الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوقت الذي زيّن بالعلم العمل، وناسك الدهر الذي قصّر عن مبلغ مداه الأمل.
فليتلقّ ما ألقي إليه بالقبول، وليستند إلى صدر مجلس يقول فيه ويطول، وليبيّن من معاني كتاب الله ما أجمل، ويوضّح من خفيّ مقاصده ما أشكل، وليسلك في تفسيره أقوم سنن، ويعلن بأسراره الخفيّة فسرّ كتاب الله أجدر أن يكون عن علن، وليجر فيه على ما ألف من تحقيقاته فإنه إذا لم يحقّق المناظرة فمن؟، وليأخذ مشايخ أهل مجلسه بالإحسان، كما أحسن الله إليه فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، ويحضّ شبابهم على التوبة ليحبّهم الله فيتّصل في المحبة سندهم فإن «الشابّ التائب» حبيب الرحمن؛ والله تعالى يرقّيه إلى أرفع الذّرا، ويرفع مجلسه السامي على محل الثّريّا (وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا) ، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة التاسعة (النظر)
وموضوعه التحدّث في أمور خاصّة بإباحة ضروراتها، وعمل مصالحها، واستخراج متحصّل جهاتها، وصرفه على الوجه المعتبر، وما يجري مجرى ذلك.
وتشتمل على عدّة أنظار:
منها: نظر الأحباس: جمع حبس «1» وهو الوقف: فقد تقدّم في المقالة الثانية أنه كان أصل وضعه أراضي اشتراها (الإمام الليث بن سعد رضي الله عنه ووقفها على جهات برّ، ثم تبعه الناس في إضافة الأوقاف إلى ذلك، إلى أن كانت وزارة الصاحب بهاء الدين ابن حنّا في سلطنة الظاهر بيبرس
البندقداري، فأفرد للجوامع والمساجد والرّبط والزّوايا ونحو ذلك رزقا، وقصر تحدّث ناظر الأحباس ومباشريه عليها، وأفردت الأوقاف بناظر ومباشرين كما سيأتي:
وهذه نسخة توقيع بتدريس «1» الطب بالبيمارستان المنصوريّ، كتب بها «لمهذّب الدين» «2» وهي:
الحمد لله الذي دبّر بحكمته الوجود، وعمّ برحمته كلّ موجود، وحال بنفع الدواء بين ضرّ الداء كما حالت عطاياه دون الوعود؛ نحمده ونشكره وهو المشكور المحمود، ونثني عليه خير الثناء قياما وقعودا وعلى الجنوب وفي السجود، ونستزيده من فضله فإنه أهل الفضل والجود.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة الله بها والملائكة وأولو العلم شهود؛ ونشهد أن محمدا عبده ورسوله المبشّر لأمته بالجنّات والخلود؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة دائمة إلى يوم الوعود «3» وبعد، فإنّا لما أقام الله بنا شعائر الإيمان، وأصبح دينه بحمد الله منصورا بنا على سائر الأديان، وجاهدنا في الله حقّ الجهاد باليد والقلب واللّسان، وشيّدنا لعلومه وشرائعه كلّ بديع الإتقان، ورتّبنا فيه من العلماء الأعيان كلّ رفيع الشان، واخترنا له الأخيار من أهل العلم بالطّب والفقه والحديث والقرآن؛ ورأينا كل من تقدّمنا من الملوك، وإن سلك في سياسة الرعية أحسن سلوك، قد اهتمّ بعلم الأديان وأهمل علم الأبدان، وأنشأ كلّ منهم مدرسة ولم يحفل ببيمارستان، وغفل عن قوله صلى الله عليه وسلم:«العلم علمان» ، ولم يأخذ أحدا من رعيته بالاشتغال بعلم الطّب المضطّرّ إليه، ولا وقف وقفا على طلبة هذا العلم
المنصوص عليه، ولا أعدّ له مكانا يحضر من يشتغل بهذا الفن فيه، ولا نصب له شخصا يتمثّل هذا المشتغل لديه- علمنا نحن بحمد الله تعالى من ذلك ما جهلوه، وذكرنا من هذه القربة ما أهملوه، ووصلنا من هذه الأسباب الدّينية والدّنيوية ما فصلوه، وأنشأنا بيمارستانا يبهر العيون بهجة، ويفوق الأبنية بالدليل والحجّة، ويحفظ الصحة والعافية على كل مهجة؛ لو حلّه من أشفى لعوجل بالشّفا، أو جاءه من أكمده السّقم لاشتفى، أو أشرف عليه العمر بلا شفاء لعاد عنه بشفا؛ ووقفنا عليه من الأوقاف المبرورة ما يملأ العينين، ويطرف سماع جملته الأذنين، ويعيد عنه من أمّه مملوء اليدين، وأبحنا التّداوي فيه لكل شريف ومشروف ومأمور وأمير، وساوينا في الانتفاع به بين كل صغير وكبير، وعلمنا أن لا نظير لنا في ملكنا ولا نظير له في إبقائه فلم نجعل لوقفه وشرطه من نظير، وجعلنا فيه مكانا للاشتغال بعلم الطب الذي كاد أن يجهل، وشرعنا للناس إلى ورد بحره أعذب منهل، وسهّلنا عليهم من أمره ما كان الحلم به من اليقظة أسهل، وارتدنا له من علماء الطّب من يصلح لإلقاء الدروس، وينتفع به الرئيس من أهل الصّناعة والمرؤوس، ويؤتمن على صحة الأبدان وحفظ النفوس؛ فلم نجد غير رئيس هذه الطائفة أهلا لهذه المرتبة، ولم نرض لها من لم تكن له هذه المنقبة، وعلمنا أنه متى وليها أمسى بها معجبا وأضحت به معجبة.
ولما كان المجلس السامي «مهذّب الدين» هو الرئيس المشار إليه، والوحيد الذي تعقد الخناصر عليه، وكان هو الحكيم «بقراط» ، بل الجليل «سقراط» ، بل الفاضل «جالينوس» ، بل الأفضل «ديسقوريدوس» - اقتضت الآراء الشريفة أن تزاد جلالته بتولية هذا المنصب الجليل جلالة، وأن تزفّ إليه تجرّ [أذيالها، ويزفّ إليها يجرّر]«1» أذياله، وأن يقال: (لم يك يصلح إلا لها ولم
تك تصلح إلّا له) .
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال للدّين ناصرا، ولأعلام العلوم ناشرا- أن يفوّض إليه تدريس الطب بالبيمارستان المبارك المنصوريّ، المستجدّ الإنشاء بالقاهرة المحروسة، علما بأنه المتمهّر في هذا الفنّ، وأنه عند الفراسة فيه والظّنّ، وأنه سقراط الإقليم إذا كان غيره سقراط الدّنّ، وثقة بأنا للجوهر قد التقطنا، وبالخير قد اغتبطنا، وعلى الخبير قد سقطنا.
فليتلقّ هذه النعمة بالشكر الجليل، والحمد الجزيل، والثناء الذي هو بالنّماء والزيادة كفيل، ولينتصب لهذا العلم المبارك انتصاب من يقوم بالفرض منه والسّنّة، ويعرف له فيه الفضل ويتقلّد له فيه المنّة، ويثنى على آثاره الجميلة فيه وتثنى إليه الأعنّة، وليبطل بتقويمه الصحّة ما ألّفه ابن «بطلان» «1» ، وليرنا بتدبيره جبلّة البرّ فإنه «جالينوس» الزمان، وليبذل النّجاة من الأمراض والشفاء من الأسقام فإنه «ابن سينا» الأوان، وليجمع عنده شمل الطلبة، وليعط كلّ طالب منهم ما طلبه، وليبلّغ كلّ متمنّ من الاشتغال أربه، وليشرح لهم صدره، وليبذل لهم من عمره شطره، وليكشف لهم من هذا العلم المكنون سرّه، وليرهم ما خفي عنهم منه جهره، وليجعل منهم جماعة طبائعية «2» ، وطائفة كحّالين وجرائحيه، وقوما مجبّرين، وبالحديد عاملين، وأخرى بأسماء الحشائش وقوى الأدوية وأوصافها عالمين، وليأمر كلّا منهم بحفظ ما يجب حفظه، ومعرفة ما يزيد به حظه، وليأخذه بما يصلح به لسانه ولفظه، ولا يفتر عنهم في الاشتغال لحظة، وليفرد لكل علم من العلوم طائفة، ولكل فن من فنونه جماعة بمحاسنه
عارفة؛ وليصرف إليهم من وجوه فضائله كلّ عارفة، وليكشف لهم ما أشكل عليهم من غوامضه فليس لها من دون إيضاحه كاشفة، لينشر في هذا المكان المبارك من أرباب هذه العلوم قوم بعد قوم، ويظهر منهم في الغد- إن شاء الله- أضعاف ما هو ظاهر منهم اليوم؛ وليقال لكلّ من طلبته إذا شرع في إجازته وتزكيته: لقد أحسن شيخه الذي عليه تأدّب، وإنّ من خرّج هذا «المهذّب» ، عاملا في ذلك بشروط الواقف أعزّ الله نصره، واقفا عند أمره أمضى الله أمره؛ والخير يكون، إن شاء الله تعالى «1» وهذه نسخة توقيع بنظر الأحباس مفتتحة ب «أما بعد» وهي:
أما بعد حمد الله الذي أذن أن ترفع بيوته ويذكر فيها اسمه، ويكثّر فيها قسم ثوابه ويجزل قسمه، والصلاة على سيدنا محمد الذي عظم به قطع دابر الكفر وكثر حسمه- فإنّ خير من عوّل عليه في تأسيس بيوت الله وعمارة ربوعها، ولمّ شعثها وشعب صدوعها، والقيام بوظائفها، وتسهيل لطائفها، وتأهيل نواحيها، لهبوط الملائكة لتلقّي المصلّين فيها، من كان ذا عزم لا تأخذه في الله لومة لائم، وحزم لا يلمّ بأفعاله لمم المآثم، ونظر ثاقب، ورغبة في اختيار جميل المآثر والمناقب، ومباشرة ترعى قوانين الأمور وتكتنفها اكتناف مراقب.
ولما كان فلان ممّن هذه الأوصاف شعاره، وإلى هذه الأمور بداره، وكم كتب الله به للدّولة أجر راكع وساجد، وكم شكرته وذكرته ألسنة أعلام الجوامع وأفواه محاريب المساجد- اقتضى منيف الملاحظة والمحافظة على كل قريب من بيوت الله وشاهد، أن خرج الأمر الشريف- لا برح يكشف الأوجال، ويدعو له في الغدوّ والآصال رجال- أن يفوّض لفلان نظر ديوان الأحباس والجوامع
والمساجد المعمورة بذكر الله تعالى.
فليباشرها مباشرة من يراقب الله إن وقّع أو توقّع، وإن أطاع أو تطوّع، وإن عزل أو ولّى، وإن أدّب من نهى عبدا إذا صلّى، وليجتهد كلّ الاجتهاد في [صرف]«1» ريع المساجد والجوامع في مصارفها الشرعيّة، وجهاتها المرعيّة، وليأخذ أهلها بالملازمة في أحيانها وأوقاتها، وعمارتها بمصابيحها وآلاتها، وحفظ ما يحفظون به لأجلها، ومعاملتهم بالكرامة التي ينبغي أن يعامل مثلهم بمثلها، وليحرّر في إخراج الحالات إذا خرّجت وأخرجت، وفي مستحقّات الأجائر إذا استحقّت وإذا عجّلت، وفي التواقيع إذا أنزلت وإذا نزّلت، وفي الاستئمارات التي أهملت وكان ينبغي لو أهّلت؛ وإذا باشر [و]«2» ظهر له بالمباشرة خفايا هذا الدّيوان، وفهم ما تحتويه جرائد الإحسان، فليكن إلى مصالحه أوّل مبادر، ويكفيه تدبر قوله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
«3» قلت: وقد كنت أنشأت توقيعا بنظر الأحباس، للقاضي «بدر الدين حسن» الشهير بابن الدّاية «4» ، مفتتحا بالحمد لله، جاء فردا في بابه، إلا أن مسودّته غيّبت عنّي، فلم أجدها لأثبتها هاهنا كما أثبتّ غيرها مما أنشأته: من البيعات والعهود والتواقيع والرسائل وغير ذلك.
ومنها- نظر الأوقاف بمصر والقاهرة المحروستين، ويدخل فيه أوقاف الحرمين وغيرهما.
وهذه نسخة توقيع بنظرها، وهي:
الحمد لله الذي حفظ معالم البرّ من الدّثور، وأحيا آثار المعروف
والأجور، وصان الأوقاف المحبّسة من تبديل الشروط على توالي الأيّام والشهور.
نحمده على فضله الموفور، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لها في القلوب نور على نور، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المؤيّد المنصور، الطالع البدور، المبعوث بالفرقان والنّور، والمنعوت في التوراة والإنجيل والزّبور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما كرّت الدّهور، وطلعت كواكب ثم تغور.
وبعد، فإنّ أهل الخير من المؤمنين تقرّبوا إلى الله سبحانه وتعالى من طيّبات أموالهم بأوقاف وقفوها على وجوه البرّ وعرّفوها، وجعلوا لها شروطا ووصفوها؛ فتقبّل الله لهم ذلك، ثم ماتوا فما انقطع عملهم بها وهم في برزخ المهالك؛ ووليها بعدهم الأمناء من النّظّار، فقاموا بحقوقها وحفظ الآثار، وأجروا برّها الدارّ في كلّ دار، وصانوا معالمها من الأغيار، وشاركوا واقفيها في الصدقة لأنهم خزّان أمناء أخيار.
ولما كان فلان هو الذي لا يتدنّس عرضه بشائبة، ولا تمسي المصالح وهي عن فكره غائبة، ولا تبرح نجوم السّعود طالعة عليه غير غائبة، وهو أهل أن يناط به التحدّث في جهات البرّ الموقوفة، وأموال الخير المصروفة، لأنه نزّه نفسه عما ليس له فلو كانت أموال غيره غنما ما اختصّ منها بصوفة؛ فلذلك رسم...... «1» ......
فليباشر هذه الوظيفة مباشرة حسنة التأثير، جميلة التّثمير، مأمونة التغيير، مخصوصة بالتعبير، ولينظر في هذه الأوقاف على اختلافها من ربوع ومباني، ومساكن ومغاني، وخانات مسبّلة، وحوانيت مكمّلة، ومسقّفات معمورة، وساحات مأجورة غير مهجورة، وليبدأ بالعمارة فإنّها تحفظ العين وتكفي البناء
دثوره، وليتّبع شروط الواقفين ولا يعدل عنها فإنّ في ذلك سروره؛ ويندرج في هذه الأوقاف ما هو على المساجد ومواطن الذّكر: فليقم شعارها، وليحفظ آثارها، وليرفع منارها؛ والوصايا كثيرة والتقوى ظلّها المخطوب، ومراقبة الله أصلها المطلوب ووصلها المحبوب، والله تعالى يجمع على محبته القلوب، بمنّه وكرمه!.
ومنها- نظر البيمارستان المنصوريّ بين القصرين لأرباب الأقلام، وهو من أجلّ الأنظار وأرفعها قدرا، ما زال يتولّاه الوزراء وكتّاب السرّ ومن في معناهم. [وهذه نسخة توقيع]«1» من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ، وهي:«2» الحمد لله رافع قدر من كان في خدمتنا الشريفة كريم الخلال، ومعلي درجة من أضفى عليه الإخلاص في طاعتنا العليّة مديد الظّلال، ومجدّد نعم من لم يخصّه اعتناؤنا بغاية إلا ورقّته همّته فيها إلى أسنى رتب الكمال، ومفوّض النظر في قرب سلفنا الطاهر إلى من لم يلاحظ من خواصّنا أمرا إلا سرّنا ما نشاهد فيه من الأحوال الحوال.
نحمده على نعمه التي لا تزال تسرى إلى الأولياء عوارفها، ومننه التي لا تبرح تشمل الأصفياء عواطفها، وآلائه التي تسدّد آراءنا في تفويض قربنا إلى من إذا باشرها [سرّ]«3» بسيرته السّريّة مستحقّها وواقفها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رفع الإخلاص لواءها، وأفاض الإيمان على وجوه حملتها إشراقها وضياءها، ووالى الإيقان إعادة أدائها بمواقف الحقّ وإبداءها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المخصوص بعموم
الشفاعة العظمى، المقصوص في السنة ذكر حوضه الذي من شرب منه شربة فإنه بعدها لا يظما، المنصوص على نبوّته في الصّحف المنزّلة وبشّرت به الهواتف نثرا ونظما، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا من طاعته، بالرّتب الفاخرة، وحازوا بالإخلاص في محبّته، سعادة الدنيا والآخرة، وأقبلوا على حظهم من رضا الله ورضاه فلم يلوا على خدع الدنيا الساحرة، صلاة دائمة الاتصال، آمنة شمس دولتها من الغروب والزّوال، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الأمور بإنعام النظر في مصالحها، وأحقّها بتوفير الفكر على اعتبار مناهجها واعتماد مناجحها- أمر جهات البر التي تقرّب والدنا السلطان الشهيد- قدّس الله روحه- بها إلى من أفاض نعمه عليه، وتنوّع في إنشائها فأحسن فيها كما أحسن الله إليه، ورغب بها فيما عند الله لعلمه أنّ ذلك من أنفس الذخائر التي أعدّها بين يديه، وحلّ منها في أكرم بقعة نقله الله بها عن سريره إلى مقعد صدق عند ربّه، وعمر بها مواطن العبادة في يوم سلمه بعد أن عفّى على معاقل الكفر في يوم حربه، وأقام بها منار العلوم فعلا منالها، وأعدّ للضّعفاء بها من موادّ البرّ والإلطاف ما لو تعاطته الأغنياء قصرت عن التطاول إليه أموالها؛ وأن نرتاد لها من إذا فوّضنا إليه أمرا تحقّقنا صلاحه، وتيقّنّا نجاحه، واعتقدنا تنمية أمواله، واعتمدنا في مضاعفة ارتفاعه وانتفاعه على أقواله وأفعاله، وعلمنا من ذلك ما لا نحتاج فيه إلى إخبار ولا اختبار، ولا يحتاج في بيان الخيرة فيه إلى دليل إلّا إذا احتاج إليه النّهار، لنكون في هذا بمثابة من ضاعف لهذه القرب أسباب ثوابها؛ أو جدّد لها وقفا لكونه أتى بيوت الإحسان في ارتياد الأكفاء لها من أبوابها.
ولذلك لما كان فلان هو الذي صان أموال خواصّنا، وأبان عن يمن الآراء في استئثارنا به لمصالحنا الخاصّة واختصاصنا، واعتددنا بجميل نظره في أسباب التدبير التي تملأ الخزائن، وتدلّ على أنّ من الأولياء من هو أوقع على المقاصد من سهام الكنائن، وتحقّق أنه كما في العناصر الأربعة معادن فكذلك في الرجال معادن، ونبّهت أوصافه على أنه ما ولي أمرا إلا وكان فوق ذلك قدرا،
ولا اعتمد عليه فيما تضيق عنه همم الأولياء إلا رحب به صدرا، ولا طلع في أفق رتبة هلالا إلا وتأمّلته العيون في أجلّ درج الكمال بدرا؛ يدرك ما نأى من مصالح ما يليه بأدنى نظر، ويسبق في سداد ما يباشره على ما يجب سداد الآراء ومواقع الفكر؛ فنحن نزداد كل يوم غبطة بتدبيره، ونتحقّق أن كل ما عدقنا به إليه من أمر جليل فقد أسندناه إلى عارفه وفوّضناه إلى خبيره- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نعدق بجميل نظره أمر هذا المهمّ المقدّم لدينا، وأن نفوّض إليه نظر هذه الأوقاف التي النظر في مصالحها من آكد الأمور المتعيّنة علينا.
فرسم بالأمر الشريف- لا زال فضله عميما، وبرّه يقدّم في الرتب من كان من الأولياء كريما- أن يفوّض إليه كيت وكيت.
فليل هذه الرتبة التي أريد بها وجه الله وما كان لله فهو أهمّ، وقصد بها النفع المتعدّي إلى العلماء والفقراء والضّعفاء، ومراعاة ذلك من أخصّ المصالح وأعمّ، ولينظر في عموم مصالحها وخصوصها نظرا يسدّ خللها، ويزيح عللها، ويعمّر أصولها، ويثمّر محصولها، ويحفظ في أماكنها أموالها، ويقيم معالم العلوم في أرجائها، ويستنزل بها موادّ الرحمة لساكنها بألسنة قرّائها، ويستعيد صحّة من بها من الضعفاء بإعداد الذّخائر لملاطفة أسقامها ومعالجة أدوائها، ويحافظ على شروط الواقف- قدّس الله روحه- في إقامة وظائفها، واعتبار مصارفها، وتقديم ما قدّمه مع ملاءة تدبيره باستكمال ذلك على أكمل ما يجب، وتمييز حواصلها لما يستدعي إليها من الأصناف التي يعزّ وجودها ويجتلب، وضبط تلك الحواصل التي لا خزائن لها أوثق من أيدي أمنائه وثقاته، ولا مودع لها أوفق من أمانة من يتّقي الله حقّ تقاته؛ وليفعل في ذلك جميعه ما عرفناه من تدبيره الجميل خبرا وخبرا، وحمدناه في كل ما يليه وردا في المصالح وصدرا؛ فإنه- بحمد الله- الميمون نظرا وتصرّفا، المأمون نزاهة وتعفّفا، الكريم سجيّة وطباعا، الرحيب في تلقّي المهمات الجليلة صدرا وباعا؛ فلذلك وكلناه في الوصايا إلى حسن معرفته واطّلاعه، ويمن نهوضه بمصالحنا واضطلاعه؛ والله تعالى يسدّده في قوله وعمله، ويحقّق بالوقوف مع مراضي
الله تعالى ومراضينا غاية أمله، إن شاء الله تعالى.
ومنها- نظر الجامع الناصريّ بقلعة الجبل.
وهذه نسخة توقيع بنظره، كتب به للقاضي جلال الدين القزوينيّ «1» وهو يومئذ قاضي قضاة الشافعيّة بالديار المصريّة، وهي:
الحمد لله الذي زاد بنا الدين رفعة وجلالا، وجعل لنا على منار الإسلام إقبالا، وأحسن لنظرنا الشريف في كلّ اختيار مالا، ووفّق مرامي مرامنا لمن أخلصنا عليه اتّكالا.
نحمده حمدا يتواتر ويتوالى، ويقرّب من المنى منالا، وتنير به معاهد نعمه عندنا وتتلالا، ونديمه إدامة لا نبغي عنها حولا ولا انتقالا.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نصدّقها نيّة ومقالا، ونرجو بالتّغالي فيها القبول منه تعالى، ويتراسل عليها القلب واللسان فلا يعتري ذاك سهو ولا يخاف هذا كلالا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي كرم صحابة وآلا، ودلّهم على الرّشد فورّثوه علماء الأمّة رجالا، صلى الله عليه وعليهم صلاة نسترعي عليها من الحفظة أكفاء أكفالا، ونستمد لرقمها المذهبات بكرا وآصالا، وتسمو إليه الأنفاس سموّ حباب الماء حالا فحالا، ما مدّت الليالي على أيّامها ظلالا، وما بلغ سواد شبابها من بياض صبح اكتهالا، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ من بنى حقّ عليه أن يشيد، ومن أراد [أن]«2» سنّته الحسنى تبقى فليتخذ معينا على ما يريد، ومن أنشأ برّا فلا بدّ من مباشر عنه يضمن له
التجديد، ويظنّ به مع تأثيره التّخليد، ومن تاجر لله بمعروف فما يسخو بالمشاركة فيه لمن يقوم مقام نفسه أو يزيد، ومن بدأ جميلا فشرط صلاحه أن يسنده إلى من له بالمراقبة تقييد، فيما يبديء ويعيد، وأيّ إشادة أقوى، من التأسيس على التقوى، أو معين أجلّ من حاكم استخلصناه لنا ولإخواننا المسلمين، أو مباشر أنفع، من سيد ارتدى بالمجد وتلفّع، وتروّى بالعلوم وتضلّع، أو مشارك في الخير أولى من وليّ قلّدناه ديننا قبل الدّنيا، وأعليناه بالمنصبين: الحكم والخطابة فتصرّف منهما بين الكلمة العالية والدّرجة العليا، أو أحسن مراقبة من حبر يعبد الله كأنّه يراه، وإمام يدعو إليه دعاء أوّاب أوّاه، قد انفرد بمجموع المحاسن يقينا، وأصبح قدره الجليّ الجليل يعنينا وعن المدائح يغنينا؛ فحسبنا الوصف إيضاحا وتبيينا، ولكن نصرّح باسمه تنويها وتعيينا، وتحسينا لسيرة أيّامنا الشريفة بعالم زمانها وتزيينا؛ لا عذر لفكر لم ينضّد مناقبه وقد تمثلت معاليه جواهر، وقلم لم يوشّ الطّروس بمعانيه بعد ما زان من فنونها أنواع الأزاهر، وهو المجلس العاليّ القضائيّ، الإماميّ، العالميّ، العامليّ، العلّاميّ، الكامليّ، الفاضليّ، القدويّ، المفيديّ، الخاشعيّ، الناسكيّ الورعيّ، الحاكميّ، الجلاليّ، حجة الإسلام والمسلمين، قدوة العلماء العاملين في العالمين، بركة الأمة، علّامة الأئمة عزّ السنّة، مؤيّد الدّولة، سيف الشريعة، شمس النظر، مفتي الغرر، خطيب الخطباء، إمام البلغاء، لسان المتكلّمين، حكم الملوك والسلاطين، وليّ أمير المؤمنين، أبو المعالي محمد ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن عمر بن أحمد القزوينيّ قاضي القضاة الشافعية: أدام الله عزّة الشرع الشريف بأحكامه، وترفيه سيوف الجلاد وأسله بلسان جداله وأقلامه؛ قاض يفرّق بين المهترجين «1» برأي لا يطيش حلمه ولا يزلّ حكمه، ويتّقي الشّبهات بورع يتبعه عمله ويهديه علمه؛ ما لحظ جهة إلا حظيت ببركة دارّة مزنها، سارية مناجحها سارّ يمنها، ولا
أقبل على بيت من بيوت الله إلا حنّ منه إلى سبحات الجلال، ولا تكلّم في وقف إلا أجراه في صالح الأعمال على أقوم مثال؛ ونحن لهذه المزايا نردّ إلى نظره الكريم ما أهمّنا من عمارة مسجد وجامع، ونقلّده من أوقافنا ما يخلفنا فيه خيرا فإنّ الأوقاف ودائع.
فلذلك رسم بالأمر الشريف العاليّ المولويّ، السلطانيّ، الملكيّ، الناصريّ- لا زال يصيب الصّواب، ولا يعدو أولي الألباب- أن يفوّض إليه نظر الجامع الناصريّ المعمور بذكر الله تعالى، بقلعة الجبل المحروسة، وأوقافه، والنظر على التربة والمدرسة الأشرفيّين وأوقافهما.
ومنها- نظر مشهد الإمام الحسين رضي الله عنه بالقاهرة المحروسة.
وقد تقدّم في الكلام على خطط القاهرة في المقالة الثانية أنّ الصالح طلائع بن رزّيك حين قصد نقل رأس الإمام الحسين إلى القاهرة، بنى لذلك جامعه خارج بابي زويلة «1» ، فبلغ ذلك الخليفة فأفرد لها هذه القاعة من قاعات القصر وأمر بنقلها إليها.
وهذه نسخة توقيع بنظره، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ، وهي: الحمد لله الذي جعل مواطن الشّرف في أيّامنا الزاهرة، محصورة في أكفائها، ومشاهد السيادة في دولتنا القاهرة، مقصورة على من حبته أوامرنا باعتنائها، وخصّته آلاؤنا باصطفائها، الذي أجرى حسن النظر في مظانّ الآباء الطاهرة على يد من طلع في أفق العلياء من أبنائها، وعمر معاهد القربات بتدبير من بدأ بقواعد دينه وأجاد إحكام تشييدها وإتقان بنائها.
نحمده على ما خصّت به أيامنا من رفع أقدار ذوي السّيادة والشّرف، واتّصف به إنعامنا من مزيد برّ علم بحسن ظهوره على الأولياء أنّ الخير في السّرف.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يعرّف بها من اعترف، ويشرّف قدر من له بالمحافظة عليها شغف، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الذي طهّر الله بضعته الزاهرء وبنيها، وخصّهم بمزيّة القربى التي نزّهه أن يسأل على الهداية أجرا إلا المودّة فيها، صلى الله عليه وعلى آله الذين هم أجدر بالكرم، وأحقّ بمحاسن الشّيم، وما منهم إلا من (
تعرف البطحاء وطاته
…
والبيت يعرفه والحلّ والحرم
) «1» ، وعلى آله وأصحابه الذين أنعم الله به عليهم، واتّبعوه في ساعة العسرة فمنهم الذين أخرجوا من ديارهم والذين يحبّون من هاجر إليهم، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من زيّنت به مواطن الشّرف، وعدقت به العناية بخدمة من درج من بيت النبوّة وسلف، وعمرت به مشاهد آثارهم التي هي في الحقيقة لهم غرف، [ونالت الدولة]«2» من تدبيره الجميل بعض حظّها، وخصّت بقعته المباركة من نظره بما ينوب في خدمة محلّه الشريف عن مواقع لحظها، وجعلت به لابن رسول الله من خدمة أبيه معها نصيبا، وفعلت ذلك إذ خبرت خدمته أجنبيّا علما أنها تتضاعف له إذا كان نسيبا، وحكمت بما قام عندها مقام الثّبوت، وأمرته أن يبدأ بخدمة أهل البيت [فإن]«3» لازمها لديها مقدّم على البيوت- من طلع شهاب فضله من الشّرف السّنيّ في أكرم أفق، وأحاطت به أسباب السّؤدد من سائر الوجوه إحاطة الطّوق بالعنق، وزان الشّرف بالسّؤدد والعلم بالعمل، والرياسة باللطف فاختارته المناصب واختالت به الدّول، وتقدّم بنفسه ونفاسة أصله فكان شوط من تقدّمه وراء خطوه وهو يمشي على مهل، واصطفته الدولة
القاهرة لنفسها فتمسّك من الموالاة بأوثق أسبابها، واعتمدت عليه في بثّ نعمها، وبعث كرمها، فعرّف في ذلك الأمور من وجهها وأتى البيوت من أبوابها، وحمدت وفود أبوابنا العالية لحسن سيرته في إكرامهم السّرى، واكتفت [حتى]«1» مع ترك الكرامة إليهم ببشاشة وجهه التي هي خير من القرى، وصان البيوت عن الإقواء بتدبيره الذي هو من موادّ الأرزاق، وزاد الحواصل بتثميره مع كثرة الكلف التي لو حاكتها الغمائم لأمسكت خشية الإنفاق.
ولما كان فلان هو الذي تليت مناقب بيته الطاهر، وجليت مفاخر أصله الزاهر، وتجملت بشرف خلاله خلال الشّرف التي تركها الأوّل للآخر، وكان مشهد الإمام السيد الحسين ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما السلام بالقاهرة المحروسة بقعة هي منتجع الرحمة، ومظنّة إجابة الأمّة، وروضة من شرّفت بانتقاله إليها، وتربة شهيد الزهراء صلوات الله على أبيها وعليها، وبه الآن [من]«2» رواتب القربات ووظائف العلوم وجهات الخير ما يحتاج إلى اختيار من يجمل النظر فيه، ويسلك نهج سلفه في الإعراض عن عرض الدنيا ويقتفيه- رأينا أن نختار لذلك من اخترناه لأنفسنا فكان الكفء الكريم، واختبرناه لمصالحنا فخبرنا منه الحفيظ العليم، وأن نقدّم مهمّ ذلك البيت على مهمّ بيوتنا فإنّ حقوق آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحقّ بالتعظيم.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زالت مكارمه بتقريب ذوي القربى جديرة، ومراسيمه على إقدار ذوي الرّتب على ما يجب قديرة،- أن يفوّض إليه النظر على مشهد الإمام الحسين ابن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما السلام بالقاهرة المحروسة، على قاعدة من تقدّمه في ذلك، بالمعلوم الشاهد به ديوان الوقف: لما قدّمناه من أسباب رجّحته لذلك، وبيّناه من أمور أوضحت في اختيارنا له المسالك؛ ومن أولى منه بهذه الرتبة التي شهدت له باستحقاقها مناصبه ومناسبه، أو أقدر منه على أمثال هذه الوظيفة وقد أقرّت بكماله وكرم خلاله مراتب الباب الشريف ورواتبه.