الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جميل تدبير تعتضد البحار والسّحب منه بمساعدها على ريّ الأرض ومعينها، ميسّرا موادّ أرزاق خدم دولتنا القاهرة وأوليائها بجميل بشره وحسن روائه، مسهّلا مطالب أرباب الرواتب والصّدقات بطلاقة وجه لو تأمله امرؤ صادي الجوانح لارتوى من مائه،: ليتوفّر أهل الوظائف على خدمهم بقلوب منبسطة الآمال، ويناضل عنها الفقراء بسهام «1» الليل التي لا تطيش إذا طاشت النّبال؛ فقد جعلنا أمره في ذلك جميعه من أمرنا فليكتب يمتثل، وليقل في مصالحنا بما يراه يسر كلامه سريّ الرياح ويسر قوله سير المثل، ولا يمض عقد ولا حلّ، ولا ولاية ولا عزل، ولا رفع ولا خفض، ولا إبرام ولا نقض، إلا عن رأيه وإشارته، وبنصّ خطّه وعبارته.
وفي سيرته السّريّة، وديانته التي هي من أسباب الهوى عريّة، ما يغني عن وصايا تملى على فكره، وقواعد تجلى على ذكره؛ وملاكها تقوى الله: وهي من أخصّ أوصافه، ونشر العدل والإحسان وهما من نتائج إنصاته لأمور الرعايا وإنصافه؛ لكن على سبيل الذّكرى التي تنفع المؤمنين، وترفع درجات المتقين؛ فليجعلها نجيّ خاطره، وقبلة ناظره؛ والله تعالى يعلي قدره وقد فعل، ويجعله من عباده المتقين وقد جعل؛ بمنّه وكرمه. والاعتماد [على الخط الشريف أعلاه]«2» إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثالثة (الإشارة، وهي وظيفة قد حدثت كتابتها ولم يعهد بها كتابة في الزمن القديم)
وهذه نسخة تقليد أنشأته بالإشارة للأمير جمال الدين يوسف البشاسي «3»
إستادار في الدولة الناصرية فرج، حين فوّضت إليه الإشارة مضافة إلى الإستداريّة، وكتب له به المقرّ الشمسيّ العمريّ كاتب الدّست الشريف، في شعبان سنة تسع وثمانمائة، وهي:
الحمد لله الذي جدّد للديار المصريّة بالمحاسن اليوسفيّة رونق جمالها، وأعزّ جانبها بأجلّ عزيز ملأت هيبته الوافرة فسيح مجالها، وأسعد جدّها بأسعد مشير أدارت آراؤه الصائبة متقاعس الأمور ما بين يمينها وشمالها، وأكرم مآبها بأمثل كاف عاد حسن تدبيره بضروب من المصالح أنام الخلق في ظلالها، وأجاب سؤلها بأكمل لم تعدل عن خطبتها له وإن أطال في مطالها.
نحمده على أن أغاث الدولة القاهرة بمن أخصب به بعد الإمحال ربعها، وطال بطوله بعد القصور فرعها، وحسن في المناظر بحسن تأتّيه لذي التأمّل ينعها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي شرع المشورة وحثّ عليها، وعدق أمور السيف والقلم بها فردّهما عند اختلاف الرأي إليها، شهادة ترفع قائلها إلى أسنى المراتب وتعليه، وتقرّب المخلص في انتحالها من مقام الاستخلاص وتدنيه، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي ورد وارد الأمة من منهل شرعته المطهّرة ما عذب مشرعه وردا وصدرا، والتقطت السّيّارة أحاديث فضله فصيّرتها للرّفاق سمرا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تقيّلوا مساحب أذياله في العدل فعدلوا، ولزموا منهج سننه الواضح فما حادوا عن سواء السبيل ولا عدلوا، صلاة تفوق العدّ حصرا، وترفع بركاتها عن الأمة حصرا وتبدّل العسر يسرا، فتعيد عجاف الزمان سمانا وسنبلات الوقت بعد اليبس خضرا، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ للمملكة قواعد تبنى عليها، وأركانا تستند إليها، ودعائم يشدّ بالاعتضاد بها بنيانها، وعمدا يعتمد عليها في المهمّات سلطانها؛ وهذه المباني وإن اتّسع نطاقها، وامتدّ بامتداد المملكة رواقها، فإنّ بالسيف والقلم قوامها،
وبالتعلّق بحبالها بقاءها ودوامها؛ إذ كانا قطبين عليهما مدار فلكها، ونقطتين عنهما ينشأ الخطّ المستقيم في تدبير ملكها، وزعيمين يترافع إليهما عند التخاصم، وحكمين يرجع إلى حكمهما عند التّحاكم؛ إلا أنهما لا يستقلّان عند التحالف، ولا يقوم أحدهما برأسه لدى التّخالف؛ بل لهما إمام يرجعان إليه، ويعوّلان عند اضطراب الأمور عليه، وهو الرأي الذي لا يقطع أمر دون حكمه، ولا يهتدي سار في مهامه المهمّات إلا بنجمه؛ إذ كان على الشجاعة مقدّما، ودليله من المعقول والمنقول مسلّما، والمتّسم به لا يزال عند الملوك مبجّلا معظّما، لا يقدّمون عليه ولدا ولا والدا، ولا يؤثرون على معاضدته عضدا ولا ساعدا، إن أشار برأي تمسك الملك منه بالحبل المتين، أو محضه كلام نصح قال: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ
«1» ولما كان الجناب العاليّ، الأميريّ، الكبيريّ (إلى آخر ألقابه) يوسف الناصري: ضاعف الله تعالى نعمته، هو الذي حنّكته التّجارب و «حلب الدّهر أشطره» وعرف بتقليب الأمور على ممرّ الزمان مخبره، مع ما اشتمل عليه من الرأي الصائب، والفكر الذي إذا أبدت قريحته في الارتياء عجبا أتت فطرته السليمة بالعجائب.
هذا وقد علا في الدولة القاهرة مقامه، ورشقت أغراض مقاصدها بانقضاء الآجال في الوقائع سهامه، وساس العساكر فأحسن في سياستها التدبير، وبذل في نفقاتها الأموال فمال فيها إلى الإسراف دون التقتير، واستجلب الخواطر فأخذ منها بمجامع القلوب، واقتاد النفوس الأبيّة قهرا فأطاعه من بين الشّمال والجنوب، وقام من المهمّات الشريفة بما لم يسبقه إليه سابق، وأتى من خوارق العادات في التنفيذ بما لم يلحقه فيه لاحق، وبادر إلى ترتيب المصالح فرتّبها ولم يعقه في انتهاز الفرصة عن دفع المفاسد عائق، وأخذ في حطّ الأسعار فورد منهلا من المعروف صافيا، وأمر بإبطال المعاملين فكان له عملا على توالي
الأزمان باقيا، ولازم بعد رضا الله تعالى رضا ملكه ففاز بأشرف المآثر في الحديث والقديم، وتأسّى في تعريفه بنفسه بيوسف عليه السلام فقال:
اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ
«1» - اقتضى حسن الرأي الشريف تنويهنا بذكره، وتقديمه على غيره ممن رام هذه الرتبة فحجب دونها وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ
«2» فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ، المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ، الزينيّ- لا زال يجمع لأوليائه شمل المعالي، ويرقّي أصفياءه في درجات العزّ على ممرّ الأيّام والليالي- أن تفوّض إلى المشار إليه الإشارة الشريفة التي هي أسنى المقامات وأعلاها، وأقصى المرامات لدينا وأغياها، مع ما انضمّ إلى ذلك من النظر في الوزارة الشريفة التي جلّ قدرها، وعلا في المناصب ذكرها، والخاصّ الذي اختص بمهمّاتنا الشريفة، والديوان المفرد «3» الذي غمر من ممالكنا السعيدة ذا الوظيفة وغير ذي الوظيفة، وتعلقات المملكة شرقا وغربا، ولوازمها المفترقة بعدا وقربا.
فليتلقّ ما فوّض إليه بيمينه التي طالما ربحت في الطاعة صفقتها، ويقابله بالقبول الذي محلّه من القلوب مهجتها، مقدّما تقوى الله تعالى فيما خفي من مقاصده وظهر، مؤثرا رضاه في كل ما يأتي ويذر، معتمدا في المصالح اعتماد ذي اليقظة الساهر، آتيا من غرائب الرّغائب بما يحقّق قول القائل:«كم ترك الأوّل للآخر» .
والوصايا كثيرة ومن بحره تستخرج دررها، ومن سوابق آرائه تستوضح