الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ اخْتَارَ تَبَعًا لِلْغَزَالِيِّ فِي الْإِحْيَاءِ: أَنَّ أَفْضَلَ الطَّاعَاتِ عَلَى قَدْرِ الْمَصَالِح النَّاشِئَةِ عَنْهَا.
[الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: الْفَرْضُ أَفْضَلُ مِنْ النَّفْلِ]
ِ " قَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِيهِ عَنْ رَبِّهِ «وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ الْمُتَقَرِّبُونَ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ الْأَئِمَّةُ: خَصَّ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِإِيجَابِ أَشْيَاءَ لِتَعْظِيمِ ثَوَابِهِ، فَإِنَّ ثَوَابَ الْفَرَائِضِ يَزِيدُ عَلَى ثَوَابِ الْمَنْدُوبَاتِ بِسَبْعِينَ دَرَجَة.
وَتَمَسَّكُوا بِمَا رَوَاهُ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ «مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ، كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ» فَقَابَلَ النَّفَلَ فِيهِ بِالْفَرْضِ فِي غَيْره، وَقَابَلَ الْفَرْضَ فِيهِ بِسَبْعِينَ فَرْضًا فِي غَيْرِهِ، فَأَشْعَرَ هَذَا بِطَرِيقِ الْفَحْوَى أَنَّ الْفَرْضَ يَزِيدُ عَلَى النَّفْلِ سَبْعِينَ دَرَجَةً اهـ.
قَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ: وَهَذَا أَصْلُ مُطَّرِدٌ لَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ، وَقَدْ اُسْتُثْنِيَ فُرُوعٌ:
أَحَدُهَا: إبْرَاءِ الْمُعْسِرِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إنْظَارِهِ، وَإِنْظَارُهُ وَاجِبٌ، وَإِبْرَاؤُهُ مُسْتَحَبٌّ.
وَقَدْ انْفَصَلَ عَنْهُ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ بِأَنَّ الْإِبْرَاء يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِنْظَارِ اشْتِمَالَ الْأَخَصّ عَلَى الْأَعَمِّ، لِكَوْنِهِ تَأْخِيرًا لِلْمُطَالَبَةِ، فَلَمْ يَفْضُلْ نَدْب وَاجِبًا ; وَإِنَّمَا فَضَلَ وَاجِب. وَهُوَ الْإِنْظَارُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْإِبْرَاءُ، وَزِيَادَةٌ " وَهُوَ خُصُوصُ الْإِبْرَاءِ " وَاجِبًا آخَرَ. وَهُوَ مُجَرَّدُ الْإِنْظَارِ.
قَالَ ابْنُهُ: أَوْ يُقَالُ: إنَّ الْإِبْرَاءَ مُحَصَّلٌ لِمَقْصُودِ الْإِنْظَارِ وَزِيَادَةٍ مِنْ غَيْرِ اشْتِمَالِهِ عَلَيْهِ.
قَالَ: وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيم أَنَّ الْإِبْرَاءَ أَفْضَلُ، وَغَايَةُ مَا اسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ افْتِتَاحَ كَلَامٍ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِبْرَاءَ أَفْضَلُ، وَيُتَطَرَّقُ مِنْ هَذَا إلَى أَنَّ الْإِنْظَارَ أَفْضَلُ: لِشِدَّةِ مَا يَنَالُ الْمَنْظَرُ مِنْ أَلَمِ الصَّبْرِ، مَعَ تَشْوِيف الْقَلْب. وَهَذَا فَضْلٌ لَيْسَ فِي الْإِبْرَاءِ الَّذِي انْقَطَعَ فِيهِ الْيَأْسُ.
الثَّانِي: ابْتِدَاءُ السَّلَامِ، فَإِنَّهُ سُنَّةٌ: وَالرَّدُّ وَاجِبٌ، وَالِابْتِدَاءُ أَفْضَلُ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلَامِ» .
وَحَكَى الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ وَجْهَيْنِ: فِي أَنَّ الِابْتِدَاءَ أَفْضَلُ أَوْ الْجَوَابَ.
وَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الِابْتِدَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَوَابِ، بَلْ إنَّ الْمُبْتَدِئَ خَيْرٌ مِنْ الْمُجِيبِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبْتَدِئَ فَعَلَ حَسَنَةً وَتَسَبَّبَ إلَى فِعْلِ حَسَنَةٍ. وَهِيَ الْجَوَابُ مَعَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِابْتِدَاءُ مِنْ حُسْنِ الطَّوِيَّةِ، وَتَرْكِ الْهَجْرِ وَالْجَفَاءِ، الَّذِي كَرِهَهُ الشَّارِعُ.
الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: صَلَاةُ نَافِلَةٍ وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ مِنْ إحْدَى الْخَمْسِ الْوَاجِبِ فِعْلُهَا عَلَى مَنْ تَرَكَ وَاحِدَة مِنْهَا، وَنَسِيَ عَيْنَهَا.
قُلْت: لَمْ أَرَ مَنْ تَعَقَّبَهُ، وَهُوَ أَوْلَى بِالتَّعَقُّبِ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ نَافِلَةٍ وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ مِنْ إحْدَى الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ، فِيهِ نَظَرٌ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ: أَنَّهَا إنْ لَمْ تَزِدْ عَلَيْهَا فِي الثَّوَابِ لَا تَنْقُصُ عَنْهَا.
الرَّابِعُ: الْأَذَانُ سُنَّة وَهُوَ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ: أَفْضَلُ مِنْ الْإِمَامَةِ، وَهِيَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، أَوْ عَيْنٍ.
وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ السُّبْكِيُّ فِي الْحَلَبِيَّاتِ، فَأَجَابَ بِوُجُوهٍ: مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْجَمَاعَةِ فَرْضًا كَوْنُ الْإِمَامَةِ فَرْضًا. لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ: تَتَحَقَّقُ بِنِيَّةِ الْمَأْمُومِ الِائْتِمَامَ، دُونَ نِيَّةِ الْإِمَامِ.
وَلَوْ نَوَى الْإِمَامُ فَنِيَّتُهُ مُحَصِّلَةٌ لِجُزْءِ الْجَمَاعَةِ. وَالْجُزْءُ هُنَا: لَيْسَ مِمَّا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْكُلُّ لِمَا بَيَّنَاهُ، فَلَمْ يَلْزَمْ وُجُوبُهُ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِمَامَةَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَمْ يَحْصُلْ تَفْضِيلُ نَفْلِ عَلَى فَرْضٍ، وَإِنَّمَا نِيَّةُ الْإِمَامِ شَرْط فِي حُصُولِ الثَّوَابِ لَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْجَمَاعَةِ صِفَةٌ لِلصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالْأَذَانُ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي أَنَّ الْفَرْضَ أَفْضَلُ مِنْ النَّفْلِ فِي الْعِبَادَتَيْنِ الْمُسْتَقِلَّتَيْنِ أَوْ فِي الصِّفَتَيْنِ.
أَمَّا فِي عِبَادَةٍ، وَصِفَةٍ، فَقَدْ تَخْتَلِفُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَذَانَ وَالْجَمَاعَةَ جِنْسَانِ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي أَنَّ الْفَرْضَ أَفْضَلُ مِنْ النَّفْلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ أَمَّا فِي الْجِنْسَيْنِ: فَقَدْ تَخْتَلِفُ، فَإِنَّ الصَّنَائِعَ وَالْحِرَفَ فُرُوضُ كِفَايَاتٍ، وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ وَاحِدَةً مِنْ رَذَائِلِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ سَلِمَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ خُرُوجًا مِنْ الْإِثْمِ، فَفِي تَطَوُّعِ الصَّلَاةِ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا قَدْ يُجْبِرُ ذَلِكَ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَجِنْسُ الْفَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ النَّفْلِ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْجِنْسِ الْمَفْضُولِ مَا يَرْبُو عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ الْفَاضِلِ، كَتَفْضِيلِ بَعْضِ النِّسَاءِ عَلَى بَعْضِ الرِّجَالِ.