورة تأويلاً قد خالف فيه جماهيرَ السلف لاجتهادٍ منه في ذلك، مع كونه موافقاً لجماهير السلف في أصل إثبات الصفات الإلهية
(2)
…
فقد نص الإمام أحمد رحمه الله لَمّا سُئل عن حديث الصورة ومَن يقول فيه:
إن الله خلق آدم على صورته: أي: على صورة آدم، أو على صورة المضروب، أو نحو ذلك؛ قال الإمام أحمد:"هذا قول الجهمية".
(1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
"ومِثلُ هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمينَ يوالون عليه ويعادون- كان من نوع الخطأ. واللهُ -تعالى- يغفرُ للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك! ". [مجموع الفتاوى](3/ 349).
هذه إشارة إلى معنى في فقه السلف رحمهم الله لأحكام المخالفين، وهو أن: من اختص ببدعة من البدع ونَصَبَها شِعاراً يُوالي ويعادي عليه وفارَقَ به الإجماعَ الذي عليه الصحابة رضي الله عنهم فهذا الانتصار لا يكون إلا من طُرق أهل البدع الخارجينَ عن السنة والجماعة؛ وهؤلاء -في الجُملة- على قدر من التفريط والتقصير في تحقيق ما يجب عليهم من العلم والعمل.
* وذلك يخالف ما وردَ من أقوال لبعض الأعيان من أهل السنة هي من البدع المخالفة للإجماع، وقد عَرَضَ له شيء من الخطأ في بعض مقامات أصول الدين عُروضاً قد يَخفى فيما هو مِن مثل هذا؛ فهذا -وإنْ كان قوله الذي عَرَضَ له بدعةً مخالفة للإجماع، وقد أنكره السلفُ، وشددوا فيه- صاحِبُه لا يخرج به عن السنة والجماعة ويجعله من أصحاب البدع، بل يُعد من أصحاب السنة على هذا القدْر من التعليق في شأنه، ويكون خطؤه في الجملة من باب الخطأ الذي اجتهد فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال:«وإذا اجتهدَ فأخطأَ فله أَجْرٌ» كما في حديث عمرو بن العاص في الصحيحين. =
=وهذا يَعني أنّ ثَمَّةَ أقوالاً هي في الأصل من أقوال أهل البدع والضلال عَرَضَتْ لبعض الفضلاء من الفقهاء أو من أصحاب السنة والجماعة
…
فهذه الأقوال سمَّاها السلف بأسماءٍ، إلّا أنّ مَن عَرَضَتْ له لا يجوز أن يسمَّى بأسماء هذه الكلمات؛ فلا يَلزم من تسمية السلف لهذه: أنّ مَن عرضت له هذه الكلمات يسمى بهذه الأسماء من جهة الخُروج من السنة، فضلاً عن جهة التكفير، فضلاً عما هو فوق ذلك كالمآلات في الآخرة!
(ذكره يوسف الغفيص تعليقاً على الكلام السابق لشيخ الإسلام).
(2)
قال ابن خزيمة بعد أن أورد أحاديث الصورة: "توهَّمَ بعضُ من لم يتحرَّ العلمَ أنّ قوله «على صورته» يُريدُ صورةَ الرحمن! عزَّ ربُّنا وجلَّ عن أن يكون هذا معنى الخبرِ". [التوحيد] لابن خزيمة (ص/ 84).
ومع هذا فإن إمام الأئمة ابنَ خزيمة رحمه الله عَرَضَ له هذا القول، ولم يكن تجهُّماً من ابن خزيمة، ولا يجوز أن يسمى جهمياً، ولا أن يقال: إنّ حُكمه حُكم الجهمية، ولا أن يقال: إنه يُذم بما ذم السلفُ به الجهميةَ
…
إلى أمثال ذلك.
وإنْ كان قول ابن خزيمة رحمه الله ليس من أقوال أهل السنة وإنما دخلَ عليه من أقوال أهل البدع، فإنّ أهل السنة قولُهم في هذا معروف محفوظ. ** وقد اعتذر له الإمام الذهبيّ، فقال: "ولابنِ خزيمةَ عظمةٌ في النفوس، وجلالةٌ في القلوب؛ لِعلمه ودينه واتباعه السنةَ. وكتابه في (التوحيد) مجلَّد كبير، وقد تأوَّلَ في ذلك حديثَ الصورة؛ فلْيَعْذُر مَن تأوَّلَ بعضَ الصفات، وأما السلفُ فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكَفُّوا، وفوَّضوا عِلْمَ ذلك إلى الله ورسوله.
ولو أنّ كل مَن أخطأ في اجتهاده -مع صحة إيمانه، وتوخِّيه لاتّباع الحق- أهدرناه وبدَّعناه، لَقَلَّ مَن يسلَم من الأئمة معنا. رَحِمَ الله الجميع بِمَنِّهِ وكَرَمه! ".
(1)
** وقد نقل شيخ الإسلام عن الحافظ أبي موسى المديني فيما جَمَعَه من مناقب الإمام الملقَّب بقِوام السّنّة أبي القاسم إسماعيل بن محمد التَّيْمِيّ، صاحب كتاب [الترغيب والترهيب]، قال:
"سمعته يقول:
"أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة، ولا يُطعن عليه بذلك، بل لا يؤخذُ عنه فحسْب.
قال أبو موسى: أشار بذلك إلى أنه قَلَّ مِن إمامٍ إلا وله زَلّةٌ، فإذا تُرك ذلك الإمامُ لأجل زَلّته تُرك الكثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يُفعلَ". اهـ.
(2)
قال الشاطبيّ:
"زلة العالم لا يصح اعتمادها، ولا الأخذُ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالَفة للشرع، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبُها إلى التقصير، ولا أن يُشَنَّعَ عليه بها، ولا يُنتقصُ من أجْلها، أو يُعتقدُ فيه الإقدام على المخالفة بَحْتاً؛ فإنّ
(1)
[سير أعلام النبلاء](14/ 374)
(2)
[بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بِدَعهم الكلامية](6/ 410).
هذا كله خلافُ ما تقتضي رُتْبَتُه في الدِّين".
(1)
** قلت:
…
مَن أراد شيخاً بلا زَلّة فلا يزال عِلْمُه إلى قِلّة
…
* ثم يقال:
وهل يُجْزَمُ بأنّ الإمام ابن خُزيمةَ رحمه الله ينفي أصل صفة الصورة عن الله عز وجل؟ بل غاية ما في المسألة: أنه رأى أن نَصّاً بعينه ليس دالّاً على إثباتها، مع كون صفة الصورة ثابتة بالأدلة الأخرى.
* ولو تنزلنا وقلنا إنه لا يقول بأصل ثبوتها، فقد أثبتَ رحمه الله سائر صفات الرب على طريقة السلف.
وبهذا يتبين لنا أصلٌ من الأهمية بمكان، ألا وهو أن ما وقع من اختلاف بين السلف في مسائل الاعتقاد -على قلّته- إنما هو اختلاف في التطبيق، وليس اختلافاً في التأصيل
(2)
، بمعنى: أنهم مع اتفاقهم على أصل إثبات الصفات لله تعالى، قد يختلفون في نصٍّ ما هل هو من نصوص الصفات أم لا.
* الفائدة الأخيرة:
في حديث الباب دلالة واضحة على إبطال نظرية (دَارْوِن) Darwin " " التي نصّت على مسألة تطور الجنس البشري، وأن الإنسان أصله قِرْد.
وهي نظرية كاذبة خاطئة، قد لَفَظَها كثيرٌ من الجامعات في الخارج
…
فما نصَّتْ عليه هو كلام منكر وباطل، ومخالف لكتاب الله عز وجل، ولسُنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ولإجماع سلف الأمة.
وقد اشتَهَرَ هذا القول عن المدعوّ دَارْوِنْ، وهو كاذب فيما قال، بلْ أصلُ الإنسان
(1)
[الموافَقات](ص/137).
(2)
كاختلافهم -مثلاً- في إثبات صفة (الشِّمال) لله عز وجل مع أصل اتفاقهم على إثبات صفة (اليد) لله تعالى، وكاختلافهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلةَ المِعْراج مع اتفاقهم أن الله -تعالى- يُرى في الآخرةِ.
هو أصل الإنسان على حاله المعروفة، ليس أصله قرداً، بل أصل الإنسان: آدم عليه السلام الذي خلقه الله من تراب كما قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12]،
وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعاً، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّةَ: عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ»
(1)
فهو مخلوق من التراب، خلقَه الله -تعالى- على صورته، طوله ستون ذراعاً في السماء، ثم لم يَزَلِ الخلق ينقصُ حتى الآن.
فهو مخلوق على هذه الصفة التي نشاهدها، فأولاده كأبيهم، مخلوقون على خِلقة أبيهم، وليسوا على شكل القِرَدة، بل القِرَدةُ أمّة مستقلة لها خِلْقتها ونشأتها وخصائصها.
قال الشيخ أحمد شاكر:
آيات القرآن الصريحة المتكاثرة، والأحاديث الصحيحة المتواترة كلها قاطعة الدلالة على أن الله -تعالى- خلق آدم على صورته وهيئته التي توارثها عنه أبناؤه إلى اليوم، والتي يتوارثها من سيكون من نسله إلى قيام الساعة.
وهي أدلة صريحة لا تحتمل تأويلاً، ولا تقبل جدلاً في دلالتها.
فمن عجب أن يأتي من ينتسبون إلى الإسلام، ويتسمون بأسماء المسلمين، فيقبلوا نظرية التطور الإفرنجية، التي يقول داروين وأتباعه وأشباهه يقبلونها ويسلِّمون بها، ويؤمنون إيمانهم بالقطعي من الدين، بل أشد وأوثق.
ثم يتأولون الدلائل القطعية الثبوت والدلالة، من الكتاب والسنة، فيحرفونها عن مواضعها، كما فعل اليهود في دينهم من قبل، ثم لا يستحون أن ينكروا الأحاديث المتواترة المعنى في ذلك.
ثم يدور كلامهم وأدبهم وعلومهم على حساب هذه النظرية التي لم تثبت قط، والتي لا تقوم أمام النقد، والتي تتهافت تهافتاً شديداً.
ثم يزعمون بعد ذلك أنهم مسلمون، ويسمون أنفسهم علماء وهم مقلدون! تعالى الله عمَّا يفترون.
(2)
(1)
أخرجه البخاري (3326).
(2)
حكم الجاهلية (ص/190)
-ويقول محمد الغزالي:
ومع أن النظرية منقوضة من جوانب كثيرة، ومع أن هناك من علماء الأحياء من رفضها جملة وتفصيلًا، فإن أعداداً من الناس لا تزال تروج لها، بل إن هذه النظرية لا تزال تدرس في بلادنا وكانها حقيقة علمية! والسبب في ذلك أن سدنة المذاهب وسماسرة الإلحاد الزاحف من الشرق والغرب يريدون إقناعنا بأننا من الأرض وحدها تخلقنا، وأن الروح الذي نسمو به ونسود بقية الأحياء لم يجئ من الله!
فهم لا يعترفون به!
إنه ظاهرة أرضية بحتة!
إن آدم اكتسب مكانته وكرامته بعد أن نفخ الله -تعالى- فيه من روحه بهذه النفخة العلوية أضحي كائناً جديراً بأن تسجد له الملائكة.
ولولا هذه النفخة لكنت نوعاً من الأنواع التي تحدث داروين عنها، ولكنت من أسرة متفاوتة الأفراد من زواحف وسباع ومن طيور وأنعام!!
(1)
** وعليه فالأظهرُ -والله أعلم- أنّ من قال بهذه النظرية الكاذبة -بعد علمه بما جاء به الشرعُ- يكون كافراً؛ لأنه مكذِّب لله -تعالى -ورسوله صلى اله عليه وسلم، مكذِّب للكتاب والسنة وإجماع الأمة.
** ويؤيِّده:
لو كان الأمر كما قال صاحب تلك النظرية لَما جعل الله -تعالى- مَسْخَ مَن تحايَلَ على شرعِهِ عقوبةً رادعةً، قال تعالى:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166].
تم بحمد الله
(1)
وانظر "مائة سؤال عن الإسلام"(ص/184)