الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ رَأَيْت الزَّرْكَشِيّ قَالَ فِي قَوَاعِدِهِ: ذَكَرَ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ أَخَذْت مِنِّي حَقَّكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ. فَأَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ، حَتَّى أَعْطَى بِنَفْسِهِ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي فِعْلِ الْمُكْرَهِ، وَقَضِيَّتُهُ: تَرْجِيحُ عَدَمِ الْحِنْثِ، وَالْمُتَّجَهُ خِلَافُهُ ; لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ هَذِهِ عِبَارَتُهُ.
[الْقَوْلُ فِي النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ]
ِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ النَّائِمِ، حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمُبْتَلَى حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ» . هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِهَذَا اللَّفْظِ. مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها. وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعُمَرَ بِلَفْظِ:«عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَعْقِلَ» وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْهُمَا بِلَفْظِ «عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» ، وَبِلَفْظِ «عَنْ الصَّبِيِّ، حَتَّى يَحْتَلِمَ» وَبِلَفْظِ «حَتَّى يَبْلُغَ» . وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد: أَنَّ ابْنِ جُرَيْجٍ رَوَاهُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَزَادَ فِيهِ «وَالْخَرِفِ» . وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَثَوْبَانَ وَالْبَزَّارِ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ.
قُلْت: قَدْ أَلَّفَ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ كِتَابًا، سَمَّاهُ " إبْرَازَ الْحُكْمِ مِنْ حَدِيثِ: رُفِعَ الْقَلَمُ "، ذَكَرَ فِيهِ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ فَائِدَةً تَتَعَلَّقُ بِهِ.
وَأَنَا أَنْقُلُ مِنْهُ هُنَا فِي مَبْحَثِ الصَّبِيِّ مَا تَرَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَوَّل مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ: أَنَّ الَّذِي وَقَعَ فِي جَمِيع رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: فِي سُنَنِ أَبُو دَاوُد، وَابْنِ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيّ " عَنْ ثَلَاثَةٍ " بِإِثْبَاتِ الْهَاء " وَيَقَع فِي بَعْض كُتُبِ الْفُقَهَاءِ " ثَلَاثٌ " بِغَيْرِ هَاءٍ.
قَالَ: وَلَمْ أَجِدْ لَهَا أَصْلًا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ: " الْعَقْلُ " صِفَةٌ يُمَيَّزُ بِهَا الْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُزِيلُهُ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ وَالنَّوْمُ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْجُنُونُ يُزِيلُهُ وَالْإِغْمَاءُ يَغْمُرُهُ وَالنَّوْمُ يَسْتُرُهُ.
قَالَ السُّبْكِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ ; لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّائِمِ وَذَكَرَ الْخَرِفَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الْمَجْنُونِ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اخْتِلَاطِ الْعَقْلِ بِالْكِبَرِ، وَلَا يُسَمَّى جُنُونًا ; لِأَنَّ الْجُنُونَ يَعْرِضُ مِنْ أَمْرَاضٍ سَوْدَاوِيَّةِ وَيَقْبَلُ الْعِلَاجَ، وَالْخَرَفُ خِلَافُ ذَلِكَ ;
وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ " حَتَّى يَعْقِلَ " لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَى الْمَوْتِ.
قَالَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ الْخَرَفَ رُتْبَةٌ بَيْنَ الْإِغْمَاءِ وَالْجُنُونِ، وَهِيَ إلَى الْإِغْمَاءِ أَقْرَبُ انْتَهَى. وَاعْلَمْ: أَنَّ الثَّلَاثَةَ قَدْ يَشْتَرِكُونَ فِي أَحْكَامٍ، وَقَدْ يَنْفَرِدُ النَّائِمُ عَنْ الْمَجْنُونِ. وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ تَارَةً يَلْحَقُ بِالنَّائِمِ، وَتَارَةً يَلْحَقُ بِالْمَجْنُونِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ بِفُرُوعٍ الْأَوَّلُ: الْحَدَثُ يَشْتَرِكُ فِيهِ الثَّلَاثَةُ.
الثَّانِي: اسْتِحْبَابُ الْغُسْلِ عِنْدَ الْإِفَاقَةِ لِلْمَجْنُونِ، وَمِثْلُهُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: قَضَاءُ الصَّلَاةِ إذَا اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ الْوَقْتَ، يَجِبُ عَلَى النَّائِمِ، دُونَ الْمَجْنُونِ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونِ.
الرَّابِعُ: قَضَاءُ الصَّوْمِ إذَا اسْتَغْرَقَ النَّهَارَ، يَجِبُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْن الصَّلَاةِ كَثْرَةُ تَكَرُّرِهَا، وَنَظِيرُهُ: وُجُوبُ قَضَاءِ الصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، دُونَ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا النَّائِمُ: إذَا اسْتَغْرَقَ النَّهَارَ وَكَانَ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ صَوْمُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ: أَنَّهُ ثَابِتُ الْعَقْلِ ; لِأَنَّهُ إذَا نُبِّهَ انْتَبَهَ بِخِلَافِهِ، وَفِي النَّوْمِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَضُرُّ كَالْإِغْمَاءِ
وَفِي الْإِغْمَاءِ وَجْهٌ: أَنَّهُ لَا يَضُرُّ كَالنَّوْمِ، وَلَا خِلَافَ فِي الْجُنُونِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَغْرِقِ مِنْ الثَّلَاثَةِ، فَالنَّوْمُ لَا يَضُرُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي الْجُنُونِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ الْبُطْلَانُ ; لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلصَّوْمِ، كَالْحَيْضِ وَقَطَعَ بِهِ بَعْضُهُمْ.
وَفِي الْإِغْمَاءِ طُرُقٌ:
أَحَدُهَا: لَا يَضُرُّ إنْ أَفَاقَ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ.
وَالثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ إنْ أَفَاقَ فِي أَوَّلِهِ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْأَصَحُّ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أَظْهَرُهَا لَا يَضُرُّ إنْ أَفَاقَ لَحْظَةً مَا.
وَالثَّانِي: فِي أَوَّلِهِ خَاصَّةً.
وَالثَّالِثُ: فِي طَرَفَيْهِ.
وَالرَّابِعُ: يَضُرُّ مُطْلَقًا فِيهِ، فَتُشْتَرَطُ الْإِفَاقَةُ جَمِيعَ النَّهَارِ.
وَالْفَرْعُ الْخَامِسُ: الْأَذَانُ لَوْ نَامَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَثْنَاءَهُ، ثُمَّ أَفَاقَ، إنْ لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ بَنَى، وَإِنْ طَالَ، وَجَبَ وَالِاسْتِئْنَافُ عَلَى الْمَذْهَبِ.
قَالَ فِي شَرْحَ الْمُهَذَّبِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْجُنُونُ هُنَا كَالْإِغْمَاءِ.
السَّادِسُ: لَوْ لَبِسَ الْخُفَّ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى مَضَى يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ انْقَضَتْ الْمُدَّةُ.
قَالَ الْبُلْقِينِيُّ: وَلَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا تُحْتَسَبُ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ ; لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، بِخِلَافِ النَّوْمِ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، قَالَ: وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ. السَّابِعُ: إذَا نَامَ الْمُعْتَكِفُ حُسِبَ زَمَنُ النَّوْمِ مِنْ الِاعْتِكَافِ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَيْقِظِ. وَفِي زَمَانِ الْإِغْمَاءِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا يُحْسَبُ. وَلَا يُحْسَب زَمَنُ الْجُنُونِ قَطْعًا ; لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا فِي حَالِ الْجُنُونِ.
الثَّامِنُ: يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُحْرِمَ عَنْ الْمَجْنُونِ بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ.
التَّاسِعُ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ لَا يَصِحُّ مِنْ الْمَجْنُونِ ; وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ فِي الْأَصَحِّ، بِخِلَافِ النَّائِمِ الْمُسْتَغْرِقِ فِي الْأَصَحِّ.
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ الْمُتَوَلِّي - وَأَقَرَّهُ -: أَنَّهُ إذَا لَمْ يُجْزِهِ فِي الْمَجْنُونِ يَقَعُ نَفْلًا، كَحَجِّ الصَّبِيِّ، وَكَذَا الْمُغْمَى عَلَيْهِ، كَمَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ.
الْعَاشِرُ: يَصِحُّ الرَّمْيُ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، مِمَّنْ أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الْإِغْمَاء، فِي حَالٍ تَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِنَابَةُ، قَالَ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ: وَالْمَجْنُونُ مِثْلُهُ، صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ، كَالْوَكَالَةِ إلَّا فِي رَمْي الْجِمَارِ، وَالْإِيدَاعِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالنَّوْمِ. وَفِي الْإِغْمَاءِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا كَالْمَجْنُونِ.
الثَّانِي عَشَرَ: يَنْعَزِلُ الْقَاضِي بِجُنُونِهِ وَبِإِغْمَائِهِ بِخِلَافِ النَّوْمِ.
الثَّالِثَ عَشَرَ: يَنْعَزِلُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ بِالْجُنُونِ: وَلَا يَنْعَزِلُ بِالْإِغْمَاءِ ; لِأَنَّهُ مُتَوَقَّعُ الزَّوَالِ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: إذَا جُنَّ وَلِيُّ النِّكَاحِ، اُنْتُقِلَتْ الْوِلَايَةُ لِلْأَبْعَدِ، وَالْإِغْمَاءُ إنْ دَامَ أَيَّامًا فَفِي وَجْهٍ: كَالْجُنُونِ، وَالْأَصَحُّ لَا، بَلْ يُنْتَظَرُ كَمَا لَوْ كَانَ سَرِيعَ الزَّوَالِ.
الْخَامِسَ عَشَر: يُزَوِّجُ الْمَجْنُونَ وَلِيُّهُ بِشَرْطِهِ الْمَعْرُوفِ وَلَا يُزَوِّجُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَمَا يُفْهَمَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَهُوَ نَظِيرُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ.
السَّادِسَ عَشَرَ: قَالَ الْأَصْحَابُ: لَا يَجُوزُ الْجُنُونُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ; لِأَنَّهُ نَقْصٌ وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ الْإِغْمَاءُ ; لِأَنَّهُ مَرَضٌ، وَنَبَّهَ السُّبْكِيُّ عَلَى أَنَّ الْإِغْمَاءَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُمْ لَيْسَ كَالْإِغْمَاءِ الَّذِي يَحْصُلُ لِآحَادِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِغَلَبَةِ الْأَوْجَاعِ لِلْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ فَقَطْ دُونَ الْقَلْبِ.
قَالَ: لِأَنَّهُ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ إنَّمَا تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ دُون قُلُوبِهِمْ، فَإِذَا حُفِظَتْ قُلُوبُهُمْ وَعُصِمَتْ مِنْ النَّوْمِ الَّذِي هُوَ أَخَفُّ مِنْ الْإِغْمَاءِ، فَمِنْ الْإِغْمَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، انْتَهَى. وَهُوَ نَفِيسٌ جِدًّا.