المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة - الأربعون العقدية - جـ ١

[أيمن إسماعيل]

فهرس الكتاب

- ‌إهداء

- ‌تقديم فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد حسن عبد الغفار - حفظه الله

- ‌المقدّمة:

- ‌الحديث الأول: ثمار الأراك في شرح حديث الافتراق

- ‌أهم الفوائد المتعلقة بحديث الباب:

- ‌الحديث الثاني: البيان المناط بفوائد حديث ذات أنواط

- ‌ حُسن المَقْصِد يحتاج إلى حُسن العَمَل

- ‌مسألة العذر بالجهل ليست على إطلاقها

- ‌ الفرق بين العَرَّاف والكاهِن:

- ‌ قصة الْكُهَّان:

- ‌ حكم تعلّم "علم التنجيم

- ‌الحديث الرابع: بلوغ العلم شرح حديث أول ما خلق الله القلم

- ‌ بيان أوّلُ المخلوقات التى خلقها الله

- ‌الحديث الخامس: السنة المأثورة في شرح حديث الصورة

- ‌الحديث السادس: المنهاج في شرح حديث الاحتجاج

- ‌ كيفية وقوع المناظرة بين آدم وموسى عليهما السلام:

- ‌ العبد بين المقدور والمأمور:

- ‌الحديث السابع: بذل الأمل شرح حديث على ما كان من العمل

- ‌ هل تَفْنَى الجنة والنار

- ‌الحديث الثامن: إتحاف الجماعة شرح حديث أسعد الناس بالشفاعة

- ‌ أمور تحصل بها شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث التاسع: الفرقان في بيان حقيقة الإيمان

- ‌الحديث العاشر: تبيين المحظور في اتخاذ المساجد على القبور

- ‌ كيف بدأ شرك القبور

- ‌على درب السابقين سار اللاحقون:

- ‌ صور اتخاذ القبور مساجد

- ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

- ‌ شبهات نفاة رؤية الله -تعالى- والرد عليها:

- ‌أهم الأسباب الجالبة لرؤية الله -تعالى- في الآخرة

- ‌ رؤية النساء لربهم في الجنة:

- ‌أقوال العلماء في فيما يستحقه من أنكر الرؤية:

- ‌الحديث الثانى عشر: إعلام الطالبين بفوائد حديث السبعين

- ‌ ما هو حكم الكي

- ‌ هل التوكل ينافي الأخذ بالأسباب

- ‌ جواز استخدام المعاريض:

- ‌هل الرؤى المنامية تصلح أن تكون مصدراً للأحكام الشرعية

- ‌ حكم التداوي:

- ‌الحديث الثالث عشربيان المسلَّمات في شرححديث قلت بَعْدَكِ أربع كلمات

- ‌تاريخ محنة الأمة:

- ‌أقوال الفرق المخالفة والرد عليهم:

- ‌حكم من قال بخلق القرآن:

- ‌ المواثيق الأربعة التي أخذها الله -تعالى- علي عباده

- ‌الحديث الخامس عشر: منحة الغافر شرح حديث أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر

- ‌ أصل الأنواء:

- ‌الحديث السادس عشر: البشارة بشرح حديث الإشارة

- ‌معتقد أهل السنة في أسماء الله تعالى:

- ‌هل الصفات هي الله - تعالى - أم غيره

- ‌ هل تُشرع الإشارة في أحاديث الصفات

- ‌الحديث السابع عشر: التنبيه والإيماء شرح حديث لا تحلفوا بالأباء

- ‌ حكم الحلف بغير الله - تعالى

- ‌الحديث الثامن عشر: الغرة والتحجيل بشرح حديث جبريل

- ‌ الإيمان بالملائكة:

- ‌ الإيمان بالكتب:

- ‌الحديث التاسع عشر: الموالاة بين التفريط والمغالاة "نظرة على حديث حاطب

- ‌ المظاهرة منها ما هو ردة ومنها ما يكون كبيرة

- ‌الحديث العشرون: التوضيح شرح حديث نزول المسيح

- ‌ الإشارات القرآنية الدالة على نزول عيسى عليه السلام:

- ‌ قوله تعالى: {قَبْلَ مَوْتِهِ} هل يعود على عيسى عليه السلام، أم على الكتابىِّ

- ‌وفاة المسيح عليه السلام:

الفصل: ‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

‌الحديث الحادى عشر: حلة الكرامة شرح حديث "هل نرى ربنا يوم القيامة

؟ "

ص: 315

** نص الحديث **

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه-أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«هَلْ تُضَارُّونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ؟» ، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَهَل تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ، لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:

«فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» .

* تخريج الحديث:

أخرجه البخاري (7437) بَابُ: قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، ومسلم (182) بَابُ: مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الرُّؤْيَةِ.

وهذا حديث يمثل أحد أهم ركائز الاعتقاد في بنيان أهل السنة والجماعة والتى تعد أحد العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع.

لذا فقد حرص كل من كتب في عقيدة أهل السنة والجماعة على ذكر رؤية المؤمنين لربهم تعالى.

قال يزيد بن هارون، وهو أحد رواة هذا الحديث:

من كذَّب بهذا الحديث فهو بريء من الله ورسوله، حلف غير مرة، وقد عقَّب الطبري قائلاً: وأقول أنا: صدق رسول الله، وصدق يزيد وقال الحق.

(1)

ورؤية الله -عزوجل- ثابتة بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع والعقل، وكما ذكر ابن حجر رحمه الله ذلك بقوله:

وأدلة السمع طافحة بوقوع ذلك -أى رؤية الله- في الآخرة

(1)

صريح السنة للطبري (ص/20)

ص: 317

لأهل الإيمان دون غيرهم.

(1)

* قال ابن حزم:

والآية والأحاديث الصحاح مأثورة في رؤية الله -تعالى- يوم القيامة موجبة القبول لتظاهرها وتباعد ديار الناقلين لها، ورؤية الله عز وجل يوم القيامة كرامة للمؤمنين لا حرمنا الله ذلك بفضله.

(2)

وفيما يلى تبيين ذلك بشيء من التفصيل:

أولًا: أدلة الكتاب على إثبات الرؤية:

1) قال تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]

و "الزيادة " في هذه الأية قد فسرها النبي-صلى الله عليه وسلم برؤية الله تعالى.

عَنْ صُهَيْبٍ -رضى الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:

" إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نُودُوا: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ مَوْعِدًا عِنْدَ اللهِ مَوْعِدًا لَمْ تَرَوْهُ، فَقَالُوا: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَتُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّارِ، وَتُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ؟ "، قَالَ:" فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْهُ " ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} .

(3)

2) قال تعالى} وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) {(القيامة: 22/ 23)

عَنْ عِكْرِمَةَ: تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا عز وجل نَظَرًا.

(4)

قال ابن القيم: وهذا قول كل مفسر من أهل السنة والحديث.

(5)

(1)

فتح الباري شرح صحيح البخاري (13/ 426)

(2)

الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 3)

(3)

أخرجه مسلم (181) وأحمد (18935)

(4)

أخرجه الآجري في الشريعة (586) وسنده صحيح، وأما ما ورد عن ابن عباس فسنده ضعيف.

و كذلك ما ورد مرفوعاً عند أحمد (5317) والترمذي (2553) ولفظه (إِنَّ أَكْرَمَ أهل الجنة عَلَى اللَّهِ، مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فهو ضعيف جداً؛ في سنده ابن أبي فاختة -، ضعفه غير واحد من الأئمة، وفيه كذلك: علي بن الجنيد، قال عنه الدارقطني: متروك.

(5)

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص/296) وقد بوّب البخاري: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ثم ذكر تحته أحاديث الرؤية.

ص: 318

قال عبدالله بن أحمد:

وجدت في كتاب أبي بخط يده مما يحتج به على الجهمية من القرآن الكريم قوله تعالى

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)).

(1)

فقوله تعالى {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} هنا عدي النظر بـ (إلى) الدالة على الغاية، وهو نظر صادر من الوجوه، والنظر الصادر من الوجوه يكون بالعين؛ بخلاف النظر الصادر من القلوب؛ فإنه يكون بالبصيرة والتدبر والتفكر؛ فهنا صدر النظر من الوجوه إلى الرب عز وجل؛ لقوله:{إِلَى رَبِّهَا} .

(2)

3) قال تعالى} كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ {(المطففين/15)

قال رجل لمالك: يا أبا عبد الله هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة؟

فقال رحمه الله: " لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعير اللهُ الكفارَ بالحجاب، فقال:{كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} .

(3)

قال الشافعى:

فلما حجبهم في السخط كان هذا دليلاً على أنهم يرونه في الرضا، وبه أدين اللَّه، لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى اللَّه لما عبد اللَّه عز وجل.

(4)

4) قال تعالى} وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ {(الأعراف/143)

فلما طلب موسى عليه السلام رؤية ربه -عزوجل- دل ذلك على جواز أصل حصولها وتحققها، وأن رؤيته -تعالى - ليست ممتنعة في الأصل، وإنما جاء المانع لأمر خارج ألا وهو ضعف أهل الدنيا وعدم تحملهم لذلك الأمر.

وإذا كان الجبل لم

(1)

السنة لعبدالله بن أحمد بن حنبل (ص/512)

(2)

شرح العقيدة الواسطية لابن العثيمين (ص/448)

(3)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (808)

(4)

أحكام القرآن (ص/40) ومناقب الشافعي (1/ 419) قال ابن كثير: وهذا الذي قاله الإمام الشافعي-رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية. تفسير القرآن العظيم (8/ 351)

قلت:

وقد ثبت مثل هذا الاستدلال بهذه الأية على رؤية الله -تعالى- عن الإمام أحمد فى كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة"(ص/133)، ونقله عنه ابن بطة فى إبانته الكبرى (1/ 104)

ص: 319

يثبت لما تجلَّى الله - عزوجل- له، فالبشر أضعف بلا شك.

(1)

*يؤيده:

قد أظهرت الأية - لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد- العلة المانعة من تحقق رؤية موسى عليه السلام لربه -عزوجل- والتى هى ضعف الطبيعة البشرية عن تحمل ذلك؛ وذلك قد اتضح بما وقع للجبل لما تجلى له ربه، أما في الآخرة فالأمر مختلف، والقاعدة تقول:

الأحكام تدور مع علتها وجوداً وعدماً، توجد بوجودها وتنتفي بزوالها.

5) قال تعالى (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)(الأحزاب/44) وكذلك قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرالْمُؤْمِنِينَ)(البقرة/223)

وكل الأدلة التى أثبتت اللقاء بين الله -تعالى- وبين خلقه فهى من أدلة إثبات الرؤية،

كقوله صلى الله عليه وسلم ""لَيَلْقَيَنَّ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ لَهُ:

أَلَمْ أُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ؟ أَلَمْ أَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟

(2)

.

* قال أبو العباس أحمد بن يحيي:

أجمع أهل اللغة على أن اللقاء هاهنا لا يكون إلا معاينة ونظراً بالأبصار.

(3)

* قال أبو العباس ابن تيمية:

أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والمسير؛ وقالوا: إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى، واحتجوا بآيات " اللقاء "

على من أنكر رؤية الله في الآخرة من الجهمية كالمعتزلة وغيرهم.

(4)

(1)

حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص/286) وقد ذكر ابن القيم سبعة وجوه في الاستدلال بهذه الأية على رؤية الله -عزوجل - فراجعه إن شئت.

ومن عجيب التحريف المعنوي لهذه الآية عند نفاة الرؤية ما تأوله الأصم والكعبي، وهم من المعتزلة بقولهم: إن قول موسى " أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ":

أي أرني آية أعلمك بها، كما أعلم ما أنظر إليه. فتنتفي الشكوك والشُّبه!! وانظر "شرح العقائد النسفية"(ص/204).

(2)

أخرجه مسلم (2968)

(3)

ذكره ابن القيم مسنداً ثم قال: وحسبك بهذا الإسناد صحة. وانظر حادي الأرواح (ص/288)

(4)

مجموع الفتاوى (6/ 462)

ص: 320

6) قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) {(المطففين/35)

وجه الدلالة: القاعدة " حذف المفعول يؤذن بالعموم "

بمعني:

أنه لمَّا لم يُذكرْالمنظورإليه، كان هذاعاماً لكل ما يتنعمون بالنظرإليه، ولا شك أن أعلى النعيم فيما يُنظرإليه في الجنة إنما هوالنظرإلى وجه الله تعالى؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:

" فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عز وجل ".

(1)

وعليه فتبقي الأية في سياق العموم، فمن خصها بشيء دون شيء كان ملزماً بالمخصِص.

7) قال تعالى} قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي {أه (الأعراف/143)

وجه الدلالة:

والدليل على أنه ممكن أن يُرى في الآخرة بشرطه في الرؤية ما يمكن من استقرار الجبل ولا يستحيل وقوعه، ولو كان محالًا كون الرؤية لقيدها بما يستحيل وجوده، كما فعل بدخول الكافرين الجنة، قيَّد قبل ذلك بما يستحيل من دخول الجمل سمَّ الخياط.

(2)

قال أبو الحسن الأشعري:

فإن قال قائل: فلِم لا قلتم إن قول الله تعالى (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) تبعيد للرؤية؟

قيل له:

لو أراد الله عز وجل تبعيد الرؤية لقرن الكلام بما يستحيل وقوعه، ولم يقرنه بما يجوز وقوعه، فلما قرنه باستقرار الجبل، وذلك أمر مقدور لله سبحانه وتعالى،

(1)

أخرجه مسلم (181)

(2)

أفاده ابن عبدالبر في التمهيد (7/ 153)

ومن التقوّل الباطل للمعتزلة على هذه الحجة زعمهم أن المراد بقوله تعالى (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي) أي: إن استقر مكانه حال تحركه، وهذا ليس بجائز، بل محال، والمعلّق على المحال محال، وهذا بلا شك افتراء واضح المعالم، كامل الأركان، مثال صارخ لمن يعتقد ثم يستدل.

ص: 321

دل ذلك على أنه جائز أن يُرى الله تعالى.

ألا ترى أن الخنساء لما أرادت تبعيد صلحها لمن كان حرباً على أخيها قرنت الكلام بأمر مستحيل فقالت:

ولا أصالح قوماً كنت حربَهمُ

حتى تعود بياضاً حُلْكَةَ القارِ "

(1)

* ثانيا: الأحاديث النبوية في إثبات الرؤية:

قد ثبت بالنقل المتواتر المعنوي من أحاديث النبي -صلي الله عليه وسلم - ما يفيد ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة.

فلقد روي ما يزيد عن ثلاثين صحابياً أحاديث الرؤية، فالنصوص فيها قطعية الثبوت والدلالة؛ لأنها في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم.

وأنشدوا في هذا المعني:

مما تواتر حديث من كذب

ومن بني لله بيتاً واحتسب

ورؤية وشفاعة والحوض

ومسح الخفين وهذي بعض.

* قال ابن كثير:

وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح، من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها؛ وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام.

(2)

قال ابن حجر:

جمع الدارقطني طرق الأحاديث الواردة في رؤية الله-تعالى-في الآخرة فزادت على العشرين، و تتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين، وأكثرها جياد.

(3)

وممن نص على تواتر أحاديث الرؤية من الأئمة:

الذهبي وشيخ الإسلام ابن

(1)

الإبانة عن أصول الديانة (ص/45)

(2)

تفسير القرآن العظيم (/279)

(3)

فتح الباري (13/ 434)

ص: 322

تيمية وابن القيم والآجري، والكتاني صاحب كتاب "المتناثر في نظم المتواتر"، والبيهقي فى كتاب الرؤية.

(1)

وإليك طرفٌ من هذه الأحاديث الصحاح:

1 ما ورد فى حديث الباب:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضى الله عنه- من قوله صلى الله عليه وسلم:

«هَلْ تُضَارُّونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ؟، هَل تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ، لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» .

وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنَّ المؤمنين يرون ربهم كما يرون الشمس والقمر فهذا من باب تشبيه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي؛ فإن الله -تعالى- لا شبيه له ولا نظير، فإنه ليس المقصود تشبيه الله -تعالى - بالقمر، وإنما تشبيه رؤية الله عز وجل برؤية القمر، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم:

" أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ"

(2)

، ولم يلزم من ذلك أنهم مماثلون في الحقيقة للقمر، وهذا مستقر بأصل العقل، والعرب تارة تذكر التشبيه للصفة، وتارةً تذكر التشبيه للموصوف.

(3)

2 -

عنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا تَعْقِلُوا، إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّالِ رَجُلٌ قَصِيرٌ، أَفْحَجُ، جَعْدٌ، أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ، لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ، وَلَا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عز وجل حَتَّى يَمُوتَ.

(4)

فقوله صلى الله عليه وسلم:

" تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عز وجل حَتَّى يَمُوتَ":

دل أن الرؤية ليست منفية على كل حال، فما بعد كلمة "حتى" يغاير في الحكم ما قبلها. ونظير ذلك قوله تعالى (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ)

(1)

وانظر الانتقاد الرجيح شرح الاعتقاد الصحيح (ص/119)

(2)

متفق عليه.

(3)

وانظرالتدمرية (ص/87) ولمعة الاعتقاد (ص/22) و شرح الطحاوية ليوسف الغفيص (ص/7)

(4)

رواه مسلم (2931) وأبو داود (4320) وأحمد (22764)

ص: 323

3 -

وعن عَمَّارِ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه قال:

كان من دُعَاء النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ.

(1)

قال ابن خزيمة:

ألا يعقل ذوو الحِجَا - يا طلاب العلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل ربه ما لا يجوز كونه، ففي مسألة النبي صلى الله عليه وسلم ربه لذة النظر إلى وجهه أبين البيان وأوضح الوضوح أن لله عز وجل -وجهاً يتلذذ بالنظر إليه.

(2)

4 -

عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ -رضى الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِعَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» .

(3)

5 -

عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةً - يَعْنِي البَدْرَ - فَقَالَ:

«إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ:

{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ}

(4)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ:

" لا تضامون " يروى بالتخفيف، أي لا يلحقكم ضيم في رؤيته كما يلحق الناس عند رؤية الشيئ الحسن كالهلال، فإنه يلحقهم ضيم في طلب رؤيته حين يرى، وهو سبحانه يتجلى تجلياً ظاهراً، فيرونه كما ترى الشمس والقمر بلا ضيم يلحقكم في رؤيته، وهذه الرواية المشهورة.

وقيل:

" لا تَضامّون ": بالتشديد، أي لا ينضم بعضكم إلى بعض، كما يَتَضَامّ الناس عند رؤية الشيئ الخفي كالهلال

(5)

"

(1)

أخرجه أحمد (18351)، وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط: صحيح.

(2)

وانظر التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل (ص/13) ومذهب أهل التفويض فى الصفات (ص/413)

(3)

متفق عليه.

(4)

متفق عليه.

(5)

مجموع الفتاوى (16/ 85).

ص: 324

ثالثاً: الإجماع: وقد نقل الإجماع على ذلك جمع كبير من أهل العلم:

* قال ابن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، فقالا: " أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم: ..... وأنه تبارك وتعالى يُرى في الآخرة، يراه أهل الجنة بأبصارهم.

(1)

قال أبو سعيد الدارمي:

أحاديث الرؤية قد أدركنا عليها مشايخنا، ولم يزل المسلمون يروونها ويؤمنون بها ولا يستنكرونها، ومن أنكرها نسبوه إلي الضلال.

(2)

- قال ابن جرير الطبري:

الصواب من القول في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل يوم القيامة، وهو ديننا الذي ندين الله به، وأدركنا عليه أهل السنة والجماعة، فهو: أن أهل الجنة يرونه على ما صحت به الأخبارعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)

*وكذا نقل الإجماع:

الذهبي وابن القيم وابن كثيروأبو الحسن الأشعري والنووي وغيرهم.

(4)

*رابعاً: دليل العقل على إثبات الرؤية:

يتردد الدليل العقلي على إثبات رؤية الله تعالى بين وجهين، أحدهما أرجح وأقوى دلالة من الآخر:

1) الأول: دليل الوجود:

فالعقل شاهد بذلك؛ فإن الرؤية أمر وجودي لا يتعلق إلا بموجود، وما كان أكمل وجوداً كان أحق بأن يُرى، فإن الله -تعالى-أحق بأن يُرى من كل ما سواه؛ لأن وجوده أكمل من وجود كل ما سواه، إذ المعدوم هو الذى لا يُرى.

(5)

(1)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 197)

(2)

الرد على الجهمية (ص/124)

(3)

صريح السنة (ص/20)

(4)

راجع لذلك سير أعلام النبلاء (2/ 167) وحادى الأرواح (ص/337) وتفسير القرآن العظيم (8/ 304) والإبانة (1/ 402)

(5)

الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 201) وشرح الطحاوية لأبي العز (ص/205)

ص: 325

* قال أبو الحسن الأشعري:

ومما يدل على رؤية الله تعالى بالأبصار؛ أنه ليس موجود إلا وجائز أن يريناه الله عز وجل، وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما كان الله عز وجل موجوداً مثبتاً، كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل.

(1)

2) الثانى: دليل الكمال:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

وله الكمال التام في جميع الأمور الوجودية المحضة، فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود، وحينئذ فيكون الله- وله المثل الأعلى- أحقّ بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده، ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا، كما لانستطيع التحديق في شعاع

الشمس.

(2)

* وإنما كان الدليل الثانى هو الأقوى دلالة والأوقع في الحجية العقلية من الأول لأنه ليس كل موجود جائزاً أن يُري؛ فهناك موجودات لا نستطيع رؤيتها، لذا قلنا إن الله -تعالى- إنما أمكننا من رؤيته لكمال ذاته تعالى.

(3)

المخالفون لأهل السنة في باب الرؤية:

هم أهل البدع الذين أبوا إلا أن يخالفوا نهج أهل السنة في هذا الباب، حيث عمدوا إلى إنكار رؤية الله -تعالى- في الأخرة، بل وجعلوا المثبتين لها قوم مشبهة، وزعموا أن الأثار التي تمسك بها من قال بالنظر إلى وجه الله -تعالى -توجب التشبيه؛ لأن النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جهة المرئي، وذلك يقتضي كون المرئي في الجهة.

(4)

(1)

الإبانة عن أصول الديانة (ص/33)

(2)

بيان تلبيس الجهمية (2/ 431)

(3)

المنحة الربانية في أدلة الصفات الإلهية (ص/717)

(4)

قال الزمخشري: وزعمت المشبِّهة - يقصد بهم أهل السنة- أن الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى، وجاءت بحديث مرقوع- أى مفترى - «إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه....) ا. هـ

وقال كذلك عند تفسيره لقوله تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) أي: قد حصل له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط اللَّه والعذاب السرمد، ونيل رضوان اللَّه والنعيم المخلد!

قلت:

أشار به إلى عدم الرؤية؛ لأنَّ رؤيةَ اللَّهِ- تعالى- تُعتبرُ غايةً وراءَ النجاةِ مِن سَخطِ اللَّهِ والنجاةِ من النارِ، وهكذا يتم دس الاعتزاليات بين السطور.

حيث أنَّ طريقةَ الزمخشريِّ في إثباتِ بدعةِ المعتزلةِ ليست بطريقةِ المتقدِّمين من المعتزلةِ الذين يقولون: هذه الآيةُ تدلُّ على كذا مثلًا. ولكنه يأتي بعبارة ظاهرها السلامة وباطنها مشتمل على ما يُريدُ ذِكره من البِدعِ التي تخْفَى على غيرِ المتخصِّصِ.

قال البلقيني: استخرجت من الكشَّاف اعتزالًا بالمناقيش.

وانظرالكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 243) والإتقان في علوم القرآن (ص/244)

ص: 326

وممن أنكر رؤية الله -تعالى-من الفرق:

الجهمية والمعتزلة والزيدية والإباضية وجمهورالشيعة.

قال القاضي عبد الجبار:

وأما أهل العدل بأسرهم والخوارج والزيدية وأكثر المرجئة، فإنهم قالوا: لا يجوز أن يُرى الله -تعالى- بالبصر؛ لأنه ذلك يستحيل.

وقال عن أحاديث الرؤية:

أكثرها يتضمن التشبيه، فيجب القطع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يقله.

(1)

* ما هو حكم من أنكر رؤية الله في الأخرة؟؟

الذي عليه جمهورالسلف أن من جحد رؤية الله -تعالى- في الدار الآخرة فهو كافر؛ لأنه منكر لما تواتر نقله في الكتاب والسنة وأجمعت عليه الأمة.

فإن كان المنكر لذلك ممن يجهل العلم بذلك عُرِّف ذلك كما يُعرَّف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر؛ وذلك أنه هذه المسألة بتكاثرهاوتواردها قد بلغت مبلغ القطع الذى لا يحتمل معه أى تأويل أو شبهة.

*عن الفضل بن زياد قال:

سمعت أحمد بن حنبل، وبلغه عن رجل أنه قال: إن الله تعالى لا يُرى في الآخرة، فغضب غضباً شديداً، ثم قال:

من قال بأن الله تعالى لا يُرى

(1)

وانظرالمغنى فى أبواب العدل والتوحيد (4/ 139) والأصول العشرة للإباضية (ص/199) ومختصر التحفة الاثنى عشرية (ص/96) والمعتزلة وأصولهم الخمسة (ص/127)

ص: 327