الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، نَحْمَدُكَ يَا مَنْ تَنَزَّهَ فِي كَمَالِهِ عَنْ الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَتَقَدَّسَ فِي جَلَالِهِ عَنْ أَنْ تُدْرِكَهُ الْأَبْصَارُ، أَوْ تُحِيطَ بِهِ الْأَفْكَارُ، أَوْ تَعْزُبَ عَنْهُ الضَّمَائِرُ، وَتَأَزَّرَ بِالْكِبْرِيَاءِ وَتَرَدَّى بِالْعَظَمَةِ، فَمَنْ نَازَعَهُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَهُوَ الْمَقْصُومُ الْبَائِرُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ شَهَادَةً يَلُوحُ عَلَيْهَا لِلْإِخْلَاصِ أَمَايِرُ، وَتُبْهِجُ قَائِلَهَا بِأَعْظَمِ الْبَشَائِرِ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِر، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ أَفْضَلُ مَنْ نَسَلْتَهُ مِنْ ظُهُورِ الْأَمَاثِلِ وَبُطُونِ الْحَرَائِرِ، وَأَرْسَلْتَهُ لِخَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ; فَهَدَيْتَ بِهِ كُلَّ حَائِرِ، وَمَحَيْتَ بِهِ مَظَالِمَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَحْيَيْتَ بِهِ مَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَالشَّعَائِرِ. وَوَاعَدْتَهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ وَشَفَّعْتُهُ فِي الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، وَكَمْ بَيَّنَ شَرَائِعَ دِينِكَ الْقَوِيمِ، حَتَّى وَرِثَهَا مِنْ بَعْدِهِ أُولِي الْبَصَائِرِ، صَلَّى اللَّه وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ ذَوِي الْفَضْلِ السَّائِرِ، صَلَاةً وَسَلَامًا نَعُدُّهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْظَمِ الذَّخَائِرِ، دَائِمَيْنِ مَا سَارَ الْفُلْكُ الْجَارِي وَدَارَ الْفَلَكُ الدَّائِرُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَعِلْمُ الْفِقْهِ بُحُورُهُ زَاخِرَةٌ، وَرِيَاضُهُ نَاضِرَةٌ، وَنُجُومُهُ زَاهِرَةٌ، وَأُصُولُهُ ثَابِتَةٌ مُقَرَّرَةٌ، وَفُرُوعُهُ ثَابِتَةٌ مُحَرَّرَةٌ. لَا يَفْنَى بِكَثْرَةِ الْإِنْفَاقِ كَنْزُهُ، وَلَا يَبْلَى عَلَى طُولِ الزَّمَانِ عِزُّهُ. أَهْلُهُ قِوَامُ الدِّينِ وَقُوَّامُهُ، وَبِهِمْ ائْتِلَافُهُ وَانْتِظَامُهُ، هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِهِمْ يُسْتَضَاءُ فِي الدَّهْمَاءِ، وَيُسْتَغَاثُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَيُهْتَدَى كَنُجُومِ السَّمَاءِ، وَإِلَيْهِمْ الْمَفْزَعُ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَالْمَرْجِعُ فِي التَّدْرِيسِ وَالْفُتْيَا، وَلَهُمْ الْمَقَامُ الْمُرْتَفِعُ عَلَى الزَّهْرَةِ الْعُلْيَا، وَهُمْ الْمُلُوكُ، لَا بَلْ الْمُلُوكُ تَحْتَ أَقْدَامِهِمْ، وَفِي تَصَارِيفِ أَقْوَالِهِمْ وَأَقْلَامِهِمْ، وَهُمْ الَّذِينَ إذَا الْتَحَمَتْ الْحَرْبُ أَرَزَ الْإِيمَانُ إلَى أَعْلَامِهِمْ، وَهُمْ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ إذَا افْتَخَرَ كُلُّ قَبِيل بِأَقْوَامِهِمْ:
بِيضُ الْوُجُوهِ، كَرِيمَةٌ أَحْسَابُهُمْ
…
شُمُّ الْأُنُوفِ، مِنْ الطِّرَازِ الْأَوَّلِ
وَلَقَدْ نَوَّعُوا هَذَا الْفِقْهَ فُنُونًا وَأَنْوَاعًا، وَتَطَاوَلُوا فِي اسْتِنْبَاطِهِ يَدًا وَبَاعًا، وَكَانَ مِنْ أَجَلِّ أَنْوَاعِهِ: مَعْرِفَة نَظَائِرِ الْفُرُوعِ وَأَشْبَاهِهَا، وَضَمُّ الْمُفْرَدَاتِ إلَى أَخَوَاتِهَا وَأَشْكَالِهَا.
وَلَعَمْرِي، إنَّ هَذَا الْفَنَّ لَا يُدْرَكُ بِالتَّمَنِّي، وَلَا يُنَالُ بِسَوْفَ وَلَعَلَّ وَلَوْ أَنِّي، وَلَا يَبْلُغهُ إلَّا مَنْ كَشَفَ عَنْ سَاعِدِ الْجِدِّ وَشَمَّرَ، وَاعْتَزَلَ أَهْلَهُ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ، وَخَاضَ الْبِحَارَ وَخَالَطَ الْعَجَاجَ، وَلَازَمَ التَّرْدَادَ إلَى الْأَبْوَابِ فِي اللَّيْلِ الدَّاجِّ، يَدْأَبُ فِي التَّكْرَارِ وَالْمُطَالَعَةِ بُكْرَةً وَأَصِيلَا، وَيُنَصِّبُ نَفْسَهُ لِلتَّأْلِيفِ وَالتَّحْرِيرِ بَيَاتًا وَمَقِيلَا، لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إلَّا مُعْضِلَةً يَحُلُّهَا، أَوْ مُسْتَصْعَبَةٌ عَزَّتْ عَلَى الْقَاصِرِينَ فَيَرْتَقِي إلَيْهَا وَيَحُلُّهَا، يُرَدُّ عَلَيْهِ وَيَرُدُّ، وَإِذَا عَذَلَهُ جَاهِلٌ لَا يَصُدُّ، قَدْ ضَرَبَ مَعَ الْأَقْدَمِينَ بِسَهْمٍ وَالْغُمْرُ يَضْرِبُ فِي حَدِيدٍ بَارِدٍ، وَحَلَّقَ عَلَى الْفَضَائِلِ وَاقْتَنَصَ الشَّوَارِدَ:
وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ
…
أَنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِي وَاحِدٍ
يَقْتَحِمُ الْمَهَامِهَ الْمَهُولَةَ الشَّاقَّةَ، وَيَفْتَحُ الْأَبْوَابَ الْمُرْتَجَةَ، إذَا قَالَ الْغَبِيُّ لَا طَاقَةَ، إنْ بَدَتْ لَهُ شَارِدَةٌ رَدَّهَا إلَى جَوْفِ الْفَرَا، أَوْ شَرَدَتْ عَنْهُ نَادَّةً اقْتَنَصَهَا وَلَوْ أَنَّهَا فِي جَوْفِ السَّمَاءِ. لَهُ نَقْدٌ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْن الْهَبَابِ وَالْهَبَاءِ، وَنَظَرٌ يَحْكُمُ إذَا اخْتَلَفَتْ الْآرَاءُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَفِكْر لَا يَأْتِي عَلَيْهِ تَمْوِيهُ الْأَغْبِيَاءِ، وَفَهْمٌ ثَاقِبٌ لَوْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ خَلْفِ جَبَلٍ قَافٍ لَخَرَقَهُ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهَا مِنْ وَرَاء، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْد، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
هَذَا، وَطَالَمَا جَمَعْت مِنْ هَذَا النَّوْعِ جُمُوعًا، وَتَتَبَّعْت نَظَائِرَ الْمَسَائِل أُصُولًا وَفُرُوعًا حَتَّى أَوْعَيْتُ مِنْ ذَلِكَ مَجْمُوعًا جَمُوعًا، وَأَبْدَيْت فِيهِ تَأْلِيفًا لَطِيفًا، لَا مَقْطُوعًا فَضْلُهُ وَلَا مَمْنُوعًا. وَرَتَّبْتُهُ عَلَى كُتُبٍ سَبْعَةٍ:
الْكِتَابِ الْأَوَّلِ: فِي شَرْحِ الْقَوَاعِدِ الْخَمْسِ الَّتِي ذَكَرَ الْأَصْحَابُ أَنَّ جَمِيعَ مَسَائِلِ الْفِقْهِ تَرْجِعُ إلَيْهَا.
الْكِتَابِ الثَّانِي: فِي قَوَاعِدَ كُلِّيَّةٍ يَتَخَرَّجُ عَلَيْهَا مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ الصُّوَرِ الْجُزْئِيَّةِ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ قَاعِدَةً:
الْكِتَابِ الثَّالِثِ: فِي الْقَوَاعِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَلَا يُطْلَقُ التَّرْجِيحُ لِظُهُورِ دَلِيلِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي بَعْضِهَا وَمُقَابِلِهِ فِي بَعْضٍ، وَهِيَ عِشْرُونَ قَاعِدَةً.
الْكِتَابُ الرَّابِعُ: فِي أَحْكَامٍ يَكْثُرُ دَوْرُهَا، وَيَقْبُحُ بِالْفَقِيهِ جَهْلُهَا: كَأَحْكَامِ النَّاسِي، وَالْجَاهِلِ وَالْمُكْرَهِ وَالنَّائِمِ وَالْمَجْنُون وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْمُبَعَّضِ، وَالْأُنْثَى، وَالْخُنْثَى، وَالْمُتَحَيِّرَةِ، وَالْأَعْمَى، وَالْكَافِرِ، وَالْجَانِّ، وَالْمَحَارِمِ وَالْوَلَدِ، وَالْوَطْءِ، وَالْعُقُودِ، وَالْفُسُوخِ، وَالصَّرِيحِ، وَالْكِنَايَةِ، وَالتَّعْرِيضِ، وَالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ، وَالْمِلْكِ، وَالدَّيْنِ، وَثَمَنِ الْمِثْلِ، وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ، وَمَهْرِ الْمِثْلِ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْمَسْكَنِ وَالْخَادِمِ، وَكُتُبِ الْفَقِيهِ وَسِلَاحِ الْجُنْدِيِّ، وَالرُّطَبِ، وَالْعِنَبِ، وَالشَّرْطِ، وَالتَّعْلِيقِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَالدَّوْرِ، وَالْحَصْرِ، وَالْإِشَاعَةِ، وَالْعَدَالَةِ، وَالْأَدَاءِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْإِعَادَةِ، وَالْإِدْرَاكِ، وَالتَّحَمُّلِ، وَالتَّعَبُّدِيَّةِ، وَالْمُوَالَاةِ ; وَفُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَسُنَنِهَا وَالسَّفَرِ، وَالْحَرَمِ، وَالْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ قَوَاعِدُ وَفَوَائِدُ، وَتَتِمَّاتٌ وَزَوَائِدُ، تُبْهِجُ النَّاظِرَ، وَتَسُرُّ الْخَاطِرَ.
الْكِتَابِ الْخَامِسِ: فِي نَظَائِرِ الْأَبْوَابِ، أَعْنِي الَّتِي هِيَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، مُرَتَّبَةً عَلَى، أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَالْمُخَاطَبُ بِهَذَا الْبَابِ وَاَلَّذِي يَلِيهِ الْمُبْتَدِئُونَ.
الْكِتَابِ السَّادِسِ: فِيمَا افْتَرَقَتْ فِيهِ الْأَبْوَابُ الْمُتَشَابِهَةُ.
الْكِتَابِ السَّابِعِ: فِي نَظَائِرَ شَتَّى.
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ كِتَابٍ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ السَّبْعَةِ لَوْ أُفْرِدَ بِالتَّصْنِيفِ لَكَانَ كِتَابًا كَامِلًا، بَلْ كُلُّ تَرْجَمَةٍ مِنْ تَرَاجِمِهِ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُؤَلَّفًا حَافِلًا.
وَقَدْ صَدَّرْتُ كُلَّ قَاعِدَة بِأَصْلِهَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ، وَحَيْثُ كَانَ فِي إسْنَادِ الْحَدِيثِ ضَعْفٌ أَعْمَلْتُ جَهْدِي فِي تَتَبُّعِ الطُّرُقِ وَالشَّوَاهِدِ لِتَقْوِيَتِهِ عَلَى وَجْهٍ مُخْتَصَرٍ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا تَرَى عَيْنَكَ الْآنَ فَقِيهًا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ بِوَجْهِهِ إلَيْهِ، وَأَنْتَ إذَا تَأَمَّلْتَ كِتَابِي هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ نُخْبَةُ عُمْرٍ، وَزُبْدَةُ دَهْرٍ، حَوَى مِنْ الْمَبَاحِثِ الْمُهِمَّاتِ، وَأَعَانَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ، وَأَنَارَ مُشْكِلَاتِ الْمَسَائِلِ الْمُدْلَهِمَّاتِ، فَإِنِّي عَمَدْتُ فِيهِ إلَى مُقْفَلَاتٍ فَفَتَحْتُهَا، وَمُعْضِلَاتٍ فَنَقَّحْتُهَا، وَمُطَوَّلَاتٍ فَلَخَّصْتُهَا، وَغَرَائِبَ قَلَّ أَنْ تُوجَدَ مَنْصُوصَةً فَنَصَصْتُهَا: وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَامِلَ لِي عَلَى إبْدَاءِ هَذَا الْكِتَابِ أَنِّي كُنْتُ كَتَبْتُ مِنْ ذَلِكَ أُنْمُوذَجًا لَطِيفًا فِي كِتَابٍ سَمَّيْتُهُ (شَوَارِدَ الْفَوَائِدِ: فِي الضَّوَابِطِ وَالْقَوَاعِدِ) فَرَأَيْته وَقَعَ مَوْقِعًا حَسَنًا مِنْ الطُّلَّاب، وَابْتَهَجَ بِهِ كَثِير مَنْ أُولَى الْأَلْبَاب، وَهَذَا الْكِتَاب هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا كَقَطْرَةِ مِنْ قَطَرَات بَحْر، وَشَذْرَة مِنْ شَذَرَات نَحْر.
وَكَأَنِّي بِالنَّاسِ وَقَدْ افْتَرَقُوا فِيهِ فَرْقًا: فِرْقَة قَدْ انْطَوَى عَلَى الْحَسَد جُنُوبُهُمْ، وَرَامَتْ إطْفَاء نُوره بِأَفْوَاهِهِمْ، وَمَا هُمْ بِبَالِغِيهِ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ; وَكَيْف يُقَاس مَنْ نَشَأ فِي حِجْر الْعِلْم مُنْذُ كَانَ فِي مَهْده، وَدَأَبَ فِيهِ غُلَامًا وَشَابًّا وَكَهْلًا، حَتَّى وَصَلَ إلَى قَصْده، بِدَخِيلٍ أَقَامَ سَنَوَات فِي لَهْو وَلَعِب، وَقَطَعَ أَوْقَاتًا يَحْتَرِف فِيهَا أَوْ يَكْتَسِب، ثُمَّ لَاحَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَة إلَى الْعِلْم، فَنَظَرَ فِيهِ وَمَا احْتَكَمَ، وَقَنِعَ مِنْهُ بِتَحِلَّةِ الْقَسَمِ، وَرَضِيَ بِأَنْ يُقَالَ: عَالِمٌ وَمَا اتَّسَمَ؟
أَنَا ابْن دَارَة مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي
…
وَهَلْ بِدَارَةَ يَا لَلنَّاسِ مَنْ عَارِ
عَلَى أَنَّا لَا نَتَّكِلُ عَلَى الْأَحْسَابِ وَالْأَنْسَابِ
…
وَلَا نَكَلُّ عَنْ طَلَبِ الْمَعَالِي بِالِاكْتِسَابِ
لَسْنَا وَإِنْ كُنَّا ذَوِي حَسَبٍ
…
يَوْمًا عَلَى الْأَحْسَابِ نَتَّكِلُ
نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلنَا
…
تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا
وَأَكْثَر مَا عِنْد هَذِهِ الْفِرْقَة: أَنْ تَزْدَرِي بِالشَّبَابِ، وَبِالشَّيْخُوخَةِ افْتِخَارهَا، وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا، وَلَوْ أَنْصَفَتْ لَعَرَفَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ سِمَات الْمَدْح، لَا مِنْ وَصَمَات الْقَدْح، وَكَفَى بِالرَّدِّ عَلَيْهَا عِنْد أُولِي الْأَلْبَاب مَا وَرَدَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا «مَا أُوتِيَ عَالِمٌ عِلْمًا إلَّا وَهُوَ شَابٌّ» .
وَفِرْقَة: غَلَبَ عَلَيْهَا الْجَهْل الْمُرَكَّب، وَبَعُدَ عَنْهَا طَرِيق الْخَيْر وَتَنَكَّبَ، لَا تَبْرَح جِدَالًا وَلَا تَعِي مَقَالًا، وَلَا تُحْسِن جَوَابًا وَلَا سُؤَالًا، لَيْسَ لَهَا دَأْب إلَّا أَكْل الْحَرَام، وَالْخَوْض فِي أَعْرَاض الْأَنَام، وَغَمْص النَّاس نَهَارَا، وَبِاللَّيْلِ نِيَام، فَهَذِهِ لَا تَصْلُح لِخِطَابٍ وَلَا تَأَهَّلَ إذَا غَابَتْ لَأَنْ تُعَاب وَالسَّلَام.
وَفِرْقَة آتَاهَا اللَّه هُدَاهَا، وَأَلْهَمهَا تَقْوَاهَا، وَزَكَّاهَا مَوْلَاهَا، فَرَأَتْ مَحَاسِنه وَسَنَاهَا، وَفَوَائِده الَّتِي لَا تَتَنَاهَى، فَاعْتَرَفَتْ بِشُكْرِهَا وَثَنَاهَا، وَاغْتَرَفَتْ مَنْ بَحْرهَا وَلَمْ يَلْوِهَا عَذْلُ عَاذِلٍ وَلَا ثَنَاهَا، وَارْتَشَفَتْ مِنْ كُؤُوس حُمَّيَاهَا، وَانْتَشَقَتْ مِنْ، شَذَا عَرْفِ رَيَّاهَا، وَهَذِهِ طَائِفَة لَا تَكَاد تَرَاهَا، وَلَا نَسْمَع بِخَبَرِهَا فَوْق الْأَرْض وَثَرَاهَا، فَحَيَّاهَا اللَّه وَبَيَّاهَا، وَأَمْطَرَ عَلَيْنَا سَحَائِب فَضْله وَإِيَّاهَا.
فَصْل اعْلَمْ أَنَّ فَنّ الْأَشْبَاه وَالنَّظَائِر فَنّ عَظِيم، بِهِ يُطَّلَع عَلَى حَقَائِق الْفِقْه وَمَدَارِكه، وَمَآخِذه وَأَسْرَاره، وَيُتَمَهَّر فِي فَهْمه وَاسْتِحْضَاره، وَيُقْتَدَر عَلَى الْإِلْحَاق وَالتَّخْرِيج، وَمَعْرِفَة أَحْكَام الْمَسَائِل الَّتِي لَيْسَتْ بِمَسْطُورَةٍ، وَالْحَوَادِث وَالْوَقَائِع الَّتِي لَا تَنْقَضِي عَلَى مَمَرّ الزَّمَان، وَلِهَذَا قَالَ بَعْض أَصْحَابنَا: الْفِقْه مَعْرِفَة النَّظَائِر.
وَقَدْ وَجَدْت لِذَلِكَ أَصْلًا مِنْ كَلَام عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرَنَا شَيْخنَا الْإِمَام تَقِيُّ الدِّينِ الشُّمُنِّيُّ، أَخْبَرْنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ، أَخْبَرْنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ (ح) وَكَتَبَ إلَيَّ عَالِيًا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُقْبِلٍ الْحَلَبِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحِرَّاوِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ بْنُ خَلِيلٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ (ح) قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ:
وَأَنْبَأَنَا عَالِيًا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُقَيِّرِ، أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ أَحْمَدَ إجَازَة، أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنُ بْنُ الْمُهْتَدِي بِاَللَّهِ قَالَا: أَنْبَأَنَا الْإِمَام أَبُو الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّعْمَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ أَبِي خِدَاشٍ، حَدَّثَنَا، عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ الْهُذَلِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَافْهَمْ إذَا أُدْلِيَ إلَيْكَ