الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنه مبارك أينما كان ورحمة للأنام؛ والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه حجة بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
الوظيفة الثالثة (نقابة الأشراف)
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الدّيار المصرية في المقالة الثانية أنّ موضوعها التحدّث على الأشراف، وهم أولاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: وقد جرت العادة أنّ الذي يتولّى هذه الوظيفة يكون من رؤوس الأشراف، وأن يكون من أرباب الأقلام، وإنما أوردته مع أرباب السّيوف لأن المقرّ الشّهابيّ بن فضل الله قد ذكر في بعض دساتيره الشاميّة أنه يكتب لنقيب الأشراف «الأميريّ» ولا يكتب له «القضائيّ» ولو كان صاحب قلم. وقد رأيت له عدّة تواقيع على ذلك مكتتبة من الأبواب السلطانية وعن نائبي الشام وحلب وغيرهما، معبّرا عنه فيها ب «الأميريّ» وتوقيعه في قطع الثّلث مفتتح بخطبة مفتتحة ب «الحمد لله» .
وهذه نسخة [توقيع]«1» بنقابة الأشراف، وهي:
الحمد لله مشرّف الأنساب، وموفي الأحساب، حقوق ملاحظتهم بغير حساب، وجاعل أيّامنا الشريفة تحمد الاكتساب.
نحمده بمحامد حسنة الإيجاد والإيجاب، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا شكّ في مقالها ولا ارتياب، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ونبيّه الذي أنزل عليه الكتاب، وشرّف به الذّراريّ من شجرته المباركة الأعقاب، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا تتوارى شمسها بحجاب.
وبعد، فإنّ خير ما صرفت الهمم إلى تشييد مبانيه، وتقييد مهمل رواعيه
وملاحظة قاصيه ودانيه، المحافظة على كلّ ما يرفع قدر الآل ويعليه، ويردّ إليهم عنان الاعتناء ويثنيه.
ولمّا كانت العترة الطاهرة النبوية ورّاث الوحي الذين آل إليهم ميزاته، وأهل البيت الذين حصل لهم من السّؤدد آياته؛ وقد سأل الله وهو المسؤول لهم القربى، وخصّهم بمزايا حقيق بمثل متصرّفهم أنه بها يحبى وأنها لهم تجبى:
لما في ذلك من بركات ترضي سيّد المرسلين وتعجبه، ويسطّر الله [الأجر]«1» لفاعله ويكتبه، وكان لا بدّ لهم من رئيس ينضّد سلكهم وينظّمه، ويعظّم فخرهم ويفخّمه، ويحفظ أنسابهم، ويصقل بمكارمه أحسابهم، وينمّي بتدبيره ريعهم، ويتابع تحت ظلّ هذه الشجرة الزكيّة ما زكّى ينعهم، ويحفظهم في ودائع النّسل، ويصدّ عن شرف أرومتهم من الأدعياء المدّعين بكل بسل «2» ، ويحرس نظامهم، ويوالي إكرامهم، ويأخذهم بمكارم الأخلاق، ويمدّهم بأنواع الإرفاد والإرفاق، ويتولّى ردع جانيهم إذا لم يسمع، ويتدبّر فيه قوله:«أنفك منك وإن كان أجدع» » .
ولمّا كان فلان هو المشار إليه من بني هذه السّلالة، وله من بينهم ميزة باطنة وظاهرة وإن كانوا كلّهم شيئا واحدا في الإجلال والإعظام، فقد تميزّت من بين الأنامل السّبّابة على الخنصر والبنصر والوسطى والإبهام، وكم ثمر جنيّ فضّل بعضه على بعض في الأكل وهو يسقى بماء واحد، وقد امتاز على بني هاشم سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والسلام- اقتضى حسن الرأي المنيف، أن رسم بالأمر الشريف- لا برح يختار وينتقي، ويجتبي من يخشى
الله ويتّقي- أن تفوّض إليه نقابة الأشراف الطالبيّين على عادة من تقدّمه من النّقباء السادة.
فليجمع لهم من الخير ما يبهج الزهراء البتول فعله، ويفعل مع أهله وقرابته منهم ما هو أهله، وليحفظ مواليدهم، ويحرّز أسانيدهم «1» ، ويضبط أوقافهم، ويعتمد إنصافهم، ويثمّر متحصّلاتهم، ويكثّر بالتدبير غلّاتهم، ويأخذ نفسه بمساواتهم، في جميع حالاتهم، وليأخذهم بالتجمّع عن كل ما يشين، والعمل بما يزين، حتّى يضيفوا إلى السّؤدد حسن الشّيم، وإلى المفاخر فاخر القيم، وكلّ ما يفعله معهم من خير أو غيره هو له وعليه، ومنه وإليه، والله يحفظه من خلفه ومن بين يديه، بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة وصية لنقيب الأشراف أوردها في «التعريف» فقال:
ونحن نجلّك عن الوصايا إلا ما نتبرّك بذكره، ويسرّك إذا اشتملت على سرّه؛ فأهلك [أهلك؛ راقب]«2» الله ورسوله جدّك صلى الله عليه وسلم فيما أنت عنه من أمورهم مسؤول، وارفق بهم فهم أولاد أمّك وأبيك حيدرة والبتول، وكفّ يد من علمت أنه [قد]«3» استطال بشرفه فمدّ إلى العناد يدا، واعلم أنّ الشريف والمشروف سواء في الإسلام إلا من اعتدى، وأنّ الأعمال محفوظة ثم معروضة بين يدي الله فقدّم في اليوم ما تفرح به غدا، وأزل البدع التي ينسب إليها أهل الغلوّ في ولائهم، والعلوّ فيما يوجب الطعن على آبائهم: لأنّه يعلم أنّ السلف الصالح رضي الله عنهم كانوا منزّهين عما يدّعيه خلف السّوء من افتراق ذات بينهم، ويتعرّض منهم أقوام إلى ما يجرّهم إلى مصارع حينهم «4» ، فللشّيعة
عثرات لا تقال، من أقوال ثقال، فسدّ هذا الباب سدّ لبيب، واعمل في حسم موادّهم عمل أريب، وقم في نهيهم والسيف في يدك قيام خطيب، وخوّفهم من قوارعك [مواقع]«1» كلّ سهم مصيب؛ فما دعي «بحيّ على خير العمل» إلى خير من الكتاب والسنة والإجماع [فانظم في نادي قومك عليها عقود الاجتماع]«2» . ومن اعتزى إلى اعتزال، أو مال إلى الزّيديّة في زيادة مقال، أو ادّعى في الأئمة الماضين ما لم يدّعوه، أو اقتفى في طرق الإماميّة بعض ما ابتدعوه، أو كذب في قول على صادقهم، أو تكلّم بما أراد على لسان ناطقهم؛ أو قال: إنه تلقّى عنهم سرّا ضنّوا على الأمّة ببلاغه، وذادوهم عن لذّة [مساغه]«3» ، أو روى عن يوم السّقيفة والجمل غير ما ورد أخبارا [أو تمثّل بقول من يقول: عبد شمس قد أوقدت لبني هاشم نارا] «4» أو تمسّك من عقائد الباطن بظاهر، أو قال إنّ الذات القائمة بالمعنى تختلف في مظاهر، أو تعلّق له بأئمة السّتر «5» رجاء، أو انتظر مقيما برضوى «6» عنده عسل وماء، أو ربط على السّرداب فرسه لمن يقود الخيل يقدمها اللّواء؛ أو تلفّت بوجهه يظنّ عليّا كرّم الله وجهه في الغمام، أو تفلّت من عقال العقل في اشتراط العصمة في الإمام.
فعرّفهم أجمعين أنّ هذا من فساد أذهانهم، وسوء عقائد أديانهم؛ فإنّهم عدلوا في التقرّب بأهل هذا البيت الشريف عن مطلوبهم، وإن قال قائل إنهم طلبوا فقل له: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ
«7» .
وانظر في أمور أنسابهم نظرا لا يدع مجالا للرّيب، ولا يستطيع معه أحد أن يدخل فيهم بغير نسب، ولا يخرج منهم بغير سبب، وساوق المتصرّفين في أموالهم في كلّ حساب واحفظ لهم كلّ حسب. وأنت أولى من أحسن لمن طعن في أسانيد هذا الحديث الشريف أو تأوّل فيه على غير مراد قائله صلى الله عليه وسلم تأديبا، وأراهم مما يوصّلهم إلى الله تعالى وإلى رسوله طريقا قريبا، ونكّل بمن علمت أنه قد مالأ على الحق أو مال إلى فريق الباطل فرقا، وطوى صدره على الغلّ وغلب من أجله على ما سبق في علم الله تعالى من تقديم من تقدّم حنقا، [وجار وقد]«1» أوضحت لهم الطريقة المثلى طرقا، واردعهم إن تعرّضوا في القدح إلى نضال نصال، وامنعهم فإن فرقهم كلّها وإن كثرت خابطة في ظلام ضلال، وقدّم تقوى الله في كل عقد وحلّ، واعمل بالشريعة الشريفة فإنها النّسب الموصول الحبل.
واعلم أنّ المقرّ الشهابيّ بن فضل الله قد ذكر في «التعريف» عدّة وصايا لجماعة من أرباب السّيوف، لم يكتب لأحد منهم في زماننا، بل رفض استعمالها وأهمل. ونحن نذكرها، حفظا لذكرها، واحتياطا أن يقتضي الحال في زمن كتابة شيء منها.
إحداها- وصية أتابك المجاهدين.
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب وظائف الدّيار المصرية أنّ أصله أطابك «2» بالطاء المهملة ومعناه الأب الأمير، وأنّ أوّل من لقّب بذلك زنكي أطابك صاحب الموصل، ثم غلبت فيه التاء المثناة بدل الطاء، وهي:
وأنت ابن ذلك الأب حقيقة، وولد ذلك الوالد الذي لم تعمل له إلا من
دماء الأعداء عقيقة؛ وقد عرفت مثله بثبات الجنان، وصلت بيدك ووصلت إلى ما لم يصل إليه رمح ولا قدر عليه سنان، ولم يزاحمك عدوّ إلا قال له: أيّها البادي المقاتل كيف تزاحم الحديد، ولا سمّي اسمك لجبّار إلا قال له:
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ
«1» وأنت أولى من قام بهذه الوظيفة، وألّف قلوب هذه الطائفة التي ما حلم بها حالم إلا وبات يرعد خيفة؛ فليأخذ هذا الأمر بزمامه، وليعمل لله ولإمامه، وليرم في حبّ البقاء الدائم بنفسه على المنيّة، ولينادم على معاقرة الدّماء زهور سكاكينه الحنيّة، واطبع منهم زبرا «2» تطاول السيوف بسكاكينها، وتأخذ بها الأسود في عرينها، وتمتدّ كأنّها آمال، لما تريد، وترسل كأنّها آجال، ولهذا هي إلى كلّ عدوّ أقرب من حبل الوريد، وأذك منهم شعلا إذا دعيت بأحسابها لا تجد إلّا متحاميا، وارم منهم سهاما إذا دعيت بأنسابها الإسماعيلية فقد جاء أن إسماعيل كان راميا، وفرّج بهم عن الإسلام كلّ مضيق، واقلع عن المسلمين من العوانية كلّ حجر في الطريق، وصرّف رجالك الميامين، وتصيّد بهم فإنّهم صقور ومناسرهم السّكاكين، واخطف بهم الأبصار فبأيمانهم كلّ سكّينة كأنّها البرق الخاطف، واقطف الرؤوس فإنها ثمرات أينعت لقاطف، واعرف لهم حقّهم وضاعف لهم تكريما، وأدم لهم بنا برّا عميما، وقدّم أهل النفع منهم فقد قدّمهم الله وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً
«3» واعلم أنهم مثل الوحوش فزد في تأنيسهم، واشكر إقدامهم فطالما اقتحموا على الملوك وما هابوا يقظة حرسهم، وارفع بعضهم على بعض درجات في نفقات تسافيرهم وقعود مجلسهم، ولا تسوّ بينهم فما هم سواء لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
«1» وأصل هذه الدعوة ما زالت تنتقل بالمواريث حتّى انتهت إلينا حقوقها، وأومضت بنا حيث خلعت هياكلها بجرعاء «2» الحمى بروقها؛ والله تعالى يوفّقه ويرشده، ويطوّل باعه لما قصرت عنه سواعد الرّماح ووصلت إليه يده.
الثانية- وصيّة أستاذ الدار «3» وليتفقّد أحوال الحاشية على اختلاف طوائفها، وأنواع وظائفها، وليرتّبها في الخدمة على ما يجب، وينظر في أمورهم نظرا لا يخفى معه شيء مما هم عليه ولا يحتجب، وليبدأ بمهمّ السّماط المقدّم الذي يقدّم، وما يتنوّع فيه من كل مطعم، وما يمدّ منه في كل يوم بكرة والعصر، وما يستدعى معه من الطّواريء التي لا يحدّها الحدّ ولا يحصرها الحصر، وأحوال المطبخ الكريم الذي منه ظهور تلك المخافي، ووفاء ذلك الكرم الوافي، والتقدّم إلى الأمناء والمشرفين فيه بأمانة الإنفاق، وصيانة المآكل مما يعاب على الإطلاق. ثم أمر المشروب وما تغلق عليه أبواب الشراب خاناه السعيدة من لطائف مأكول ومشروب، وشيء عزيز لا يجود إلا فيها إذا عزّ المطلوب، ومراجعة الأطباء فيما تجري عليه قوانينها، وتشبّ لطبخه من حمر اليواقيت كوانينها، وإفراز ما هو للخاص الشريف منها وما هو للتفرقة، وما لا يصرف إلا بخط الطبيب ولا يسلّم إلا إلى ثقة. ثم «الطشت خاناه» «4» السعيدة التي هي خزانة اللّباس، وموضع
ما نبرز به من الزّينة للناس، وما يحتاج إليه من آلات التطبيب، وما يعيّن لها من الصابون وماء الورد والطّيب، وغير ذلك من بقيّة ما هي مستقرّه، ويؤخذ منها مستدرّه، ومن يستخدم بها ممن برأ من الرّيب، وعرف بالعفاف والأدب، وعلم أنه من أهل الصّيانة، وعلى ما سلّم إليه ومن خالطه الأمانة. ثم «الفراش خاناه» وما ينصب فيها من الخيام، وما يكون فيها من فرش سفر ومقام، وشمع يفضّض كافور كافوريّته آبنوس الظّلام. ثم غلمان الإصطبل السعيد والنّجّابة «1» وإن كان إلى سواه استخدامهم، ولدي غيره مستقرّهم ومقامهم، لكنّهم ما خرجوا من عديده، ولا يروقهم ويروعهم إلا حسن وعده وخشن وعيده. ثم المناخات السّلطانية وما بها من جمال، وما يسرح فيها من مال وجمال، ومن يستخدم فيها من سيروان ومهمرد «2» ، وما فيها من قطار مزدوج وفرد؛ فيوفّر لهذه الجهة نصيبا من النظر يشاهد أمورها وقد غابت في الأقطار، وتفرّقت كالسّحب يلزمها القطار القطّار؛ وليكونوا على باله فإنهم يسرقون الذّرّة «3» من العين ومعهم الذّهب العين محمّلا بالقنطار؛ فليحسن منهم الارتياد، وليتخيّر أرقّهم أفئدة فإنّهم بكثرة ملازمتهم للإبل مثلها حتّى في غلظ الأكباد. وطوائف المعاملين، والأبقار ومن عليها من العاملين، وزرائب الغنم وخولها «4» ورعائها، وأصناف البيوت الكريمة. وما تطلبه في استدعائها، ونفقات
الأمراء المماليك السلطانيّة في إهلال كلّ هلال، وما يصرف في كساهم على جاري عادتهم أو إذا دعت إليه ضرورة الحال، وما يؤخذ عليه خطّه من وصولات تكتب، واستدعاآت تحسب من لوازمه وهي للكثرة لا تحسب؛ فليكن لهذا كلّه مراعيا، ولأموره واعيا، ولما يجب فيه دون ما لا يجب مستدعيا وإليه داعيا؛ وهو كبير البيت وإليه يرجع أمر كلّ مملوك ومستخدم، وبأمره يؤخّر من يؤخّر ويقدّم من يقدّم، ومثله يتعلّم منه ولا يعلّم، وعصاه على الكلّ محمولة على الرّقاب، مبسوطة في العفو والعقاب، ومكانه بين يدينا حيث نراه ويرانا ولدينا قاب قوسين أو أدنى من قاب «1» وعليه بتقوى الله فبها تمام الوصايا وكمال الشروط، والأمر بها فعصاه محكمة وأمره مبسوط، وكلّ ما يناط بنا: من خاصّة أمورنا في بيتنا- عمره الله ببقائنا وزاد تعميره- بتدبيره منوط.
الثالثة- وصيّة أمير آخور.
وقد تقدّم في الكلام على الألقاب في المقالة الثالثة أنّه مركّب من لفظين:
عربيّ وهو أمير ومعناه معروف، وأخور فارسيّ ومعناه العلف، والمعنى أمير العلف. وكأنه في الأصل كان هو المتولّي لعلوفة الخيل، ثم ارتفعت وظيفته حتّى صار صاحبها من أكبار الأمراء المقدّمين؛ وهو يتحدّث في الإصطبلات السلطانيّة وما حوته من خيل وبغال ودوابّ وجمال وأثاث، وغير ذلك.
وهذه نسخة وصيته:
وليكن على أكمل ما يكون من إزاحة الأعذار، والتأهّب لحركاتنا الشريفة في ليل كان أو نهار، مقدّما الأهمّ فالأهمّ من الأمور، والأبدأ فالأبدأ من [تقديم]«2» مراكبنا السعيدة وتهيئة موكبنا المنصور، وترتيب ذلك كلّه على ما
جرت به العوائد، وتحصيل ما تدعو الحاجة إليه على قدر الكفاية والزّوائد، والنّظر في جميع إصطبلاتنا الشريفة، والجشارات «1» السعيدة، وخيل البريد، والرّكائب المعدّة لقطع كلّ مدى بعيد، وما يجتمع في ذلك وينقسم، وما يركب منها ويجنب مما يسم الأرض بالبدور والأهلّة من كلّ حافر ومنسم، وما هو برسم الإطلاق، وما يعدّ لمماليك الطّباق «2» ، وخيل التّلاد «3» ، وما يجلب من قود «4» كلّ قبيلة من القبائل ويجيء من كلّ بلد من البلاد، والمشترى مما يباع من المواريث ويستعرض من الأسواق، وما يعدّ للمواكب وللسّباق؛ وليجل رأيه في ترتيب ذلك كلّه في مراتبه على ما تقتضيه المهمّات، والاحتراز في التّلاد مما لعلّه يبدّل ويقال هو هذا أو يؤخذ بحجة أنه مات؛ وليجتهد في تحقيق ما نفق، [وليحرّره على حكم ما يتحقّق عنده لا على ما اتّفق] »
، وكذلك فليكن فحصه عمّن يستخدم عنده من الغلمان، ولا يهمل أمورهم مع معاملتهم بالإحسان، ولا يستخدم إلا من تشكر سيرته في أحواله، وتعرف خبرته فيما يراد من أمثاله؛ وكذلك الرّكّابة الذين تملك أيديهم أعنّة هذه الكرائم، والتحرّز في أمرهم ممن لعلّه يأوي إليهم من أرباب الجرائم، والأوشاقيّة «6» الذين هم مثل مماليكه وهم في الحقيقة إخوانه، وجماعة المباشرين الذين هم في مباشرة الإصطبلات السعيدة ديوانه؛ وكلّ هؤلاء يلزمهم بما يلزم أمثالهم من السّلوك، ويعلمهم بما
يجب عليهم أن يتعلّموه من خدمة الملوك، ولا يسمح لأحد منهم في أمر يفضي إلى إخلال، ولا يقتضي فرط إدلال، وليقم أودهم بالأدب فإن الأدب ما فيه إذلال؛ وكلّ هؤلاء الطوائف ممن يتجنّب العامة مخالطتهم لما طار في أيّام من تقدّم عن أمثالهم من سوء السّمعة، ويتخوّف منهم السّرعة؛ فليكن لهم منك أعظم زاجر، ومن شكي إليك منهم فسارع إلى التنكيل به وبادر، واشهر من فعلك بهم ما يوجب منهم الطّمأنينة، ولا يعود أحد بعده يكذّب يقينه؛ وأمراء أخورية الذين هم أتباعك، وبهم يمتدّ باعك، هم بحسب ما تجعلهم بصدده، وما منهم إلا من يقدر أن يتعدّى حدّه في مقام قدمه وبسط يده؛ فاجعل لكلّ منهم مقاما معلوما، وشيئا تجعل له فيه تحكيما. وتثمين الخيول المشتراة والتّقادم قوّمها بأهل الخبرة تقويم عدل، وقل الحقّ ولا يأخذك فيه لوم ولا عذل؛ وما يصرف من العليق برسم الخيول السلطانية ومن له من صدقاتنا الشريفة عليق، مر بصرفه عند الاستحقاق واضبطه بالتعليق، وتصرّف في ذلك كلّه ولا تتصرّف إلا تصرّف شفيق، وصنه بأقلام جماعة الدّيوان ولا تقنع في غير أوقات الضرورة برفيق عن رفيق؛ وكذلك البراسيم السلطانية أصلا وزيادة، ولا تصرف إلا ما نأمر به وإلا فلا تخرج فيه عن العادة؛ ونزلاؤك من أمراء العربان عاملهم بالجميل، وزد في أخذ خواطرهم ولو ببسط بساط الأنس لهم فما هو قليل، لتتضاعف رغبتهم في كلّ عام، وليستدلّوا ببشاشة وجهك لهم على ما بعده من الإنعام؛ وبغال الكؤوسات «1» السعيدة والأعلام المنصورة، وأثقال الخزانة العالية المعمورة، اجعلها من المهمّات المقدّمة، والمقدّمات لنتائج أيام النصر المعلمة، ورتّبها في مواقفها، وأتمّها أتمّ ما يكون من وظائفها؛ فبها تثبت مواقف العسكر المنصور، وإليها يأوي كلّ مستظلّ ورحى الحرب تدور، وغير ذلك من قماش الإصطبلات السعيدة من الذّهب والفضّة والحرير، وكلّ قليل
وكثير، باشره مباشرة من لا يتخلّى، وأحصه خرجا ودخلا؛ وإيّاك والأخذ بالرّخص، أو إهمال الفرص، أو طلب فائت جرم أهملته حتّى نكص.
الرابعة- وصية مقدّم المماليك.
وقد تقدّم في الكلام على أرباب الوظائف أنه يتحدّث في أمر المماليك السّلطانية والحكم بينهم، ويركب خلفهم إذا ركب السلطان كأنّه يحفظهم.
والوصية هي:
وليحسن إليهم، وليعلم أنّه واحد منهم ولكنه مقدّم عليهم، وليأخذ بقلوبهم مع إقامة المهابة التي يخيّل إليهم بها أنه معهم وخلفهم وبين يديهم، وليلزم مقدّم كلّ طبقة بما يلزمه عند تقسيم صدقاتنا الجارية عليهم: من ترتيب الطّباق، وإجراء ساقية جارية من إحساننا إليهم ولا ينس السّوّاق؛ وليكن لأحوالهم متعهّدا، ولأمورهم متفقّدا، وليستعلم أخبارهم حتّى لا يزال منها على بصيرة، وليعرف ما هم عليه مما لا يخفى عليه فإنهم وإن لم يكونوا له أهلا فإنهم جيرة، وليأمر كلّا منهم ومن مقدّميهم والسّوّاقين لهم بما يلزمهم من الخدمة، وليرتّبهم على حكم مكانتهم منّا فإن تساووا فليقدّم من له قدمة، وليعدل في كل تفرقة، وليحسن في كل عرض ونفقة، وليفرّق فيهم ما لهم من الكساوى «1» ويسبل عليهم رداء الشّفقة، وليعدّ منهم لغابنا المحميّ سباعا تفترس العادية، وليجمل النظر في أمر الصّغار منهم والكبار أصحاب الطّبقات العالية، وليأخذهم بالرّكوب في الأيّام المعتادة، والدّخول إلى مكان الخدمة الشريفة والخروج على العادة، وليدرهم في أوقات البياكير «2» والأسفار نطاقا دائر الدّهليز «3» المنصور،